هل يمكن للديمقراطية أن توجد دون أن يكون الشعب قد تربّى على الحفاظ عليها؟ هل يجب على الحكومات أن تعزّز التنشئة الأخلاقية لمواطنيها؟ لِمَ تُعتبر الحرّيّة مهمّة في نظام ديمقراطي؟ وكيف يتلاءم هذا مع نظام حُكم تمثيلي، يتخذ القرار فيه عدد قليل من الناس؟ كنا قد ناقشنا بعض هذه الأسئلة في بلدنا لمرّات عديدة. أول سؤالين، تحديداً، يطفوان على السطح في كلّ مرّة يناقَش فيها تعديل القوانين الناظمة للعملية التربوية، ونتساءل عندها عن دور الدولة في التعليم. أمام هذا النوع من السجالات تتساوى دوغمائية اليمين واليسار –لنتذكّر الشقاق حول مادّة التربية من أجل المواطنة– السؤالين الأخيرين، وهما أكثر عموميّة، يمسّان السجال بين المبادئ الليبرالية والديمقراطية من جهة، والحُكم الذاتي في المجتمع من جهة أخرى يتحدّث الكاتب في المقدّمة عن إسبانيا.

جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) هو أحد أوائل المشتغلين على القضايا المطروحة أعلاه. هو مفكّر مبكّر، وسياسي ليبرالي، وفيلسوف وكاتب، وهو أحد أهم العقول في عصره. تطوّر تفكير ميل من مذهب المنفعة الكلاسيكي إلى مراجعات أكثر اكتمالاً للنفعيّة، وقدّم أطروحات تجيب على الأسئلة الكبرى الكلاسيكية حول الحُكم الصالح والتمثيل السياسي، وهي إجابات ذات تأثير كبير على النظريّات السياسية اللاحقة، وتساهم في بناء مفهوم عن الإنسان بكونه قادراً على إنجاز تنمية متناسقة، متأسّسة على مجتمع حرّ ومتعلّم. أقدّم، في هذا المقال، بعض النقاط الأساسية في فكر جون ستيوارت ميل وفي منظوره للديمقراطيّة، وسيكتشف القارئ بسهولة أن بعض أفكاره ما زالت قيد الاستخدام، ولو بشكل غير مباشر، في السجال السياسي المعاصر.

نهاية المساواة في المُتعة

تمركزت أولى إسهامات ميل في الفكر السياسي حول مراجعة أطروحات جيرمي بينثام جيرمي بينثام فيلسوف وعالم قانون إنكليزي، وهو أحد روّاد الفلسفة النفعيّة (١٧٤٨-١٨٣٢). حول مذهب المنفعة بطريقة نقدية، حيث انشغل بالرؤى المخفّضة للحياة الإنسانية التي كانت المنفعة تنحاز لها. الإنسان، حسب بينثام، كائن معرّض لمُتَع وآلام، وسلوكه يتحدّد بأشكال مختلفة الإنحياز لمصالحه، من جهة، وبمشاعره من جهة أخرى، إيجابيّة كانت مشاعره أم سلبيّة. بدوره، رأى ميل أن هذا التعريف قاصر عن التفريق بين حياة أي حيوان وحياة البشر، لذلك أدخل تمييزات نوعيّة بين المُتَع، حيث أن بعضها، خصوصاً تلك العقلانية والروحانية (الفنون، الفلسفة…) هي مُتَع عليا بالمقارنة مع مُتَع الجسد. لذلك يرى ميل أن السعادة لا تتحقّق فقط عبر حياة ذات مُتَع جسدية ودون آلام، بل أيضاً بالوصول إلى مُتَع عليا، حتى لو كلّفت آلاماً أو تنازلات عن مُتَع أدنى.

اعتبر ميل أن أصل وجود مُتَع متمايزة يعود إلى وجود قِيَمٍ عليا بحدّ ذاتها عند الإنسان، وهذه القيم العليا هي الدافعة باتجاه وجود مُتَع عليا. يُرافع ميل عن هذه الفكرة بقوله «من الأفضل للمرء أن يكون سقراطاً مستاءً من أن يكون خنزيراً سعيداً». تنبع أهمية هذا التمييز من تأثيراته الثلاث على الفكر السياسي لجون ستيوارت.

