استمراراً للوتيرة التصاعدية السائدة في الأعوام الأخيرة، أظهرت احتفاليات 11 أيلول الماضي الحادي عشر من أيلول هو اليوم القومي لكَتَلونيا (Diada)، وهو ذكرى سقوط برشلونة بيد القوّات الملكيّة البوربونيّة عام 1714. في كَتَلونيا حجم وقوّة العضل الجماهيري للحركة القوميّة الاستقلاليّة الكَتَلونية، في لحظة فارقة في تاريخ كَتَلونيا وتاريخ إسبانيا ككل. حجم وسخونة الاستقطاب السياسي والشعبي حول «حق تقرير المصير للشعب الكَتَلوني» بلغا مستويات غير مسبوقة في تاريخ العلاقة المتوتّرة بين كَتَلونيا وباقي إسبانيا. التاسع من تشرين الثاني، الموعد الذي حدّدته الحكومة الكتَلانية لإقامة استفتاء شعبي لتقرير المصير، هو قمة جبل من تراكمات الشقاق السياسي المديد، وهو نقطة لا-عودة بكل ما تعنيه الكلمة في تاريخ السياسة الإسبانية المعاصرة.
تقع كَتَلونيا (أو كتالونيا، أو كاتالونيا Cataluña) في الزاوية الشمالية الشرقية من شبه جزيرة إيبيريا، تحدّها جبال البيرينيه من الشمال، فيما يجاورها إقليم أراغون من الغرب وإقليم بالنثيا (Valencia) من الجنوب. عاصمتها برشلونة. مساحتها 32 ألف كم2 (6% من مساحة إسبانيا) وعدد سكّانها 7 ملايين ونصف (16% من عدد سكان إسبانيا). يبلغ الناتج المحلّي لكَتَلونيا 200 مليون يورو، منتجاً متوسط دخل سنوي يبلغ 26,600 يورو (تساهم كَتَلونيا بـ19% من الناتج القومي الإسباني). كَتَلونيا أغنى أقاليم إسبانيا وأكثرها صناعية.
تمتلك كَتَلونيا لغة خاصة هي الكتَلانية، وهي لغة مشتقّة من اللاتينية. الكتَلانية هي اللغة الرسمية في إقليم كَتَلونيا اليوم إلى جانب الإسبانية، وتُولي السلطات الإقليمية عناية خاصة بتعميم الكَتَلونية ودعم انتشارها، بعد عقود من المنع من قبل ديكتاتوريّة فرانكو.
تاريخياً، شكّلت كَتَلونيا جزءاً جوهرياً من مملكة أراغون منتصف الألفيّة الثانية (1035-1706)، وساهمت بشكل فاعل في ازدهار وتوسّع هذه المملكة، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في أراغون، واضطرارها لإثقال مناطق كَتَلونيا بالضرائب، شهد الإقليم انتفاضات عديدة ضدّ هذه السياسات الاقتصادية الجائرة، وجاءت أهم هذه الانتفاضات عام 1600. وقد حافظت كَتَلونيا بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر على وضع تشريعي خاص مثلّه مجلس تقليدي من الأعيان ورجال الدين المحليين، وانتهت هذه الخصوصية الإدارية بشكل دموي عام 1714، عند سقوط برشلونة على يد قوّات فيليب الخامس البوربوني بعد تمرّد أتى في سياق الحرب على وراثة كارلوس الثاني، الملك السابق وآخر ملوك عائلة هابسبورغ. وحُكمت كَتَلونيا منذ ذلك الحين ضمن المركزية الإدارية للحُكم البوربوني الملكي الاستبدادي في إسبانيا.
ظهر الفكر القومي الكَتَلوني الحديث في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ضمن موجة صعود الفكر القومي في أوروبا وفي سياق ثورة صناعيّة عاشتها كَتَلونيا، على الضدّ من بقيّة إسبانيا. وبلغت الحركة الثقافية-السياسية الكَتَلونية أولى أهدافها السياسية عام 1913 مع إقرار إدارة محلّية كَتَلونية لم تعمّر طويلاً، إذ تم إلغاؤها أثناء حكم بريمو دي ريفيرا ميغيل بريمو دي ريفيرا أرسى حُكماً ديكتاتورياً في إسبانيا بعد انقلاب عسكري عام 1923. استمر حُكمه حتى استقالته عام 1930..
