تنطلق هذا الورقة من أن سوريا منقسمة اليوم وموزّعة بين قوتين استعماريتين متوحشتين: إيران وتوابعها، بمن فيهم النظام الأسدي؛ وداعش من جهة ثانية. وتدعو إلى التفكير بصراعنا كمعركة متعددة المستويات وأطول أمداً، تمتدّ لسنوات أو حتى لعقود، أياً تكن محصّلات جولتها الراهنة، وإلى العمل على بناء حركة تحرّر وطني سوريّة، تجمع بين النضال التحرّري ضد الاستعمار وتوحيد البلد من جهة، وبين التحرّر الاجتماعي والثقافي من جهة ثانية؛ حركة تعتبر الثقافة التحرّرية ميداناً أساسيا للكفاح التحرّري، ولا تقبل المساومة حول قيمة المساواة بين الرجال والنساء، وبين المنحدرين من إثنيات أو جماعات دينية ومذهبية مختلفة، وتؤسّس على هذه المساواة تصوّرها لجبهة وطنية عريضة تضم سوريين مختلفي المنابت بوصفهم جماعات تأسيسية لجمهورية سوريّة ديمقراطية. وتهدف حركة التحرّر الوطني السورية المأمولة إلى استعادة السوريين لملكية بلدهم، واستنفار وطنيتهم السورية الجامعة ضد العميل الأسدي الذي فتح البلد لمحتلين أجانب كي يُنقذ عرشه، وتسبّب في دخول أجانب متطرفين آخرين يشاركون النظام العميل احتلال البلد والقسوة الوحشية حيال عموم السوريين. كوطنيين سوريين، نريد نزع ملكية بلدنا من قوتَين مستعمرتَين يُقرّب بينهما العداء لسكان البلد وإرادة التسلط عليهم بأشدّ مما تفرّق بينهما أية صراعات واقعة أو محتملة.
وفي إطار استعادة ملكية البلد وتقرير المصير الحرّ للسوريين، نرى أن النقد الراديكالي للفكر الاستعماري، في لبوسه الديني أو في لبوسه الحداثي، أساسي لبناء الثقافة الوطنية التحرّرية.
وضع استعماري
بالرغم من أنه ليس استعمارا بدئيا، أتى من قوى خارجية واضحة الملامح، وبالرغم من أن القوتين الاستعماريتين اللتين تمزّقان البلد جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً وسكانياً، ترتديان قناعَي إجماع داخليَّين جداً، الوطنية والدين، إلا أنهما قوتان أجنبيتان بمعنى ثلاثي:
أولاً، أنهما تتعاملان مع السكان الواقعين تحت حكمهما كأعداء غرباء، يتعيّن قمعهم وتأديبهم في كل وقت، وسحقهم حين يثورون، دون تقديم أي تنازل لهم يمسّ بموقع السادة الحاكمين أو ينال من سيطرتهم الكلية؛
ثانياً، أنهما تعملان على تغيير عناصر هوية السكان المحليين باتجاهات تخفض من قيمتهم، وتُعاديان تقاليدهم المتشكّلة والمتحوّلة تاريخياً، وأكثر من ذلك تعملان على إلغاء هوية الكيان السوري الحديث كدولة وطنية، مرة لمصلحة حكم سُلالي عميل، يضع نفسه تحت الحماية الأجنبية، ومرة لمصلحة كيان ديني متوحّش وإجرامي؛
ثالثاً، أن أصحاب الكلمة العليا في كلا القوتين الاستعماريتين هم أجانب عن المجتمع السوري، أجانب في الأصل والهوى والولاء، إيرانيون ولبنانيون وعراقيون في حالة، ومستعمرون أجانب سلفيون في حالة، لا يبعد أن لبعضهم روابط بأجهزة محلية وإقليمية ودولية. لا يغيّر من ذلك أن للقوتين المستعمرتين عملاء محليين كثيرين، فهذا من وقائع التاريخ الاستعماري المبتذلة في كل مكان.