يتمثّل التأثير الأول في علاقة التمييز بين المُتَع العليا وتلك الأدنى بنظرية ميل حول التقدّم الإنساني، حيث أن مجتمعاً يسعى أفراده لإحراز المُتَع العليا هو أكثر تقدماً في حضارته. هكذا، يرى ميل أن تحفيز العمل على إحراز المُتَع العليا هو، بحد ذاته، دفْع باتجاه تقدّم المجتمع. ثانياً، يرى ميل أن الحرّيّة الاجتماعية شرط أساسي لتكريس ثقافة المُتَع العليا، حيث أن المجتمع الحرّ هو وحده القادر على أن يكون متحضراً. أخيراً، إمكانية البشر على الحياة المشتركة بعدالة تتناسب طرداً مع سعيهم لإحراز مُتَع عليا أكثر من المُتَع الأدنى.

تُشكّل أطروحات ميل تغييرات كبيرة في النواة النظرية النفعيّة، رغم أن الجوهر هو نفسه: الفكرة، فرديّةً كانت أم مجتمعيةً، صالحة بقدر نفعها في إنجاز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من البشر. لكن أفكار ميل مسّت الأسس السياسيّة للنظرية، حيث أضافت إمكانية تمييز «الحُكم الصالح» وفقاً لنظرية المنفعة: هو ذاك الأكثر «تقدميّة»، الأكثر تعزيزاً للبحث عن المُتَع العليا الإنسانيّة. هذه الملامح صالحة لإكمال النظرية على المستوى الفردي، وهي أيضاً ضرورية لإحراز صيغة التنظيم السياسي الأمثل.

يجدر هنا التذكير بأن النفعيّة الكلاسيكية، باعتبارها أن متعة مشاهدة مباراة كُرة قدم متساوية مع متعة قراءة كتاب، تحمل أسساً جذريّة في ديمقراطيتها: إن كانت المُتَع متساوية، فالمصالح يجب أن تكون متساوية أيضاً (لذلك، كان النفعيّون الكلاسيكيون روّاداً في المطالبة بعموميّة حقّ الاقتراع). مع ذلك، يرى ميل أن الحُكم الصالح ليس فقط ذلك الذي يسعى لإحراز أكبر قدر من المتعة التي يفضّلها مواطنوه، بل أن من واجبه أن يسعى لتربية مواطنيه على التماس مُتَع أعلى. بالتالي، التربية الأخلاقيّة هي إحدى مسؤوليات المجتمع الصالح.

يعتبر ميل، متفقاً مع أسس الليبراليّة العقديّة، أن الفرد سابق على الدولة، لكنه يرى أن الفرد المقصود ليس الإنسان بوضعه الحالي، بل كما يمكن أن يكون بوجود تربيّة ملائمة ضمن مجتمع جيّد التنظيم. لا يعني هذا أن ميل رافَعَ عن وجود نموذج واحد وواجب التعميم للحياة الإنسانيّة، بل اعتبر أن هناك تنوعاً كبيراً في الطاقات البشريّة، وأن على المجتمع أن يوفّر الشروط اللازمة لكي يكتشف كلّ إنسان مهاراتِه ويطوّرها بما يخدم الصالح المجتمعي. يشدّد ميل على أن توفّر فرص لممارسة المهارات الإنسانيّة بشكل فاعل هو الطريق الوحيد للوصول إلى هذا الهدف المرجوّ. لذلك، ينادي بأن الحرّيّة هي شرط جوهري، لا يمكن الاستغناء عنه، لتقدّم المجتمع.

عن الحرّيّة

ولِد كتاب ميل الأشهر كاحتجاجٍ على أخلاقويّة العهد الفيكتوري في إنكلترا، ويرافع فيه عن حياة سياسيّة مبنيّة على الحرّيّة الفرديّة، بحكومة أكثر مسؤوليّة وإدارات أكثر فعاليّةً ومتحرّرة من الفساد.

كغالبيّة ليبراليي تلك الحقبة، رأى ميل مخاطر كثيرة في التوجّهات الديمقراطيّة السائدة في مجتمع القرن التاسع عشر، خصوصاً ما أسموه حينها «طغيان الأكثريّة»، حيث رأى ميل أن مخاطر الطغيان لا تأتي فقط من الاستخدام المتعسّف لأجهزة الدولة، بل أيضاً من سلوكيات الرأي العام المتأثّر بالأفكار المسبقة والعادات والتقاليد، الذي قد لا يتسامح مع توجهات وسلوكيات منشقّة، خارج السياق، أو، ببساطة، مختلفة. لذلك، انشغل ميل بمحاولة التوفيق بين مشاركة الجميع في الحكم، والقلق من استخدام السلطة من قبل الجمع، الفاقد للأساس المعرفي حول الحُكم الصالح، من أجل تحقيق مصالحه الذاتيّة.

