في إحدى لحظات العنف المتواصل في الشرق الأوسط، تفتّقت قريحة بعض الأخصائيين النفسيين في الولايات المتّحدة الأميركية على إطلاق مفهوم «متلازمة غزّة» (Gaza-syndrome) لوصف «بهجة» الفلسطينيين في القطاع عقب سماعهم أنباء عملية قتل عائلة مستوطنين في الضفّة الغربية، حيث اتُهمت يومها ’كتائب شهداء الأقصى‘ (الجناح العسكري لحركة ’فتح‘) بتبني الحادثة المريعة المصدر: http://www.psychologytoday.com/blog/time-out/201103/the-gaza-syndrome-0.. قبلها بفترة وجيزة، كان أحد الصحفيين الأميركيين المعروفين بولائهم للدولة العبرية ينحت هو الآخر ذلك المفهوم ليدلّل على السلوك نفسه عقب عملية أخرى تمّ فيها إطلاق نار على طلبة إسرائيليين في إحدى ضواحي القدس الشرقية الواقعة تحت الاحتلال، مشدّداً في الوقت نفسه، كما مواطنته الأخصّائية النفسية، على أنّ الأمر ليس بغريب على الفلسطينيين، فقد فعلوها عند مأساة الحادي عشر من أيلول (11\9) والتي قُتل فيها نحو 3 آلاف مدني في عمليتها الانتحارية في يوم لن يُنسى من التاريخ. حاول الكاتبان تقديم تعريف مُبتسَر للمفهوم الآسِر: متلازمة غزّة هو اضطراب ثقافي يَتمَحوَر حول الاحتفاء بالموت (the cultural pathology of death-admiration)، إذ لا يمكن تفسير سلوك هؤلاء الفلسطينيين المحتفلين بالقتل إلا إذا كان لديهم إعلال كبير في صلب ثقافتهم البدائية.
بيد أنّه، وإن كان لا مناص من ذلك الميل نحو المفاهيم المبتكرة، يجدر بالمفهوم الابتعاد قليلاً عن هذا التهريج المفاهيمي والإشارة ربما نحو جهة أخرى مغايرة تماماً: نحو أولئك الآلاف المؤلّفة من الأطفال واليافعين الفلسطينيين الذين قُدّر لهم العيش في المكان الأخطر والأسوأ في العالم: قطاع غزّة. فما من مفهوم يمكن أن يَصِفَ أحوال هؤلاء البؤساء، من الناحية النفسية والاجتماعية، مثل مفهوم «متلازمة غزّة». قبل الشروع في تخصيص الأوضاع آنفة الذكر على نحو أكثر تبصّراً، أَجِدُني مدفوعاً لإمعان النّظر مرة أخرى على ذلك المكان الأشهر في العالم.
لا يذهب في المبالغة ذلك الوصف الذي أُطلق على قطاع غزّة على أنّه «أكبر سجن في العالم». في تلك الرقعة التي لا تزيد مساحتها على 366 كم2 يعيش أكثر من مليون و850 ألف نسمة، يشكّلون إحدى المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسّكان على وجه البسيطة. بينما تبلغ نسبة تَركُّز السكان في بعض المدن المؤلِّفة للقطاع (كمدينتَي غزّة وخان يونس) حدوداً كبيرة تصل إلى 6-7 آلاف نسمة كل كم2، فيما تبلغ هذه النسبة في مخيّمات اللاجئين المنتشرة هناك حدّاً يفوق ذلك بدرجات كبيرة (في مخيّم الشاطىء مثلاً هناك نحو 75 ألف نسمة محشورين في مساحة تقلّ عن 1 كم2!). وبسبب ظروف السياسة والحرب التي عَصَفَت بالقطاع بعد تأسيس الدولة العبرية عشيةَ النكبة، ثم ما تلاها من أحداث بعد حرب 67 واحتلال اسرائيل لكامل فلسطين التاريخية، نشأ واقع جديد جعل من اللاجئين الفلسطينيين أبناء البلدات والمناطق الساحلية والمجاورة النسبة الأكبر في القطاع (فوق 80%). صحيح أنّ الإحتلال الإسرائيلي، المديد والقاسي والذي