فاجأتني انتفاضة الشعب في وجه نظام آل الأسد العسكري ودولته الأمنية في سوريا. خشيت في البداية أن يقوم النظام بسحقها بشكل شبه فوري، بسبب شراسته وقمعيته الأسطوريتين. وكغيري من المثقفين السوريين، شعرت بعجز تام أمام هذا الوحش الضاري، الذي كان يدفن أيّ صوت جماعي على وشك أن يقول «لا» أو حتى يُضمر نية قولها.

وتفاجأت بالثورة مخطئاً. إذ تكهّنت الوقائع والمشاهدات اليومية بحدوث أزمة حاول الكثير من السوريين جاهدين إنكارها. وإنكارها هو ما فعلناه، وسأشرح ذلك.

عمّ القلق في الأوساط السورية بعد القمع العنيف لربيع دمشق عام 2001-2002، ومجدداً بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري في بيروت عام 2005، والذي أدّى إلى الانسحاب المُذلّ للقوات السورية من لبنان. كنت أعمل حينها في دمشق حيث حالة الذعر معلنة. وكان يبدو أن البلاد تتأرجح على حافة الهاوية.

لكن مظاهر الحياة لَبِثت برِتْمِها المعتاد على السطح. وكان تفادي الحديث بشكل علني عن الأوضاع بديهياً، حتى مجرد التلميح إليها كان يُعدّ مخاطرة. وما أن يشرع أحدهم في حديث متعلق بالوضع حتى يغيّر الآخرون موضوع الحديث على الفور. كان التواطؤ على الصمت نظامنا اليومي.

رسخت تلك الفترة تدهوراً ملموساً في العلاقات بين السوريين. فاشتدت التحزّبات الطائفية، مقوّضةً الصداقات الطويلة، والتناغم بين الزملاء، والتعاملات اليومية للمواطنين… حتى طريقتنا في المزاح تغيّرت.

وككثير من سكان دمشق، وجدت نفسي أَزِنُ بشكل شبه آليّ كلَّ كلمة قد تمسّ الانتماءات الدينية، سواء مع المعارف العابرين أو الأصدقاء المقرّبين. فقدت العلاقات الاجتماعية عفويتها، وتلاشت الثقة بالنفس وبالآخرين، وساد التوتر والحساسية العالية للإساءة أو الإهانة أكثر من أي وقت مضى. وتسربت جرعة غير اعتيادية من الارتياب إلى أوساط الإنتلجنسيا السورية المناهضة تقليدياً للاستبداد.

وبحلول عام 2010، بات من المستحيل مرور اليوم دون سماع عبارات مثل «يشبه الوضع قنبلة موقوتة ستنفجر عند أول شرارة» أو «كل ما يحتاجه الوضع لينفجر هو عود كبريت».

وكان للسوريين الأكثر تعليماً، المثقّفين على وجه التحديد، تشبيهاتهم المفضلة. من جهتي، شبّهت الوضع حينها بـ«طنجرة الضغط» وصلت الحرارة فيها إلى أشدّها وفقدت صمّامات أمانها. وحذّر ياسين الحاج صالح، وهو سجين سياسي سابق وأبرز المعلّقين والناقدين المختبئين على ضفّة الثورة، وهو كذلك كاتب رفيع المستوى لأدب السجون، أن على السوريين إيجاد الطريق إلى انتصار «سوريتهم» فوق الانتماءات الصغرى وبشكل عاجل، وإلا ستصل الأوضاع إلى الأسوأ. وقال رسام الكاريكاتير علي فرزات في مقابلة مع صحيفة نيوزويك عام 2007 «إما الإصلاح أو الطوفان». وتعرّض فرزات عام 2011 إلى اعتداء بالضرب من قبل أزلام النظام وتُرك ينزف ويواجه مصيره على قارعة الطريق لكنه نجا من الموت.

وأكد لي صديق وزميل بارز في قسم الفلسفة على حتمية حدوث الاحتراب الأهلي لأن الأسوأ قد حدث فعلاً: تقسيم المجتمع السوري إلى جزئين متخاصمين «سنّي وعلوي»، وأن ذلك أصبح أمراً واقعاً. ورأى أن الحرب باتت محتومة.

وأصرّ آخرون على أن الرادع الوحيد الذي يمنع السوريين من ذبح بعضهم بعضاً هو النظام السوري.

وإن سألتني حينها عن إمكانية امتداد الطوفان المنفجر في تونس إلى سوريا، لأجبت بأن أهل السنّة في حماه سيشحذون سيوفهم ويتوجهون إلى القرى العلوية المجاورة للأخذ بثأرهم من اغتصاب وتدمير مدينتهم على يد جنود الأسد سنة 1982.

لكن المذابح الطائفية لم تحدث. وما حدث بدلاً من ذلك: كان ثورة شعبية ضد النظام.

