تُعتبر ساحة المرجة في مدينة دمشق من أهم المعالم في المدينة، وربما هي رمز لبداية التاريخ السوري الحديث، والذي ابتدأ بعملية إعدام كبيرة وشهيرة قام بها «جمال باشا السفّاح» بحق الوطنيين السوريين عام 1916. ومع ذهاب العثمانيين وقدوم الانتداب وتوالي حكومات الدولة الوطنية على دمشق، بقيت ساحة المرجة رمزاً ومعلماً مهماً في المدينة العريقة.

لكن هناك جانب آخر مهم لهذه الساحة، كونها المركز الذي يَؤُمّه أبناء المناطق الشرقية في سوريا، منذ الاستقلال وربما قبله وحتى الآن، حيث يقيم هؤلاء في فنادق هذه المنطقة ويجلسون في مقاهيها وتعدّ مركز التجمع الأكبر لهم في العاصمة. ولعلاقة أبناء «الجزيرة» بمنطقة المرجة وبالعاصمة حكاية طويلة، ربما يمكن عن طريقها شرح مدى تغيّر وتطوّر الحياة الإدارية والسياسية للدولة السورية.

كان أبناء المناطق الشرقية يقصدون دمشق للكثير من الغايات: الطبابة، الدراسة، مراجعة الدوائر الرسمية، الخ… وقد شهدت فترة التسعينات من القرن الماضي تراجعاً في سفر أبناء المناطق الشرقية للعاصمة، خاصة للأمور الإدارية، وذلك بسبب اكتمال عقد الدوائر الحكومية في تلك المناطق المهمّشة تاريخياً بالنسبة للسلطة المركزية في دمشق. ومع تطور الأوضاع في البلاد، ودخول الثورة عامها الرابع، وانتشار تنظيم داعش في المنطقة الشرقية، واشتداد المعارك، عادت أحوال أبناء المنطقة الشرقية إلى البداية، وعادت ساحة المرجة تعجّ بهم وبعائلاتهم وهم يبحثون عن دوائر مثل النفوس العامة والنافذة الواحدة ودائرة الهجرة والجوازات وغيرها، في ظل اختفاء كل أشكال الدولة الإدارية في مناطقهم.

في أي لحظة تمر بها بساحة المرجة ستشاهد جموعاً غفيرة من الرجال والأطفال والنساء من أبناء تلك المناطق، تملأ المكان بفنادقه ومقاهيه، في ملمح مخيف لسقوط الدولة في أكثر من نصف مناطق سوريا. تلمح حيرتهم ولهاثهم لتحديد الكثير من أوضاعهم القانونية، وهم يطاردون دولة غير موجودة أو لا تعترف بهم كمواطنين. وهذا الوضع هناك لم يوجد إلا في العصور القديمة وفي دول لا تنتمي بشكلها الإداري للقرن العشرين.

ربما أشبه حالة بما يحدث الآن هي حالة دولة الباب العالي العثمانية، حيث كانت البلاد محكومة بصورة فعلية من قبل شيوخ العشائر ورجال الدين والوجهاء من العائلات المعروفة، بالإضافة لبعض الحاميات العسكرية المنتشرة هنا وهناك، في حين تختصر حياة الدولة (إن صح التعبير) في المركز، في المكان الذي تُظهر به دولة الباب العالي والسلطان قوتها وسيطرتها الكبيرة، فكان المواطن يقطع المسافات سعياً وراء شهادة ميلاد أو صكّ زواج أو صكّ ملكية أو عقد بيع… وفي المدينة تنشط بعض القطاعات الاقتصادية (خانات، مطاعم) لخدمة زائري العاصمة، وعلى اعتبار موظف الميري وقتها ذا مكانة عالية، لم يكن يمكن الوصول إليه ولا تسيير المعاملات إلا عن طريق سمسار أو كاتب عرض حالة، وهي مهنة النصّابين الذي تبدأ عندهم سلسلة فساد كبير يقع المواطن المسكين ضحيتها غالباً. ولأن الحلول معدومة يضطر المواطن لقبول كل هذا.