تخلّلته انتفاضتان (انتفاضة الحجارة 1987-1991 وانتفاضة الأقصى 2000-2005) ذهب خلالهما الآلاف من أبناء القطاع بين شهيد وجريح ومُقْعَد، يعدُّ من أكثر الفترات الصعبة التي عايشها أبناء غزّة، إلا أنّ الحروب الأخيرة التي شنّتها إسرائيل على القطاع وبتواتر زمني بالغٍ في القصر (2008/2009، و2012، والآن في 2014) يُعدّ بحقّ الأسوأ والأكثر دمويةً وإرهاباً على السكّان كبيرهم وصغيرهم. يزيد على ذلك أنّ القطاع محاصر منذ سنة 2005 ولأسباب سياسية، المعابر/الحواجز الستّة التي تسيطر عليها إسرائيل مغلقة تماماً، فيما بقي السابع الوحيد (معبر رفح، بين غزّة وسيناء) مطيّة للسياسات الإقليمية وأهواء وتقلّبات المزاج الحاكم في مصر وعلاقته بسلطة «الواقع» وحركة حماس في القطاع، من الديكتاتور حسني مبارك إلى الانقلابي عبد الفتّاح السيسي. هناك، حيث السجن الكبير المحاصر بالتاريخ والجغرافيا، تقبع حقيقة أخرى هي الأكثر مأساويةً وخطراً: إنها النسبة الكبيرة من الأطفال واليافعين، إذ يشكّل هؤلاء 60% من الهرم السكاني العام، أي بحدود ما يقارب مليون شخص تقلّ أعمارهم عن 19 سنة انظر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني على الرابط: http://www.pcbs.gov.ps/DesktopDefault.aspx?lang=ar.. في قطاع غزّة يعيش ذلك الجيش الفتيّ الكبير، المحاصر ليس بأسباب الحياة الصعبة وضنك العيش وسوء التغذية والفقر المستدام وانعدام المتطلبات الأساسية المعيشية في الصحّة والتعليم والأمن فقط، بل المحاصر أكثر بتَبِعَات كل هذا التاريخ القريب منه والبعيد من ضغوط نفسية شديدة مستدامة ومزمنة.
كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى شرارة بدء الاهتمام الجدّي من قبل باحثين وأخصائيين في الصحّة النفسية للأطفال الفلسطينيين واليافعة في الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال عموماً وقطاع غزّة خصوصاً، بطابعها الأكاديمي دولياً وفلسطينياً. منذ ذلك التاريخ، ومع تواتر الأحداث كالانتفاضة الثانية والحروب الإسرائيلية الأخيرة، ازدادت وتيرة الدراسات المسحية التي حاولت تتبّع آثار التهجير القسري واللجوء والحصار المديد والعمليات الإسرائيلية المتوالية على البُنية النفسية والاجتماعية للأطفال في القطاع المحاصَر دراسة لسمير قوتة وإياد السرّاج عن انتشار ومحدّدات اضطراب ما بعد الصدمة عن الأطفال الفلسطينيين المتعرّضين لعنف عسكري، متاحة على الرابط: http://www.arabpsynet.com/archives/op/opj2.qouta.ptsd.pdf
Qouta, S., Punamäki, R. L., & El Sarraj, E. (2003). «Prevalence and determinants of PTSD among Palestinian children exposed to military violence». European child & adolescent psychiatry, 12(6), 265-272.
هنا كذلك دراسة للباحثة فيفيان خميس حول شيوع اضطراب الشدة النفسية بين أطفال فلسطين: http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0145213404002753
Khamis, V. (2005). «Post-traumatic stress disorder among school age Palestinian children». Child Abuse & Neglect, 29(1), 81-95.