كيف فشلنا ذاك الفشل الذريع في التنبؤ بتلك النتيجة؟ لم يكن الإنكار العاملَ الوحيد، وانتشرت الكثير من الأفكار والأسئلة لتكون حديث المدينة في تلك الفترة المفصلية، وعلى كل مستويات المجتمع. وكانت معظم تلك الأفكار، وخاصة في أوساط المثقفين والنخب، خاطئة.

شعر البعض أن التحالف الظاهري بين السنّة والشيعة سينتهي، ما سيضعف النظام في غياب أية ثورة. دعوت ذلك مرة «المركّب التجاري-العسكري»، وأطلق جيل جديد من الناشطين والمحللين عليه «المركّب التجاري-العسكري-الاقتصادي-الأمني».

وتعلم دمشق كلها أن الجيش، وحزب البعث، وأفرع المخابرات، والاقتصاد المدار على الطريقة السوفييتية، والجهاز الإداري في الدولة –والتي يهيمن علويون عليها– تمثل جانباً واحداً من المركّب. وأما الجانب الآخر –ذي العقلية التجارية المدنية– فيهيمن عليه سنّيون.

وشكّل من يدير ذلك المركّب من الأشخاص عبر السِنِين نخبةً شديدة الغرور والفساد. تحكّم هؤلاء في شكل العلاقات اليومية بين السوريين. وفي وقتهم الخاص كانوا يبرمون الصفقات، ويتفاعلون فيما بينهم، ويرتّبون زيجات بين أولادهم. يحتفلون بشكل مغلق، ويلتقون في مجموعة محدّدة من المطاعم والنوادي. وتحضر زوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم وقريباتهم المناسبات الثقافية والخيرية ذاتها.

ويحتقر كل جانب الآخر، ولكنهم يتجنّبون سلوك الكراهية للحفاظ على علاقاتهم القائمة على المصلحة المشتركة.

بشرت الوقائع اليومية بحدوث أزمة حاول الكثير من السوريين إنكارها جاهدين. وإنكارها هو ما فعلناه.

وفقاً لمحلّلي اليوم الشباب، الْتحمَ الجانبان ليشكّلا نخبة متغطرسة «براهمائية» الشكل ترى نفسها فوق كل محاسبة، مع افتراض حقها في السيادة على بقية البشر، الذين رأوهم كرعاع جاهل، متخلف، غير جدير بالديمقراطية أو التحرّر من أيّ شكل. وكان كل جانب قوياً في قدرته على التخريب، ولكن هزيلاً في القدرة على البناء، فوقفا متحالفين في وجه أية معارضة.

قبل الانتفاضة، اعتقد المثقفون –على وجه التحديد– مخطئين باحتمالية انتزاع البرجوازيين السنّيين السلطة من نظرائهم العلويين، خاتمين بذلك حقبة من العلاقة المُكْلِفة عليهم؛ مكلفة بسبب تعب التجّار من الابتزاز، ودفع الأتاوات، والعمولات، والرشاوى، والرضوخ لشراكات زائفة. ولكن أثبت المركّب متانة أكبر من كل التوقعات. «خلاصة السياسة في دمشق هي التجارة والسياسة» كما عبّر الشاعر السوري الشهير، أدونيس. وظلّ جوهر البرجوازية الدمشقية كما هو.

وساد لدى الإنتلجنسيا اعتقاد آخر، يفترض أنه يمكن للفساد في سوريا أن يتراجع لصالح سيادة القانون. واستندت تلك الفكرة إلى نظرية مفادها أن الفساد المستشري في ذروته يشكّل نوعاً من «تراكم رأس المال البدائي» كما كان كارل ماركس يدعوه. وهو تراكم سيصل في نهاية المطاف إلى مستوى يخلق حاجة ماسّة إلى تأسيس قانون ونظام يحمي عمليات النهب التي يمارسونها. وتم استحضار تشبيهات من كلاسيكيات أفلام الغرب الأميركية، حيث يهرب اللصّ بمكتسباته غير المشروعة إلى مكان بعيد، ليعيد تسويق نفسه كرجل أعمال قانوني، مثل دعامة في المجتمع، ويتحول فيما بعد إلى عمدة البلدة… ولكن أخطأت بدورها تلك التكهنات.

ومن وجهات النظر التي ثبت خطؤها تلك التي تفترض أن السلطة الساحقة التي يمارسها النظام مستغلّاً الصدوع الكامنة في المجتمع الأهلي السوري جعلت إمكانية تنظيم أية معارضة شعبية مستحيلة الحدوث.

خاصة مع تميز المجتمع الأهلي بأولوية العلاقات العائلية وأشكال التنظيمات الاجتماعية القائمة على الانتماء للقبيلة، أو القرية، أو العقيدة، أو الدين، كلٌّ بعصبيّته. لكن ذلك التفسير أضعف من أن يؤخذ به، ويتهافت أمام القوة الكامنة في التعصب والعناد التي لتلك العصبيات في ذاتها.