وحال أبناء المناطق الشرقية يعتبر الأسوأ مقارنة بأحوال أي مناطق أخرى في سوريا، وذلك لعدة عوامل أبرزها أولاً انعدام دور الدولة تاريخياً هناك واستبداله بمعاهدات غير مكتوبة بين الحكام وزعماء العشائر، تضمن الولاء والضرائب من تلك البلاد مع إطلاق يدهم في تلك المناطق كحكام فعليين؛ وثانياً عدم نشر التعليم ومؤسساته في تلك المناطق لوقت قريب، ويمكن بمراجعة سِيَر أغلب المثقفين من أبناء تلك المناطق ملاحظة أنهم درسوا المرحلة الإعدادية وما بعدها في مناطق أخرى (مثل الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي درس في ثانوية المأمون في فترة الأربعينات من القرن الماضي وذلك لانعدام المدارس لتلك المراحل التعليمية في محافظة الرقة).

بقي قدَر هؤلاء الناس معلّقاً بيد اللصوص والمرتزقة، حتى جاءت دولة الوحدة السورية-المصرية (1958-1961) وبعدها دول الأحزاب الشمولية (الأجنحة المتعدّدة لحزب البعث) والتي عملت على تحجيم سلطة العشائر وعمدت إلى إقامة مشاريع زراعية واستصلاح للأراضي (سدّ الفرات، المشروع الرائد، حوض الفرات… الخ)، ويمكن القول إن الأوضاع أخذت بالتحسّن هناك منذئذ، ويعود السبب لقيام الدولة بعملية تنموية هناك استكمالاً لتلك المشاريع، كما تم نشر المدارس والتعليم، وصُنّفت تلك المناطق في الستينات بانها مناطق نامية تعليمياً، كما تم تطوير واستكمال قطاعات الدولة عموماً هناك.

وبمرور الزمن، بدأت تلك المشاريع بالفشل إدارياً، لأسباب عدة أبرزها الفساد والإهمال؛ وعدم ملاءمتها للبيئة الزراعية للمنطقة. ودخلت عملية التنمية بعدها في خمول شامل لكل المنطقة، لذا، بتجاوز الربيع البعثي القصير، يمكن القول إن هذه المنطقة لم تنل أي اهتمام جدّي عبر تاريخ الدولة السورية منذ تشكّلها، وأكبر دليل على ذلك بقاء مناطق يقطنها الملايين نامية تعليمياً لأكثر من خمسين عاماً، حسب تصنيف وزارة التربية حتى الآن.

طبعاً، مع اندلاع ثورة الكرامة عام2011 تغيرت أحوال البلاد عموماً. المنطقة الشرقية أيضاً نالت نصيبها ولكنها ربما المنطقة الوحيدة التي تم تعطيل قطاعات الدولة الإدارية فيها منذ البداية، وهذا ما قام به النظام في محاولة منه للبرهنة على التماهي بين الدولة والنظام. ونالت المنطقة الشرقية حظاً وافراً من هذا البؤس، فقد تم رفض أي ورقة تُستخرج من الدوائر الحكومية في تلك المناطق، على الرغم من ارتباط الموظفين هناك بوزارات العاصمة وحصولهم على رواتبهم منها. وتم نقل الأختام من مدينة الرقة مثلاً إلى دير الزور وأُحيطت بجدار أمني استُعمل مثل المصيدة للتحكم بمصائر البشر.

ويعاني الملايين حالياً من عدم قدرتهم على تسجيل مولود أو تثبيت زواج، ناهيك عن نيل راتب تقاعدي أو تعديل ملكية. ولأن الكتائب الإسلامية عموماً، وداعش خصوصاً، لا تعنيها معاني مفهوم الدولة من ناحية الإدارة، فقد أصبحت تلك المناطق الآن تنتمي للقرون الوسطى حرفياً… فلا مدارس ولاجامعات ولا دوائر نفوس ولا سجلّات عقارية…

وما حصل حالياً هو ازدواجية مقيتة بين نشاط حكومي يمارَس بالعاصمة وتابع للنظام، من جهة، إذ لا يوجد إنسان في العصر الحديث بدون هوية أو جواز سفر أو رقم وطني وغيره؛ وبين سلطة تنفيذية جبرية تستولي على النفط وتأخذ ضرائب وتفرض الإتاوات وتُنشئ الحواجز وتراقب النقاب والصلاة وتقطع الرؤوس، وهي سلطة تنفيذية تابعة لتنظيم داعش… بينما المواطن مضطر للتعامل مع هذا وهذه.

ومن نافل القول الكلام عن عودة العشائرية للتحكم بالمناطق تلك، بل يمكن القول عودة ما قبل الدولة وتراجع كل المكاسب الإنسانية التي حصلت على الرغم من ضآلتها أساساً، ولتبقى المناطق الشرقية «شرقية» بنظر الجميع.