عام 1932، أي بعد عام من إعلان الجمهورية الإسبانية الثانية، تم إقرار أول نظام أساسي للحكم الذاتي في كَتَلونيا، وإنشاء حكومة إقليمية شاركت بفعاليّة في الحرب الأهلية الإسبانية منذ عام 1936. وقد عاشت كَتَلونيا في ظلّ الحرب الأهلية تخبّطات سياسية كثيرة بين القوى السياسية والعسكرية الجمهورية، الشيوعية الرسمية (السوفييتية) والانشقاقيّة، والقوى النقابية والأناركية، بالإضافة إلى القوى الانفصالية الكَتَلونية روى جورج أورويل خبرته كمقاتل في الميليشيات اليسارية في كَتَلونيا في كتابه تحيّة إلى كَتَلونيا..
بعد انتصار فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1939، أُلغيت لكل أشكال الحكم الذاتي في إسبانيا، ومنعت الأحزاب السياسية والنقابات، كذلك منع استخدام اللغات غير الإسبانية أو أي تعبيرات ثقافية مغايرة لتلك القوميّة-الكاثوليكيّة المركزية.
كَتَلونيا بعد وفاة فرانكو وعودة الديمقراطية إلى إسبانيا
شاركت القوى القوميّة الكَتَلونية بفعاليّة في المسار السياسي الانتقالي في إسبانيا بعد وفاة الديكتاتور فرانكو عام 1975، وتجلّت هذه المشاركة في عضويّة ميكيل روكا، أحد قياديي «المبادرة الديمقراطيّة من أجل كَتَلونيا»، في اللجنة السُباعيّة التي كُلّفت بصياغة الدستور.
شكّل الدستور الجديد، الذي أُقرّ عام 1978، قفزةً باتجاه تحويل إسبانيا إلى ملكيّة دستورية على الطراز الأوروبي، بعد أربعة عقود من ديكتاتوريّة فرانثيسكو فرانكو العسكريّة، كما عنى – ضمن سياق تلك المرحلة المتوترّة – نقلةً نوعيّة باتجاه اللامركزيّة السياسية والاقتصادية والثقافيّة. مقدّمة الدستور تتحدّث عن «شعوب إسبانيا»، ومبادئه الأساسيّة تُقرّ وتضمن حقّ الحكم الذاتي للأقاليم والقوميات وفق مبادئ التضامن فيما بينها، ودون المساس بوحدة الوطن الإسباني والتساوي التّام بين جميع مواطنيه، كما تعترف باللغات القوميّة كلغات رسمية في أقاليم الحكم الذاتي إلى جانب اللغة الإسبانية.
أُقرّ الدستور الإسباني رسمياً بعد استفتاء شعبي في كانون الأول 1978، وبلغت نسبة المصوّتين بالموافقة في كامل إسبانيا 88,54%، في حين ارتفعت نسبة الموافقة في كَتَلونيا إلى 91,09%.
بعد إقرار الدستور، بدأت المفاوضات بين السلطة المركزيّة في إسبانيا برئاسة رئيس الوزراء الراحل أدولفو سواريث والقوى السياسيّة الكَتَلونية من أجل إقرار نظام أساسي للحكم الذاتي في كَتَلونيا، وقد تمّت تلك المفاوضات وسط مرحلة عصيبة للغاية، عاشت فيها إسبانيا موجة إرهاب دموي من قبل العديد من التنظيمات: منها المنضوي في اليمين المتطرّف المتمسّك بنظام فرانكو؛ وأخرى يسارية متطرّفة؛ وثالثة انفصاليّة (منظمة إيتا في الباسك بشكل أساسي)… عدا الإرهاب، تصاعد تململ القطاعات اليمينيّة الموالية لفرانكو في السياسة والجيش من خطوات حكومة سواريث باتجاه تفكيك الوضع الناتج عن انتصار فرانكو في الحرب الأهليّة الإسبانية، ولا سيما فيما خصّ رفع الحظر عن الحزب الشيوعي الإسباني رُفع الحظر عن الحزب الشيوعي الإسباني في نيسان عام 1979. والتعاطي مع الحركات القوميّة في كَتَلونيا والباسك، ولم يتوقّف هدير التهديد بانقلاب عسكري حتى الربع الأول من الثمانينات.
