مقتطف من دراسة أوسع للكاتب بعنوان الدولة والمجتمع في سوريا زمن الانتداب الفرنسي، يؤمل أن تنشر قريباً.
لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن الهوية الكردية لم تبدأ بالظهور والتمايز إلا عندما أقيمت الدول الوطنية في الشرق الأوسط على أنقاض الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، أي عندما تقاسمت هذه الدول فيما بينها الحيّز الجغرافي الذي يُقيم عليه الأكراد، وتعرّض هؤلاء إلى القهر والتهجير، ومُنعوا من التكلّم بلغاتهم ولهجاتهم ومن ممارسة عاداتهم. هنا تحوّل الكُرد، من مجرّد كونهم أفراداً وجماعات وعشائر تتقاتل أحياناً فيما بينها إلى الشعور بانتمائهم إلى كلٍّ واحد، إلى شعب كردي له الحقّ في إقامة دولة وطنية خاصة به، أُسوةً بباقي قوميّات المنطقة الرئيسية من تركية وعربية وفارسية.
فيما يخصّ سوريا، أشرف المستعمِر الفرنسي بتكليف من «عُصبة الأمم» على إقامة دولة قطرية فيها، أصبحت مركزية في نهاية عهد الانتداب، وبهوية «سورية»، كبديل للدولة-الأمة التي كانت تتطلع إلى إقامتها الأغلبية العربية فيها. كان من المفترض أن تمثل دولة-الشعب «السوري» هذه دولة الحداثة التي تضم «تزامن اللامتزامن» من المجتمعات الإنسانية المختلفة الموجودة فيها، إثنيةً كانت أم طائفية، أكثريةً أم أقلية، وبهدف أن تصبح في نهاية المطاف دولة الشعب السوري، حيث لا أقلية ولا أكثرية فيها، ولا مِلَل ولا نِحَل، كما كان الحال أيام الدولة العثمانية… إلا أن المستعمر يومها تصرّف بخلاف ما كلّفته «عُصبة الأمم» القيام به، فعمِل، كما هو معلوم، على إذكاء الفروقات المذهبية والإثنية للإدامة سيطرته، ولم يكتفِ يومها فقط بتقسيم سوريا وإقامة دولة للعلويين فيها وأخرى للدروز بعد نشاء دولة لبنان.
بل لقد أصدر المفوَّض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان في العام 1936مرسوماً شَرعَنَ بمُوجبه التواجدَ التاريخيّ للطوائف الدينية، وليعود ويُدرِج قوانين أحوالهم الشخصية في متن دستور عام 1930 Stephan H. Longrigg, Syria and Lebanon under French Mandate, London, Oxford University Press, 1958, pp. 6-14, 220.
F.S. Northedge, The League of Nations: its Life and Times 1920-1946, Leicester University Press, 1986.
Alber Hourani, Minorities in the Arab World, London, Oxford University Press, 1947, pp. 33-4, 74-77, 92-95..
وإذا كان قد اصطُلح يومها على استعمال تعبير «أقلية» كمرادف لـ«طائفة دينية»، إلا أن دراسة الحراك على المستوى الشعبي، وعلى صعيد النّخب في سوريا تحت الانتداب، لا يمكن أن يُختزل إلى مستوى نموذج تصادمي يصوّر ما جرى يومها على أنه تمّ بين «الأقليات» من جهة ودولة «الأكثرية» من جهة أخرى،، حيث أن مفاهيم «الأقلية» و«الأكثرية» و«الدولة» في سوريا كانت وما زالت تمثّل بُنى اجتماعية وسياسية هجينة. ففي سوريا منذ الاستقلال ما زالت الولاءات البدائية، من عائلية وعشائرية ومناطقية، تلعب دوراً مهماً في التكوين الاجتماعي للبلاد؛ كما أن شبكات التضامن الاجتماعي المُقامة، خاصةً العشائرية منها وتلك القائمة لدى الطوائف الدينية، كانت زمن الانتداب وما تزال إلى اليوم تشارك في تأطير الأنشطة الاجتماعية والأنظمة السياسية القائمة. يعني ذلك أنه يجب عدم الاستهانة بتأثير التغيّرات التي حدثت زمن الانتداب على المجتمع الانتدابي، لامتداداتها اللاحقة كما سنرى من خلال عرضنا. ففي ضوء الطبيعة غير المرنة وغير القابلة للتطور للمنظومة السياسية التي أقيمت زمن الانتداب وما تزال قائمة، يمكن وصف أي تبدّل طرأ عليها على أنه لم يكن سوى إعادة تكيّف أو إعادة انتشار لمسار البُعد الفاصل، حتى لا نقول الهوّة، بين الدولة من جهة والمجتمعات البشرية التي تتألف منها سوريا من جهة أخرى. حدث ذلك وما يزال يحدث، نتيجة ظهور قوى سياسية واجتماعية متجاذبة جديدة قديمة، ليس إلا. أي إن ذلك تمّ وسيبقى يتمّ ما لم يُعمل بشكل جدّي على تقويض أو تجاوز ذلك البُعد الفاصل، سيّانِ كانت الدولة دولة «أقلية» حاكمة أو دولة «الأكثرية».
