انقضت 9 أشهر على اختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حْمادة وناظم حمّادي على يد مقنّعين في دوما في الغوطة الشرقية، دمشق. وبينما لم يُتح لأيّ من ذوي المخطوفين الأربعة الاتصال بهم أو الاطمئنان عليهم، فإننا نعلم علم اليقين من هي الجهة الخاطفة أو مُنظِّمة الخطف، ونعلم عند مَن أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالأربعة، ونعرف بالاسم الشخص الذي دخل على كمبيوترات سميرة ورزان ووائل وناظم، ونعلم يقيناً أنه مقرّب من قائد ميليشيا نافذة في دوما والمنطقة، وأنه أغلق صفحته على فيسبوك حين علم أننا علمنا بأمره. وكان قد جرى إبلاغ قائد الميليشيا المعنية شخصياً بالأمر، فكان أن تستّر على تابعه بدل أن يبادر فوراً إلى كشف الحقيقة وتحرير المخطوفين.
هذه معلومات قطعية، وليست تخمينات.
جدير بالذكر أن قائد الميليشيا المذكورة كان قد حلف الإيمان المغلّظة مراراً، نافياً أن يكون المخطوفون في أيدي جماعته!
وعلى كل حال أقرّ مقربون من الميليشيا إياها قبل شهور أنهم يعرفون أين الأربعة، لكنهم لن يساعدوا في تحريرهم لأن أهل المخطوفين أساءوا لتلك الميليشيا بإعلان اشتباههم بمسؤوليتها عن خطف أحبابهم! في أحسن الحالات هذا منطق كيدي غير مقبول ممن يعمل في قضية عامة، لكن نعلم أننا حيال أسوأ الحالات: الجماعة يكذبون ويتستّرون، ويبتزّوننا بأحبابنا المخطوفين كي نسكت عنهم.
لن نسكت.
ومؤخراً أعلن قائد التشكيل الميليشيوي إياه أن تحقيقات جماعته وصلت إلى «طرف خيط» بخصوص المخطوفين، ولوّح إلى «اتجاهات خارجية» لها ضلع بالواقعة، هذا قبل أن يُسهِب في نُصح سائليه بأن يهتموا بمصير «نساء المسلمين» المعتقلات عند النظام، مستغرباً ما رآه اهتماماً مبالغاً به بمصير «رزان زيتونة وأصدقائها»!
وخلافاً لما زعم الميليشيوي إياه، فإن معلوماتنا الأكيدة أنه لم يجرِ وقت الاختطاف وطوال شهور بعده أيّ تحقيق في جريمة الخطف، ولم يُبدِ التشكيل المومأ إليه، وهو سلطة الأمر الواقع النافذة في دوما، أيّ اهتمام بالواقعة، ولم يجرِ تفحص المكتب الذي اختُطف منه الأربعة، ولم يتم جمع أية أدلة.
كان التنصّل منذ البداية سيّد الموقف، وطالب مقرّبون من التشكيل المذكور مَن فاتحوهم بالأمر بدليل على أنه هو الفاعل. لكن هذا منطق مقلوب. فالمفترض أن تؤمّن سلطة الأمر الواقع الأدلة على ما ارتُكب من جرائم في نطاق سلطتها، وأن تقوم هي بالتحقيق، لا أن تطلب من المهدَّدين بسطوتها والعاجزين عن القيام بتحقيق مستقلّ أن يقدّموا لها الأدلة!
وزايد ناطق باسم الميليشيا في اتصالات معه، وأنكر، خلافاً للواقع، أن لجماعته أية قوات وأجهزة أمنية في دوما، وزعموا أن عملهم الوحيد هو «تحرير المدن من الطغاة»!
إلى ذلك، ليست دوما تلك المدينة الكبرى، ويتعذّر إخفاء أربعة أشخاص دون أثر طوال 9 شهور إلا إذا كان من يُفترض بهم توفير المعلومات عن الجناية هم الجُناة، وفقاً لسُنّة أسديّة مجرّبة.
ومعلوم بعد هذا كله أن الجهة المشتبه بها اختطفت غير مرة أشخاصاً، واضطرت للإفراج عن بعضهم بفعل تدخّلات وضغوط تعرّضت لها. منهج خطف من لا يروقون لها من الناس ليس غريباً عن سياستها وعن قيم قادتها.
تُذكِّر واقعة الخطف وتغييب المخطوفين بحال المخطوفين عند داعش مثل فراس الحاج صالح والدكتور اسماعيل الحامض والأب باولو دالوليو وابراهيم الغازي وآخرين. وهو ما يكشف التكوين الداعشي للميليشيا الخاطفة للأربعة في دوما، ووحدة حالها وأخلاقها مع حال وأخلاق داعش من وراء تخاصم سياسي لا مبادئ فيه ولا قيم.
وليس بعض ما ذكرنا من معلومات وتقديرات على الأقل مجهولاً من هيئات في المعارضة الرسمية، وإن فضّل الجماعة الصمت، رغبةً أو رهبةً أو قِصَرَ نظر. وهذه مناسبة للتعبير عن أشدّ الإدانة لـ’الائتلاف‘ والقوى المؤتلفة فيه وحكومته ورجاله، ليس فقط لأنهم يعرفون ويسكتون، ولكن لأنهم كذلك أظهروا ضموراً في الحسّ الإنساني وعجزاً عن التضامن والتعاطف مع أسر المخطوفين، بما يكفي ويزيد للقول إنهم لا يُستأمنون على قضية شعب.