قام النظام بتجزئة ما أمكن من المجتمع المدني السوري عن طريق تغذية العصبيّات المذكورة. وفعل ذلك بالتلاعب، بتأليه العائلة الحاكمة، وبمداهنة وجهاء وقادة من مختلف الجماعات وتأليب بعضهم ضدّ بعض، ودعم تفشّي المحسوبية الرأسمالية التي أثْرَت قلة منتخبة على حساب الأغلبية، وبشكل خاص الأغلبية السنيّة. وتلك كانت الآلية التي اتبعها لسحق «ربيع دمشق» بسرعة ووحشية.

وربما استشرف الأفراد في قمة السلطة مؤشرات تغيير قادم، لكنهم رفضوا التعاطي مع ما تنبّأوا باحتمالية حدوثه. تساءل بعض المشكّكين، قبل الثورة، عن مدى انتباه المنظومة ودائرتها الضيقة إلى خطورة الوضع، على الرغم من كل المُخْبِرين وأجهزة المراقبة والاستخبارات بأفرعها العديدة وامتداداتها التي لا تحصر. وجادل بعض المتفائلين، حسني النية، أن الدولة ستنهض في النهاية، بهدف حفظ ذاتها إن لم يكن لسبب آخر، وستفعل ما يلزم لتجنّب الأسوأ.

وناقش بعض المثقفين رفض الدائرة الضيقة والمتواطئين معها أي شكل من الإصلاح لأنها ترى أن أي تغيير بسيط سيؤدي إلى انهيار النظام برُمّته. وتهامست النخبة العلوية عن الأولوية القصوى للنجاة بالطائفة. وتراجعت وعود الأسد المبكرة عام 2005 عن الإصلاح إلى مجرد كلام تقني ومبهم حول التطوير والعصرنة. وتُوّج ذاك المسير إلى الخلف بخطة التحرير الخمسية لنائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق عبد الله الدردري، والتي شرحها للسيناتور جون كيري في حفل عشاء استضافه السفير الأمريكي مارغرت سكوبي في دمشق. وحين أشار كيري إلى أن التحرير والسنوات الخمس لا يتماشيان معاً، رد الدردري: «يجب علينا أن نسميها كذلك». وإذ كنت موجوداً في تلك المناسبة، قاطعته بالسؤال: «لماذا لا تخبروننا، نحن الشعب، ما الذي تنوون فعله حقاً؟»، فساد الصمت. كان من المفترض عليّ فهم أن التحرير كان كذبة لا يفترض أن يلاحظها أحد. والآن نعلم أن تلك الكذبة فشلت فشلاً ذريعاً.

في السنتين الأخيرتين، أتيحت لي الفرصة لمناقشة المأزق السوري مع نخب من رجال الأعمال الذين تورّطوا بالإقرار بتفشّي الفساد على أعلى مستوى. اعترف جميعهم بذلك، حتى قبل بدء الانتفاضة ببضعة أشهر، كانوا متفائلين بما يخصّ مستقبل البلاد واقتصادها. فكانوا يستثمرون بسخاء، متفاوضين في كل أنواع الاتفاقات مع مستثمرين ألمان هنا، مُبْرِمين صفقات بأرباح عالية مع وفود رجال أعمال هولنديين هناك.

ومع استفادتهم المعتادة من الأعمال، اعتقدوا بمناعةِ هيكل السلطة وبخضوع الشعب إلى درجة ستَحُول دون احتجاجه. وقال هؤلاء الأباطرة إنهم لم تكن لديهم أدنى فكرة عما كان كامناً، وعبّروا جميعاً عن عدم تصديق ما حدث لهم آسفين لقصر نظرهم. قد خسروا الكثير –غير كل امتيازاتهم في «سوريا الأسد»– وهاجروا بسرعة إلى أراضي خصبة جديدة.

أخيراً، أَمِلَت الأكثرية السنّية بأن تساعدها الولايات المتحدة في استعادة حكم سوريا، كما فعلت في العراق مع الشيعة. وغمغم أهل دمشق بالتساؤل: إذا كان للشيعة أن يحكموا العراق، فلماذا لا يحكم السنّة في سوريا؟ في الواقع ما خلقه تغيير النظام في العراق من رُعب لم يزد قبضة الأسد إلا تشدّداً. وبذلك كانت توقعات مساعدة الأميركيين للسنّة في سوريا خطأ جسيماً.

عندما بدأت الانتفاضة في كانون الثاني/يناير من عام 2011، حرَّكت مظاهرات صغيرة الركود في السوق القديمة، وفي المسجد الأموي في دمشق.

ثم فوجئ الجميع بالانطلاقة الحقيقية في الريف الجنوبي، في منطقة حوران ومركزها، مدينة درعا. إذ تُعرف هذه المنطقة بأنها «مستودع حزب البعث»، كونها زوَّدت الحزب والدولة بنسبة كبيرة من موظفيهما وقادتهما من الدرجة الثانية. كان حزب البعث قد وصف نفسه بأنه حزب العمال والفلاحين، ولكن ثبت خطأ هذا الافتراض عندما ثار العمال والفلاحون بشكل جماعي.

