في الطبعة الثانية من كتابه روح الشرائع أضاف المحامي والفيلسوف السياسي الفرنسي شارلْ مونتِسكْيُو بعد المقدمة وقبل الدخول في الفصل الأول فقرةً بعنوان «تنبيه من المؤلف»، وهي فقرة قصيرة ومكثّفة جاء في نهايتها:«وقد كشفت النقاب عن جميع هذه الأمور في هذه الطبعة مُمعناً في تحديد الأفكار، واضعاً كلمة ’الفضيلة السياسية‘ في معظم المحال التي استعملتُ فيها كلمة ’الفضيلة‘».
يعدّ كتاب روح الشرائع، الذي طبع للمرة الأولى عام 1748، من أهم مؤلفات عصر التنوير في أوربّا، وهو الكتاب المؤسِّس للأنظمة السياسية التي أنتجتها الحداثة، والمؤَلَّف الأكثر وضوحاً وتحديداً حتى تاريخ طباعته في التمييز بين أنماط الحكم المختلفة التي سادت وتسود العالم. ولكن ما الذي دعا مونتسكيو لإضافة هذا التنبيه؟ أو لنقل أي سوء فهم هذا الذي وقع فيه القرّاء في عصر التنوير، والذي دعاه إلى توضيح كهذا؟
يقول مونتسكيو في تنبيهه: «ما أدعوه ’فضيلة‘ في الجمهورية هو حبّ الوطن؛ أي: حبّ المساواة، وليس هذا فضيلة خُلُقية، ولا فضيلة مسيحية، مطلقاً، بل فضيلة سياسية». هكذا يعلن مونتسكيو لقرائه أن مسألة المساواة في الجمهورية ليست مسألة أخلاقية ولا دينية، وهي لا ترتبط بمنظومة قيم أخلاقية في زمان ما، بل هي ترتبط بالسياسة، وبشكل نظام الحكم. الجمهورية تقتضي المساواة إذاً، ليس لأن المساواة تحمل قيمة إيجابية مطلقة في ذاتها، بل لأن المساواة لازمة لبناء نظام جمهوري قابل للحياة والتقدم.
المساواة في الجمهورية أداة سياسية
المساواة في النظام الجمهوري تعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، على أن هذا التساوي ليس مطلقاً ولا مستمراً، فهو مشروط بالالتزام بقوانين الجمهورية. هكذا، وعلى سبيل المثال، لجميع المواطنين التمتّع بالحق في الحرية على قدم المساواة ما لم تعاقبهم السلطة القضائية بالحرمان من هذا الحق عند انتهاك القانون.
الجمهورية إذن تقوم على المساواة أمام القانون الذي يضعه الشعب صاحب السيادة، وبغير هذه المساواة تفقد الجمهورية ما يميزها عن غيرها من النظم السياسية، ذلك لأن الجمهورية تقوم على سيادة الشعب، الشعب الذي يصوغ مجموع أفراده شكل نظام الحكم والمبادئ المؤسِّسة له، وهو ما يقتضي أن يتساوى الأفراد في الحقوق؛ لأن غياب التساوي يعني أن فئة من الشعب، أعني الفئة التي تمتلك حقوقاً أكثر من غيرها، هي التي ستصوغ شكل نظام الحكم ومبادئه المؤسِّسة، وهو ما يُحيلنا إلى أشكال أخرى من النظام السياسية. ليست جمهوريةً تلك التي لا يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات، وهكذا تكون المساواة أداة سياسية تُبنى عليها الجمهورية.
صحيح أن المساواة مسألة أخلاقية ودينية بامتياز، لكنها عندما تتم مقاربتها على هذا النحو تفقد فعاليتها كأداة سياسية في النظام الجمهوري، فالمواطن في الجمهورية لا يتمتع بالمساواة بوصفه رجلاً صالحاً، بل بوصفه مواطناً ملتزماً بالقوانين، ذلك لأن الصلاح الأخلاقي مسألة نسبية متغيرة شديدة الفردية، وترتبط بمنظومات قيم اجتماعية ودينية وأيديولوجية متعددة ومتغيرة.