ثمة عنصر آخر طفا على السطح زمن الانتداب، أثناء تعريف مَن هي الأقليات والجماعات الإثنية. حدث ذلك عندما جرى تحديد البُعد الجغرافي لمفهوم «التراب الوطني» الذي صاحب ترسيم الحدود من قِبَل إدارة الانتداب. مثال على ذلك الاتفاقيات الحدودية التي تمّت في شمال سوريا والعراق، عندما وجد كثير من العرب والأكراد والأتراك والمسيحيين والأرمن والإيزيديين أنفسهم وقد انتُزعوا من مواطنهم الأصلية ليُزجّ بهم وراء حدود جديدة، جرى إقامتها في أغلب الأحيان اعتباطاً. شجّع ذلك ظهور نزعات لديهم لتأكيد هويات محلية لهم تميّزهم عن هوية الأكثرية التي ضمّتها الدولة الوطنية التي ساعد المستعمر نفسه على إيجادها. بل إن ذلك، كما جرى في العراق، دعّم لديهم شعور الانتماء، حقيقياً كان أم وهمياً، إلى «الشعب» المسيحي في شمال العراق، والذي يضمّ باعتقادهم الآثوريين والكلدان واليعاقبة والسريان الأورثوذوكس والإيزيديين الأكراد. واضح من ذلك الطرح أن ما كان يجمع في الحقيقة بين فئات «الشعب» المذكور لم يكن الرابط الديني، بل الإثني، الذي جعلهم يعتقدون أنهم ينحدرون جميعاً من آشور القديمة. هناك دعاية مماثلة ظهرت يومها على جانبَي الحدود السورية العراقية خلال الفترة 1927-28، هدفت إلى إقامة تحالف بين الأكراد والأرمن على أساس أن الطرفين ينتمون إلى نفس الأصل الإثني Christian Velud, Une expérience d’administration régionale en Syrie durant le Mandat Français. Conquête, colonisation et une mise en valeur de la Jazira 1920-1936, Université de Lyon II, 1991, pp. 409-512..
لكن ما جرى في الجزيرة العليا خلال 20ات و30ات القرن الماضي، خاصةً بعد معاهدة 1936 التي رَمَت إلى تخطّي مرحلة مناطق الحكم الذاتي في سوريا التي أقامها المستعمر وإرساء دعائم دولة وطنية مستقلّة عاصمتها دمشق، يوضّح الهدف من ذلك، إذا لجأ الفرنسيون خلال العام التالي للمعاهدة التي يفترض أن تؤدّي إلى استقلال البلد، وبعد حصول أعمال شغب جرت في الشمال، لفرض حكم فرنسي مباشر على الجزيرة دام حتى نهاية الانتداب عام 1946، مما يثبت أن سياسة حماية «الأقليات»، التي اتّبعوها خلال حكمهم للبلد وتخفّوا وراءها وتذرّعوا بها، شكّلت على الدوام جوهر الاستعمار الفرنسي لسوريا Longrigg, Syria and Lebanon under French Mandate, pp. 115-118..
هذا ما سنتناوله الآن بتفصيل أكبر.