لن أكرر قصة درعا هنا، فهي مشهورة وقد تمَّت تغطيتها بشكل وافٍ: كتب طلاب مدارس في المدينة شعارات مناهضة للنظام على الجدران، فتم اعتقالهم وتعذيبهم على أيدي المخابرات، ثم تعرَّض أهاليهم وأفراد عائلاتهم للإهانة والإذلال.

وبعد أحداث درعا، وأعمال القتل والقمع التي تلتها، وجدت أجزاء كبيرة من البلاد نفسها في تظاهر شامل ضد النظام. في البداية حاولت الجهات الأمنية والعسكرية إيقاف المتظاهرين السلميين مستخدمين تكتيكات الترغيب والترهيب. وبلغت هذه المرحلة من القمع ذورتها في حمص، عندما حاول المتظاهرون تكرار تجربة ميدان التحرير في القاهرة بتجمُّع كبير في ساحة مدينتهم الرئيسية، ورد النظام بارتكاب أول مجزرة بحق المتظاهرين السلميين المدنيين.

ومع انتشار المظاهرات، رغم تزايد الخسائر المتواصل، انتقل القمع إلى مرحلة يمكن أن تُدعى بمرحلة بينوشيه؛ إذ تحولت المدارس والأندية الرياضية والمستشفيات وملاعب كرة القدم وغيرها من المرافق العامة إلى مراكز اعتقال جماعي، وغصّت السجون بضحايا الاعتقال العشوائي، وبلغ التعذيب أعلى مستوياته.

وعندما فشلت مرحلة «بينوشيه» أيضاً في إيقاف حركة التظاهر، اعتمد النظام خيار «شمشون»: هدم سوريا فوق رؤوس الجميع، كما فعل شمشون بالمعبد. فقد سُوّيت القرى والبلدات وأحياء المدن بالأرض، وأُحرقت المحاصيل والغابات، وقُصفت المدارس والمستشفيات والجامعات والأبنية والمراكز الصحية ودُمِّرت بشكل منهجي. وتم قتل واعتقال طواقم الطبّ والصيدلة والتمريض والرعاية الصحية. ووصلت مرحلة «شمشون» إلى أقصى مستوياتها في القصف بالسلاح الكيميائي على الغوطة، الذي مثل فعلاً يائساً وإجرامياً.

لم يكن هذا القمع الوحشي عفوياً، بل مخططاً ومتوقعاً. وبالنسبة للعديد من المراقبين، كان هذا القمع تجسيداً لمقولة حاشية رفعت الأسد في سبعينيات القرن الماضي: بأن عائلة الأسد والعلويين سيطروا على دمشق بالقوة، وإذا أراد السنّة استعادتها فلن يأخذوها إلا ركاماً. وقد تمثل هذا كله في شعاري النظام «الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو نحرق البلد».

وعندما بات من المستحيل الحفاظ على حركة موحَّدة بسبب القمع العنيف، اتَّهم مراقبون الثورةَ بافتقادها للقيادة والاستراتيجية. ولكن هذا الاتهام خاطئ، فقيادة الثورة موجودة، ولكنها ببساطة بدت مختلفةً عما يتوقعه المرء. فقد تم استبدال الأحزاب المُنظَّمة والشخصيات القيادية القديمة بلجان تنسيق شبابية محلية، عُرفت باسم «التنسيقيات». وقادت هذه التنسيقيات الشارع الثائر ومدّته بالطاقة، وما زالت تقود ما تبقى من الجانب غير العنفي من الثورة.

رغم عفويتها، استطاعت التنسيقيات أن تترابط في شبكة شاملة للبلاد، والحفاظ على اتصالها مع النشطاء في سوريا والعالم العربي والعالم. ويستخدم العاملون في التنسيقيات بخبرة كبيرة أحدث وسائل الاتصال للتعريف بأهدافهم الثورية. وقد استطاعوا أيضاً إحباط جهود جيش النظام لإيقاف تدفّق المعلومات ببث صور مباشرة باستمرار، بالإضافة إلى معلومات تتعلق بما يحدث حقيقةً على الأرض.

وبإضافة الفنون المبتكرة والموسيقى وعروض الأداء والمسرحيات والرقصات والمناطيد والصلوات والرسوم الكاريكاتيرية والتعليقات الساخرة والرسوم الجدارية الانتقادية التي يستخدمها هذا الجيل الثوري في المقاومة، يتشكل لدينا ما أدعوه أفضل اللحظات في تاريخ المجتمع المدني السوري. لم تكن هذه الروح الكرنفالية في أشكال النضال –في هذا المشهد الأشبه بكتابة باختين الساخرة من ادعاءات القوة ومن القمع– ظاهرةً في النضالات الكلاسيكية ضد الاستعمار، إلا أنها شكَّلت ملمحاً دائم الحضور في الاحتجاج السلمي المعاصر، ولا سيما في الربيع العربي.