استعمار أسدي
كان النظام الأسدي يوصَف أحياناً بالاستعمار الداخلي، هذا قبل أن يفتح أبواب البلد أمام إيرانيين وعراقيين ولبنانيين وغيرهم، و«يعزمهم» على قتل السكان المتمردين. مفهوم الاستعمار الداخلي ظهر في ستينات القرن العشرين وسبعيناته في أميركا اللاتينية ليُعرّف نظماُ طغموية متوحشة، تنهب السكان المحليين وتسيطر على الموارد العامة لمصلحة طبقة عليا ضيقة ترتبط بالمركز الرأسمالي الأميركي القريب. في سورية استُخدم التعبير هجائياً، وليس مفهومياً، للدلالة على أساليب حكم استعمارية تقوم على العدوان على المحكومين وقمعهم بطرق تتفوّق حتى على الاستعمار التقليدي. لكن النظام الأسدي طوّر في العشرية المنقضية خصائص استعمارية متكاملة: ففوق العدوان على المحكومين بطرق فائقة الوحشية، ظهرت على يد من نسمّيهم «المثقفين العضويين للعالم الأول الداخلي» أيديولوجيا عنصرية من الصنف الذي يميز السلطات الاستعمارية في كل عهد، تخفض من شأن وقيمة حياة عموم المحكومين بوصفهم متخلّفين أو متعصّبين أو ظلاميّين أو أصوليين…، قد يسمّيها أصحابها الحداثة، ويسميها أيديولوجيو النظام «التطوير والتحديث»، لكنها منحازة نَسَقياً إلى ما هو مركز وأعلى ومنظم ومُضاء و«عقل»، ضد كل ما هو هامش وأدنى وغير منظّم ومُعتِم و«لاعقل»، ومنحازة اجتماعياً ضد الطوابق العليا من المجتمع؛ وهو ما اقترن من جانب ثالث بأشكال متطرّفة من النهب وخفض نصيب سكان «العالم الثالث الداخلي» هؤلاء من الموارد العامة والدخل الوطني، وإفقارهم، وتهميشهم مكانياً وسياسياً وثقافياً، بحيث يكونون غير مّرئيّين وغير ناطقين.
هذا مركّب استعماري مكتمل الأوصاف، يجمع بين العدوان العنيف على المجتمع المستعمَر، مع تحقيره والحطّ من هويته وإظهار تفوق المستعمِرين على المستعمَرين، ومع نهب موارد البلد المستعمّر لصالح طبقة صغيرة من المعمِّرين المرتبطين عضوياً بالسلطة الاستعمارية، وذلك بآليات التراكم الأولي، أي النهب والاستيلاء بالقوة على الموارد العامة، أو باختصار باستخدام القوة لانتزاع الثروة. هذا المزيج من العنف والاحتقار والنهب، الحُكم والمُلك والتعالي، أفضى إلى أجنبية نفسية وذهنية كاملة للنخبة الحاكمة، سهّلت عليها حين تمرّد عليها المحكومون قتلّهم فردياً وجمعياً وبصور بشعة، ثم دعوة أجانب فعليين إلى سحق المتمرّدين على دأب أُسَر مالكة كثيرة في التاريخ. وعلى هذا النحو انمحى الفرق بين الاستعمار الداخلي والاستعمار الخارجي.
أن يتوسل المستعمرون الأجانب الذي يعملون على إنقاذ العميل الأسدي عناصر من الأيديولوجيا الشيعية، أيديولوجيتهم هم، بما في ذلك حماية المراقد الشيعية (كانت استعادة قبر المسيح من المسلمين العقيدة المشرِّعة للحروب الصليبية)، لا يطعن فيما نرى أن الأمر أوثق صلةً بالتطلعات الإمبريالية لدولة قومية صاعدة (إيران) منه بمجرد صراع مذهبي. الطائفية في كل حال أيديولوجيا سُلطة وطبقة وليست أيديولوجيا هوية، ولا هي عقيدة دينية؛ العقيدة أداة تعبئة وصراع على السلطة والنفوذ محلياً وفي المنطقة، وليست منبعاً لهذا الصراع أو سبباً له. خارج بلدهم حابى الفرنسيون الكاثوليكية، وكان أحد سياسيّيهم في ثمانينات القرن التاسع عشر (ليون غامبيتا) صريحاً كفاية ليقول «إن معاداة الإكليروس الديني ليست سلعة للتصدير الخارجي»؛ هذا وقت كانت العلمانية في فرنسا ومعاداة الإكليروس تستعيدان زخماً غير مسبوق منذ قرن بعد الثورة الفرنسية، لكن وقتها كانت الشهية الاستعمارية لفرنسا تبلغ الأوج أيضاً. لم تكن الكاثوليكية منبع الإمبريالية الفرنسية، لكنها كانت أداة مفيدة من أدوات السيطرة الإمبريالية. وفي ربيع 2014 كان ظاهراً أن القوى الغربية بمجموعها أكثر انشغالاً ببلدة كَسَب (ريف اللاذقية) ذات الأكثرية الأرمنية والتي لم يُقتل فيها شخص واحد، عن مقتل نحو 100 يومياً ببراميل متفجرة تُلقى من الطائرات في حلب وغيرها، هذا فضلاً عن انشغال المراكز الغربية نفسها بحماية الأقليات وحقوق الأقليات طوال الوقت، على نحو يستعيد دعاوى مماثِلة أيام الاستعمار التقليدي في مواجهة السلطنة العثمانية، ويُترك لروسيا، سجن الشعوب القديم-الجديد، أن تتكلم صراحةً ضد حكم سنّي في سوريا. ليست القوى الدولية مبرّأة من الطائفية بحال، بل هي حادّة الوعي الذاتي الطائفي. لكن نكرّر مرة أخرى أن الطائفية أيديولوجيا سلطة وطبقة وامتياز، وليست أيديولوجيا هوية ولا مجرّد تمايزات ثقافية أو عقائد دينية موروثة.