لقد كانت مسألة المساواة في عصر التنوير رهينة استقطاب ديني حاد بين منظومة القيم الكاثوليكية ومنظومة القيم البروتستانتية، وغيرها من منظومات القيم المبنية على التأويلات والتفسيرات الأيديولوجية التي ترهن تحديد «رجل الخير» المستحق للمساواة بقيم أخلاقية ودينية تهدّد بدكّ أُسُس النظام الجمهوري الذي رأى فيه مونتسكيو وغيره من فلاسفة التنوير النظام الأصلح لحكم البشر. ولعل هذا ما دفع مونتسكيو ليعلن بوضوح في تنبيهه: «رجل الخير الذي تكلمت عنه في الفصل الخامس من الباب الثالث ليس رجل الخير النصراني، بل رجل الخير السياسي المتّصف بالفضيلة السياسية التي حدثت عنها، وهذا هو الرجل الذي يحب قوانين بلده والذي يسير عن حبٍ لقوانين بلده».
على أن الإجابة على سؤال «ما هو الأثر الذي تتركه المقاربة الأخلاقية أو الدينية أو لنقل الأيديولوجية لسؤال المساواة في الجمهورية؟» تبدو ضرورة ملحّة اليوم في سياق التحولات الكبرى التي تشهدها «الجمهوريات» العربية، ولكم يبدو تنبيه مونتسكيو لقرائه في عصر التنوير حياً اليوم في مواجهة إفلاس النخب والأحزاب والتيارات السياسية العربية، هذه النخب التي تبدو عاجزة عن إيجاد الحلول النظرية للاختناق التاريخي الذي دفع بالجموع إلى الشوارع في معركة دموية مفتوحة مع أنظمة الاستبداد التي لا يزال بعضها متماسكاً، في حين فقد بعضها الآخر رأسه ولا يزال يحاول استعادة هيمنته على المجتمعات الثائرة.
المساواة في «الجمهوريات» العربية على المستوى النظري
تقوم الحكومة الجمهورية على المساواة، في حين تقوم الحكومة المستبدة على «الخوف» على حد تعبير مونتسكيو، ومما لا شك فيه أن «الجمهوريات» الفاشية التي قامت في أوروبا لاحقاً لم تكن أنظمة حكم جمهورية حقاً، ومن نافل القول أيضاً أن الأنظمة «الجمهورية» العربية التي هيمنت خلال الستين عاماً الماضية في غير دولة عربية لم تكن جمهوريات مطلقاً على صعيد الممارسة، بل كانت حكومات مستبدّة تلبس لبوس الجمهورية، ولعلها في الحالة السورية الأكثر تطرفاً لا تخضع لأي تصنيف مدرسي متعارَف عليه لأنظمة الحكم، إذ يبدو النظام السياسي السوري مزيجاً من الأنظمة «الجمهورية» بنسختها الفاشية وأنظمة الملكية المطلقة بنسختها القروسطية.
لكن فلندع هذا جانباً ولنذهب إلى التأسيس النظري لهذه «الجمهوريات»، وعلى وجه الخصوص التأسيس النظري للمساواة التي يفترض أنها العمود الفقري في النظام الجمهوري، متخذين من «الجمهورية العربية السورية» نموذجاً. إذ لقد نصّ دستور الجمهورية العربية السورية الدائم الذي أُقِرَ عام 1973 على مبدأ المساواة بين المواطنين، على أن هذا الدستور بُني على أيدولوجيا البعث القومية العربية، ومن ثم كانت القوانين السورية التي بُنيت على هذا الدستور تحرم المواطنين من المساواة في حرية التعبير على أساس أيديولوجي، كذلك تحرمهم بموجب نصوص قانون العقوبات من الحق في الحرية إذا انتهكوا قاعدتها الأيديولوجية القومية العربية. هكذا نظر المثقفون والسياسيون والمنظرون البعثيون للمساواة بين المواطنين بوصفها مسألة مرتبطة بالانتماء الأيديولوجي.
لا أتحدث هنا عن ممارسات الأجهزة الأمنية، فهي كانت تقمع كل أولئك الذين يمكن أن يهدّدوا سلطة الطغمة الحاكمة، متجاوزةً في ممارساتها منظومة القوانين التي أقرّتها جمهورية البعث نفسها. لكنني أتحدث عن كامل الفضاء السياسي والثقافي الذي أسّس نظرياً للجمهورية العربية السورية، ذاك الفضاء الذي كانت تتم مقاربة حقوق السوريين فيه أخلاقياً أو دينياً أو أيديولوجياً، ذلك أنه، إذا كان الأمر بالنسبة لقادة البعث مجرد توظيف للأيديولوجيا لصالح الطغمة الحاكمة، فإن مناوئي نظام البعث أنفسهم لم ينظروا للمساواة كأداة سياسية لبناء الجمهورية السورية، بقدر ما قاربوها بوصفها مسألة ذات صلة بالأيديولوجيا ومنظومة القيم.