انتشرت نظائر مسلَّحة للتنسيقيات في كل أرجاء سوريا، فأُجبر النظام على إرسال القوات إلى كل مكان، ما شتّت تلك القوات وأضعفها وأرهقها وهي تتنقّل من درعا في الجنوب إلى الحدود مع تركيا في الشمال، ثم تعود إلى الجنوب. ولذلك سمعنا أن القوات غزت درعا واحتلتها ثم انسحبت منها أكثر من عشرين مرة في أقل من خمسة عشر شهراً.

في الوقت الحالي، يبدو من الصعب حصر الانتصارات بين جيش النظام وقوات الثورة. ولكن ثمة ما هو خادع في هذا التصوّر.

فلنضع في اعتبارنا أين بدأ كلٌّ من الطرفين. قبل اندلاع الاحتجاجات، كانت أجهزة النظام الأمنية تعتقد أنها لا تُقهَر كصخرة من الغْرَانيت، وأن أي شيء يصطدم بها سيتحول إلى غبار. وبالفعل، قال العديد من المعارضين والمعتقلين المطلق سراحهم إن ضُبَّاط التعذيب حذّروهم خلال الاستجوابات قائلين: «لِمَ تتجشّمون عناء الانتقاد والمعارضة والاحتجاج ما دمتم تعلمون أننا لا نُقهَر؟ إن إرادتنا فولاذية، وقادرة على سحق أي شيء، وأي شخص يقف في طريقها. جِدوا عملاً أفضل لأنفسكم من هذه المعارضة البائسة».

لقد هشَّمت الثورة هذه الصورة داخل النظام وخارجه. ولذلك اضطر الأسد لاستدعاء ميليشيات ’حزب الله‘ من لبنان، والمنظمات الشيعية شبه العسكرية من العراق وإيران في محاولة لإعادة السيطرة على البلاد. ولذلك أيضاً كان على قوات ’حزب الله‘ والميليشيات الأخرى خوض صراع طويل ومُضنٍ للسيطرة على بلدة ريفية صغيرة كالقصير، رغم تفوقهم في العدد والعتاد.

دمشق، بشكل خاص، تكفِّر اليوم عن وقوفها موقف المتفرج من التدمير والنهب الهمجيَّين اللذين لحقا بمدينة حماه وسكانها عام 1982، وعن صمتها على الاعتقال والسجن والتعذيب والقتل وإخفاء المواطنين بصورة تعسفية، وعن قبولها إزهاق أكثر من ألف روح في سجن تدمر في حزيران/يونيو من عام 1980، وعن تقبُّلها من دون حياء تحويل النظام الجمهوري إلى نظام حكم وراثي، وعن رؤيتها ربيع دمشق –آخر بارقة أمل لسوريا– يُسحَق دون أن يرفَّ لها جفن.

وكما أدت المفاهيم الخاطئة المنتشرة بين السوريين إلى عدم التنبّؤ بالانتفاضة، عجز السلوك الدولي حيال الثورة، وهو ما قد يكون مقصوداً، عن فهمها والاستجابة لها بالشكل الصحيح.

ولعل أهم ما يثير التشوش والحيرة هو كيفية تحول حركة احتجاج سلمية يقوم بها مدنيون شباب إلى ثورة مسلحة في أقل من عام. وهذه مسألة ملحّة، بالنظر إلى لهجة الازدراء التي استخدمها الرئيس أوباما لوصف حركة الاحتجاج الشعبية.

في آذار/مارس الماضي، وفي مقابلة طويلة وصريحة مع جيفري غولدبرغ لصالح بلومبرغ فيو، وصف أوباما الصراع في سوريا بأنه «جيش محترف مسلح جيداً، ويتلقى الرعاية من دولتين كبيرتين [روسيا وإيران] … يقاتل فلاحاً ونجاراً ومهندساً بدأوا الاحتجاج كمتظاهرين ورأوا أنفسهم فجأةً وسط صراع أهلي».

وكان ذلك وصفاً خاطئاً. ما من شيء مفاجئ في تحول المظاهرات السلمية إلى «صراع أهلي» مسلح. بل كان نتيجة طبيعية لتخلي المجتمع الدولي عن المتظاهرين، رغم التصعيد المستمر للعنف الذي يمارسه نظام الأسد، والتضامن بين الجنود السوريين والناس العاديين، والظُّهور المتوقَّع لمتطرفين مسلَّحين في هذا الظرف.

عقلية «الواقعية السياسية»، التي تحكم المجتمع الدولي، تحصر الأزمة في سوريا في تخليص الأسد من أسلحته الكيميائية، ثم إعادة دعمه، رغم الاتهامات التي أطلقها أوباما وكيري عليه: مجرم، قاتل، طاغية، بل وهتلر جديد. السوريون يفهمون ذلك.