نبدأ بالقول إن التواجد الكردي في شمال سوريا، وبالتدقيق في الجزيرة العليا، أي فيما دُعي لاحقاً بمحافظة الحسكة، يختلف عن مَثيلَيه في العراق وتركيا. فهو لا يمتدّ زمناً هناك إلى بطن التاريخ، كما في عمق المنطقة الكردية في شمال العراق وجنوب شرق تركيا. لا يعني ذلك بالطبع الانتقاص من حقّ الأكراد السوريين في تقرير مستقبلهم، لكننا نعتقد أنه، لاستقراء المستقبل، يجب أولاً فهم ما يجري في الحاضر على ضوء إعادة قراءتنا للماضي، عسى أن يساهم ذلك في حلحلة التقوقعات والتشنّجات المناطقية في سوريا، كادعاء حقوق تاريخية وإذكاء عصبيات تؤدي إلى زيادة شرذمة وطن سبق وشرذمته معاهدة سايكس-بيكو بما فيه الكفاية.
في العهد العثماني، كانت الجزيرة المكانَ الذي تتوجّه إليه العشائر العربية الرحّل التي كانت ترعى الإبل (شَمَّر، طَيّ، البكّارة…) إلى جانب عشائر كردية نصف بدوية (الداكورية، المللي، الهفركان…) والتي كانت تربّي الخراف والأغنام، قادمةً بدورها من الجبال في الشمال، ليقضي الجميع الشتاء في منطقة الجزيرة، إضافة إلى تجمّعَين كُرديَّين صغيرَين كانا يقيمان أصلاً في الجزيرة العليا في المنطقة الواقعة بين نهر دجلة غرباً و تلال كاراتشوك شرقاً، وهما عشيرتا الهسنيان (أو الحسنان) والميران… دون أن ننسى تجمّعَي الأكراد القديمَين اللذَين يقعان بعيداً إلى الغرب من الجزيرة، في منطقة جرابلس وكوباني (عين العرب) والكردداغ (جبل الأكراد، عفرين) Jordi Tejel Gorgas, un territoire de marges en Haute-Djézireh syrienne, 1921-1940, Etudes Rurales, juillet-décembre 2010, 186, p.63..
في إطار الكيانات الطائفية التي أنشأها الانتداب الفرنسي في مطلع سيطرته على سوريا، كانت الجزيرة تتبع سنجق (لواء، مقاطعة) دير الزور، الذي كان يتبع بدوره لدولة سوريا التي كانت تضمّ أقساماً من ولايتَي دمشق وحلب أيام العثمانيين. خلال عشرينيات القرن الماضي، شكّلت الجزيرة العليا بؤرة نزاع بين فرنسا؛ وبريطانيا المنتدبة على العراق؛ والجمهورية التركية الفتيّة التي لم تقبل في البدء بسلخ ولاية الموصل، والتي تنازلت عنها فرنسا لبريطانيا لاحقاً كما تنازلت لتركيا الكمالية فيما بعد عن كثير من «الثغور الشامية» الإصطخري، المسالك والممالك، القاهرة 1961، ص43 وما يتبعها. يذكر هنا الإصطخري أسماء مدن وبلدات تخوم الشام الحدودية مع الدولة البيزنطية أواخر القرن العاشر الميلادي.، كنصيبين وماردين ومرعش وأورفه (الرّها) وكيليكيا… وانتهاء بلواء إسكندرون عام 1939. حدث الشقّ الأول من التنازلات، أي بما يتعلق بالجزيرة العليا، حسب اتفاقية أنقرة عام 1921، عندما قبلت فرنسا بالتراجع عن الخط التاريخي للحدود السورية الذي يمرّ من أضنة غرباً إلى جزيرة ابن عمر شرقاً، كما كان متفقاً عليه في البدء، لجعله يمرّ أكثر من ذلك جنوباً، بمحاذاة الخط الحديدي بوزنتي-حلب-نصيبين، تاركاً هذه الأخيرة لتركيا ومُبقياً على بلدات عامودا والدرباسية وسري كانييه (رأس العين) لسوريا، دون أيّ اعتبار للتوزّع الإثني واللغوي في المنطقة المذكورة، وأصلاً كانت الجزيرة العليا شبه خالية من السكان المقيمين