اعتبر ميل أن السياسة الديمقراطيّة هي آلية جوهريّة للتطوّر الأخلاقي لدى الأفراد، ورأى أن المشاركة السياسيّة تتظافر مع التربية الملائمة لإخراج مواطنين صالحين. دون ذلك، يرى ميل أن الحُكم الإداري سينحو نحو التمدّد، وسيعجز المواطنون الفاقدون للمعرفة عن السيطرة على أصحاب السلطة. لذلك، الديمقراطيّة الفعليّة هي آليّة مقاوِمة للبيروقراطيّة، متجنّبة للروتين التنظيمي، ومدافعة عن الحرّيّة الفردية.

في كتابه عن الحرّيّة يُشير ميل إلى الفرديّة كنقطة فارقة في مفهوم الحرّية. تعزيز الفرديّة يعني تطوير استطاعات الفرد، ويشترط تحقيق هذا التطوير نقطتين: الحرّيّة، وتنوّع المواقف.

يرى ميل أن تطوير الفردانيّة يعني التأكيد على إمكان المرء أن يكون مختلفاً، ويعتبر أن هذا المبدأ سارٍ على المثقفين والمتعلّمين وعلى الذين ليسوا كذلك على حدّ سواء. كما قيل أعلاه، ورغم التمييز بين المُتَع العليا والأدنى، لا ينبغي أن تتم قولبة حياة البشر حسب نفس النموذج، فالفرديّة مرادف للأصالة. هذا ما يدعو ميل للاحتجاج المستمر على احتكار الذائقة المجتمعية لبناء القوانين والأعراف الاجتماعيّة، ويقول إن الذائقة الاجتماعية غير عقلانية في مراحل كثيرة، ومبنيّة على الجهل في أماكن أخرى. الفرديّة مضادّة للضحالة.

ما سبق ذكره يعني لستيوارت ميل ضرورة إدخال مبدأ التسامح، حتى لو حمل في طيّاته قلة احترام للآخر: أنا أتسامح مع معتقداتك رغم أنني متأكد من أنها خاطئة ولا معنى حقيقي لها. مع ذلك، تختفي أسس النقد العقلاني دون التسامح. بإمكاننا أن نناقش ونهاجم ونرفض ونُدين بكل حماس، لكننا لا نستطيع أن نُلغي خصمنا، لأن هذا الإلغاء ليس إلا تحطيماً عامّاً لا يُميّز بين الإيجابيات والسلبيّات، ويتساوى في خطورته مع الانتحار الثقافي للمجتمع ككل. لذلك، يرى ميل أن الاحترام المتشكّك لأفكار الخصم أفضل من اللامبالاة أو الرياء.

نشأ جون ستيوارت ميل فكرياً تحت إشراف والده، جيمس ميل جيمس ميل هو مؤرّخ وفيلسوف ومنظّر سياسي (١٧٧٣-١٨٣٦).، ومُعلّمه، جيرمي بينثام، وفق مبادئ المذهب النفعي، الذي تتمركز أسسه حول فكرة أن تقييم صحّة الفعل من عدمه ينطلق من مدى نفع نتائج هذا الفعل في تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر ممكن من الناس. لكن ميل، في انعطاف كبير، رأى لاحقاً أن هذا المبدأ يمكن أن يُستخدم أحياناً لتبرير اقتطاع حقوقٍ فرديّة، خصوصاً الحرّيّة، باسم الصالح العام. لذلك يرى أن المبرر الوحيد المقبول للمسّ، الفردي أو الجماعي، بالحرّيّة الفعّالة للآخر هو الدفاع عن النفس. بمعنى آخر، المبرِّر الوحيد لاستخدام القوّة ضد فرد في مجتمع متحضّر هو منعه من إيذاء الآخرين، ومعنى الأذيّة هنا لا يشمل المصالح الجسديّة والأخلاقيّة للأفراد ذاتهم: لا يصحّ إجبار إنسان من فعل ما لا يرغب، أو عدم فعل ما يرغب، فقط لأن فرداً آخر، أو جماعة، ترى أن هذا «أفضل» أو «أسلم» أو «أكثر منطقيّة» بالنسبة لهذا الفرد. للإنسان أن يكون كامل السيادة على نفسه وجسده وروحه. الإنسان سيّد على نفسه.