ما من سوري يعتقد أن الولايات المتحدة هي بطل اتفاق نزع الأسلحة الكيميائية. فقد علم السوريون من قبل أن ترسانة السلاح الكيميائي أخافت القوى الكبرى منذ بداية الانتفاضة. وقد أعلنت روسيا تأكيدات علنية وأعطت ضمانات سرية لـ«شركائها» بأن الأسلحة الكيميائية السورية تحت السيطرة الكاملة، وأنها لن تصل إلى اليد الخطأ. وعندما استخدم الأسد أسلحة كيميائية مخففة ضد مواقع مدنية ليجسّ نبض الغرب، ضاعفت روسيا من تأكيداتها. وقد ساعد ذلك أوباما على رسم خطه الأحمر الشهير، وإعلان أن استخدام هذه الأسلحة «يغير قواعد اللعبة»، ولكن هذا التهديد لم يكن ذا صلة بالاتفاق النهائي المتعلق بالأسلحة.

في الواقع، اعترف أوباما في مقابلته مع بلومبرغ فيو أن سوريا كانت تستجيب لضغوط روسيا وإيران: «خلال فترة امتدت ما بين 10 أيام وأسبوعين، قام رُعاة النظام السوري –الإيرانيون والروس– بإجبار الأسد أو إقناعه بالإعلان عمَّا لديه من الأسلحة الكيميائية للمجتمع الدولي، وبأن يلتزم بجدول زمني للتخلص منها».

علاوة على ذلك، يتذكر السوريون أن كيري ذكر –في محاولة لتعزيز إدانته للنظام باستخدام السلاح الكيميائي– أن الولايات المتحدة علمت –قبل ثلاثة أيام من وقوع القصف على الغوطة– بأن الغازات السامَّة كانت تُخلَط وتُحضَّر وتُركَّب على صورايخ للهجوم. بعبارة أخرى، كان كيري يعلم بالجريمة التي ستُرتَكب قبل وقوعها، ولكنه عجز عن منعها.

ويكشف الحدث برمته عن نسق سلوكي شائع: عندما يواجَه طغاة كالأسد بتهديد كبير، يتراجعون ويستسلمون. وقد فعل ذلك حافظ الأسد –والد بشار– عندما سلَّم قائد ’حزب العمال الكردستاني‘ عبد الله أوجلان إلى تركيا عام 1998. بعد سنوات من الرفض والإنكار، استسلم حافظ الأسد لحظةَ بات تهديد الجيش التركي حقيقياً. وتكرر النسق نفسه عام 2005، عندما رضخ بشار لضغط الرئيس جورج دبليو بوش والاتحاد الأوروبي –فرنسا خاصة– وأمر بانسحاب قواته من لبنان. ينطبق على طاغيتي عائلة الأسد كليهما نمط الشخصية الذي حددته مدرسة فرانكفورت للشخصية الفاشية الوضيعة حين تصل إلى السلطة: القسوة والاحتقار مع الأضعف، والخنوع الجبان مع الأقوى.

بعد حيازة الأقوى على الأسلحة الكيماوية، توجهت الأسلحة التي لاتقل فتكاً ضد الأضعف: تكتيك الحصار لإجبار السكان على الخضوع، أطلق النظام عليها «الجوع أو الركوع»، وكان الرد الدولي هو الصمت.

فهم السوريون أيضاً لماذا تتطلب الواقعية السياسية الغربية من المجتمع الدولي موقفاً كهذا تجاه سوريا اليوم : «دعها تنزف»، كما صاغها الصحفي كريستوفر ديكي. المتنافسون الرئيسيون في هذه الدراما الرهيبة (سوريا، إيران، ’حزب الله‘، ’القاعدة‘، بالإضافة إلى مجموعة مختلفة من الإسلاميين والجهاديين و’طالبان‘) كلهم يملكون شهادات قديمة ومؤكدة لعداء الغرب. لماذا تقف في طريق أعدائك طالما أنهم يقتلون بعضهم؟ أوباما شخصياً يقول إن سوريا «تستنزفهم». إيران وحزب الله، مع المتطرفون السنّة يتقاتلون في سوريا. القيمة السياسية بالنسبة للولايات المتحدة لا لبس فيها، وقد نأى بقية الغرب بعيدا لأسباب مماثلة.

إذاً رمى الرئيس أوباما يديه، على جزء من الأساسات المريحة، ووضع عذراً خاطئاً لأطباء الأسنان والمزارعين. وكان يصرّح بجهله عن الكيفية التي تحولت بها الاحتجاجات السلمية إلى ثورة مسلحة، كما يتضح من تصويره الخاطئ بأن القتال كان منعطفا «مفاجئاً» في الأحداث. هناك على الأقل ثلاثة عوامل، إلى جانب عدوان النظام، ساعدت على تحويل المظاهرات السلمية إلى احتراب، ويفترض على جميعها أن يكون واضحاً أمام الاستخبارات الغربية.