استعمار داعش
تبدو داعش استمراراً للاستعمار الأسدي من حيث وصل أثناء الثورة، وليس من حيث بدأ في بداياتها. وهي أجنبية كلياً، ليس من حيث أن أصل أكثر قادتها وكبار قَتَلَتِها أجنبي فقط، وإنما من حيث أن مثالها الاجتماعي والثقافي والسياسي أجنبي عن الهوية المحلية والتديّن الاجتماعي السوري على نحو ما تشكّلا تاريخياً. ورغم أن بضع العقود الأخيرة شهدت تضعضع الإسلام السوري تحت تأثير الطغيان الأسدي، واختراقات خليجية وإيرانية، وتريّف المدن والدين، وهي ظروف وفّرت بيئة أنسب للتشدّد الديني، فإن اعتماد داعش الواسع والفوري على العنف العدواني في المناطق التي سيطرت عليها يشير إلى أنها لم تجد البيئة السورية مرحِّبة بها. وهي على كل حال لا تنفي أنها قوة أجنبية، سواء بفرض قسري لدينها الذي يساوي بالضبط سلطتها المطلقة على المحكومين، أو بالانفصال عن المجتمعات المحلية. ويجد الانفصال تجسيده وتَكمِلته في حكم هؤلاء من وراء أقنعة، بحيث لا يعرف أحد فعلاً من هم هؤلاء الحاكمون. وهي أيضاً تُظهر احتقاراً للهوية المحلية واستعداداً ميسوراً لتكفير السكان، يصلح في الواقع مقياساً للأجنبية، ويؤسّس لإباحة المحكومين وإبادتهم. التكفير تأسيس لنزعة عنصرية خاصة، إذ تخفض من حياة المكفَّرين وتُبيحهم، فإنه يماثل الطائفية من حيث كونه أداة سياسية الغرضُ منها السيطرة على المحكومين وترويعهم وفرض الاستسلام عليهم. يشهد على ذلك أن متوسّلي التكفير هم الأقوياء أو الطامحون إلى القوة، وليس عامة الناس. ما يريده الأقوياء من التكفير هو تحصين سلطتهم وبناء أسوار الدين لحمايتها وإباحة حياة المعترضين عليها.
و«العالم الثالث الداخلي»، الذي يعمل النظام الأسدي على تحطيمه بوصفه «إرهابياً»، هو ذاته الذي تعمل داعش على تحطيمه بوصفه «كافراً». يُعامَل المجتمع المحكوم في الحالين بتعالٍ عنصري، يشرّع لحكم نخبة ممتازة، تستحق، لأنها كذلك، رواتب عالية وحصانة دائمة ومجداً لا ينفد.
إلى ذلك، تُظهر داعش ميلاً إلى الاستئثار بالموارد العامة ونزع الملكيات من الخصوم، على نحو مماثل لآلية التراكم الأولي، ويحاكي ما تُظهره الأصناف الاستيطانية من الاستعمار، من صنف إسرائيل في فلسطين، والفرنسيين في الجزائر قبل استقلالها. وهي بذلك تجمع عناصر المركَّب الاستعماري مثل النظام الأسدي: العدوان والتعالي والنهب، فوق الصفة الأجنبية لأجهزة القيادة والتخطيط فيها.
والنقطة المهمة هنا، من وجهة نظر التحليل كما من وجهة نظر العمل، أن داعش ليست تعبيراً عن الهوية المحلية والمجتمع المحلي السوري في مكوّنه المسلم السني. هي لا تزعم ذلك ولا تعتبره فضيلة أصلاً، وتَوسُّعُها في التكفير والعنف ينفي عنها هذه الصفة، وإن تكن بلا ريب استفادت مما تعرضت له البيئات السنية السورية من انكشاف وتعرية للانتشار في هذه البيئات، وتجنيد عملاء لها من أوساطها.
