أيام السوريين السوداء كثيرة، ذكرىً وحاضراً، لكن ليوم الغد، العاشر من تموز، موقع ذو دلالات ورمزيات خاصة، إذ هو الذكرى الرابعة عشر لتنصيب بشار الأسد –رسمياً– رئيساً لسوريا إثر «فوزه» في استفتاء تقدّم إليه مرشّحاً وحيداً، بنسبة ٩٩.٧٪ من أصوات «الناخبين».

كان ذاك اليوم القاتم خاتمة مسير غير قصير في الزمن للإتيان ببشار الأسد رئيساً. سيرورة بدأت منذ وفاة باسل، شقيقه الأكبر، في حادث سير بداية عام ١٩٩٤، لتمرّ عبر شعارات من طراز «حافظ قائدنا، باسل قدوتنا، بشار أملنا» سادت السنوات الأخيرة من حُكم حافظ الأسد، وتسارعت مع وفاة الأب-المؤسس للسلالة الأسديّة في العاشر من حزيران عام ٢٠٠٠. يومها، أدّى مجلس الشعب إحدى كبرى المهازل في تاريخ سوريا، حين عدّل الدستور خلال دقائق، وسط نواحٍ جماعي مبالغ في افتعاله، ليوائم صعود بشار، ذو الـ٣٤ عاماً آنذاك، إلى عرش الجملوكيّة الأسديّة. جرى ذلك الانتقال بسلام، فحافظ الأسد كان قد رتّب بيت النظام جيّداً، ونسّق علاقاته الإقليمية والدولية بما يسمح للوريث بالجلوس على العرش دون مشاكل، بل ودون أيّ ضجيج أيضاً.

سُوّق بشار الأسد، داخلياً وعربياً ودولياً، في السنتين الأخيرتين من عمر حافظ الأسد بمهارة وكثافة عاليتين، إذ جرى تقديمه كشابّ عصريّ، منفتح وإصلاحي وهادئ، مدنيّ الهوى، على عكس الصورة شديدة العسكريتاريّة لوالده وللجيل الذي رافقه من المسؤولين في النظام، الجيل الذي سيسمّى «الحرس القديم» في السنتين أو الثلاث التاليتين، وسيُحمّل مسؤولية كل الموبقات والسيئات في سوريا. تزامن موت حافظ الأسد مع وفاة الملك حسين في الأردن، والحسن الثاني في المغرب، ما بدا وكأنه بداية جيلٍ جديد من الحكّام العرب، أكثر احتكاكاً بالغرب وتشرّباً لقيمه، أو هكذا على الأقل صُوّر الموضوع في صحافة ذلك الوقت.

المعارضة السوريّة، التي كانت قد خرجت للتوّ، منهكةً وهرمة، من اعتقال وتغييب تامّ لعقدين، تلقّفت الطور الأسديّ الجديد بمزيجٍ من التشكّك واستجداء التغيير. كانت ضعيفة وصدئة، فاقدةً للقدرة على الاتصال مع الأغلبية الساحقة من القطاعات الشعبية، أي أنها لم تكن حتى تحلم بإمكانية التأثير على مُجريات الأمور، ولا سيما مع المباركة الدولية لمجيء «الرئيس الشابّ» إلى السلطة. تمخّض خطاب القَسَم، في السابع عشر من تموز عام ٢٠٠٠، عن فترة وجيزة من الانفتاح النسبي، سُمح خلالها ببعض المنتديات الحواريّة، التي ارتادها المئات على أفضل تقدير، وانتهى «ربيع دمشق» هذا بعودة سياسات الاعتقال والتضييق. وعاد النظام السوري بسياسات المنع والقمع والاعتقال هذه لتثبيت الداخل وتغييبه، ثم لينشغل بمُسَايسته مع الخارج.

خارجياً، بدأت التحديات الكبيرة لنظام بشار الأسد مع الغزو الأمريكي للعراق، وتعاظمت الصعوبات مع تأزّم الأوضاع في لبنان، لتصل إلى ذروتها مع اغتيال رفيق الحريري. وجد النظام السوري نفسه في منتصف العقد شبه معزول عن العالم، متهماً بتسهيل دخول الجهاديين إلى العراق، ومُشاراً إليه كمسؤولٍ عن سلسلة الاغتيالات السياسية في لبنان، قبل وبعد اضطراره لسحب القوّات السورية المتواجدة في البلد الجار. لكن فترة العزل هذه حملت له، في تموز عام ٢٠٠٦، انتصاراً أكثر من معنوي، مع تمكّن حزب الله، حليفه اللبناني الوثيق، من الصمود في وجه الحرب التي شنّتها إسرائيل عليه، وعلى لبنان ككلّ، انتصاراً أعطاه دفعة معنويات كافية لكي يصف نظراءه من الحكّام العرب بـ«أنصاف الرجال».

