تتوالى الأيام منذ بدء العدوان الإسرائيلي الجديد على قطاع غزّة، وتتضاعف معه أعداد الشهداء والجرحى… هذه وقائع ومشاهد وأرقام معهودة، فهي سيرة فلسطين والفلسطينيين منذ أكثر من ستّ وستين سنة، وهي أيضاً مشاهد ووقائع وأرقام باتت مألوفة، بشكل دامٍ ومؤلم، للسوريين.
في الحقيقة، بات السوريون اليوم شعباً ذا قضية كبرى، لا يستطيع النظر إلى المنطقة والعالم إلا من خلالها وتحت تأثيرها، مَثَلُنا في ذلك مَثَل الأرمن واليهود والفلسطينيين والبورنديين من قبلنا، ومِثلهم أيضاً تضعنا كارثتنا الوطنية أمام خيارين أخلاقيّين متناقضين: إما السماح لإحساس المرارة والمعاناة الاستثنائية أن يدفعنا إلى نبذ أو تبخيس كل القضايا الأخرى، وإما تحويل قضيتنا إلى منصّة إنسانية تحرّرية، تجعل السوريّين قادرين أكثر من غيرهم على الإحساس بما تعنيه الكوارث الكبرى، من احتلال وقمع وقتل وتهجير وتجاهل وتحامل دولي. إننا نعتقد أن حاملي الفكر التحرّري لا يمكنهم إلا الانحياز للخيار الثاني، بل هم معنيّون بربط قضيتهم دوماً بكل القضايا العالمية المعنيّة بحرّيّة الشعوب وحقّها في حياة كريمة وعادلة.
من هذا المنطلق، نرى أن الموقف السوري التحرّري من القضيّة الفلسطينية ليس «التضامن» فحسب، بل هو شعور بوحدة حال متحرّر تماماً من الإجماعات القسريّة التي بُنيت عليها سرديّات النظام الأسدي. لسنا في وحدة حال مع فلسطين اليوم لأننا ننتمي إلى قوميّة أو دين واحد، كما دأبت جلّ الأحزاب التقليدية في المنطقة على القول، بل لأننا نُدرك ونعيش الظلم الواقع على الفلسطينيين، ظلم الحرمان من الحرّية والكرامة والمساواة. نحن جميعاً، قبل أن نكون عرباً ومسلمين ومسيحيين، وقبل أن نكون طوائف وعشائر وإثنيّات، نستحقّ أن نكون سادةَ أجسادنا وممتلكاتنا ومستقبلنا، وأن تتساوى حياتنا، في القيمة، مع حيوات أصحاب الهيمنة والسيطرة، ورثةِ «الرجل الأبيض» بيننا من محتلّين ومستوطنين ومستبدّين.
لقد أسهم خطاب الهويات، عالمياً كان أم محلياً، في إبعاد النظر عن الجذر الأساس للقضيّة الفلسطينية، تماماً كما فعل بجذر الثورة السوريّة الأساس. فكلّما تكرّس الحديث عن «قوميّات تتنازع على الأرض»، أو «طوائف تتصارع على الحُكم»، غرقنا أكثر في متاهات «إدارة النزاع» بدلاً من إحقاق العدل، وانشغلنا بعوارض الصراع وجزئياته بدلاً من أُسُسه الكلّيّة الثابتة.
إن لما يجري على غزّة اليوم منبعاً عميقاً، ألا وهو حرمان الفلسطينيين من الحرّية والكرامة والمساواة، وتتحمّل إسرائيل، بوصفها الطرف المسؤول عن هذا الحرمان، المسؤوليّة الكبرى دائماً وأبداً عن كلّ ما يجري. الضحية واضحة والجاني أوضح.
لكن هذا الوضوح لا يجب أن يمنعنا من تحميل الفصائل الفلسطينية عموماً، وخصوصاً حكومة حماس في القطاع، مسؤوليتها عمّا آلت إليه القضيّة الفلسطينية اليوم. لقد حصل فصل تدريجي لـ«قضيّة» غزّة عن القضيّة الفلسطينية ككل، عن اللاجئين والأسرى والضفّة والقدس والمقاومة الشعبية، وتواطأت المقاومة الإسلامية المسلّحة، سواءً بشكل مقصود أو غير مقصود، مع تحويل المواجهة العسكرية غير المتكافئة في غزّة إلى «طقس موسمي» باهظ الثمن، لا تختلف مآلاته عن بداياته في كلّ مرّة. ما دامت حماس هي الحاكم الفعلي المباشر لقطاع غزّة، وتتفاوض مع أطراف دوليّة على هذا الأساس، فهي مَدينة للفلسطينيين ولأصدقائهم في العالم بكلام حقيقي، لا دعائي، عن فهمها لطبيعة النضال الفلسطيني في المرحلة الحاليّة، وعن دور صواريخها وعمليّاتها وقراراتها السياسيّة ضمن هذه الرؤية الشاملة. نعرف في سوريا تعقيدات ومصاعب المقاومة المسلحة، وحاشى أن نقول عنها عبث أو مغامرة، ولكن هذا لا يعني التخلّي عن النقد والمحاسبة وتحميل المسؤولية.
إن وضع حدّ للعدوان الإسرائيلي على غزّة هدف مباشر وطارئ، فوقف القتل والدمار هو الحاجة الأكثر إلحاحاً اليوم، ولا ينتهي العدوان حتى وقف الحصار الإسرائيلي-العربي على القطاع. ومع ذلك، نرى من موقعنا المتواضع، كملتزمين بالتوجّه التحرّري الإنساني في سوريا وفلسطين وكلّ البلاد العربيّة وغير العربيّة، ضرورة التذكير بأنه لا نهاية للمأساة إلا بحلّ جذري وحقيقي للقضيّة الفلسطينيّة، حلّ يقوم على دولة ديمقراطيّة علمانيّة تمتدّ من النهر إلى البحر. نحن مقتنعون بأن حلّ الدولتين، بعد عشرين سنة من المفاوضات التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو، أفضى اليوم إلى كيان فلسطيني مشوّه ومقطّع الأوصال، منزوع السلاح وفاقد السيادة على حدوده وأجوائه ومياهه، ومرتبط بعلاقات تبعيّة اقتصاديّة مع إسرائيل، تجعل من أكثر مواطنيه عمّالاً أجانب من الدرجة الخامسة. إن حلاً تحت سقف العدوّ، كهذا، لن يحقّق الحرّية أو الكرامة أو المساواة للشعب الفلسطيني، بل سيحرّر إسرائيل مع الوقت من صورة الدولة المحتلّة والمكروهة، وسيحرّرها أيضاً من مسؤوليتها عن الدمار والتشوّه الاقتصادي الهائل في المناطق المحتلّة منذ أكثر من ستّة عقود ونصف. إن لنا في غزّة، منذ انسحاب القوّات الإسرائيليّة منها عام 2005، أبلغ العِبَر عن وضع يستمرّ فيه الاحتلال دون تواجد يومي للقوات المحتلة على الأرض.
إلى ذلك الحين، تتواطأ رائحة البارود ووهج الانفجارات وأزيز الطائرات لإعادة تشكيل الصورة الواحدة، لاحتلال استيطاني إسرائيلي في فلسطين واحتلال استبدادي أسدي في سوريا، تواطؤاً يفضح وحدة حال الظالمين، شكلاً ومضموناً، ويدفع المظلومين للإحساس، ولو قليلاً، بأنهم ليسوا وحدهم أمام عالمٍ –في أحسن الأحوال– يتفرّج.