هذا المبدأ، «مبدأ الأذيّة» هو الأساس لوجود الحرّية. وتالياً، هو الشرط الجوهري للحُكم الصالح.

الشروط اللازمة للحُكم التمثيلي

يبدأ ستيوارت تأملات حول الحُكم التمثيلي، وهو مؤلّفه الأوسع في الفلسفة السياسيّة، بسؤال قديم: هل وُجِد الحُكم بشكل طبيعي أم نشأ مصلحياً؟ إن كان الحُكم شأناً مصلحياً، إذن لا حدود لخيارات نمط الحكم، وكلّها ممكنة. لكن، إن كان الحُكم مُعطىً طبيعياً فلا خيارات ممكنة باعتبار أن نمط الحُكم متضمّن وثابت في طبيعيّته.

يرفض ستيوارت مِيل صلاحيّة أيّ من الاحتمالين وحده، ويعمل على إبراز تنوّع المكوّنات الذي تقدّمه كلّ منهما، مشيراً إلى ضرورة وجود شروط ثلاثة لدى أيّ شعب كي يًثمر نظامَ حُكم خاصٍ به. 1/ الأول هو أن يكون الشعب مستعداً لقبول نظام الحُكم هذا؛ 2/ الثاني هو أن يفعل الشعب ما يلزم لضمان استمراره؛ 3/ والثالث أن يُقدّم لنظام الحُكم ما يسمح له بتنفيذ مقاصده. تنبع إمكانية تحقيق هذه الشروط إيجاباً من تربية الشعب نفسه، ونمط الحُكم الخاص هذا يتحدّد بالاقتراع ضمن هذه الشروط نفسها.

كما قيل أعلاه، من أدلّة الحُكم الصالح مقدرة هذا الحُكم على تنمية مقدرات وذكاء أفراد مجتمعه. هناك أيضاً دليل آخر هو أن يكون هذا الحُكم قادراً على استغلال جودة صفات المواطنين. لذلك، يجب على الحُكم أن يحسّن المجتمع عن طريق التربية، وأن يحسّن استخدام المواصفات العالية الناتجة عن تطوّر المجتمع.

يفتح هذا الجدال باباً لدخول ما يبدو، من حيث المبدأ، تناقضاً في الخطاب: أليس من الأفضل إذاً البحث عن «مستبدّ طيب» (الملك-الفيلسوف) بدل السعي وراء الحُكم التمثيلي؟ ألا يكفي إمساك شخص متمكّن وذي معرفة بمسؤوليات الحُكم لتربية الشعب؟ يعرض ميل، في كتابه، الإيجابيات المفترضة التي يمكن أن تأتي من حُكم مستبد «مستنير»، متمكّن معرفياً وراقٍ أخلاقياً، لكن ميل يتابع عرضه بتعداد ما يعتبر أنها عوامل أساسيّة ضدّ هذه الفكرة، وأحد هذه العوامل ينهل من نظرية بينثام: حقوق ومصالح أي فرد مصانة فقط حينما يكون هذا الفرد مستعداً وقادراً على الدفاع عنها. في نظام حُكم استبداديّ، ولو كان «طيّباً»، تبقى حقوق الناس –وهي بشكل أو بآخر حدود للسلطة– بيد ضمانات الحاكم المستبدّ وحده.

قد توجد أمثلة أو حالات حمى فيها المستبد حقوق الناس، لكن أخذ الطبيعة البشريّة بعين الاعتبار تجعل من المفضّل عدم الاعتماد على الاستبداد. هذه الفكرة مدعمّة بالسوابق التاريخيّة، والتي علّمتنا أن الشعوب الحرّة تقدّمت أكثر وأسرع من الشعوب الواقعة تحت نير الاستبدادات.

تأتي المحاججة الثانية ضد فكرة المستبد الطيّب من العلامات الفارقة في نظرية ستيوارت ميل: الاستبداد، أياً كان تقييمه، يحتاج لانصياع جزء من الجسم الشعبي، أي، بمعنى آخر، لخموله. حسب ميل، يُفترض أن يكون الامتياز في المعرفة والعمل والأخلاق من الأهداف العليا التي يسعى الحُكم الطيّب لتحقيقها بين مواطنيه، وهذه كلّها نتائج للفعاليّة والإيجابيّة. لذلك، يرى ميل أن الحُكم الشعبي هو البناء الأمثل، وذلك لسببين: لأنه يحفظ الحقوق الفرديّة، ولأنه يحفّز الترقّي الأخلاقي والمعرفي.

