منشور في مجلة Cuarto Poder

يتجاوز عدد المفقودين في إسبانيا ١٣٠ ألف مفقود، كما تحوي الأراضي الإسبانية أكثر من ٢٥٠٠ قبر جماعي (إسبانيا تحتلّ المرتبة الثانية عالمياً –بعد كمبوديا– في عدد القبور الجماعية) وهناك آلاف الأطفال المسروقين المتعطّشين للحقيقة والعدالة والتعويض. كلّ هؤلاء هم ضحايا نظام فرانكو الديكتاتوري حكم الجنرال فرانثيسكو فرانكو إسبانيا بعد انتصاره في الحرب الأهلية الإسبانية (١٩٣٦-١٩٣٩) حتى وفاته عام ١٩٧٥.. أسباب معاناتهم، التي يمكن توصيفها بالجرائم ضد الإنسانية، لم يحاسَب عليها أحد، وذلك بسبب رفض النظام القضائي الإسباني التحقيق فيها.

تشكّلت لجان حقائق في أكثر من ثلاثين دولة عبر العالم في التاريخ القريب. لجنة الحقيقة هي هيئة رسمية، مؤقتة، غير قضائية، وتُعنى بالتحقيق في الأحداث وتدوين الحقائق، كما تعمل على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها تلك التي تخالف القوانين الدولية، وتوثّق نتائج تحقيقها. تقدّم لجنة الحقيقة نتائج عملها في تقارير تحوي، عدا الدلائل والتحقيقات والتوثيقات، توصيات للجهات الحكومية كي تقوم بدورها. لقد حان الوقت لتشكيل لجنة حقيقة في إسبانيا.

يجب تشكيل لجنة حقيقة لتعمل على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية وما جاء بعدها من حقبة ديكتاتورية، ولتوثّق مرتكبي هذه الانتهاكات وتصنّف ضحاياها. مؤسّسة «فيبغار» –وهي مؤسسة خاصة غير ربحية وذات طابع اجتماعي– تعمل على إرساء منطق حقوق الإنسان والدعوة لمفهوم العدالة الدولية، كما تناضل من أجل ضحايا انتهاكات الإنسان وحقوقهم، وترافع من أجل حصولهم على الحقيقة والعدالة والتعويض، وهي تعمل اليوم على صياغة مقترح من أجل تشكيل لجنة حقيقة في إسبانيا.

تقول أدبيات منظّمة العفو الدوليّة أن ضحايا الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والحروب والتعذيب والإعدام دون محاكمة والتغييب القسري، من حقهم أن يعرفوا الحقيقة. الوضع القاصر في هذا المجال في إسبانيا يعني أن هناك انتهاكاً لحقوق الإنسان، حيث لم تأخذ العدالة مجراها ولم يتلقّ الضحايا تعويضاً عن معاناتهم. إن امتلاك الحقيقة شرط حيوي بالنسبة للضحايا، فمن حقّهم أن يعرفوا، دون معوّقات، مدى الجرائم التي ارتُكبت ضدّهم، وما هي المبرّرات التي ساقها مرتكبو الجرائم، كما أن الاعتراف العلني والكامل بمعاناتهم حقّ أساسي من حقوقهم. الحقيقة مطلب جوهري لعائلات كل الضحايا، وبشكل خاص ضحايا الاغتيال والتغييب القسري. من حقّ الناس أن يعرفوا ماذا حصل لأقاربهم، وأن يمتلكوا كافّة المعلومات عن مصيرهم. الحقيقة ضرورية من أجل أن يعلم المجتمع ظروف وملابسات الانتهاكات التي عاناها، وأن يميّز المبرّرات والحجج التي سيقت لارتكاب هذه الانتهاكات، وهذا الأمر أساسي كي تُبنى الآليات التي تمنع تكرار هذه المآسي والويلات في المستقبل.

خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية، وما تبعها من حقبة ديكتاتوريّة، اقتُرفت جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وعُذّب معتقلون، وصُفّي بعضهم في إعدامات دون محاكمة، كما غُيّب الكثيرون قسرياً… ورغم ذلك، لا وجود حتى اليوم لتوثيق حقوقي للأحداث، ولا لعدد الضحايا الحقيقي، ولم يتم تحديد هويّة من ارتكب هذه الجرائم، كما لم تتم الإشارة إلى المسؤولين السياسيين عنها. إن الإقرار بهذه الحقائق، والتصرّف تبعاً لهذا الإقرار، هو حقٌ أساسي من حقوق ضحايا الطرف المغلوب في الحرب الأهلية. وقد خَلُصت التحقيقات التي فتحها بالتسار غارثون، القاضي الأول في المحكمة الوطنية، إلى وجود أكثر من ١٣٠ ألف مفقود، بالإضافة لأكثر من ٢٥٠٠ قبر جماعي موثّق، و٣٠ ألف طفل مسروق خلال الحرب الأهلية وعهد فرانكو الديكتاتوري.