وانظر أيضاً التقرير الحديث سنة 2009 الذي نشره موقع الانتفاضة الإلكترونية وتناول الأوضاع النفسية للأطفال في قطاع غزّة: http://electronicintifada.net/content/vast-majority-gaza-children-suffer-ptsd-symptoms/8525.. أول ما يلفت النظر في مجمل نتائج هذه الدراسات هي النسب العالية والمتزايدة للأطفال واليافعين الفلسطينيين الذي واجهوا أو اختبروا حوادث رضّيّة بالغة في القسوة. حتى لو قارنّا نتائج الدراسات المماثلة التي تناولت الموضوع في بلدان ومجتمعات أخرى ذات تجارب سياسية وحروب أهلية فيها تطهير عرقي واثني (إندونيسيا، أفغانستان، البوسنة، كوسوفو، كمبوديا، فيتنام…) مع مثيلاتها المتحصّلة من قطاع غزّة، سنتفاجأ بأنّ الأطفال واليافعين الغزّاويين قد تعرضوا لتجارب تعتبر على درجة عالية من الرضّيّة أكثر بأضعاف (حوادث عنف على قدْر كبير من التهديد للحياة والرعب) انظر دراسة الباحث سميث وزملائه عن تأثير الحرب على الأطفال في البوسنة مثلاً:
Smith, P., Perrin, S., Yule, W., Berima, H., & Stuvland, R. (2002). «War exposure among children from Bosnia-Hercegovina: Psychological adjustment in a community»,sample. Journal of Traumatic Stress (15), 147–156.. فلنتفحّص هذه الأرقام المخيفة من دراسة صدرت حديثاً دراسة الباحث محمد الطويل وزملائه بعنوان «تأثيرات صدمة الحرب المزمن على الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزّة»، على الربط: http://en.ptcgaza.com/files/2011/05/Chapter-in-Book1-The-effects-of-Chronic-Trauma-in-Palestine.pdf.: حوالي 99% من الأطفال المفحوصين كانوا قد تعرّضوا إلى اعتداءات طالتهم هم أو أحد أفراد العائلة القريبة، 97% منهم كانوا شهوداً على عمليات قصف عنيف وشاهدوا انفجارات قريبة منهم، 85% منهم خبروا جنازات تشييع الشهداء من أناس يعرفونهم أو سمعوا عنهم، بينما شاهد 84% منهم عمليات قصف مدفعي أو إطلاق نار من الدبابات أو الطائرات الحربية الإسرائيلية. فقط 1% من أطفال غزّة لم يختبر هذا النوع من التجارب الرضّيّة الصادمة. هذا لن يفاجئنا لو عرفنا أنه حتى سنة 2009 فقط هناك نسبة كبيرة من أهالي قطاع غزّة (62%) أُخبروا بأن أحد أفراد عائلتهم قد قُتل أو جُرح، فيما يقول قطاع كبير منهم (67%) بأنّهم شاهدوا حوادث قتل أو جروح شديدة لأناس لا يعرفونهم.
ليس هناك منذ ستينيات القرن الماضي مفهوم ارتبط بالحروب والويلات كاضطراب الشدّة النفسية التالية للصدمة، والذي يُعرف اختصاراً بـPTSD PTSD: post-traumatic stress disorder، والذي بات الآن أحد أكثر الاضطرابات النفسية تواتراً ومشاهدة في هذا العالم المضطّرب، المليء بالمآسي والكوارث اضطراب الشدة النفسية التالي للصدمة يُعدّ أحد الاضطرابات النفسية الوجدانية المصنّفة في دليلَي ’منظمة الصحة العالمية‘ و’الرابطة الأميركية للطبّ النفسي‘، ويتميز بثلاثة مستويات من الأعراض: الأول بالشعور بإعادة معايشة الحدث الصادم عن طريق التصوّرات والأحلام والصور الرضية الراجعة (فلاش-باك)؛ الثاني يتميز بسلوكات تجنّبية كبيرة عن الحادثة، تشمل الأشخاص والأماكن والذكريات وكل ما يتصل بالحادثة من معنى؛ أما الثالث فيتميز بأعراض جسدية ونفسية كالشعور بالخدر والتعب وانخفاض الطاقة والتركيز، بالإضافة الى مشاكل في الذاكرة والانتباه. عند الأطفال تتغير الأعراض قليلاً عن مثيلاتها عند الكبار وذلك تبعاً لعمر الطفل وجنسه وبعض التأثيرات الثقافية.. لسنوات خلت، كان يُعتقد بأنّ هذا الاضطراب هو شأن «الكبار» من الراشدين فقط، وتَندُر مشاهدته عند الأطفال. إلا أنّ التراث النفسي والطبي-النفسي الحديث يشير بشكل لا مواربة فيه إلى أنّ هذا الاعتقاد ليس له نصيب من الصحّة، إذ هناك شواهد بحثية وعصبية تدعمها مشاهدات إكلينيكية جديرة تذهب بما لا يدع مجالاً للشك إلى أنّ الأطفال، وبغض النظر عن اختلافات الثقافة والاجتماع، ليسوا بِمَنأىً أبداً عن هذا الاضطراب الخطير، إن لم نقل بأنّهم أكثر فئات المجتمع عُرضةً له، خاصّة في تلك الأوضاع التي ستصيب الإنسان في أحوال السياسة والعنف العاتيَيْن في كل مجتمعات العالم، والمجتمع الفلسطيني في غزّة لا يمثّل قاعدة شاذّة في ذلك، إلا بما يقدم واقع الحال الأليم هناك من معطيات. الدراسات الأحدث تقدّم وقائع غاية في الذهول محمد الطويل، مرجع سابق.: من بين 41-54% من الأطفال واليافعين في غزّة يُعانون من أعراض الصدمة النفسية، في 20% من الحالات يمكن تصنيفها على أنها شديدة الدرجة، بينما يقع 22% منها في المستوى المتوسط، وتشكّل الدرجات البسيطة منها نسبة تصل الى 53% من الحالات. عداك عن النسب المرتفعة من الاضطرابات الوجدانية الأخرى كالاكتئاب والقلق والمخاوف بأنواعها.