أولاً: انتهى الأمر سريعاً بمعظم القادة المتعلمين والمَهَرَة، الذين نشطوا في بداية المرحلة السلمية، إلى السجن، أو الأذى الدائم، أو المنفى، أو التصفية. وتم استبدالهم بآخرين أقل تعلماً، وقادة أقل تقدماً خاب أملهم من الطابع السلمي للاحتجاجات.

ثانياً: حفّز تشكيل ’الجيش السوري الحر‘ وصعوده تسليح الثورة. هذا، أيضاً، كان متوقعاً كنتيجة للانشقاق في الجيش النظامي على جميع مستويات الرتب، بعد أن دُعي الجنود لقمع الانتفاضة باستخدام العنف المفرط، مع الخطر الكبير على حياتهم وحياة عائلاتهم، فرفضوا الأوامر بقصف قرى وبشر هم منهم. وعلى السوريين الامتنان لواقع أن جيشهم الوطني هو جيش تجنيد إلزامي وليس جيش احتراف.

أخيراً: ارتفعت المخاطر بالنسبة لطرفي هذا الصراع بما يكفي لكي يلجأوا إلى السلاح، ولا يجب أن يكون ذلك مفاجئاً. فلن يتوقف العلويون من جهتهم عند حدّ في سبيل الحفاظ على السلطة، فلديهم الكثير ليخسروه. ومن جهة أخرى، ثبت الثائرون السنّة على مواقفهم، وهم على استعداد لاسترداد سوريا بأي ثمن. يختصر ذلك كله المفارقة القديمة: ما الذي يحدث عندما تجتمع قوة لا تقاوم بشيء لا يتزحزح؟ أي شيء وكل شيء.

وإلى جانب هذه المفاهيم الخاطئة حول من يتقاتل في سوريا، ولماذا تحولت الحركات السلمية إلى العنف، يتصف الخطاب الدولي كذلك بالعيب حين يتعلق الأمر بطبيعة الصراع.

إذ تُشمَل سوريا بشكل خاطئ مع صراعات طائفية أخرى، مثل تلك التي في لبنان. هناك هاجمت الجماعات، والطوائف، والفصائل، وحاربت بعضها بعضاً بشراسة في حين أن الدولة وقفت لا حول لها ولا قوة. وأما في العراق كمثال آخر فقد ألغى الاحتلال الأمريكي الدولة، والجيش، والحزب الحاكم، تاركاً الشيعة والسنة والأكراد ليحشدوا القوات ضد بعضهم.

أما في سوريا، فالنظام، والدولة، والجيش، والحزب، كلهم في جانب واحد، والانتفاضة الشعبية هي المقاتل الرئيسي في الجانب الآخر. ليس هناك مؤشرات لحدوث الصراع الطائفي. لا ينوي الدروز في سوريا الهجوم على جيرانهم السنّة في حوران، ولا يستعد السنة لغزو المناطق الاسماعيلية أو المسيحية، ولا يُعدّ الاسماعيليون العدة لتسوية عنيفة للحسابات القديمة مع المجتمع العلوي،… الخ. لم يحدث أن قامت أية جماعة، أو طائفة، أو عرق بالتعبئة الجماعية للقتال إلى جانب النظام أو الدفاع عنه.

ليست سوريا في حالة حرب أهلية شاملة. وإذا كنا بحاجة لسابقة تاريخية للقياس عليها، نذكر الثورة المسلحة المَجَريّة ضد النظام الستاليني الروسي هناك في عام 1956، فقد كان تمرداً سحقته الدبابات الروسية كما تسحقه الدبابات السورية اليوم. كما كشفت ثورة المجر بأن أحدا لم يقل إن هذا البلد كان في خضمّ حرب أهلية لأن المجريّين كانوا يقتلون المجريّين.

ربما لأن المجتمع الدولي يرى بشكل خاطئ في العنف الطائفي الذي يحدث، خارج سوريا، مدعاة للقلق على أقليات سوريا وحقوقهم (الأكراد، المسيحيين، العلويين، الدروز، الاسماعيليين، التركمان، الشركس… إلخ). في وقت كانت فيه الأغلبية السنية في البلاد تتلقى الضرب الوحشي من قوات الصاعقة والميليشيات، وصواريخ سكود من الأقلية العسكرية الصغيرة التي تحتكر السلطة والثروة في البلاد. المدن التي تدمرت هي مدن سنية، في حين ظلت مدن الأقليات آمنة وهادئة نسبياً. والغالبية العظمى، من بين ما يفوق 200،000 قتلوا حتى الآن، ومن الجرحى، والمصابين بعاهات دائمة، من المختفين والغائبين، والمعتقلين والمعذبين، كانوا من السنّة. أغلب الملايين الذين تم نفيهم وتشريدهم في الداخل هم من السنّة.

الأغلبية وحقوقها، هذا ما لا يتحدث عنه أحد خارج سوريا. ما يكمن وراء هذا الصمت هو الافتراض بأن الأغلبية السنية في انتظار اللحظة المناسبة للاعتداء على الأقليات في البلد واضطهادها وقمعها. لكن، الآن، كل السوريين بحاجة إلى الحقوق، والحماية، والقلق، والاهتمام.