لقد انقضت شهور طويلة دون أن يحرّكوا ساكناً، أو يكلّفوا أنفسهم متابعة القضية، أو ينظروا في آلية قانونية لاتهام الفاعلين المحتملين وإمكانية جلبهم للمحاكم يوماً، أو حتى إطلاق تصريحات تجدّد إدانة الجُناة وتذكّر بالقضية وتتعهّد بعدم النسيان.
لقد تُرك على عاتق أهالي المخطوفين الأربعة أن يتابعوا وحدهم قضية عامة دون ريب (وإن كانت تخصّهم مباشرةً أكثر من غيرهم)، وهذا بينما يفتقرون هم إلى وسائل مادية أو سياسية للتأثير، ولم تُعرض عليهم أية مساعدة قانونية أو سياسية أو على مستوى المعلومات من قبل تلك الجهات.
إن الموقف من قضية مخطوفي دوما الأربعة معيار أساسي للموقف من الثورة وقيمها المُحرّكة، والقضية السورية ككل، ولا يمكن لمن لا يبالي بهذه القضية أن يبالي حقاً بآلام الشعب السوري، ولا لمن يسكت على خطف وتغييب ناشطين عزّل أن يكون سنداً في الكفاح ضدّ نظام الإجرام الأسدي، أو أن يشغل موقعاً أخلاقياً يُمكِّنه من الدفاع عن «نساء المسلمين» المعتقلات عند النظام.
من يجهل الدور الهائل الذي قامت به رزان زيتونة قبل الثورة في الدفاع عن معتقلين مختلفين، بمن فيهم جهاديون أمام محاكم النظام، ثم دورها المتعدد المستويات أثناء الثورة، في التنظيم والتغطية الإعلامية والإغاثة والتوثيق عبر «لجان التنسيق المحلية»، ثم عبر «مركز توثيق الانتهاكات»؟ رزان أكثر من أيّ شخص آخر ضمير الثورة السورية، وتغييب رزان هي تغييب لضمير الثورة، أو هو مساهمة في جعل الثورة بلا ضمير مراقب ومحاسب.
ومن يجهل أن سميرة عارضت النظام الأسدي في طوري الآب والابن، ودفعت قبلُ 4 سنوات من عمرها في سجون حافظ الأسد، قَضَتها، ويا لسخرية القدر، في سجن النساء في دوما نفسها! سميرة أكثر من أي شخص آخر تمثل استمرارية كفاح السوريين خلال جيلَين، بقدر ما تجسّد في شخصها ونضالها ومسار حياتها العمومية وطنية كفاحنا وقيمه التحررية.
وطوال شهور الثورة أسهم وائل وناظم في صَون كرامة ما لا يُحصى من الأُسَر وإيصال موادّ عيش لمحتاجين في المناطق التي تعرّضت لأشدّ وطآت عدوانية النظام، ومنها مناطق الغوطة الشرقية ذاتها. هذا فضلاً عن دورهما في الأنشطة الاحتجاجية منذ وقت باكر، وفي التنسيق وتبادل المعلومات عبر شبكة تغطّي البلد ككل: «لجان التنسيق المحلية».
قضية سميرة ورزان ووائل وناظم لن تُنسى ولن تموت. إنها تمثل تلخيصاً لقضيتنا العامة وتكثيفاً لمنبعَي العدوان والطغيان التي يعاني منها بلدنا: منبع الفاشية الأسدية، ومنبع القوى الدينية المتشددة. وإن في إبقاء قضية الأربعة ومنع النسيان من التسرّب إليها واجباً شخصياً وعاماً لا يعلوه واجب.
والأمل معقود على مقاوِمي الطغيان المخلصين ألا يتركوا المجرمين يهنأون بجريمتهم، وأن نعمل معاً على إبقائهم تحت الضغط، وإبقاء صورة الأربعة حاضرة كعنوان أساسي لكفاحنا ضد الطغيان الأسدي كما ضدّ طغاة صغار جدد، يعبدون السلطة على الناس بقدر ما يعبدها النظام الأسدي.
نستطيع جعل الأربعة رمزاً عالمياً للحرية ولثورة السوريين من أجل الحرية والعدالة، وخاطفيهم رمزاً عالمياً للجريمة والعار. وسنعمل بكل وسعنا من أجل ذلك.
سنعمل كذلك على ألا تتقادم القضية، أن تبقى القضية متجدّدة وحيّة على أجندة المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية بوصفها. لسنا ضعفاء، وإن تكن قوتنا مختلفة، الآن، عن قوة أهل السلطة والسلاح والمال.
ولذلك نختم بنصيحة للخاطفين: لا تستهينوا بنا، لسنا ممن يسكتون على حق هو حقهم الخاص وحق مواطنهيم ووطنهم. ولا تستهينوا بدأبنا وصبرنا وطول بالنا، وبفاعلية أدواتنا في العمل. ولا تظنوا أننا يمكن أن نخضع للابتزاز، أو أنكم تستطيعون إسكاتنا. وحده تحرير الأربعة، الآن، يوقف الضرر الكبير الذي ألحقتموه بنا، والضرر الكبير الذي ألحقتموه بقضيتنا العامة، ويحدّ من الضرر الكبير الذي نعمل على إلحاقه بكم، ولن نتوقف.
أطلقوا سراحهم الآن!