هكذا كان يتم تبرير القمع والإقصاء والحرمان من الحقوق تحت مظلة شعارات سياسية رفعها الخطاب السياسي آنذاك إلى مستوى قيمي أخلاقوي بائس، لتغدو «الرأسمالية» أو «الليبرالية» تهماً ذات محمول أخلاقي لدى اليسار، وعلى الطرف الآخر تغدو «العلمانية» و«القومية» تهماً ذات محمول أخلاقي لدى تيارات الإسلام السياسي، ومن ثم تكون هذه التهم صالحة للتأسيس عليها لحرمان المتهمين بها من حقوق المواطنة في «الجمهورية».
لعل المثال الأبرز على الكارثة التي خلفتها هذه المقاربات تتجلى في انقسام القوى السياسية المناهضة لـ’الإخوان المسلمين‘ في الموقف من مذابح حماه عام 1982 إلى تيارين عريضين: الأول كان يبرّر هذه المذابح على «قاعدة أخلاقية» تضع المعركة مع «الرجعية» في المقدّمة، والثاني كان ينتقدها على قاعدة عدم جواز قتل الأبرياء، أو على قاعدة أخرى تتعلق باستغلال النظام لهذه المعركة لسحق وإخضاع المجتمع السوري برمته.
إلا أن أحداً من التيارات السياسية لم يتحدث قبل كل هذا عن السبب الذي مهّد لمذبحة رهيبة كهذه، أعني الإقصاء والحرمان من المساواة، ويكفي في هذا السياق أن نرجع إلى أدبيات المرحلة السابقة على المعارك مع ’الإخوان‘، لنجد أنفسنا في مواجهة قوى يسارية لم يدافع أي منها تقريباً عن حق الإخوان المسلمين المطلق في التعبير والمشاركة السياسية.
كانت المساواة لدى اليسار السوري رهينة بما أسموه فكراً «تقدمياً»، وعلى المقلب الآخر كانت المساواة لدى ’الإخوان المسلمين‘ رهينة بالالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية. لقد كان «رجل لخير» لدى أغلب السياسيين السوريين «رجل الخير اليساري» هنا و«رجل الخير المسلم» هناك، أما «رجل الخير السياسي» على حد تعبير مونتسكيو فلم يكن حاضراً في الثقافة السياسية السورية.
التأسيس النظري للمساواة في سياق محاولات بناء الجمهوريات الثانية
تتداعى «الجمهوريات» العربية أمام التوق للحياة والحرية والكرامة لدى «مواطنيها»، ويتصدّى السياسيون والمثقفون والناشطون في دول «الربيع العربي» لمهمة تأسيس جمهوريات «ثانية» على أنقاض «الجمهوريات» المستبدّة المتداعية. ويمكن القول إن الحق الرئيسي الذي يدفع آلاف المواطنين العرب ثمن النضال لنيله هو حق التجمّع السِّلمي الذي يضمن آليات مدنية وسلمية للضغط السياسي على النخب الحاكمة بهدف انتزاع بقية الحقوق. فلندع إذن كل الحقوق التي يفترض أن تضمنها الجمهورية الديمقراطية لمواطنيها جانباً، ولنحاول أن نرصد معاً مسألة المساواة في حق التجمّع السِّلمي في سياق الثورات العربية.
تعترف الدساتير العربية بوصفها دساتير أنظمة يفترض أنها جمهورية بحق التجمع السلمي، على أنه كان ممنوعاً في الممارسة من خلال قوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية، ومن خلال هيمنة خطاب السلطات الحاكمة الذي يبرّر سحق كل من «يعكّر صفو الوطن» تحت ذرائع مختلفة، ثم انطلقت الجموع إلى الشوارع محاولةً انتزاع حقها في التظاهر لتتمّ مواجهتها بالقمع والعنف والقتل العلني في الشوارع.