عدا ذلك، لا يعتبر ستيوارت ميل أن الحُكم التمثيلي هو البنيان السياسي الأفضل فحسب، وإنما يرى أنه نمط الحُكم الممكن الوحيد في العالم الحديث. مع ذلك، يرى أن الوصول لدرجة ملائمة من النضوج الديمقراطي هو شرط لازم لهذا الاعتبار. هناك حيث «ما زال هناك دروس لم تتعلمها الشعوب» ربما تكون أنماط حُكم أخرى أكثر ملاءمةً. على سبيل المثال، من الأسهل تعلّم النظام والانضباط من حاكم عسكري، وتجاوز الروح المَحَلَّويّة من ملك يفرض مركزية الحكم. لكن، بالقفز على هذه النواقص (التي لم يرَها ميل إشكالية بشكل كبير في إنكلترا عصره)، من المؤكد أن نظاماً تمثيلياً للحُكم، مُشكّلاً بالطرق الملائمة، هو السبيل الأمثل للنهوض بالشعب وتحقيق التقدم نحو مراحل مجتمعيّة أكثر تقدّماً.

الحكم والتمثيل والمشاركة

ينادي ستيوارت ميل بديمقراطيّة قويّة تُشكّل ثقلاً مضادّاً لدولة مُفرِطة التمددّ والتدخّل. وحدها الديمقراطية قادرة على مقاومة البيروقراطيّة. أفكار ستيوارت ميل في هذا المجال مشابهة لما سيقوله ماكس فيبر ماكس فيبر فيلسوف وعالم اجتماع واقتصاد ألماني (1864-1920). أوائل القرن التالي.

حسب ميل، واتفاقاً مع الرأي الليبرالي السائد، لا مكان اليوم لنظريّة المدينة اليونانيّة القديمة، حيث أن مفاهيم الحُكم الذاتي، أو حُكم المجالس المفتوحة، غير قابلة للتطبيق في مجتمع يتجاوز حجمه مدينةً صغيرة. في أحجامٍ أكبر من المراكز السكانيّة الصغيرة، لا يمكن للأفراد أن يشاركوا إلا في جزء صغير من الشؤون العامة، هذا عدا الصعوبات الجغرافيّة والمادّية أمام مقدرة كلّ السكان على الاجتماع في مكان مشترك وزمان واحد. هذه صعوبات كبيرة أمام المجتمعات الصغيرة، وفي المجتمعات الأكبر تغدو هذه الصعوبات مستحيلات.

يرى ميل أن قوننة وتسيير الشؤون العامة في مجتمع ذي كثافة سكانية عالية أعقد بكثير من مقدرات أي نظام ديمقراطي مُباشر. عدا ذلك، يُشير إلى خطر ذوبان طاقات الأشخاص ذوي الكفاءة والمعرفة والخبرة ضمن بحر الأشخاص العاديين في حالةِ حُكم الجميع بالتساوي. بالإمكان، حسب ميل، التصدّي لهذه المخاطر تدريجياً عن طريق اكتساب الخبرة في الشؤون العامّة (الاقتراع، الثقافة القانونية، المشاركة الواسعة في الإدارة المحلّية…)، لكن هذا ليس إلا حلّاً جزئياً للمشكلة الكبيرة. لذلك، يعتبر ميل أنّ الأسلوب الأمثل للحُكم في ظروف الحداثة هو التمثيلي، حيث يمارس الشعب السلطة عن طريق الانتخاب الدَّوري لنوّابه.

إلى جانب حرّيّة التعبير والصحافة والاجتماع، لنظام الحُكم التمثيلي إيجابيّات أخرى واضحة، فهو يوفّر الآليات التي تضع السلُطات المركزية تحت السيطرة والرقابة، ويرسّخ برلماناً يعمل كحارس للحرّيات وكمركز للعقلانية والسجال، ويعمل، عبر المنافسة الانتخابيّة، على تنمية مهارات الريادة والمعرفة لدى عموم الشعب. يؤكّد ميل أنه لا يوجد بديل للنظام التمثيلي يمكن أن يُرغب به، رغم وعيه لبعض نواقصه، والأثمان الغالية لبعض أُسُسِه.

