قُبيل فجر الحادي والعشرين من آب الماضي بقليل، فيما أغلب سكّان زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية، والمعضميّة في الغوطة الغربيّة، نائمون، انسلّ الغاز القاتل من الصواريخ الغادرة، دون ضجيجٍ أكبر من أصوات الاختناق المكتومة، ليسرق أنفاس أكثر من ١٣٠٠ شهيد، ويترك خلفه حوالي ٣٠٠٠ مصاب، شاهدين على أكبر مجازر النظام الأسدي بحقّ الشعب السوري منذ بداية الثورة. لم تكن مجزرةً عاديّة –هذا إن كان هناك مجازر «عاديّة»– بل كانت، لغدرها، مثالاً على سلوكيات هذا النظام منذ تأسيسه، وخصوصاً منذ اندلاع الثورة السوريّة في آذار ٢٠١١، وكانت أيضاً، لصمت سلاحها القاتل، صورةً لكيف تصرّف العالم أمام ما قبلها من مجازر، وأمام هذه المجزرة بالتحديد، وأمام ما سيتلوها خلال عامٍ هو الأكثر مأساوية في تاريخ سوريا.
ضجّت الأروقة السياسية والإعلامية الدولية في الساعات والأيام التالية للمجزرة، بالتزامن مع اشتداد قصف النظام على مناطق غوطة دمشق المنكوبة، فيما بدا وكأنه محاولة لمسح الأدلة قبل دخول مفتشي الأمم المتحدة، الذين كانوا قد وصلوا إلى دمشق قبل أيامٍ ثلاثة من المجزرة للتحقيق –المشروط والمُقيّد– في استخدام السلاح الكيماوي في ريف حلب. بدا للكثيرين أن العالم لا بدّ سيتحرّك، ولا سيما أن استخدام السلاح الكيماوي كان قد رسمه الرئيس الأميركي باراك أوباما خطاً أحمراً عام ٢٠١٢. دقّت الولايات المتحدة طبول الحرب حينها، وبدا لمتابع نشرات الأخبار أنه يعيش الساعات الأخيرة قبل بدء الغارات الجوّية على مواقع جيش النظام. تزامناً مع دويّ طبول الحرب، انطلقت صيحات «لا للحرب على سوريا» في عشرات التظاهرات والاعتصامات حول العالم، في لغةٍ استفزازيّة وريائية تعامت عن عامين ونصف من المذبحة المستمرّة بحق السوريين، وأتت لتنتفض ضد احتمالات التدخّل العسكري الغربي فقط، وصمتت مع انتهاء احتمالات هذا التدخّل، رغم أن المذبحة استمرت ونمت بشكل صارخ.
انتهت احتمالات أي تحرّك دولي جاد ضد نظام بشار الأسد بعد شهر من المجزرة، حين تم إقرار صفقة بين الولايات المتحدة وروسيا تقضي بتسليم النظام السوري ترسانته الكيماوية وفق جدول زمني محدد، مقابل تراجع الولايات المتحدة عن توجيه ضربة عقابية للنظام، ونالت الصفقة غطاءً أممياً عبر قرار لمجلس الأمن، المجلس نفسه الذي عاش رقماً غير مسبوق من الاستخدامات المزدوجة، الروسيّة والصينية، لحق النقض ضد أيّ قرار مضادّ لمصالح بشار الأسد في حربه ضد السوريين.
حصل التوافق الدولي حول قرار مجلس الأمن رقم ٢١١٨، وبارك العالم صفقة الكيماوي التعيسة مع إضافة توصيات بعقد مؤتمر دولي للسلام في سوريا، دون جدول زمني محدد لعقده، ولا إلزامات حقيقية له بتحقيق نتائج تقلّل من معاناة السوريين. لقد طرح العالم معادلة مُغرِقة في سرياليّتها: يُسلّم القاتل سلاحه مقابل الصفح عن الجريمة! معادلة غير موجودة في أيّ شرع أو قانون، دولياً كان أم محلياً. هي خلاصة برود أروقة الـ«ريال بوليتيك»، البعيدة كلّ البعد عن الناس، وعن الإنسانيّة.
