«هلّق نحنا علويّة وسنّيّة ومن كل أطياف سوريّا بدنا نوقّع هالنظام، وما بدنا واحد من عناصر هالنظام بقى يبقى بهالبلد، وأنا م احكي بأسماء الطايفة العلوية بكل… سوريّا»، قالها شاب بلهجة العلويين الريفية وهو يصوّر جانباً من مظاهرة 15 آذار2011 في سوق الحميدية بدمشق. ويمكن لأيّ عارف باللهجة الريفية العلوية أن ينتبه فوراً إلى أنها ليست لهجته الأصلية، وأنه كان يريد أن يقول بأي وسيلة إن العلويين ليسوا جميعاً مع نظام الأسد. أيضاً وفي اليوم نفسه، قال ناشط سوري في اتصال على قناة الجزيرة: «لقد انطلقت الثورة السورية ولن تتوقف إلا بإسقاط النظام، وأقول لإخوتي العلويين ألا يخافوا فلن يصيبهم مكروه».

يعني هذا، على نحو لا يدع مجالاً للشك، أنه كان ثمة قناعة سائدة سابقة على اندلاع الثورة بأن العلويين سيعتبرون سقوط النظام يشكّل خطراً عليهم، وأنهم لن ينحازوا إلى الثورة ما لم يتمّ تقديم ضمانات كافية لهم، وأنه ينبغي فعل شيء ما للتعامل مع هذه المسألة. وعلى التوازي مع هذه القناعات، كان ثمة خطاب آخر، أقل حضوراَ في شهور الثورة الأولى، يعتبر أن النظام علوي، أو أنه نظام العلويين، مع ما يستبطنه ذلك من ربط لمصير العلويين بمصير نظام الأسد.

على أي حال فإن سير الأحداث أثبت صحّة القناعة السائدة إياها، إذ شكّلت جميع المناطق ذات الأغلبية العلوية، سواءً في الأرياف أو في المدن وأحزمتها العشوائية، عائقاً أمام تقدّم الثورة وتمدّدها، إنْ على صعيد التظاهر السلمي أو على صعيد العمل العسكري لاحقاً. ومع استمرار الصراع ودخوله في مراحل أكثر دمويةً وتعقيداً، ومع استمرار أغلب المنحدرين من أصول علوية في دعمهم للنظام السوري الذي يواصل تدمير المدن والأرياف الثائرة وقتل وتهجير سكانها، أخذ الخطاب الداعي للانتقام من العلويين ومعاقبتهم بالانتشار في صفوف الثوار على حساب الخطاب الأول الداعي لإسقاط النظام بالشراكة معهم، وذلك بالتوازي مع انتشار وتجذّر خطاب السلفية الجهادية الذي يعتبر العلويين «مرتدّين» يجب قتالهم بصرف النظر عن مواقفهم السياسية.

لم تتوقف العديد من الأصوات خلال مراحل الثورة كلها عن الحديث عن تململ العلويين وسخطهم وقرب انتفاضتهم في وجه النظام. أيضاً ظهر عدد كبير من التجمعات والصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن حراك مناهض للنظام يقوم به علويون، إلا أن هذا النوع من العمل تراجَع مع اشتداد الصراع وتزايد الاصطفاف الطائفي على نحو أفقده كل مصداقية. لكنه مؤخراً، مع تزايد أعداد الضحايا العلويين، عاد من خلال بضعة صور على صفحات فيسبوك، تُظهر أشخاصاً لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة يحملون لافتات تعبّر عن السخط على نظام الأسد في الساحل السوري، بما يكفي لإثارة ضجة إعلامية مفتعلة حول تذمّر العلويين من آل الأسد وقرب انفضاضهم عنهم، ومعها مقالات صحفية تتحدث عن عمق هذا الحراك وتجذّره، وعن غيابه عن الإعلام بسبب نقص التمويل وعدم القدرة على التواصل، وعن تجاهل مؤسسات المعارضة المتعمد لحراك العلويين ونُذُر انتفاضتهم، وأيضاً عن ارتباك واستنفار أمني جراء هذه الحملة التي تحمل اسم «صرخة».