وبعيدة عن كتلة التجمّعات الكردية الأمّ في جنوب شرق تركيا، الواقعة حول طور عابدين وغيره. ارتأى يومها بعض الضبّاط الفرنسيين أن من المهم لفرنسا أن تتواجد عسكرياً عن كثب في الجزيرة العليا، لمراقبة الأحداث التي كانت تجرس يومها في أماكن تجمع الأكراد المنتشرين في التخوم بين سوريا والعراق وتركيا. من المدهش هنا أن ضبّاط الاستخبارات الفرنسية اعتبروا منطقة الجزيرة العليا منطقة نفوذ تابعة لسلطتهم المباشرة، متجاوزين بذلك في كثير من الأحيان السلطة المركزية التي كان يمثّلها المفوَّض السامي الفرنسي القابع في سرايا (قصر) بيروت، وعلى هذا الأساس تصرّفوا. بشكل عام، إذا كان الدور الفرنسي فاعلاً في تشكّل هذه المنطقة الحدودية يومها، ككيان له طابع خاص به، فإن العلاقات الاجتماعية القديمة التي كانت قائمة هناك من قبل، والإطار الاجتماعي والاقتصادي المستجدّ زمن الانتداب، هي التي رسّخت في نهاية الأمر سمات المنطقة وما شاب علاقاتِها من شوائب لاحقاً مع المركز في دمشق أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية في مدينة نانت.
Fonds Beyrouth, cabinet politique, carton 549. Le H-C de la République Française, Beyrouth au ministre des AE, Paris, le 29 décembre 1926..
من خلال هذا الإطار المضطرب، أطلقت المفوَّضية السامية الفرنسية برنامجاً للتوطين، وللشغل على استقرار البدو الرحّل في الجزيرة، إضافة لزيادة استغلالها اقتصادياً. حدث ذلك أولاً، كما سبق وقلنا، بقصد التهدئة في منطقة مضطربة لتثبيت مسار الحدود التي جرى الاتفاق بشأنها مع الأتراك والإنكليز، وثانياً لإيمان بعض الموظّفين الفرنسيين، بخلاف بعضهم الآخر، بأن مستقبل الحكم الفرنسي في المشرق كان يكمن في شمال سوريا، ولا يقتصر على الحيز الجغرافي الضيّق الذي كان يمثّله لبنان وأصدقاء فرنسا فيه، كما كانت الخارجية الفرنسية في باريس تعتقد.
سعياً وراء هذا الهدف، شجّعت فرنسا توطين آلاف الأكراد في منطقة الجزيرة ممن كانوا فارّين من الاضطهاد التركي، وذلك بعد فشل ثورة الشيخ سعيد عام 1925؛ كما عملت المفوَّضية السامية على استقبال اللاجئين الأرمن والسريان الهاربين من تركيا؛ ومن بعدهم الآثوريين والكلدان الهاربين من شمال العراق عام 1935، وإعادة توطينهم أيضاً في منطقة الجزيرة؛ إضافة إلى جماعات من الشركس الشيشان في منطقة الخابور الأعلى ممّن كانوا قد لجأوا إلى الدولة العثمانية بعد الحرب مع روسيا القيصرية أواخر القرن التاسع عشر. وكما هو معلوم وطّنت فرنسا الأرمن في غير منطقة ومدينة سورية، كحلب ودمشق وبيروت Gorgas, p. 63..
أدّت هذه السياسة إلى إحداث تغيير عميق في بنية النسيج الاجتماعي القائم في الجزيرة العليا.
فحتى العام 1927، كان هناك ما يقارب 45 قرية كردية فقط، ليتجاوز عددها 700 عام 1941. كما أصبح تعداد سكان الجزيرة العليا حوالي 141,390 نسمة، موزّعين كالتالي: 57,999 كردياً (بين حضر ونصف حضر)، و34,945 مسيحياً (من مختلف المذاهب والانتماءات الإثنية)، و48,749 عربياً (بين بدوي وحضري) أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية في مدينة نانت.