عام ٢٠٠٦ تلقّت المحكمة الوطنية عدة دعاوي قضائية رفعها أهالي ضحايا وجمعيات حقوق إنسان، تطالب بالتحقيق في مصير المفقودين، وقد أسّست هذه الدعاوي القضائية مرافعتها على «وجود مخطط منظّم، بدأ عام ١٩٣٦، واستمرّ طيلة الحرب الأهلية ثم العقود الأربعة التي حكم فيها الجنرال فرانكو، لتصفية الخصوم السياسيين، وذلك إما بالاغتيال أو التعذيب أو الاعتقال دون محاكمة أو النفي القسري، وقد نُفّذ هذا المخطط طيلة ذاك الوقت، وعلى امتداد الأراضي الإسبانية». في 16 تشرين الأول عام 2008، وافق بالتسار غارثون بالتسار غارثون أحد قضاة المحكمة الوطنية الإسبانية. اشتُهر باستلامه أكثر القضايا إشكاليةً في التاريخ الإسباني القريب، مثل ملفّ «الحرب القذرة» بين المخابرات الإسبانية ومنظّمة إيتا الانفصالية الباسكية في الثمانينات. طُرد من القضاء عام 2012 بعد إدانته بتعدّي صلاحياته بشكل متعمّد خلال التحقيق في قضايا فساد.، الذي كان ما يزال قاضياً في المحكمة الوطنية حينها، الدعاوي القضائية، ووجّه اتهاماً رسمياً لنظام فرانثيسكو فرانكو بالإبادة الجماعية، كما أمر بفتح تحقيقات في كلّ الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت خلال الحرب الأهلية والديكتاتوريّة. طلب غارثون في أمره القضائي الإشارة إلى المسؤولين الرئيسيين عن هذه الجرائم بالاسم، كما أمر بتجميع شهادات أقرباء الضحايا وإخراج الجثث من القبور الجماعية. لكن، للأسف، ولأن القضاء في إسبانيا يتمنّع عن الخوض في قضية حسّاسة كهذه، لم يرفض النظام القضائي استمرار التحقيقات في الجرائم التي ارتكبها نظام الجنرال فرانكو فحسب، بل قُبلت قضايا رفعتها جهات يمينية متطرّفة، مثل نقابة «أيادي نظيفة»نقابة «أيادي نظيفة» تأسّست عام 1995 للنشاط ضد الفساد في الإدارات العامة، لكن نشاطها الحالي يقتصر على تحريك دعاوي قضائية ضد القرارات الإشكالية التي تتخذها الإدارات المحكومة بأحزاب يسارية، وضدّ الإجراءات التي تعتبرها مُحابية للقوميّتَين الكتالونية والباسكية. مؤسِّس النقابة ووجهها العلني الوحيد، ميغيل بيرنارد، هو ناشط مخضرم في أوساط اليمين المتطرف الإسباني. وحزب الكتائب، ضد القاضي بالتسار غارثون، وقد اتهمته بالتمادي المتعمّد خارج صلاحياته القانونية كقاضٍي خلال عمله في هذه القضية. برّأت المحكمة العليا غارثون من هذه التهمة لاحقاً، لكن ذلك حصل بعد أن أُجبر على ترك القضاء.

لاحقاً، تم تجميد كل الدعاوي القضائية التي تطالب بالتحقيق في الجرائم المرتبكة من قبل نظام فرانكو بأمر من المحكمة الإسبانية العليا، حيث أصدرت هذه المحكمة في 27 شباط 2012 حكماً يقضي بشمل جرائم الاغتيال والتغييب القسري خلال الحرب الأهلية وطيلة مدة حكم الجنرال فرانكو ضمن بنود قانون العفو الصادر عام 1977 خلال حقبة التحوّل الديمقراطي بعد وفاة الجنرال فرانكو. هكذا، تحوّل قانون العفو عام 1977 إلى «قانون نقطة النهاية» قانون نقطة النهاية هو قانون عفو تم إقراره في الأرجنتين سنة 1986، مَنَعَ ملاحقة مرتكبي جرائم القتل والتغييب القسري وغيرها من الجرائم المرتكبة أثناء حكم المجلس العسكري للأرجنتين. تم إلغاء القانون عام 2003، وعادةً ما يُذكر –في الأوساط الناطقة بالاسبانية أساساً– كأسوأ نموذج لتحصين مرتكبي الجرائم من العقوبة باسم نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة. بكل معنى الكلمة، إذ إنه يقف سدّاً منيعاً أمام كل محاولات تحريك قضايا قضائية بخصوص الجرائم ضد الإنسانية. وقد تلقّت إسبانيا توصيات عديدة من الأمم المتحدة ومنظمتي العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش تدعو لإلغاء هذا القانون بوصفه عائقاً أمام التحقيق في انتهاكات لحقوق الإنسان.