كان هذا النمط من العمل الإعلامي سائداً كما قلنا خلال مراحل الثورة الأولى، وقد أثبتت مجريات الأحداث انعدام أية فاعلية له حتى قبل ظهور هذا الكمّ من التطرف والاصطفاف الطائفي. ولا يمكن أن نتوقع اليوم أن عملاً كهذا يمكن أن يأتي بنتائج ما، ذلك على الرغم من السخط والغضب الحقيقي بين صفوف كثير من العلويين. ذلك، وبصرف النظر عن جذر المسألة الذي سنناقشه تالياً، لأن عموم العلويين اليوم يشهدون سيطرة جماعات إسلامية على مساحات واسعة من الأراضي السورية، وصعود وتقدم تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ الذي يَعِدُهم بالموت ولا شيء غير الموت.

تركة التاريخ الثقيلة

التفسيرات الهوياتية أو الطائفية التي تتحدث عن الحقد التاريخي المتبادل والخلاف العقائدي بين السنّة والعلويين لا تقدّم أية إضافة أو تحليلات ذات قيمة في سياق تفسير أسباب اصطفاف عموم العلويين إلى جانب نظام الأسد. ذلك لأنها تنتهي في النهاية إلى تفسير موقف العلويين بأنهم علويون ولا شيء آخر. كذلك فإن التعمية على المسألة والحديث عن أن «الطائفية من صنع النظام» أو غير ذلك لا تفسّر شيئاً، ذلك أن عشرات آلاف المنحدرين من أصول علوية يذهبون لمواجهة الموت على جبهات النظام دون توقّف، في ظلّ احتضان شعبي شامل لهم من عائلاتهم وبيئتهم الأهلية، وهذا بالضبط ما يحتاج تفسيراً بعيداً عن الأحقاد والأوهام.

ثمة تَرِكة التاريخ الثقيلة التي تُرخي بظلالها على الجميع، فالعلويون عاشوا حوالي أربعمئة عام سبقت تأسيس الدولة السورية (1516-1918) كرعايا للسلطان العثماني، وقد تعرّضوا لأشكال مختلفة من الاضطهاد طيلة قرون طويلة. لا أعني فقط الاضطهاد الذي مارسته السلطنة العثمانية على جميع محكوميها كما غيرها من أنظمة الحكم السلطانية، بل أعني اضطهاداً على أساس طائفي هوياتي لا تزال آثاره حاضرة في ذاكرتهم الجمعية حتى اليوم.

تختلط الأساطير بالحقائق في ذاكرة عموم العلويين حيال علاقتهم بـ«أهل السنّة والجماعة»، ولعل تأثير الأساطير يفوق تأثير الحقائق في ذاكرة الجماعات البشرية، وخاصةً عندما يتم توظيفها في سياق المشاريع السلطوية. وعلى أية حال فإنه لم يكن ثمة تنظيم معلن وواضح وذو صبغة قانونية للعلاقة بين العلويين والسلطنة العثمانية، إلا أن المراجع التاريخية تتحدث عن انعزالهم في الجبال بعيداً عن المدن، وعيشهم في أوضاع بائسة من الفقر والجهل والتهميش للمزيد حول هذه المسألة يمكن مراجعة بحث إياد العبدالله، «العلويون: رحلتهم إلى سوريا ورحلتهم منها» والمنشور الجمهورية.. وكانت علاقتهم بعاصمة السلطنة في الآستانة (اسطنبول) تمرّ عبر مجموعة من الآغوات والإقطاعيين المتنفّذين الذين كان بعضهم من عائلات علوية ذات حظوة عند ولاة السلطنة. يضاف إلى ذلك كله عدد من الفتاوى التي تُبيح دماء العلويين باعتبارهم زنادقة ومرتدّين، أشهرها فتوى ابن تيمية الشهيرة في «النصيرية»، التي تختلط في الذاكرة الجمعية للعلويين مع روايات عن قطع رؤوس وقتل أطفال واغتصاب نساء ورفع على الخوازيق، هذه الروايات التي لا يخلوا منها تاريخ الصراعات والحروب في كل مكان.