تم إقرار النظام الأساسي للحكم الذاتي في كَتَلونيا عام 1980، ونصّ على إنشاء جسم تشريعي كَتَلوني، تنبثق عنه سلطة تنفيذية ذات صلاحيات واسعة. بُعيد إقرار الحُكم الذاتي، فاز ائتلاف ’التلاقي والوحدة‘ Convergència i Unió(CiU). القومي المحافظ بأول انتخابات للبرلمان الكَتَلوني، وترأّس الحكومة الإقليمية جوردي بوجول، زعيم الائتلاف والرجل القوي في الحركة القوميّة الكَتَلونية المعاصرة، وبقي في منصبه حتى 2003.
تميّز عهد جوردي بوجول بسياسات براغماتيّة في التعامل مع الحكومة المركزيّة في إسبانيا، تناغماً مع توجّهات البرجوازيّة الكَتَلونية، التي يُشكّل ائتلاف ’التلاقي والوحدة‘ تعبيرها السياسي، في سياق اندماج إسبانيا في السوق الأوروبيّة المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي لاحقاً. حقّق بوجول مطالبه الاقتصادية والسياسيّة دون اللجوء للنبرة الانفصاليّة، واستفاد من ثِقَله الانتخابي، المستفيد من معادلات قانون «دهوندت» (D’Hondt) الانتخابي نظام دهوندت الانتخابي نظام لحساب عدد المناصب المنتخبة بناءً على حسابات نسبية لعدد الأصوات، وهو النظام الساري في إسبانيا، يعتبر نقّاده أنه يُثقّل أول خيارين انتخابيين على حساب الخيارات التالية، كما أنه يكافئ القوائم الانتخابية التي تركّز ترشحاته في دوائر انتخابية معيّنة على حساب تلك القوائم التي تتوزّع أصواتها في دوائر أكثر، وهي حالة الخيارات القوميّة في إسبانيا، إذ تترشّح ضمن مناطقها فقط. في لعب دور «بيضة القبّان» في البرلمان الإسباني لمساندة الحزب الحاكم في مدريد مقابل تقديم الحكومة المركزية تنازلات في كَتَلونيا. ولم يتغيّر هذا المبدأ مع تغيّر شاغلي قصر «مونكلوا» (مقرّ رئاسة الوزراء الإسبانية في مدريد) خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، فقد دعم بوجول في بداية العهد الديمقراطي سياسات أدولفو سواريث أدولفو سواريث (1932-2014) رئيس وزراء إسبانيا بين 1976-1981، يُعتبر صانع التحوّل الإسباني نحو الديمقراطية بعد وفاة فرانكو.، ولعب دوراً مفصلياً في انطلاق وتبلور الحياة الديمقراطية في إسبانيا، وتفاهم في الثمانينات مع فيليبي غونثالث فيليبي غونثالث (مواليد إشبيلية 1942) رئيس وزراء إسبانيا بين 1982-1996، ينتمي لـ’الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني‘PSOE. في شهر عسلوصل ذروته عند تنظيم الألعاب الأولمبيّة في برشلونة عام 1992، ليذهب إلى تفاهماتمع خوسّيه ماريا أثنار خوسّيه ماريا أثنار (مواليد مدريد 1952) رئيس وزراء إسبانيا بين 1996-2004، وهو زعيم ’الحزب الشعبي‘ PPاليميني الإسباني وعدوّ غونثالث (رئيس الوزراء الأسبق) اللدود. وذلك بعد وصوله إلى الحكم عام 1996، موقّعاً معه اتفاق «ماجيستيك» الذي ضمن دعم كتلة ’التلاقي والوحدة‘ لأثنار في البرلمان الإسباني، مقابل دعم كتلة ’الحزب الشعبي‘ في برلمان كَتَلونيا لحكومة الائتلاف الإقليميّةومنح حزمة جديدة من الصلاحيات الإدارية لكَتَلونيا.