لقد أصبحت أحوال الآلاف من الأطفال من أبناء غزّة أسيرة للأعراض العميقة التي يتركها تراكم هاته الخبرات المؤلمة على نفوسهم ومعاشهم اليومي. فذكريات القتل والانفجار وفقدان الأحبة وهدير الطائرات وأزيز المدافع تبقى صوراً واضحة في مخيّلاتهم وتقتحم حياتهم بشكل لصيق غير مفارق. كل ما يحدث في غزّة منذ سنوات لا يعزّز عند جيل كامل من الأطفال إلّا ذلك الاعتقاد الرّاسخ بأنّ ما أصاب الغير يمكن بأية لحظة أن يتّجه إلينا. يصبح الخطر هنا ظلّاً للحياة اليومية ببُعديها الفردي والاجتماعي في سياق مؤرِّق ومفتوح بشكل بالغ التّمام على كل الاحتمالات الوجودية. في هكذا أوضاع، يقوم احتلال آخر بابتلاعٍ الذاتوات الطفلية الرّضّة ليجعلها في ترقّب دائم لشيء خطير قد يُطلّ بوجهه في أية لحظة. تصبح المستحيلات المرعبة فيها (موت، إصابات بالغة، هدم بيوت، فقدان أحد الأحبة) احتمالات قائمة بكل ثبات. كثير من الأطفال في غزّة فقد منذ فترة القدرة على الشعور بالمباهج والفرح، مع صعوبة واضحة بالتمتّع بأنشطة حياتية وتعليمية تدخل في صلب الجوانب الأساسية التي تُسهم في تطوير جوانب الشخصية في سنوات الطفولة المؤسّسة. هناك سيطرة كبيرة لعواطف مُزمنة من الحِداد والحزن مع صعوبة في تخيّل البقاء على قيد الحياة في المستقبل والقدرة على استيهام حياة لها ملامح «طبيعية» لا ترتبط بوقائع الحاضر. يستجيب الأطفال للرضوض النفسية والصدمات بسلوكيات تختلف عن مثيلاتها لدى عالم الراشدين. يتلبّس الأطفال وخاصة الصغار منهم طبائع الصدمة في أرواحهم وسلوكهم اليومي. تصبح الحياة اليومية ساحة لإعادة تمثيلات تلك التجارب في حلقات مفرغة لا تنتهي من المعاودة مع ارتفاع واضح لمستويات القلق العام.
لا تترك الخبرات النفسية الشديدة آثارها في البنية العاطفية المزاجية للأطفال فحسب، بل تغوص في تلك المداميك التي تشكّل الأساس العقلي للنشاط المعرفي العام. غالباً يتصاحب اضطراب الشدة النفسية التالي للصدمة بأعراض متغايرة تطال الوظائف الأساسية مثل الذاكرة والانتباه والقدرة على التخطيط وحلّ المشكلات، معرفياً وسلوكياً واجتماعياً. يخبر العديد من أهالي غزّة صعوبات كبيرة تطال أطفالهم على علاقة بالتركيز والانتباه مع مشاهدات لحالات متباينة من الشرود الذهني في فترات النهار يتصاحب مع تشتّت واضحٍ في السلوك اليومي العادي والمدرسي الهادف. أما الذاكرة ووظائفها فتبقى حبيسة الاضطراب والخلل، خاصة في جوانبها ذات العلاقة بالحوادث قصيرة الأجل. يصبح هنا النسيان الدائم للأغراض والحاجيّات والأمور الشّخصية وفي نطاق العلاقات أموراً تؤرّق مسرى الحياة اليومية وتُدخل الأطفال في متاهة من الفوضى العامّة التي تُحيق بعالم يحتاج نوعاً من النظام والانتظام كشروط موضوعية لتسهيل عملية التعلّم والتفاعل المعرفي مع البيئة.