بالمراوغة والمسايسة، تمكّن النظام السوري في الثلث الأخير من العقد من الخروج من فترة العزل الدولي التي فُرضت عليه. استعرض الجيش الفرنسي في الإليزيه بضيافة نيكولاس ساركوزي، وعادت علاقاته مع السعوديّة لمصافّ التنسيق المشترك في لبنان تحت عنوان «س-س»، وعادت كوكبة السفراء الغربيين، على رأسهم الأمريكي روبرت فورد، إلى دمشق. انتهى العقد الأول من القرن العشرين وبشار الأسد يعيش «نيرفانا» سياسيّة بكل ما في الكلمة من معنى، فكلّ ملفاته، الكبرى منها والصغرى، مفتوحة لصالحه، بما فيها الإخوان المسلمين، الأعداء الشرسين لحكم والده والذين جمّدوا معارضتهم للنظام «تقديراً لمواقفه القوميّة في دعم المقاومة والصمود في فلسطين».

دخل العالم العربي، نهاية عام ٢٠١٠ وبداية ٢٠١١، في مرحلة الثورات العربيّة، في حين كان بشار الأسد يتصرّف باستعراضيّة الحاوي الذي يعتاش من مشاهدة الناس لانعدام خوفه من الدخول إلى قفص النمور أو النوم تحت أرجل الفيلة. منح لنفسه صلاحيّة مقارنة رجاحة حُكمه بالأخطاء التي ارتكبها نظراؤه في تونس ومصر، وظهر بين الجماهير مبرهناً للعالم، وربما لنفسه أيضاً، أنه لا يهاب شيئاً، بل وأمر برفع الحظر عن بعض المواقع الالكترونيّة، مثل الفيسبوك، بُعيد إسقاط حسني مبارك.

لكن الثورة السوريّة اندلعت…

واجه نظام بشار الأسد بداية الاحتجاجات باستخدام سياسات وخطاب الإنكار. لا شيء يجري، وإن جرى فهو على يد قلّة مندسّة. أمام استحالة الاستمرار بالإنكار، انتقل لمرحلة ادّعاء مكافحة «الإرهاب»، وشغّل ماكينة القتل والتدمير والاعتقال على طاقتها القصوى. بقية الحكاية معروفة: ثلاث سنوات وأربعة أشهر، زهاء مئتي ألف شهيد، مثلهم أو أكثر من المعتقلين، عشرات من القرى والبلدات والأحياء ممسوحة من الوجود، وملايين من النازحين واللاجئين داخل وخارج البلاد…

تميّز عهد بشار الأسد بتحديث بعض الأساليب، في الشكل واللغة ونمط العلاقات، ضمن سلوك النظام السوري. بُنيت شبكات مصالح جديدة على أسس اقتصاديّة ريعيّة، ساهمت في توسيع المكوّن المالي للنظام، وسهّلت علاقته مع عالم ما بعد انهيار جدار برلين. تغيّر خطاب النظام وشعاراته أيضاً، من بعثيّة حافظ الأسد الخشبية إلى خطاب حداثي مبتذل. لكن هذه جميعها ليست إلا شكلانيات لم تقترب من الجوهر: السلالة الأسديّة تحكم سوريا لأنها تملكها، وهي حرّة في التصرّف بمُلكها وما يحتويه من بشر كما تشاء، وهي مخوّلة باستخدام الأساليب التي تراها ملائمة، في أطوار الحكم الباردة والساخنة، دون أن يعترض أحد أو يتدخّل.. السيادة الوطنية هي عنوان الامتناع عن سماع أيّ نقد أو اعتراض.

منذ العاشر من تموز عام ٢٠٠٠، تغيّر كلّ شيء في سوريا تقريباً: لا البشر، من بقي منهم على قيد الحياة، هم نفسهم؛ ولا الجغرافيا، مع تشظّي البلاد بين واقع تحت سيطرة النظام وخارجٍ عن سيطرته، أكان بيد «داعش» أم لا، بقيت نفسها؛ ولا حتى المعاني، السياسية والاجتماعية وصولاً لمصطلحات الإجماع الوطني، هي نفسها… وحده بشار الأسد لم يتغيّر: وريث أبيه في استعباد السوريين.