لقد تمت تغطية هذه الأعمال لدى أنصار السلطات الحاكمة بشعارات بائسة ذات صلة بالاستقرار أو المواجهة مع الخارج أو الدفاع عن العلمانية أو سوى ذلك، على أن الأمر لم يختلف إلى حدّ بعيد لدى أغلب منظري الثورات العربية وناشطيها ومثقفيها وقادتها المحليين، إذ يختلف الموقف من قمع المظاهرة باختلاف ما يقوله المتظاهرون. هكذا فإن أنصار محمد مرسي الذين كانوا قد تظاهروا ضد نظام حسني مبارك أيّدوا كل القمع الذي مارستها السلطة الإخوانية المنتخبة في مصر بحق المتظاهرين المناوئين لها، كذلك غطّى أولئك المناوئون لمرسي ومن قبله مبارك كل أعمال القمع بحق أنصار ’الإخوان‘. على أن الأمر لم يقتصر على تبرير تفريق هذه التظاهرات، بل امتد إلى تبرير القتل نفسه، تبرير حرمان مواطن من حقه في الحياة بسبب احتجاجه العلني في الشارع.
لا شك أن جميع هذه القوى والشخصيات والتيارات تعلن اعترافها صباح مساء بحق التجمع السلمي، لكنها تعود لتبرير القمع والقتل بالكلام أو الصمت أو التواطؤ، ولنا أن نرى ذلك الصمت المشين للقوى «الديمقراطية» المصرية على مذابح كتلك التي حصلت في ميداني رابعة العدوية والنهضة في مصر، إلا أنه ليس صمتاً مشيناً أخلاقياً فحسب، بل هو صمت مشين سياسياً لأنه يهدم أساس النظام الجمهوري، أعني المساواة في الحقوق بين الجميع.
يحق لنا أن نستنج أنه يتم النظر من قبل الجميع إلى قمع المتظاهرين بوصفه خطيئة أخلاقية لا خطيئة سياسية، ومن ثم يكون قمعهم مبرراً عندما تكون مطالبهم غير أخلاقية من وجهة نظر ما، لكن الأصل أن حق التجمع السلمي حق للجميع في النظام الجمهوري، حق غير مشروط إلا بالسلمية نفسها، ويكون انتهاك القوانين والنظام العام أثناء المظاهرات مبرراً لتفريقها؛ تفريقها واعتقال المنتهكين وتقديمهم للمحاكم فقط. وليست جمهوريةً تلك التي يُسمح فيها بالتجمع السلمي لمتظاهرين من تيار سياسي ما، ويقتل فيها متظاهرون من تيار سياسي آخر.
لا يقتصر الأمر على حق التجمع السلمي، فالمقاربات السياسية في أغلبها أخلاقوية إلى حدّ بعيد، إذ ينتظر الجميع ليعرفوا هوية المعتدى عليه الدينية أو الأيديولوجية قبل أن يعلنوا موقفاً واضحاً من الاعتداء في حدّ ذاته. ولعل أكثر تجليات هذه المقاربات الأخلاقوية دمويةً، كان انتهاء موقف داعمي النظام السوري العلنيين والمستترين إلى اعتبار تدمير مدينة عريقة كحمص وقتل عشرات الآلاف من أبنائها أقل خطراً على مستقبل «الجمهورية» من تحطيم صليب في كنيسة، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن أغلب مناهضي النظام السوري أنفسهم يرتكبون الخطيئة السياسية نفسها، أعني الخطيئة المؤسِّسة لتدمير مشروع الجمهورية ومعه الدولة الوطنية السورية برمّتها، خطيئة إهدار الحق في المساواة تأسيساً على مقاربات أخلاقوية لهذا الحق.
يبدو الفهم النظري للمساواة في سياق محاولات بناء جمهوريات جديدة في العالم العربي استمراراً للفهم السابق لمسألة المساواة بوصفها مسألة ذات بعد أخلاقي لا بوصفها أداة سياسية في بناء النظام الجمهوري، وهذا يعني أننا بصدد بناء «جمهوريات» جديدة عرجاء غير قائمة على أساس مستقرّ، جمهوريات تغيب فيها «الفضيلة السياسية» لتحل محلها «الفضيلة»، الفضيلة ببعدها الأخلاقي المجرد الذي يفتح الباب لتحول الحكومة الجمهورية إلى حكومة مستبدة. دعونا لا ننسى أن الاستبداد، كل استبداد وأي استبداد، يبنى على مقولات أخلاقية تحتكر معرفة الفضيلة.