كان يلزم كي تغادر تَرِكةُ الاضطهاد التاريخي الثقيلة ذاكرةَ العلويين أحدُ حلَّين: إما تأسيس كيانهم السياسي الخاص؛ أو تأسيس دولة وطنية يكونون مواطنين فيها، مواطنين فحسب. لكنّ أياً من الأمرين لم يحدث، بل إن النخب السورية، ومن بينها أغلب نخب العلويين أنفسهم، رفضت خيار الدولة العلوية أيام الانتداب الفرنسي، واتجهت لبناء دولة سورية مركزية ضمن الحدود التي رسمتها لها الأمم المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، دولة لم تكن دولة مواطَنة مكتملة الأركان ولو ليوم واحدة من عمرها القصير.

الحكومات «الوطنية» المتعاقبة في ظلّ الانتداب (1925-1947) وبعد الاستقلال (1947) فشلت في بناء مشروع وطني قابل للحياة والتقدم، وتتالت أجيال العلويين عبر هذه السنوات حاملةً معها إرث الاضطهاد التاريخي، نازلةً من الأرياف والجبال الوَعِرة نحو المدن والتعليم والوظائف الحكومية بالاعتماد على الدولة ومؤسّساتها الوطنية الناشئة، والتي تلقّت ضربات متتالية كانت أقساها عند إعلان الوحدة مع مصر عام 1958.

لاحقاً ومنذ استيلاء البعث على السلطة (1963) أصبح دخول العلويين إلى أجهزة الدولة والحياة في المدن محميّاً من قبل الجيش والأجهزة الأمنية، والتي بدأت تتوالد وتتغوّل على حساب مؤسّسات الدولة الأخرى، وتمّ إقصاء فكرة سلطة الدولة الوطنية، التي لم تكن قد نضجت أصلاً، لتحلّ محلّها فكرة سلطة الشرعية البعثية الثورية، السلطة التي أعادت تموضع العلويين، كما غيرهم من عموم السوريين، في سياق مشروعها السلطوي الشمولي.

تقول الرواية الشائعة في الأوساط العلوية إن سلطة الدولة هي من أنزلتهم من الأرياف إلى المدن، ومن الزراعة والرعي إلى الجامعات والصناعة والتجارة والوظائف الحكومية، وإن عموم السنّة ينتظرون الفرصة الملائمة لطردهم مرة أخرى خارج الدولة ومُدُنها ومؤسّساتها إلى الجبال القصيّة. وليس مهماً في الحقيقة هنا نقاش صحّة هذا الاعتقاد الشائع من عدمها، بل المهم في سياق ما يدور الآن أنه اعتقاد شائع ساهم في تموضع عموم العلويين حيث يريد نظام الأسد، في ظل عدم وجود بدائل وطنية تُعفيهم من حمل هذه التركة الثقيلة.

تراكَب ذلك مع إعطاء فئة من العلويين سلطة غير مسبوقة في عهد نظام الأسد، إذ بدا الضباط العلويون في أجهزة الأمن والجيش كما لو أنهم أصحاب السلطة الحقيقية. وجاءت مذابح حماه (شباط 1982) لتفعل فعلها في الذاكرة السورية بشكل عام، وفي ذاكرة العلويين على نحو خاص؛ إذ يعلم عموم العلويين أن ثمة مذبحة كبيرة حصلت في حماه، ويعلمون أن رئيساً علوياً هو حافظ الأسد يتحمل مسؤوليتها من وجهة نظر عموم السنّة. لكن خطاب السلطة الداخلي الموجَّه لهم كان يبرّر المذبحة بأفعال تنظيم ’الطليعة المقاتلة‘ الإخواني، التي ترتقي بالنسبة لهم لتكون تبشيراً باحتمال عودتهم إلى الاضطهاد والنفي خارج أجهزة الدولة والمدن.

لاحقاً تم إجهاض كل حراك مدني ويساري في عموم سوريا، واقتيد مئات المعارضين اليساريين المنحدرين من أصول علوية، كما اقتيد غيرهم، إلى السجون. وبدأت سلطة مؤسّسات الدولة بالانحسار لصالح سلطة الطغمة الأمنية والعسكرية الطائفية المتحالفة مع التجار والصناعيين من جميع الطوائف، تَعضُدُها سلطة دينية متحالفة مع النظام أو منصاعة له لدى جميع طوائف ومذاهب السوريين، وعلى وجه الخصوص العلويين الذين اندمجت سلطة رجال الدين لديهم بسلطة الأجهزة الأمنية إلى حدّ التماهي في السنوات العشر الأخيرة. كل ذلك في ظل سيادة غير مسبوقة للفساد وتردّي التعليم، ومنع الاشتغال بالشأن العام، وانهيار الأوضاع الاقتصادية في البلاد عامة قبيل اندلاع الثورة السورية.