أصول داعش وأخواتها
على أن هذا شيء، والقول إنه لا جذور لفكر داعش في الفكر السياسي الإسلامي العالِم شيء آخر. ليست داعش تعبيراً عن تديّن السوريين العام، لكنها تعبير متطرف قليلاً فحسب عن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وقد أظهر على الدوام استعداداً تطرّفياً قوياً بفعل غُربته عن الشروط الفعلية لحياة الناس في مجتمعاتنا، وميله إلى تطوير أيديولوجيا مجرّدة، «أجنبية» بقدر لا بأس به، عن أية مجتمعات حيّة. تجربتا تونس ومصر تُظهران بطريقتين مختلفتين أن مجتمعاتنا الإسلامية المزعومة ليست إسلامية إلا بمعنى وصفي لا تترتب عليه توجّهات سياسية بعينها، أو لنقل إنها مجتمعات تعيش هذا العصرَ وتطلّعاتِه وهواجسَه بقدر ما تَدين قطاعات واسعة منها بالإسلام، وهي ربما توالي إسلاميين احتجاجاً على نظم طغيان امتيازية. وليس صحيحاً بحال أن «الشريعة الإسلامية»، وهي حجر الزاوية في مشروع الإسلاميين السياسي، هي عُرف مجتمعاتنا الفعلية وتقليدها الحيّ، أو أن حكم الشريعة، أي حكم الإسلاميين، لا يعدو أن يكون إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح الذي حرّفها عنه الاستعمار وأعوانه. هذا بذاته مشروع يستعمر الحياة الفعلية باسم نسخة إسلامية عن «الرسالة التحضيرية» الاستعمارية أو «نقل الوعي» الصحيح اللينيني. هذا دون أن نقول شيئاً عن أن مثال الإسلام الذي يصدر عنه الإسلاميون هو في الواقع الإمبراطورية، القائمة على السيطرة والإخضاع، وليس قيم العدالة والبرّ والهدى والأخوة، القيم الأساسية في دين الإسلام، عدا أن الشريعة التي يحامي الإسلاميون عنها هي في الواقع الفقه العباسي، وهو أحكام ولدت في ظل سلطة إمبراطورية جائرة، لا عدالة فيها ولا حرية.
لكن ماذا عن تشكيلات إسلامية سلفية، أقلّ وحشيةً من داعش، تتكون من سوريين أساساً، لكنها تستند إلى التصوّر الجهادي نفسه للإسلام، وتعمل على فرضه بالقوة، وترحّب بغير سوريين في صفوفها؟ مثل ’جبهة النصرة‘ و’الجبهة الإسلامية‘؟ هل هي استعمار أيضاً، يجب تحرير بلدنا منها؟ مما نلاحظ من ممارساتها خلال ما يقارب عامين، تبدو لنا هذه التشكيلات ضرباً من الاستعمار الداخلي، أشبه بالنظام الأسدي قبل الثورة، تمزج مِثلَه بين التعالي على عموم الناس مع توسّل الدين سنداً للغرور، والعنف الإخضاعي الذي يُراد له أن يلقّن العموم مَن له السيادة ومن صاحب الكلمة، وتنزع أيضاً إلى السيطرة على الموارد العامة.
هل هذه القوى سند في الصراع التحرّري ضد النظام؟ الظاهر أن لها مشروعها الخاص الذي لا يقبل التعايش مع غيره، وأن ما تريده ليس الخلاص من السلالة الأسدية من أجل سوريا للجميع، بل التخلص منها من أجل الحلول محلّها، مع استعداد للتعايش معها على جزء من البلد. الفرق بين هذه القوى وداعش أنها تخصّ النظام بحربها أساساً، وأن حدّاً أدنى من السياسة لا يزال ممكناً معها. لكنها تبقى قوى استتباع وتمزّق وطني، وليست بحال قوى تحرّر، ولا هي سند للكفاح التحرّري. ونموذجها الفكري يؤهّل لاستعمار الحياة على نحو يقتضي فرضه استعماراً فعلياً، مثلما اقتضت أجنبية الأسرة الأسدية تسليمَ البلد لمحتلين أجانب فعلاً. هذه قوى أجنبيةُ الفكر والمثال، لا عن التجربة الحية لعموم السوريين فقط، وإنما عن تجارب عموم المسلمين السنّيّين أيضاً.