رغم الخطاب الواضح الانحياز لصالح نظام الحُكم التمثيلي، يمكن ملاحظة أن ثقة ستيوارت ميل بالناخبين والمنتخِبين منخفضة للغاية. دافَعَ ميل بوضوحٍ عن ضرورة إقرار الاقتراع العام لجميع المواطنين، لكنه اقترح نظاماً انتخابياً معقّداً للغاية، يبغي عبره منع احتمال سيطرة الجموع –لا سيما الطبقة العاملة– على النظام العام بـ«جهلها».

طالما هناك مستويات علم وكفاءة الأفراد متنوّعة، ولا سيما أن أقلّية منهم قادرة على تحقيق مستويات متقدّمة من الكفاءة، أليس من المشروع الاعتقاد بوجوب أن يكون لبعض الأشخاص تأثير أكبر على الحُكم من غيرهم؟ للأسف –ونقول «للأسف» باعتبارها برأينا نقطة سلبية في فكره– اعتنق ميل هذه الفكرة ورافع عنها. لا شكّ أنه كان مُدافعاً صلباً عن حقّ الاقتراع العام لجميع البالغين، لكنّ ميل رأى أيضاً أن قيمة صوت ذوي المعرفة والثقافة يجب أن تكون أعلى من قيمة صوت العوامّ. لذلك، اتّخذ ميل من الهرم المهني وسيلة لتوضيح قيمة الأصوات: أولئك الذين يمتلكون معرفةً واطلاعاً أكبر (وهم، يا للمصادفة، ذوو الدخل الاقتصادي الأعلى، وذوو الامتيازات الاجتماعيّة) لا يجب أن يخسروا الانتخابات أمام أصحاب الكفاءات الفكرية والعلمية المتواضعة، أي، بعبارة أوضح، الطبقة العاملة.

لا تكفي نُظُم الانتخاب من أجل تجنّب حُكم الطبقات الفاعلة، أو الحُكم الأناني للطبقات المالكة، بل من الضروري أن توجد آليات تضمن فاعليّة الحُكم. لكن، كيف يمكن ضمان هذه الفاعلية؟ حسب ميل، هناك فارق جذري بين مراقبة ومحاسبة شؤون الحُكم من جهة، والحُكم بحدّ ذاته من جهة أخرى. شؤون الحُكم بحاجة لعمل اختصاصي واحترافي، ومن شأن تدخّلات أكبر للناخبين، أو تضخّم في حجم النوّاب أو المؤسّسات التمثيلية في تسيير شؤون الحُكم، أن تعني فعاليّة أقل لعمليّة الحُكم ذاتها.

البرلمان مكلّف بتعيين الأفراد المناسبين في المناصب التنفيذية، وعليه أن يتصرّف كمجلس تُناقش فيه المتطلّبات والحاجات، وله أن يقول الكلمة الأخيرة بخصوص إقرار التشريعات أو رفضها، لكن على البرلمان ألا يتدخّل في تفاصيل صياغة التشريع وإدارتها، لأن هذه الشؤون لا تدخل ضمن صلاحياته.

من وجهة نظر ميل، يمزج نظام الحُكم التمثيلي بين المسؤوليّة والحِرفيّة والخبرة: بإمكان الحُكم التمثيلي أن يتمتّع بإيجابيات الحُكم البيروقراطي، لكن دون مساوئ الأخير وسلبياته، التي تُمسَح بفضل الحيويّة التي توفّرها الديمقراطيّة لنظام الحكم. حُكم الخبراء والديمقراطيّة متساويان في الأهمية بالنسبة لميل، ودافع بقوّة عن ضرورة كلّ منهما لحسن سير الآخر، واعتبر أن تحقيق التوازن بينهما هو أكثر الشؤون صعوبة وتعقيداً ومركزيّة في فنّ الحُكم.

رؤية ستيوارت ميل

في أطروحاته، عمل ستيوارت ميل على دمج أفكار ديمقراطيّة مع توجهاتٍ لصالح حماية الأقلّيات. لا شكّ أنه كان نقدياً بعمق تجاه الفروقات العميقة في الدخل والثروة والُسلطة، ورأى، خصوصاً في كتاباته الأخيرة، أن هذه الفروقات تُعرقِل تنمية الشطر الأعظم من البشر، خصوصاً الطبقات العامِلة، لكنّ هذه الأفكار تصطدم مع بعض الطروحات التي قدّمها حول المساواة السياسيّة والاجتماعيّة.