في سياق الثورة السورية

مع اندلاع الثورة عام 2011، تلاقى إصرار النخبة العسكرية والأمنية العلوية على الاحتفاظ بالسلطة والثروة التي كانوا يستأثرون بمعظمها؛ مع خوف عامّة العلويين من عودة الاضطهاد والتهميش وحتى القتل؛ ثم مع خطاب إسلامي عامّ وغير مؤدلَج في صفوف الثوار، أخذ بالانتشار والتجذّر والاتجاه نحو المزيد من الأدلجة خلال مراحل الثورة المتتالية… ليشكّل هذا المركب –مع عامل رابع بالغ الأهمية– جداراً صلباً من التأييد غير المشروط لسلطة الأسد، التي هي سلطة الدولة كما يعرفها ويطمئنّ إليها عموم العلويين.

العامل الرابع كان العامل الاقتصادي، إذ باستثناء قلّة من العلويين المتنفّذين الذين ينهبون مقدرات البلاد، وقلّة أخرى تعمل في الزراعة والأعمال الحرة، يعيش أغلب العلويين على خزينة الدولة. عشرات الآلاف من صغار الضباط وعناصر الأمن والجيش والموظّفين الحكوميّين يعيشون مع عائلاتهم على معاشات من خزينة الدولة، كما يستفيد بعضهم من الفساد الصغير الذي يُتيحه العمل في القطاع العامّ في سوريا. وبينما لا إحصائيات ولا معلومات دقيقة عن هذه المسألة، كما هو حال جميع المسائل في عهد نظام الأسد الشمولي، فإن المؤكّد أن نصف العلويين على الأقل يعيشون على خزينة الدولة بشكل مباشر، وهي نسبة تفوق النصف بكثير إذا ما أضفنا إليهم أولئك الذين يعيشون على خزينة الدولة بأشكال غير مباشرة؛ من خلال العلاقات الزبائنية التي تجمع الموظّفين الحكوميّين بمعارفهم وأقاربهم ممن يعملون في مجالات القطاع الخاصّ ذات الصلة بعمل مؤسّسات القطاع العامّ.

عوامل عديدة ومتراكبة شكّلت نواة صلبة من الولاء لسلطة الدولة السورية تبدو غير قابلة للكسر؛ يرافقها الخوف الذي يرافق الثورات في أي مكان؛ الخوف من الفوضى وغياب سلطة الدولة الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين عموم أبناء الطبقة الوسطى في أي مجتمع. كذلك رافقها في سوريا الفوضى وغياب التنظيم والخطاب الذي يؤسّس لدولة جديدة لدى المعارضة السورية، والعطالة لدى النخب المثقفة السورية، والتي ظلّت بمعظمها أسيرة الطروحات المائعة التي تبدو غير حاسمة بشأن الديمقراطية والحريات والمساواة، وأسيرة مشروع الدولة الوطنية السورية بصيغته المتداعية التي لم يتمّ تقديم مراجعات جدّيّة لها حتى اليوم.

هكذا هي الحال لدى عموم العلويين: خوف من الاضطهاد، وارتباط اقتصادي بخزينة الدولة، وغياب لأي نخبة تقدّم خطاباً مختلفاً وناجعاً، ومعارضة وثورة لا تمتلكان الأدوات والظروف الملائمة لجذبهم وتغيير خياراتهم، ونظام فاشي فئوي ورّط أبناءهم بعشرات المذابح الطائفية. ويهيمن فوق ذلك كله خطاب نخبهم العسكرية والدينية والاقتصادية والثقافية، المرتبطة كلياً بالنظام وبخطابه، والأسيرة كلياً للدولة وضرورة صونها والدفاع عنها بأيّ ثمن. وفي هذه المعادلة التي لا فِكاك منها ينزف العلويون ويصرخون صرخات مكتومة، وقد غدا الثمن البشري للمعركة يفوق أيّ احتمال، إذ تتحدث الأرقام عن أكثر من 100 ألف شابّ علوي فقدوا أرواحهم، فيما تتوعدهم جهات كثيرة من بينها داعش بالمزيد من الدماء.