وهي تبدو، مثل داعش، تعبيراً حاسماً عن تسلُّف الإسلام السوري و«تخليجه»، أي إلحاقه بشبكات خليجية قوية مالياً لكنها متحجّرة فكرياً وأخلاقياً، وهذا لا يتعارض مع الإسلام السوري المعاصر فقط وإنما مع مجمل تجارب وتراث الإسلام في بلاد الشام. ولا تدين هذه المجموعات للنظام الأسدي بخلق بيئة نموّ مناسبة لها عبر عنفه المتوحش فقط، وقبله عبر خلخلة اجتماعية مديدة لمصلحة الأفسد والأحطّ بين السوريين، وإنما أيضا بالنموذج الفكري البعثي، الذي تمتزج فيه العنصرية مع دعوة الإحياء، مع التمركز حول الذات ومعاداة العالم، ثم مع عالم لغوي فيه كثير من الدماء والأعداء والبطولات والحروب والمعارك والمجد والفتح.
ثقافة تحرّرية
نبني على هذه الاعتبارات أنه يترتب على حركة تحرّر وطني ضد الاستعمار أن تطرد المستعمرين الأجانب، وتسترجع البلد لأهلها، لكنها مدعوّة في الوقت نفسه إلى تطوير ثقافة تحرّرية، مفاهيم وقيم ورموز جديدة، تواجه مختلف عقائد استعمار الحياة، سواءً بصيغتها الداعشية أو بأية صيغ سنّيّة أو شيعيّة أخرى، دون أن تنهر هذه الثقافة التحرّرية أعراف الناس وتقاليدهم الحية، أو تزايد عليهم وتغرس الشعور بالنقص في نفوسهم. ليس أن هذه الأعراف والتقاليد معصومة، ولكنها حلول توصّل إليها الناس في شروط حياتهم العيانية عن مشكلات تولدت في هذه الشروط نفسها. الثقافة التحرّرية تدافع عن حرية الناس في التفكير والحكم وتقرير أضاعهم، لا تفرض عليهم باسم مبادئ مجردة ما يُكرِههم على أشكال انتظام أو تفكير أو تضامن أو عمل من خارج تجاربهم وخبراتهم الحية. لكن الثقافة التحرّرية تتطلع إلى خصوبة أعلى في تمثيل واقع حياة الناس، تمثيلها معرفياً وجمالياً وتطوير نظم قيم تحرّرية لا تُهجس بالرقابة والمنع والتحريم.
لا نرى أن هذه الثقافة يمكن أن تنشأ في كنف الدين، وإن لم يكن عليها أيضاً أن تتوسوس بمحاربة الدين. ما ندافع عنه هو الحرية، حرية التدين وحرية عدم التدين. من أحد وجوهه، تاريخ الإسلام هو تاريخ تطوير تسويات متحولة بين منطق العقيدة قليل التغيّر وبين شروط الحياة المتغيرة. ندافع عن حق الناس في تطوير تسوياتهم الخاصة، ونرفض فرض منطق العقيدة بالقوة، سواء العقيدة الدينية أو العقيدة المضادّة للدين.
غلى أن الثقافة التحرّرية عمل إيجابي، عمل ابتكار وتجديد للمعاني والقيم، وليس عملية تكيّف أو تسوية سلبية. فإذا كان احترام التسويات التي يتوصل إليها الناس بين العقيدة والدنيا واجباً، فإن الثقافة التحرّرية لا يمكن أن تكون مجرد تسوية، وإن لم تكن أيضاً خلقاً من العدم؛ إنها توليد لتراكيب جديدة وتحرير للمخيلة والضمير والذهن من المتاح، سواءً كان موروثاً أم وافداً. نرى أن تحرّرنا تحرّران: أولهما رفع القيود التي تحول دون أن يمارس الناس عقائهم وقيمهم التي لا تعتدي على غيرهم، ومنها أساساً حرية مختلَف المؤمنين في أن يعبّروا عن عقائدهم ويُشهروا هوياتهم في الفضاءات العامة؛ لكن هناك تحرّر كبير، مقابل هذا التحرّر الصغير الذي لا يُنتج قيماً جديدة أو ينتج القليل منها، وهو يتمثل في ابتكار العقائد والفنون والقيم وأنماط الحياة. نحتاج إلى هذا في عالمنا، سواءً عرّفناه بأوضاع سياسية يميزها الطغيان (أوضاع تدفع إلى الدفاع عن التحرّر الصغير)، أو عرّفناه بعنوانه الإسلامي الذي يبدو لنا غير قابل للتجدّد هو ذاته دون تحرّر كبير، أو دون فتوحات إبداعية كبيرة على مستوى المفاهيم والقيم والرموز.