على أيّة حال، من الضروري التمييز بين التحقيق والبحث التاريخي حول مُجريات الحرب الأهلية وما بعدها من جهة؛ وبين فتح مسار قضائي لمحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات والجرائم من جهة أخرى. الأول ممكن حالياً حتى مع وجود قانون العفو عام 1977، فيما الثاني هدف يجب أن يُعمل على تحقيقه على المدى المنظور.

لقد أُريد من قانون «الذاكرة التاريخية»، المُقر عام 2007، أن يوفّر الأُسُس لإيصال الحقوق إلى الضحايا، وأن يمنح العدالة والحقيقة والتعويض لمستحقيها، لكن هذا لم يحصل في الواقع، إذ بقي هذا القانون حبراً على ورق بسبب غياب الخطة التمويلية اللازمة وانتفاء الإرادة السياسية لتطبيقه. وقد أدانت مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة، في زيارتها الأخيرة لإسبانيا، عدم وجود أي خطط لدى الدولة الإسبانية أمام مسألة الاختفاء القسري، وأدانت أيضاً عدم وجود قواعد بيانات جينية لعائلات المغيّبين قسراً وغياب أي نوع من أنواع بروتوكولات العمل بخصوص القبور الجماعية. وقد مُنحت مجموعة العمل الدولية هذه الحكومة الإسبانية مهلة 90 يوماً كي تتصدّى لمسؤولياتها في التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها ديكتاتورية فرانكو، وتوفير الموارد اللازمة لفتح القبور الجماعية والتعريف الجيني بالضحايا المدفونين فيها. من جانبه، يحقّق القضاء الأرجنتيني في جرائم نظام فرانكو الديكتاتوري تولى القضاء الأرجنتيني في السنتين الأخيرتين التحقيق في عدّة قضايا رُفعت أمامه من قبل جمعيات ضحايا الديكتاتورية في إسبانيا، تحت مبدأ «العدالة الدوليّة»، أي أحقية نظام قضائي لدولة بالتحقيق في جرائم ضد الإنسانية ارتكبت على أراضي دولة أخرى إن تمنّع قضاء الدولة المعنيّة عن التصدّي لمسؤولياته في هذا المجال.دون أن يتلقى أيّ تعاون أو تسهيلات من قبل حكومة ماريانو راخوي ماريانو راخوي رئيس وزراء إسبانيا الحالي، ينتمي للحزب الشعبي (يمين وسط)..

تدعو منظمة العفو الدولية لتشكيل لجان حقائق، ولدعم عملها الكامل في البلدان التي شهدت انتهاكات للقانون الدولي. وتخصّ المنظمة في توصياتها هذه اللجان بالتركيز على الضحايا وحقوقهم، من عدالة وحقيقة وتعويض كامل. لذلك، يتوجّب على لجان الحقيقة أن توضّح، قدر الإمكان، تفاصيل الأحداث المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في الماضي، وتقديم ما تحصل عليه من توثيقات ودلائل لرفد أي مسارات قضائية موجودة سلفاً أو مستقبليّة، كما يتعيّن على لجان الحقائق صياغة توصيات وتقديمها للجهات المسؤولة من أجل تعويض الضحايا وعائلاتهم.

يتوجّب على لجنة الحقيقة التي تدعو لها «فيبغار» في إسبانيا أن تحقّق بعمق في الجرائم المُرتكبة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية وديكتاتوريّة فرانكو، وأن تُعلن بوضوح عن هويّة الجُناة والضحايا. من حق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أن تتوضّح لهم حقيقة ما جرى خلال تلك الحقبة. على لجنة الحقيقة أن تحافظ على استقلالية عملها، وأن تجمع كل الشهادات، ليس فقط شهادات من بقي على قيد الحياة من الضحايا، وإنما أيضاً إفادات الشهود والخبراء، وأن تبحث في التوثيقات التاريخية للمرحلة… ليس الهدف هو تثبيت الحقيقة التاريخية فحسب، على أهمية هذه المسألة، بل توفير التعويض المعنوي، الشخصي والجماعي، الذي يستحقه ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.

ربما هكذا نتمكّن من إغلاق جرح تاريخي ما يزال مفتوحاً.