Fonds Beyrouth, cabinet politique, carton 413, Rapport général de la reconnaissance foncière de la Djézireh, Beyrouth, avril 1941.. صاحَب هذا التحوّل الديموغرافي تحوّلات اجتماعية واقتصادية كرّستها سلطة الانتداب وكان لها أبعد الأثر، ليس فقط إبّان فترة الانتداب بل تعدّت آثارها حتى أيامنا هذه. فمن ناحية، سعت السلطات الفرنسية لزيادة نسبة الاستقرار السكاني في منطقة الجزيرة العليا، ومن ناحية أخرى عملت بالتوازي على إقامة نقاط ارتكاز لنفوذها في الوسطَين المديني والريفي في المنطقة المذكورة.
أما في منطقة سهوب الجزيرة الفراتية، أي في البادية، فقد اتبع الفرنسيون السياسة نفسها التي اتّبعها الباب العالي من قبل، والإنكليز في العراق والأردن، وهي سياسة التعامل المباشر مع رؤساء العشائر هناك، والذين كانوا في نزاع دائم حول ملكية الأراضي وأحقيتهم في المراعي. هدف الفرنسيون، عن طريق ما دُعي بمكتب الرقابة البدوية ودوائر الاستخبارات الفرنسية، إلى ترسيخ تهدئة المنطقة، وسعوا لتقليص مساحة الحيّز الجغرافي الذي يستعمله البدو في تنقّلاتهم متجاوزين الحدود التي فرضها المستعمر، كما حاولوا توطينهم في مطارح تسهّل من مراقبتهم وتحدّ من فرص نزاعاتهم مع غيرهم. مقابل دعمهم لسلطة الانتداب وولائهم لها، حصل رؤساء العشائر، بعد تعديلات أجرتها السلطة المذكورة على القانون الزراعي الصادر أيام العثمانيين، على حيازات زراعية، ومكافآت مالية قُدّمت لهم. رؤساء العشائر الذين لم تكن لهم دراية في زراعة الأراضي كانوا يمنحون استثمارها لمرابعين أكراد غالباً. لكن، بعكس ما جرى في الأردن، حيث قام الإنكليز فيها بمسح ثم بتحديد وتحرير الأراضي هناك، جرت في الجزيرة نزاعات عديدة حول ملكية الأراضي جرّاء غياب عملية مماثِلة لإتمام مسح الأراضي الأميرية فيها. دفع ذلك السلطات الفرنسية، إلا في حالات استثنائية، إلى قصر إقامة المزارعين الأكراد على الأراضي الخصبة الشمالية وعلى شريط يوازي الحدود مع تركيا بعرض ثلاثين كم تقريباً، وتخصيص الرُّعاة العرب بالسهوب التي تقع جنوب ذلك. أحدث ذلك تدريجياً ظهوراً لنوع من خط فصل «عرقي» بين منطقة التهدئة في الجزيرة العليا، أي في المعمورة، حيث البلدات التي يقطنها مسيحيون؛ تحيط بها مئات من القرى الزراعية ذات الغالبية الكردية؛ بينما بقيت الجزيرة السفلى موطناً للعشائر البدوية العربية. أحدث هذا التقسيم نقاط احتكاك جديدة، إضافة لتلك التي كانت قائمة أصلاً بين ملّاك الأراضي الكبار، من أكراد وعرب، مع المرابعين الذين استنزفهم هؤلاء الملّاك، مما جعلهم يرزحون تحت وطأة فقر مدقع المصدر السابق نفسه.
, carton 504, Note de la sous-délégation de Djézireh pour le Lieutenant-Colonel Inspecteur général, Hassaka, 15novembre 1938; Note concernant les travaux de reconnaissance foncière à effectuer au Djézireh, Beyrouth, 21 décembre 1939..
وجود ثلاث جهات حكومية متباينة (المفوَّض السامي الفرنسي ودوائر الاستخبارات الفرنسية والحكومة الوطنية في دمشق – بدءاً من عام 1936) من جهة، ثم طابع المنظومة الاجتماعية التي ساعد الفرنسيون في الجزيرة على إقامتها، من جهة أخرى، جاءا في أساس النزاعات العشائرية التي نشأت هناك حول ملكية الأراضي، لتنعكس لاحقاً على نزاعهم السياسي مع الحكومة الوطنية في دمشق.