بالإمكان اعتبار موقف ستيوارت ميل ضرباً من «النخبويّة التربويّة»، حيث أنه يبرّر ضرورة وضع أصحاب التنشئة المعرفية الأفضل في مراتب أعلى في المجتمع. يكاد يكون، في هذا المجال، تحديثاً لفكرة الفلاسفة-الملوك، حيث يعتبر أن القيادة السياسية للمجتمع يجب أن تكون للطبقة المتعلّمة والمثقفة، صاحبة الوزن الانتخابي الأكبر حسب رؤيته للنظم الانتخابيّة، هذا رغم أنه يصل إلى هذه النتيجة عبر مرافعته عن أهمية التربية والتعلّم كقوى مفتاحية للحرّيّة والاستقلاليّة.

للأسباب المذكورة أعلاه، لديّ مواقف متناقضة من فكر ستيوارت ميل. لديه مواقف ملتزمة بالتنمية الأخلاقيّة لجميع الأفراد، لكنه، في الوقت نفسه، يُدافع عن فروقات عميقة بين البشر لأجل أن يتمكّن المُربّون من تثقيف الجهلة. هكذا، نرى أن ستيوارت ميل يقدّم أفكاراً مهمّة وواجبة الدراسة لصالح فكرة الدولة الديمقراطيّة، لكن مع أخذ بعض المسافة مع الخطوات العمليّة التي اقترحها، حيث أنها، فعلياً وفي المحصلّة، معرقِلة لتطبيق ديمقراطيّة حقّة.

ثانياً، نرى في أفكار ستيوارت ميل حول اقتصاد السوق الحرّ السياسي، والمرافعة عن محدودية تدخّل الحكومة في شؤون السوق، مقدّمة للفكر الليبرالي الاقتصادي الكلاسيكي. حسب هذه المواقف، يجب على النظام القانوني أن يُتيح أكبر قدر ممكن من الحرّيّة للمواطنين –بشكل أساسي ضمان حرّيّة التملّك والعمل الاقتصادي– بما يُتيح لهم أن يعملوا، دون قيود، من أجل تحقيق الأهداف التي وضعوها لنفسهم. هذه الضمانات تُتيح نموّ أصحاب المقدرات الأكبر، وتكفل مستوىً من الحرّيّات السّياسيّة والاقتصاديّة سيكون، على المدى البعيد، إيجابياً للجميع.

ثالثاً، نرى أن ميل قد قضى الشطر الأكبر من عمره مدافعاً عن رأيه بأن على الدولة الليبراليّة أن تكون حياديّة (أي أن يكون الأفراد أحراراً بأكبر قدر ممكن)، لكن هذا الكلام يتناقض مع بعض أفكاره التي تبدو إصلاحيّة أو تدخّليّة، حيث أن للدولة الديمقراطية الليبراليّة، حسب ميل، دوراً فاعلاً في حماية حقوق الأفراد، وسنّ القوانين من أجل حماية الجماعات والأقليات الإثنيّة، وأيضاً من أجل تمكين المرأة. لكتابه استعباد النساء مكانة مرموقة في الأدبيات النسويّة الكلاسيكية.

عدا ذلك، لو أخذنا مبادئ الحرّيّة حسب ميل بعين الاعتبار، وبحثنا في تلك الحالات التي يُفترض، حسب هذه المبادئ، أن يجري تدخّل سياسي لمنع إيذاء الآخرين، سنجد أن هذه المبادئ تتعارض بشدّة مع فكرة السوق الحرّ. الصحّة والضمان الاجتماعي وأمن العمل، الحفاظ على الصحّة العامة والحماية من الفقر (فعلياً، كلّ النواحي التي اعتنت بها فكرة «دولة الرّفاه» بعد الحرب العالميّة الثانية)، كلّها مفاهيم يمكن أن تندرج ضمن تشريع فعل الدولة من أجل منع إيذاء الآخرين.

لا شكّ بأن ستيوارت ميل يعرض أُسُسَاً للفكر النخبوي الثقافي، وفي ذات الوقت الذي يؤسس لفكر التدخّل الاجتماعي. كل ذلك في نتاج فكري ثريٍّ بقدر ما هو، في بعض المراحل، متناقض مع نفسه.

(عن مجلة جوت داون الثقافية الإسبانية)