لم يتلبّس واقع الإحتلال نهارات الأطفال في فلسطين فحسب، بل أخذ بالإستحواذ على مساءاتهم وليلهم ايضا. تعدّ اضطرابات النوم من أكثر الأعراض مشاهدة عند الأطفال في غزّة. عدا عن الساعات القليلة وغير المنتظمة لعملية النوم هناك ايضا تشوّها كبيرا يطرأ على محتوى نوم الآلاف منهم ممن كانوا شهودا وموضوعات للعنف اليومي هناك. تداهمهم الكوابيس المرعبة من دون أن تمسّ بشكل مباشر موضوعات العنف ذاتها مفضّلة مجرىً آخر لا يتّسم بالتحديد. وهكذا تتدهور عملية النوم بشكل كبير وتفتقر بذلك الى الحدّ الأدنى من مستلزمات ومتطلّبات النمو في تلك المراحل الحرجة من الطفولة والتي يمثّل النوم فيها أحد أكبر الدّعائم النفسية-العصبية التي تقوم عليها عملية النماء والتطور، خاصة في شقّها المتعلق بآليات عمل الدماغ والجملة العصبية من حيث معالجة المعلومات وتخزينها وحفظها في بنية العقل. وهذا ما يفسّر تدهور وظائف الإنتباه والذاكرة في الفترات اللاحقة لمعايشة العنف عند الأطفال، والتي بدورها تسهم في عدم انتظام دورات النوم واليقظة في وضع لَولبي لا يُعرف له قرار. يزيد من صعوبة هذه الأحوال الزيادة الواضحة في أعرض «البلل السريري» عند عدد كبير من الأطفال الصغار خاصّة، مما يفاقم الأوضاع في الليل والنهار.
يحتاج الأطفال في المجتمعات الإنسانية إلى سياق أو إطار اجتماعي يفسّر العلاقات وطرق التواصل ويعطي بُعداً قِيَمياً وثقافياً يتمّ استدخاله واستدماجه في الطبقات المشكِّلة للشخصية الفردية وتوجّهاتها العامة، بالإضافة الى إحساسها بالعضوية في جماعة محدّدة تؤمّن لها سنداً توجيهياً معيّناً يتجذّر في سياق التطور النفسي العام. هنا يكون هناك دور حاسم للنموذج الإجتماعي للأبَوَين، وخاصة دور الأب وصوره في المخيّلة فيما لو أخذنا في الاعتبار السمة البطريركية/الذكورية للمجتمع الفلسطيني عموماً. يختبر الأطفال الفلسطينيون والغزاويون على وجه الخصوص انهياراً كبيراً وتشوّهاً خطيراً يطرأ على صورة الآباء وأدوراهم، وذلك نتيجة لواقع الاحتلال الشرس الذي يعيشه هؤلاء. لو أردنا التخصيص قليلاً، يراقب الأطفال الإهانات المتكررة لآبائهم، ظروف الاعتقالات والقتل المرعبة، العجز الكامل أمام سياسات هدم البيوت وتجريف الأراضي والاعتداء على الأملاك، فضلاً عن سوء الأحوال المادية والاقتصادية وانحسار القدرة على تأمين الحاجات المعيشية اليومية لانعدام إمكانيات ذلك العمل الذي يأتي بالكرامة والخبز. هنا يحدث خلل كبير في بُعدَين نفسيَّين لهما جذور اجتماعية أصيلة ويتّصلان مباشرة بالأدوار الوالدية: الإحساس بالحماية والأمن، والشعور بالتحكّم والسيطرة. تُعتبر مشاعر السلامة والأمن نادرة الوجود بين الفلسطينيين. شيئاً فشيئاً يبدأ الأطفال بالتصادم مع تقديمات الواقع اليومي بأن النموذج الاجتماعي الأهم والأول (الأب) لا يستطيع تقديم تلك الدرجات الآمنة من الحماية والأمان، بالإضافة إلى فقدان شامل للسيطرة على مقاليد الحياة اليومية في ظروف حادّة الطّباع كالتي يعيشها أبناء القطاع. لا يحتاج الأطفال الى تصديقات إضافية ليعرفوا أن آبائهم محاصرون مثلهم ولا يملكون القدرة على تغيير الوقائع، في معادلة تحمل معها يأساً مصيريّاً واضحاً: ليس هناك من مجال لتحسين الأوضاع في الداخل، وليس هناك من مجال لتحسين الأوضاع في الخارج (فهم بمعظمهم مثلاً ممنوعون من المغادرة، سواءً إلى مصر أو إلى إسرائيل). هو اليأس المكتسب.