مما تقدم، يمكن القول إن جماعتين انبثقتا من المنظومة التي أنشأها الفرنسيون في الجزيرة العليا: جماعة «الرابحين» من وجود الانتداب، وهي مؤلّفة من الحضر وأنصاف الحضر الذين شايعوا الانتداب، وجماعة «الخاسرين» ومعظمهم من غير الحضر الذين عادَوا الانتداب. هذ التمايز بين الفئتين بدأ بالظهور منذ مطلع 20ات القرن الماضي، ليُترجَم عام 1936، مع معاهدة استقلال سوريا التي لم توقّع عليها الجمعية الوطنية الفرنسية، إلى موقفين سياسيين: الأول حمله دعاة «الحكم الذاتي» في الجزيرة العليا؛ والثاني لدعاة استقلال سوريا والالتحاق بالحكومة الوطنية في دمشق. بمعنى آخر، تُرجمت النزاعات العشائرية والمناطقية، في الجزيرة العليا كما في حوض الفرات، والتي نشأ أغلبها لأسباب اجتماعية واقتصادية محلية، بالإضافة للطموحات السياسية لبعض النخب هناك، لكي تصبح تمايزاً في المواقف على الصعيد الوطني السوري ككل. فبينما أدّت معاهدة 1936إلى فوز كبير لحزب ’الكتلة الوطنية‘، وإلى تشكيل حكومة وطنية برئاسة جميل مردم بك في دمشق، نرى الجزيرة العليا تنتخب دعاة الحكم الذاتي الانفصالي (خضور بيك، خليل بيك، إبراهيم باشا، سعيد إسحاق). إلا أن التمايز الحاصل بين الجماعتَين لم يتبع مسار فصل إثني وطائفي تامّ، بالرغم من أن أغلب الزعامات الكردية اصطفت في معسكر الحكم الذاتي… فنرى سعيد آغا، رئيس عشيرة الداكورية الكردية في منطقة عامودا، ينحاز للاتجاه الوحدوي مع دمشق؛ كذلك نشاهد أنه، بينما اصطف السريان الكاثوليك مع الحكم الذاتي، نرى زعماء السريان الأورثوذوكس يحثّون أتباعهم على الالتحاق بالصفّ الوطني، في موقف يخالف موقف سعيد إسحاق الداعي للحكم الذاتي؛ أما عشائر الجزيرة العربية، بما فيهم شَمَّر، فتوزّعت بين مؤيد ومناهض للحكم الذاتي Gorgas, pp. 65-73..
ختاماً، يصبح واضحاً أن ما يجري حالياً في محافظة الحسكة، وفي باقي المناطق التي يسكنها الأكراد في الشمال السوري، لم يجرِ التأسيس له منذ الحكم الأسدي فقط، أي خلال العقود الأربعة ونيف الماضية… فالشيخ حميدي دهام الهادي، شيخ شمّر خرسا الذي قَبِل مؤخراً تعيينه كحاكم مشارك مع الرفيقة هدية علي يوسف لمنطقة الحكم الذاتي التي أقامها ’حزب العمال الكردستاني‘ في الشمال السوري، ليس سوى تكرار لنسخة قديمة حاولوا إقامتها من قبل أيام الانتداب الفرنسي؛ مع فارق كبير، هو أنه كان هناك يومها في دمشق حكومة وطنية، تسعى لتحرير البلد من نير الاستعمار الفرنسي، بينما يتربّع اليوم نظام فئوي على سدّة الحكم فيها، يقوم حالياً بقصف بعض أحيائها بالطائرات، ويدكّها بالمدفعية والصواريخ من على جبل قاسيون كما فعل الفرنسيون من قبل، بعد أن سوّى مناطق واسعة من الوطن بالأرض، وتسبّب بقتل مئات الآلاف من السوريين، وتهجير الملايين غيرهم، وذلك إثر اندلاع ثورة شعبية ضده تكالب عليها القاصي والداني. كل ذلك يجعل الصورة أقتتم مما كانت عليه حالنا أيام الاستعمار الفرنسي.