مثلاً لا نرى إمكانية لتسوية مع أوضاع النساء التابعة، أو مع قوانين أحوال شخصية تكرّس تبعية النساء، أو تقرّر لهنّ حقوقاً أدنى من حقوق الرجال، في الملكية والميراث والزواج، أو في حقل السياسة والسلطة. أجساد النساء ملك لهنّ، وليست للأمة أو للدولة أو للدين، مثلما هو الحال بخصوص أجساد الرجال.
لا نرى وجهاً لوجوب مجاملة المنطق التعبوي الذي يقول إن معركة التحرّر الوطني توجب تجميع القوى وخفض مستوى التجدّد الفكري والثقافي من أجل تأليف القلوب. هذا منطق ضيّق، يسوّغ القيم البطريريكية وسيطرة الرجال والمحاربين من الرجال. في تجاربنا السابقة في مواجهة الاستعمار، جرى وضع التحرّر الوطني في مواجهة التحرّر الاجتماعي، وجرى تصوّر التحرّر الوطني كمعركة مسلّحة أو غير مسلّحة، لكنها تعيد السلطة والسيادة إلى أهل الحرب والسياسة التقليديين، الرجال في كل حال.
يلزم فيما نرى ابتكار قلوب جديدة أكثر من تأليف قلوب قديمة. التحرّر الكبير يوجب العمل من أجل وطنية جديدة متحرّرة، أي أيضاً إجماع جديد مؤسّس على ثقافة تحرّرية، وليس على الوطنية القديمة التي يَؤول التحرّر على أرضيتها إلى التعايش الطائفي و«عناق الهلال والصليب» وما شابه. انبنى الاستقلال الوطني عن الاستعمار الفرنسي على ذلك. تجاوُز هذا المنظور واجب، لكن دون الانزلاق إلى موقع المزايدة على المجتمع والتعالي عليه، وقد مارسه يساريون وعلمانيون، وآلَ بهم الأمر في العهد الأسدي إلى التأسيس لسيطرة طائفية جديدة، عاجزة عن الهيمنة، ومفتقرة إلى أي محتوى أخلاقي.
قد يكون جديراً بالتنويه هنا وفي كل مكان تَرِد فيه كلمة «أخلاق» أن المقصود أخلاقية الضمير والإلزام الداخلي، وليس أخلاقية الإلزام الخارجي، سواءً باسم المجتمع أو الشريعة. شرط الأخلاق، والماء الذي يعيش عليه الضمير إن جاز التعبير، هو الحرية بوصفها أساس المسؤولية. المؤسّسات السياسية والدينية التي لا تحمي الحرية وتدافع عنها هي مؤسسات لا أخلاقية، أما المؤسسات السياسية والدينية التي تقمع الناس وتدوس على حرياتهم فهي شرّيرة وإجرامية.
مسؤولية جيل
لا نعلم كم يمكن أن يطول الصراع ضد الاستعمار متعدّد الوجوه الذي يتناهب وطننا، لكن لا ريب أن إيقاعه أبطأ من الثورة المغدورة ضد النظام الأسدي، وإن لم يكن محتّماً أن يدوم عقوداً طويلة. المهم على كل حال أن يجري العمل على بناء مفهوم لحركة التحرّر الوطني السوري، يستوعب دروس الثورة الحالية، ومنها فيما يبدو لنا وجوب الجمع بين الكفاح التحرّري ضد الاستعمار وبين الثقافة التحرّرية. هذا بطبيعته عمل يستغرق زمناً، ربما جيلاً كاملاً، ومساهمة جيل كامل أو أكثر.
بعد أربعين شهراً من انطلاق الثورة السورية، نحن اليوم مضطرون بكل معنى الكلمة للإبداع كي نستطيع صون كرامة ثورة الكرامة. إبداع الأفكار والرموز والقيم، والعقائد والتيارات الفكرية والفنية، والأوضاع وأنماط الحياة. لا سبيل أمامنا للتحرّر من السيطرات الأجنبية بالتوجه نحو الماضي، ولا نستطيع التوجه نحو المستقبل، بالمقابل، دون مقاومة السيطرات التي تستعمر حياتنا وحاضرنا. قد لا يكون حظاّ سيئاً في نهاية المطاف أن الاستعمار اليوم يأتينا اليوم من الماضي، من طبقات مختلفة من الماضي، من شأن هذا أن يشفي تطلّعنا التحرّري من أية إغراءات ماضوية، وأن يجمع في رزمة واحدة تحرير أرضنا المحتلة مع تحرير أرضنا الاجتماعية وفضاءاتنا الروحية والخيالية.