في غزّة لا تكمن المشكلة فقط بأنّ شيئاً خاضع للحصار، وإنما كل ذلك الشيء يزداد ضيقاً. لا يشكّل الاكتظاظ السكاني أزمات اقتصادية وسياسية فقط، بل يتجاوزها الى تلك الجوانب الاجتماعية التي ترخي بظلالها على البُنى النفسية للكبار والصغار على حدّ سواء. الاكتظاظ والحشرة يعنيان ببساطة انعدام الفضاءات الشخصية والأسرية بشيء يمحو تلك المسافات الاجتماعية الواجبة ويؤدّي إلى تداخل كبير وعويص بين الشخصي والعام. يعيش الأطفال في عوالم متنقّلة من الضيق والانحسار، في البيت، في الأزقّة والأحياء المتلاصقة بشدّة (هناك مخيّمات لا يمكن دخول السيارات إلى بعض أحيائها، مخيّما جباليا والشاطىء على سبيل المثال)، في المدارس مملوءة الصفوف (بعض الصفوف يصل عدد الأطفال فيها إلى 60 طفل في غرفة لا تتجاوز مساحتها 22 م2). رغم جنوح الإنسان عامة وفي ثقافاتنا الإسلامية العربية خاصة نحو الجماعة والتنظيمات الاجتماعية، إلّا أن هذا الإنسان نفسه يحتاج إلى فضاءات شخصية تؤمّن له خصوصياته هو وعائلته. يجب أن يكون هناك توازن دقيق بين كلا المَنحيَين، فإن اختل أحدهما يمكن أن يؤدّي الوضع إلى تفجّر أزمات فردية وأسرية واجتماعية خطيرة. منذ سنوات يلاحظ بعض العاملين في القطاع الصحّي والنفسي في غزّة زيادة واضحة في مستويات العدوانية والعنف عند الأطفال واليافعين، يقابلها زيادة مطّردة لمظاهر عدوانية عند الآباء والأهل والمدرّسين، رغم عدم التركيز على هذه النقطة لأسباب قد تكون مفهومة. ورغم وجود بعض الجهود للحدّ من ظاهرة العنف اليومي في قطاعه المدرسي على الأقل (مثلاً في مدارس وكالة الغوث UNRWA المنتشرة في القطاع هناك بعض البرامج التنويرية بهذا الخصوص) تظلّ مظاهر الغضب وانفجاراته والاستعداد للإتيان بسلوك عنيف إحدى أكثر التحدّيات التي تواجه المجتمع الفلسطيني في غزّة. ليس هناك من داعٍ للتذكير بأن تجليات العنف لا تنهل بُنيانها من أوضاع الحصار والاكتظاظ فقط، بل من كل هذا وذاك من العوامل والأسباب المتراكمة سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً. هناك بعض المؤشرات المتراكمة إلى أننا أمام واقع نفسي أقرب لما بدأ الباحثون يُطلقون عليه «الرضّ النفسي الجمعي» أو «الصدمة الجمعية» (collective trauma) والتي يمكن أن تتوارث عبر أجيال (transgenerations).