الخطأ الرئيسي الذي ارتكبته الثورة السورية هو أنها لم تستطع أن تقنع ما يدعى بـ«الأقليات»، الذين يشكّلون حوالي 40% من الشعب السوري، وعلى رأسهم أكراد سوريا، أن لهم مصلحة بأن يشاركوا فعلياً في هذه الثورة. لم يشارك الأكراد في الثورة السورية كما لم يشارك غيرهم من الأقليات، إلى جانب من آثر من أبناء الشعب الآخرين متابعة الاصطفاف إلى جانب النظام لأسباب تم الخوض فيها كثيراً اليوم. بتصوّرنا، لو شارك الأكراد جدياً في الثورة لما استطاعت ’النصرة‘، ومن بعدها داعش، محاصرة الثورة من الشمال إلى جانب النظام، ولاحقاً لما حاصرت داعش الأكراد أنفسهم، مما أوجب عليهم طلب المدد من أكراد تركيا.
كنا نعتقد على الدوام أن لا حلّ للقضية الكردية إلا في إطار كونفدرالية تضمّ سوريا والعراق و تركيا وإيران، ليقرّر أطرافها معاً الاعتراف بدولة كردية تكون عضواً في هذه الكونفدرالية، دولة لا تكون معادية لأي من القوميات الرئيسية في المنطقة، وتضمّ شتات الشعب الكردي المنتشر عبر الحدود الحالية التي أنشأها المستعمر، مع تقديم كل التسهيلات اللازمة لها لكي تصبح قابلة للحياة. الذي حدث ويحدث الآن أن الأكراد تصرّفوا ويتصرفون بعكس هذا التصوّر، خاصة بما يتعلق بالشقّ العربي من المعادلة: في العراق، وبمعيّة الحظر الجوي الذي فرضته الولايات المتحدة شمال العراق، أقام الأكراد ما يشبه دولة مستقلة غير قابلة للحياة دون الدعم الأميركي المستمر لها، وهي في عداء مع محيطها العربي في العراق مهما يقال عكس ذلك؛ وفي تركيا ما زالوا في مواجهة مع الدولة الكمالية منذ إنشائها تقريباً؛ وفي إيران يعادون ويقاومون دولة الملالي التي تقابلهم هناك بكل شراسة؛ وفي سوريا، بدل أن يشاركوا في الثورة السورية التي كان من الممكن أن تكفل لهم ولغيرهم من الأقليات أفقاً أوسع، نراهم يتّجهون إلى معاداة محيطهم العربي فيها، كما يحدث في الحسكة وفي غيرها من الأماكن حالياً.
ربما ينجح الأكراد في إنشاء دولة عابرة للحدود عبر المنطقة العربية فقط، أي على حساب الجانب الأضعف حالياً، لكن سيكون ذلك بالتأكيد على حساب باقي الأكراد في تركيا وإيران. سيجعل ذلك القوميات الرئيسة في المنطقة تنظر إليهم كحصان طروادة للمستعمر، وحتى كحليف للمجتمع الاستيطاني في فلسطين، والذي سعى ويسعى لمدّ الجسور نحوهم منذ أيام الملّا مصطفى البرزاني، وما جرى مؤخراً من نقل البترول المستخرج من المنطقة الكردية في العراق عن طريق تركيا لوميناء أشدود الإسرائيلي يعزّز من هذه النظرة. في اعتقادنا، المحاولة الكردية الحالية وإن نجحت مرحلياً إلا أنها استراتيجياً لن تخدم القضية الكردية.
أراد التاريخ لسوريا أن تشكّل على الدوام رقبة جسر بين قارات العالم القديم الثلاث، جاعلاً من سوريا الحالية وطناً لنسيج بشري فريد ومتعدّد، غني وجميل، عسى أن نستمع إلى ندائه الأخير لنا. لا يريد أحد منا أن نقف في يوم من الأيام لنردّد ما قاله عظيم الروم هيروكليوس (هِرَقْل) في غابر الأزمان وهو يغادر سوريا، عندما وقف بعينين دامعتين مودّعاً: السلام عليك يا سوريا، سلاماً لا لقاء بعده.