وبقدر ما نتكلم على حركة استقلالية وتحرّرية، يشغل الاعتماد على قوى وطاقات وموارد محلية موقعاً مركزياً إلى أقصى حد. كان هذا هو الإخفاق الأكبر للتشكيلات السياسية التي ظهرت على هوامش الثورة، وكذلك للتشكيلات العسكرية. التحدّي الأكبر للحركة التحرّرية هو أن تسيطر على مواردها المادية وأن تنضبط بحدود هذه الموارد كي تصون استقلالها الاقتصادي. ولا نرى كيف يكون ذلك ممكناً دون الارتباط بعملية الإنتاج المادي، بأرض وبمجتمع. داعش أعطت درساً بليغاً في هذا الشأن لمن يريد أن يتعلم.
لا نزكّي أي مسلك انعزالي، لكن المهم هو أن نتحكم بكامل مدخلات ومخرجات عمليات التنظيم والإنتاج الثقافي والسياسي، فضلاً عن المادي، في إطار الحركة التحرّرية الجديدة، وخاصة السيادة في مجال تصورات العمل والأفكار حول التنظيم وقواعده. من المهم أن نتجنب في آن انقطاعاً لا معنى له عن العالم، ولا يُلحق الضرر بغيرنا، وألا نتقمص نماذج وتشكيلات فكرية وسياسة وتنظيمية جاهزة، إن على شاكلة الحركة الشيوعية القديمة، أو على شاكلة منظمات الإنجيؤوز الغربية الحديثة ومجمل فكرها ونماذجها الثاوية. في الحالين كثير من التبعية وقليل من الحرية والتفكير الجديد. ومثلهما في ذلك الإسلام الخليجي والأفغاني، اللذين يصحّ القول فيهما إنهما عقيدتان مستورَدتان بكل معنى الكلمة.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه حركة تحرّرية هو أن تتمكن من تأمين موارد.
استعادة ملكية البلد
التطلع المُعرِّف للحركة التحرّرية لا يختلف مبدئياً عن أية حركة تحرّر وطني ضد الاستعمار: أن نستعيد امتلاك بلدنا الذي حُرمنا منه بالسجن أو القتل أو النفي، وخصخصَتْه لنفسها سلالة حاكمة منحطّة. قام النظام الأسدي من الأساس بالفصل بين السوريين وبين وطنهم، أو نزع ملكية بلدهم من أيديهم، كي يستطيع أن يسجّلها باسمه، «سوريا الأسد». غرور السلطة التي دامت عقوداً ارتفع إلى مَرتبة تمايز أنطولوجي لحاكمين أصبحوا مالكين ولمحكومين ارتدّوا إلى مملوكين. تمايز عنصري في الواقع، تُشكّل الطائفية أحد تجلياته، من حيث أنها تؤكد على تمايزات ماهوية بين سكان لا يكاد يفرِّق بينهم شيء في الواقع. هذا أسّس للتحول الاستعماري الصريح بعد الثورة. ومن هذا الاعتبار فإن كفاح التحرّر الوطني يكون مُجهَضاً إذا توقّف عند طرد المستعمرين الأجانب دون القضاء على العلاقة الاستعمارية وتحطيم أساسها المتمثل في سيادة المستعمِرين وعلوهم على المستعمَرين.
كان الاستقلال السوري الأول قد أُفرغ تماماً من مضمونه التحرّري بفعل الطغيان، إلى درجة أن عاد من جديد مهمة السوريين الراهنة، وصارت التبعية الأساسية، التبعية الدينية، تبدو فعل مقاومة تحرّرية. اليوم تتكثّف التبعيات الثلاث، التبعية الاستعمارية والتبعية الاستبدادية والتبعية الدينية، في تبعية كبرى واحدة، ويعرض النظام الأسدي في آن وجهاً استعمارياً ووجهاً دينياً خاصا به، فوق وجهه الطغياني، فيما تَمثُل داعش في آن قوةَ استبداد واستعمار وطغيان ديني. هذا فضلاً عن الاستعمار الإسرائيلي، الذي يحتلّ قسماً من البلد، ويحتلّ موقع السيادة إقليمياً، أي موقع القوة القادرة وحدها على الحرب، والتي تسيطر على التفاعلات الإقليمية وتوجّهها لمصلحتها، ودورها في حماية النظام الأسدي وتعفين الأوضاع في سورية لا يمكن المبالغة فيه.
بقدر ما أن هذا الوضع صعب عملياً إلى درجة تقارب الاستحالة، فإن الثقافة التحرّرية ممتنعة دون مواجهة هذه التبعيات الثلاثة. بل إنها الميدان الوحيد لمواجهة التبعيات الثلاث. في الحرب نواجه عدواً أو جبهة أعداء واحدة، وفي السياسة نواجه عدوَّين أو جبهتَي عداء، وفي الثقافة وحدها يمكن أن نخوض صراعاً ثلاثيّ الأبعاد ضد ثلاثة أعداء.