في قطاع غزّة يشحّ كل شيء، بدءاً من الماء وانتهاءً بالخدمات النفسية التي يحتاجها جمع كبير من الأطفال واليافعين ممّن كَوَتهم ذواتهم بمعايشة هذا الكمّ الهائل من الضغوطات النفسية. هنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن مساعدة ودعم وعلاج وتأهيل هذا العدد الهائل نفسياً وطبّياً؟ وما هي الإمكانيات المتوافرة للحدّ من المعاناة الكبيرة والتداعيات الخطيرة الناجمة عن هذه الظروف؟ الجواب ليس شافياً، وقد يحتاج لتوقف خاص لا يوفيه حقّه هذا المقال. لا تشكّل النسب العالية لتجليات الإضرابات التي أتينا على ذكرها تحدّياً أوحد في هذا الشأن، وإنما التحدي الأكبر يكمن في النقص الحادّ للمراكز والهيئات والمنظّمات المتخصصّة في هذا المجال. يمكن تخيّل الوضع باعتبار قطاع غزّة، الذي يحوي حوالي المليونين من البشر، ليس فيه إلا مشفى حكومي واحد للاضطرابات النفسية والعقلية، بسعة تصل الى 40 سريراً فقط يمكن الاطلاع على مقال «الصحة النفسية في فلسطين» للباحثة سماح جابر وزملائها، موجود على الرابط: http://www.arabjpsychiat.com/index.php?option=com_content&view=article&id=70:the-arab-journal-of-psychiatry-2013-vol-24-no-2&catid=1:volumes-a-articles&Itemid=2.. في كامل قطاع غزّة فقط 10 أطباء نفسيين (psychiatrists) وطبيب واحد فقط متخصّص بتلك الاضرابات النفسية الخاصة بالأطفال واليافعين. أمّا فيما يتعلّق بالأخصائيين النفسيين الذين يمكن أن يقدّموا تدخّلات داعمة للأطفال في بيئاتهم المدرسية على الأقل فتبقى النسبة أفضل قليلاً ضمن إمكانيات محدودة وضمن شحّ التأهيل العلمي الحديث. بالإضافة الى ذلك لدينا مشكلة اجتماعية تتصل بوجود أزمة حقيقية تتعلّق بالثقافة الطب-نفسية والسايكولوجية العامة في المجتمع الفلسطيني وشيوعها فيه. فما يزال الإضطراب النفسي يعتبر حتى الآن نوعاً من «وصمة العار» (stigma) التي لا يجوز التصريح بها اجتماعياً بأية حال من الأحوال. الخوف من انعكاسات الاضطرابات عائلياً واجتماعياً يبدو أقوى من ذلك الألم التي يُحدثه بقاء هذه الأعراض نفسها. ورغم بعض المشاريع «الإسعافية» التي تقوم بها مدارس الوكالة في القطاع (180 مدرسة) فيما يخصّ طرائق الدعم النفسي والتخفيف من حدّة الرضوض النفسية التالية للحروب عند الأطفال، وذلك بالتعاون مع طواقم التدريس هناك، إلا أن تلك الخطوات تظل أقل بكثير ممّا يتطلّبه الواقع.
رغم هذه الصورة السوداوية الا أنّ هناك مشاريع طموحة ومثيرة ضمن واقع كهذا متشابك ومتزايد التعقيد، ولعل «برنامج غزة للصحة النفسية» هو أشهرها برنامج غزّة للصحة النفسية مؤسّسة غير ربحية تأسّست في غزة على يد عدد من الأطباء والمهتمين بالصحة النفسية وأثرها في المجتمع الفلسطيني. يعد الطبيب النفسي أياد السراج من أشهر أعضائها، وقد رحل منذ فترة قصيرة قبل الحرب الأخيرة 2014. للاطلاع على عمل البرنامج عن كثب يمكن زيارة الموقع على العنوان التالي: http://www.gcmhp.net/ar.
وانظر دراسة الباحث عبد العزيز ثابت وزملائه حول بعض التطبيقات العلاجية من أجل دعم اليافعين المتأذّين نفسياً في غزّة، على هذا الرابط http://amthabet.com/wp-content/uploads/2013/04/effectiveness-of-psychodram-school-bases-intervention-on-Children.pdf:
Thabet, A. A., et al. “Effectiveness of school based psychodrama in improving mental health of Palestinian Adolescents.” Arabpsynet EJ 24 (2009): 67-71.، والذي يقوم عليه أخصائيون على قدر كبير من الخبرة، ويقدم دراسات مسحية شبه منتظمة عن الأوضاع النفسية العامة للأطفال هناك، فضلاً عن أنشطة عديدة عبر برامج تدخّل متخصّصة تخدم قطاعاً لا بأس به من ضحايا العنف الصغار ضمن إمكانيات محدودة تحتاج لا ريب لجهود مضاعفة حكومياً وأهلياً.