يُرجعني هذا الخطاب الدولي حول حماية الأقليات في سوريا إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، مع دبلوماسية الزورق الحربي الشهيرة. كل قوة أوروبية كانت تبحث عن أقلية في جزء من العالم للاعتماد والحماية. في فرنسا: الرومان الكاثوليك المحليون والعلويون، وفي روسيا: الروم الأرثوذكس، وفي بريطانيا : بعض الإنجيليين البروتستانت إلى جانب الأقلية الدرزية… وهكذا. وتريد روسيا أن تلعب دور الحامي لكل تلك الأقليات اليوم، لتحلّ محل فرنسا كحارس رئيسي للأقليات المسيحية والعلوية، على وجه الخصوص.

وكما كان على الدوام، يرفع المجتمع الدولي سوريا في الوقت الحاضر إلى مستويات أثيرية في السياسة الجغرافية الكبرى، كبيدق في لعبة الأمم. هناك اهتمام ضئيل بالمنابع الداخلية وديناميات الثورة نفسها، وهو ما أحاول التركيز عليه. ليس فقط استراتيجيو الواقعية السياسية للقوى الكبرى من يفكر على هذا النحو. هناك جزء من اليسار، سواء العربي أو الدولي، يؤمن بنسخة من هذا النهج. ففي رأيه كانت الثورة مؤامرة إمبريالية ضد النظام الوحيد الذي لا يزال واقفاً في وجه إسرائيل، ويظل عقبة أمام الهيمنة الغربية على دول الشرق الأوسط ومواردها. معظم قوى اليسار العربية تعمل على تعزيز المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، ولكن هناك أقلية تسعى إلى مواصلة القتال ضد الإمبريالية القديمة.

مع سوريا وانتفاضتها التي استوعبت الصراعات الاستراتيجية الكبرى، تهمل حقيقة قمع الناس إهمالاً كاملاً، وفي أسوأ الأحول يصبح غير ذي شأن. وذلك خطأ فادح لأن بشار الأسد ودولته البوليسية يتشبثان بالسلطة مع طائرات السوخوي وصواريخ السكود. والأعظم كنتيجة لذلك هو خطر التطرّف.

بالنسبة لجميع المجتمعات، يلجأ الناس في الأزمات الشديدة إلى الله، إذ يجلب ذلك العزاء والتحمل، وأحياناً يجلب اليأس والانتقام المقدّس. يجوب إسلام التوتر العالي سوريا الآن، ويشجع على توظيف الشباب الإسلاميين، و’الإخوان‘، والجهاديين، و’طالبان‘، والانتحاريين والمتطرفين من كل المشارب.

عندما يتم التصفيق لطغاة الإبادة الجماعية، وتملّقهم بلغة الأبدية، فهل من المستغرب أن يردّ المضطهدون برفع لافتات الأبدية الخاصة بهم؟. وعندما ينهار القانون والنظام في دولة البعث البوليسية، فهل من المستغرب عودة الناس إلى القانون والنظام العرفي، الذي يحتوي، بطبيعة الحال، على جرعة عالية من الشريعة؟

ولا يكون السبيل إلى الخروج من هذا المأزق بمجرد قطع رأس النظام القاتل، عن طريق إزالة الأسد وترك الدولة البوليسية الإجرامية تحته سليمة (كل ذلك باسم الاستقرار والاستمرارية، والنقل المنظم للسلطة)، ولا هو في «غودو» مؤتمرات جنيف.

بل يمكن للحل أن يأتي بإنهاء العلوية السياسية. يشبه ذلك الى حد كبير اتفاق الطائف، في عام 1989، الذي أخذ الحرب الأهلية اللبنانية إلى نهايتها من قبل، مبعداً المارونية السياسية وهيمنتها على لبنان. في حالة سوريا، يعني ذلك نهاية السلالة الحاكمة، نهاية التفوق العلوي، ونهاية سيطرة الأقلية، ونهضة الجمهورية. ولدى الغرب دور يلعبه، بدلاً من ترك سوريا تنزف. يتعين على الغرب المساعدة في إنهاء قبضة الأسد على البلاد ومستقبلها، والتفاوض من أجل تسوية سياسية للعلويين في إطار ديمقراطي، بحيث ترجح الأغلبية السنية بالضرورة. سوف يتدخل الغرب لا محالة لأن القوى العظمى لا تسمح لسوريا بالوقوع في أيدي الجهاديين الإسلاميين. السؤال هو إذا كان هذا التدخل مسترشداً بالفهم الصحيح للحرب.

وبينما أكتب، لا يدّعي أحد معرفة المآل الذي تتجه سوريا نحوه، ولا طريقة إنهاء الاحتراب الدامي. ولكني على ثقة تامة أن الأسد والسلالة العلوية الحاكمة لن يحكموا مجدداً أبداً.