وإن يكن لفصم العلاقة الاستعمارية الأولوية من الجهة الزمنية، فإن التبعية الدينية هي الأَولى من حيث الأهمية التأسيسية. وتبقى التبعية الطغيانية هي الحلقة المركزية التي تنعقد عليها التبعيات الأخرى، وكسرُها يوفّر شروطاً أنسب لمواجهة أية تبعيات أخرى.
وظاهرٌ اليوم أننا لا نستطيع إسقاط النظام الأسدي دون مواجهة حُماته في طهران، وأداتهم اللبنانية «حالش»، أي إن الاستقلال الثاني يشترط إعادة كسب الاستقلال الأول ضد مستعمرين جدد، لاستعمارهم فوق ذلك بُعد ديني، يوجب بحدّ ذاته، حتى دون قول شيء عن داعش وأخواتها، فتحَ باب واسع لنقد ومقاومة التبعية الدينية. وهو، المستعمر الإيراني، يتطلّع إلى مشاركة إسرائيل السيادة الإقليمية، على حساب بلدنا والمشرق العربي ككل.
بهذا المعنى فإن استعادة السوريين لبلدهم ليس فعلاً سياسياً محضاً، وإنما هو أيضاً فعل تحرّر ثقافي، نقاوم عبره الاغتراب الديني.
وطنية جديدة وجبهة وطنية جديد
التفكير في شرطنا الراهن كشرط استعماري يقتضي العمل على بناء أكثرية وطنية جديدة، والتأسيس لتصور جديد لهوية سورية ولاستقلالها ووحدتها. نرى أن حجر الزاوية في هذا التصور الجديد هو النظر إلى الجماعات السورية المختلفة كجماعات تأسيسية متساوية المكانة والحقوق. ليس بين السوريين من هم أكثر سوريّةً من غيرهم، أو تتكثف فيهم أكثر من غيرهم ماهيّة سوريّة. الصفة «المصطنعة» لسوريا كدولة نشأت قبل أقل من قرن تقضي إقامة نظامها السياسي على وجودها الحديث هذا، لا على ماهية أصيلة لا وجود لها. التحرّر الوطني يقتضي التفكير في سياسة حرية، تقوم على الحقوق الاجتماعية والسياسية للسكان، وعلى الحقوق الثقافية المتساوية للجماعات السورية، لا على سياسة الهوية، سواءً عربية (أو كردية) أو إسلامية.
قد لا يكون ميسوراً في شروطنا الراهنة التفكير في وحدة وطنية سورية جديدة، لكنْ مما يساعد على ذلك التركيزُ على الصفة الوطنية التحرّرية لصراعنا الحالي، وأنه موجه ضدّ محتلين أجانب وعملاء محليين لهم. بشار الأسد ونظامه دعَوا قوى أجنبية غير ودودة حيال معظم السوريين من أجل إنقاذ سلطته الاستبدادية ودوام سلالته. في كل مكان من العالم يوصف من يفعل مثل ذلك بأنه خائن للوطن، وأن يكون في سجلّ المذكور وطغمته جرائم كبرى فوق ذلك يجعل التخلص من نظامه واجب السوريين الوطنيّ الأول، والمدخل الذي لا بديل عنه لتقاربهم واستعادة الثقة بينهم. هذا النظام لم يكن أميناً على سوريا ولا على كرامة السوريين، والمصير العادل لقادته هو مصير ضحاياهم في مصانع القتل أو في الأحياء المقصوفة بالطائرات أو بالسلاح الكيماوي.
وهو المصير الواجب لداعش وعملائها أيضاً. في سجلّها منذ الآن من الجرائم ما يجعل التحرّر منها واجباً وطنياً وإنسانياً. وليس أقل جرائمها عملها على تقسيم البلد وتحطيم كيانه واستتباع قسم منه لسلطة أجنبية غامضة، لم يُستشَر أي سوريين في شأنها: «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والتي تطورت مؤخراً إلى «دولة الخلافة الإسلامية».
على تصوّر الجماعات السورية المختلفة كجماعات تأسيسية متساوية يتأسّس تفكير مغاير في شأن وضع كل من الكرد والعلويين والمسيحيين و… الإسلاميين.
لكن لن نتناول هذا الشأن البالغ الأهمية في ورقة أولية غرضُها تصوّر مفهوم حركة تحرّر وطني، بأمل أن نخصّه بورقة مستقلة في وقت قريب.