وهكذا لدينا في قطاع غزّة واقع ليس له مثيل في العالم، واقع يمثّله نزاع مستمرّ، مزمن ولا يمكن التنبّؤ بمساراته، يعيش فيه الأطفال وتجتمع فيه كل العوامل الضاغطة التي تسهّل وتيسّر وتفعّل استجابات رضّية شديدة التأثير. فتَراكم عدد كبير من الخبرات النفسية السيئة، بما فيها ظروف الاحتلال والحروب المتكررة والقتل شبه اليومي، والمرض والفقد والفقر وانهيار نماذج الحماية الأسرية والأهلية، ونقص الخدمات الصحية والنفسية العامة، والاكتظاظ السكاني، بالإضافة الى ظروف الإحتراب الأهلي لم نأتِ في هذا المقال بالتفصيل على ذكر العامل الفلسطيني الذي ساهم في صعوبة وتعقيد الأوضاع القائمة أصلاً منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في غزّة عام 1994 ثم اتباع سياسات إفقار مجتمعية تحجبها سياسات أمنية قمعية واستبدادية عنيفة عبر سنوات طويلة، بالإضافة إلى واقع الاحتراب الأهلي والذي انفجر في اجتياح حركة ’حماس‘ للقطاع وتثبيت سلطتها بقوة السلاح، وصولاً إلى الحروب مع إسرائيل عبر أدوار إقليمية، وعدم التفات أي من السلطتين إلى الأوضاع الاجتماعية والأزمات الأخرى التي أخذت بالظهور، إلا أننا نعتقد بأن جملة عوامل فلسطينيةِ المنبع ساهمت أيضاً مع باقي العوامل التي أتينا على ذكرها في الوصول إلى هذه الأحوال. هذا الطرح يحتاج إلى وقفة آخر وطريقة مغايرة في الطرح.، كل ذلك سيؤدّي إلى زعزعة البُنى الأساسية لصورة الذات وتطوّرها النفسي-الاجتماعي العام، فضلاً عن تمهيد وطيد لتبَلوُر ذوات تتّسم بمنظومة عالية من التوّتر نفسيّاً وبدنيّاً، لا تنعكس تجلّياتها في السلوك العام فقط وإنما في مجمل الوظائف والمهارات العقلية على اختلافها.
أحوال جيل كامل من الأطفال واليافعين الفلسطينيين في ظلال العنف والرضوض النفسية هو بالضبط ما يمكن أن يمثّله مفهوم «متلازمة غزّة»، لو أردنا مجاراة لا تقلّ خطورةً عمّا فعل زملاؤنا الأميركيون، وإن كانت تبتعد عن تلك الصورة النمطية التي تتلهّى بها عين الميديا الغربية، تلك العين التي خلقت واقعاً انتقائياً ومنحازاً هو أبعد ما يكون عن تلك القيم الإنسانية التي تقوم عليها أغلب المجتمعات التي أنتجتها. على هذا العالم أن يحاول تقديم شيء أفضل لأجيال فلسطينية لم تعرف سوى الاحتلال ومساوئه وتداعياته القريبة والبعيدة. إلا أنّ المهمة الأكثر إلحاحاً تقع أيضاً على عاتق الفلسطينيين وقوى المجتمع الغزّاوي الأهلية والمدنية: هنا على الجميع التفكير بشكل أكثر جدّة بالسؤال الكبير، ماذا يمكننا أن نفعل كي نخفّف من وطأة هذا الواقع على ذوات أطفالنا ويافعينا من أجل حاضر أفضل ومستقبل أكثر أملاً وأقل معاناةً؟ إلا أننا نعتقد بأّن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وكافّة أشكاله الظاهرة والباطنة وإجبار الدولة العبرية على حلّ يضمن الحقوق السياسية الأساسية للشعب الفلسطيني هو الخطوة الأولى التي يمكن أن تُبنى عليها خطوات مجتمعية وأهلية أخرى لاحقة. ما لم يتم فعل ذلك، سيبقى أطفال فلسطين أسرى استراحات المحاربين في حروب جهنّمية قادمة ملاحظة: كل ما جاء في هذا المقال لم يأخذ بعين الإعتبار الحرب الأخيرة، والتي توقّفت منذ 3 أيام من تاريخ الانتهاء من كتابة آخر سطر وتُعتبر من أشرس الحروب التي شنّتها إسرائيل على القطاع بإجماع كثير من المهتمين. فلنتخيّل هذه الأحوال الآن!.
والسلام عليكم!