بطبيعة الحال، لم تحظَ احتمالات الضربة العسكرية الغربية حينها بتوافق عام على مستوى الرأي العام المعارض. لكن، أياً كان الموقف منها، لا شكّ أن التلويح بالضربة العسكرية ثم الامتناع عن إتمامها، ولا سيما بهذا الشكل، كان أسوأ ما فعلته إدارة أوباما طيلة تعاطيها، التعيس بالتعريف، مع المسألة السوريّة. لقد أنهى الصمت العالمي على هذه مجزرة الكيماوي الكلام في فم وأقلام الكثيرين، وأحبط كل التطلّعات لدى الذين كانوا يرون بصيص أمل في أن يتحرّك العالم لنصرة الشعب السوري. لقد كان في رسم الكيماوي وحده خطّاً أحمر استخفافاً كبيراً بدماء السوريين، ففيه ما يشبه الرسالة للنظام بأن استخدام كلّ ما دونه من أسلحة مباح، لكنّ اختفاء الخط الأحمر هذا، أيضاً، أوصل الاختناق لعتبة المستحيل، بل وتخطّاها.
وراء هذه العتبة، نمت «داعش» كسرطان مميت…
تنظيم «الدولة الإسلامية» هو نتيجة عوامل كثيرة. ولد قبل مجزرة الكيماوي بشهور، وبدأ خطره يتنامى في الشهرين الأخيرين قبل المجزرة، لكن التمدّد المريع للتنظيم، وسيطرته وحده على مساحات شاسعة من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، جاء في ظلّ ظروف التحطّم والتعفّن التي ولّدتها حرب النظام والتي ألقت بثقلها على سوريا والسوريين بعد صفقة الكيماوي. العالم الذي بيّن، قبل عام من اليوم، أن لا دم سوريّاً يحرّكه، لا من حيث الكمّ ولا من حيث نوع السلاح المستخدم لسفكه، توافق قبل أيام من أجل إخراج قرار لمجلس الأمن ضد «داعش»، دون أيّ إشارة لإجرام نظام لا يخجل من تقديم أوراق اعتماده كشريك لـ«المجتمع الدولي» في «الحرب على الإرهاب» بعد شهور طويلة من التحالف الموضوعي الفجّ والوقح مع داعش، لدرجة أن أهل الرقة اعتقدوا للوهلة الأولى أن عشرات الغارات التي سكبت الحمم على مدينتهم وريفها في الأيام الماضية كانت أمريكية المصدر وليست أسديّة.
بطبيعة الحال، لا مجال للتقليل من خطورة داعش الكبرى على سوريا والعراق، فالأنباء الواردة يومياً من مناطق سيطرتها أكثر من كافية لتبيان أنها أداة لحرق كلّ أسباب الحياة، لكنّ اختزال المسألة السوريّة خصوصاً، وقضيّة الشرق الأوسط عموماً، في الحرب على إرهاب داعش قد يجرّ ويلات بحجم هذا الخطر أو أكبر. أيّ معنى قيمي يمكن أن تحمله محاربة داعش إن كان بشار الأسد شريكاً محتملاً، موضوعياً كان أم صريحاً؟
لقد عاش السوريون عاماً كارثياً بكل المقاييس، انهار فيه كلّ ما تبقى من القيم والمعاني… عاماً يتحمّل العالم مسؤولية رئيسة وكبرى عن كلّ الجرائم التي ارتُكبت فيه، وعن تنامي نفوذ وخطورة داعش. الحرب على الإرهاب المطروحة الآن، دون موقف صارم وقطعي من نظام بشار الأسد، ودون دعم فعلي، سياسي وعسكري، لقوى الثورة والمعارضة السورية، هي صفقة كيماوي جديدة دون ترسانة ترحّل إلى ما وراء البحار. إنها نذير عام خانق آخر، دون حتى فرصة لالتقاط الأنفاس.