عن صرخات العلويين اليوم

والحال هذه، فأية صرخة يمكن أن يطلقها «العلويون» اليوم؟ وعن أيّ علويين يمكن أن نتحدث في هذا السياق؟

دعونا نضع المعارضين المنحدرين من أصول علوية جانباً، فللمقال حولهم مقام آخر؛
أيضاً دعونا نضع جانباً أنصار النظام من «مثقفي الطبقة الوسطى» المنحدرين من أصول علوية، فهؤلاء لم يكفّوا عن الصراخ دفاعاً عن علمانية نظام الأسد وتقدّميته منذ اليوم الأول؛
وأخيراً، لندع جانباً تلك الشرائح المستفيدة مباشرةً من فساد أركان النظام الكبير ومن تسلّط أجهزته الأمنية والعسكرية، فهؤلاء في قلب النظام وربما يكونون حامله الداخلي الرئيسي.

يبقى «العلويون» العاديّون في الأرياف وأحزمة العشوائيات حول المدن، هؤلاء الذين دفعوا ويدفعون الثمن الباهظ للحرب، وهؤلاء الذين يمكن أن يصرخوا في وجه العالم كله ومن بينه نظام الأسد، أنْ لماذا يموت أبناؤنا على هذا النحو المفجع؟ وهؤلاء الذين يمكن أن يراهن عليهم أصحاب مقولات التململ العلوي والثورة العلوية… لكن ترجمة هذا الرهان تأتي في كل مرة على نحو فاقد لأي مصداقية بين الشرائح التي يفترض أن يتم الرهان عليها: بدءاً من نشر الشائعات عن انشقاقات واضطرابات ومواجهات في القرداحة وغيرها خلال مراحل مختلفة من عمر الثورة، ومروراً بمؤتمرات «المعارضة العلوية» المحزنة، وأخيراً وليس آخراً الحملات الإعلامية الدعائية التي لا وجود لمكافئات حقيقة لها على الأرض.

تعرف هذه الفئة من العلويين أن الكرسيّ للأسد والتوابيت لأبنائهم دون شك، وهي حقيقة يعيشونها كل يوم دون أي أُفُق للخلاص، ولهؤلاء صرخاتهم التي لا يعرفها أيّ إعلام ولا يمثّلها أيّ تيار سياسي، والأسوأ أن أحداً لا يفهمها ولا يعرف معناها ولا ما يمكن أن تفضي إليه. وعلى الرغم من سخَط كثير منهم على ما آلت إليه الأوضاع في ظلّ قيادة الأسد الابن، فإنهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أنه لا خلاص لهم خارج نظامه. هذا ما يُثْبته على الأقل استمرار العشرات من أبنائهم في الالتحاق بجبهات القتال، وتهرّب من لا يريدون القتال من الخدمة العسكرية دون الانتقال إلى أيّ اصطفاف جديد أو ساحة فعل جديدة.

في ظل الظروف التي أشرنا إليها، كان سهلاً تأسيس ميليشيات طائفية قوامها الرئيسي من العلويين في بداية الثورة، هذه الميليشيات التي تحمل اليوم اسم ’قوات الدفاع الوطني‘، والتي ارتكبت كثيراً من المذابح المروّعة وأعمال الإبادة والتهجير والنهب المنظّم… حتى أصبحت جرائمها تَرِكَةً ثقيلة مضافة يبدو أنه لا فكاك منها أيضاً. وخلف هذا الجدار السميك من الدماء وانعدام الأفق، تختنق صرخات العلويين وتخرج على نحو غمغمات غير مفهومة فيما يشاهدون المئات من أبنائهم يُقتلون في الصحراء التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وإذا كانت قناعة عمومهم المستجدّة بأنه لا ناقة لهم فيها ولا جمل قد تؤسّس لشقاق بينهم وبين الطغمة الحاكمة في دمشق، فإنه ليس الشقاق الذي قد يقودهم إلى خنادق الثورة على الأسد، بل إنه الشقاق الذي قد يقودهم إلى الارتداد نحو مناطقهم للدفاع عنها، مما يقود من ثم إلى المزيد من تقويض الوطنية السورية المتداعية أصلاً.