حكم جوردي بوجول كَتَلونيا بين 1980 و2003، ولم يُرشّح نفسه لانتخابات 2003 التي فقد فيها ’التلاقي والوحدة‘ السلطة، رغم إحرازه المركز الأول في الانتخابات الإقليميّة نتيجة تحالف ثلاثي بين ’الحزب الاشتراكي الكَتَلوني‘(فرع ’الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني‘ في كَتَلونيا) و’حزب اليسار الجمهوري‘ الكَتَلوني، وائتلاف ’مبادرة من أجل كَتَلونيا – الخضر‘ (فرع ائتلاف ’اليسار المتّحد‘ الإسباني في كَتَلونيا). وحافظ بوجول على مكانة سياسية كبيرة بفضل دوره المحوري الممتدّ لأكثر من عقدين ونصف من تاريخ إسبانيا المعاصر، إلا أن اتهاماتماليّة خطيرة طاولت أبناءه في الأعوام الأخيرة أدّت لاهتراء صورته الشخصية كزعيم سياسي، وشكّلت ضربة موجعة للتيار القومي الكَتَلوني المحافظ ككل.
العقد الأخير
التحضيرات لتعديل في النظام الأساسي للحكم الذاتي في كَتَلونيا، يشمل صلاحيات أوسع للحكومة الإقليمية واعترافات أكثر وضوحاً وعمقاً بالخصوصية الكَتَلونية ضمن الدولة الإسبانية، بدأت فور وصول التحالف الثلاثي إلى الحكم في الإقليم عام 2003، برئاسة باسكوال ماراغال باسكوال ماراغال (مواليد برشلونة 1941) رئيس الحكومة الإقليمية في كَتَلونيا 2003-2006، شغل قبلها رئاسة بلدية برشلونة بين 1982-1997.، رئيس ’حزب اشتراكيي كَتَلونيا‘، وتزامنت تلك التحضيرات مع سياق سياسي عاصف في إسبانيا، تمثّل في انتصار ’الحزب الاشتراكي العمّالي‘ المفاجئ، برئاسة خوسّيه لويس رودريغث ثاباتيرو خوسّيه لويس رودريغث ثاباتيرو (مواليد 1960) رئيس وزراء إسبانيا بين 2004-2011، ينتمي لـ’الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني‘ PSOE. في الانتخابات التشريعيّة الإسبانية في آذار ٢٠٠٤ بعد ثلاثة أيام من تفجيرات مدريد الإرهابيّة شهدت العاصمة الإسبانية مدريد سلسلة تفجيرات في قطارات الضواحي صباح 11 آذار 2004، قُتل فيها أكثر من 191 شخصاً. أدّت التحقيقات والمحاكمات اللاحقة إلى إدانة خليّة تابعة لتنظيم ’القاعدة‘.، والأزمة السياسية التي تلت تلك الأحداث، والتي استفحلت مع إعلان الحكومة الإسبانية سياسات قطيعة مع عهد أثنار، بدأت بإعلان انسحاب القواّت الإسبانية من العراق، واستمرت مع إقرار قانون زواج المثليين وفتح مسار إقرار قانون «الذاكرة التاريخية».
قدّمت الحكومة الكتَلانية مشروع تعديل النظام الأساسي للحكم الذاتي عام 2005، وأُقرّ في برلمان كَتَلونيا بأغلبية ساحقة قبل تقديمه للبرلمان الإسباني، حيث عُدّلت بعض مواده بفضل تفاهم بين ’الحزب الاشتراكي‘ الحاكم في إسبانيا وكُتلة ’التلاقي والوحدة‘، التي حافظت على ثقلها في البرلمان الإسباني رغم خسارتها الحُكم في كَتَلونيا.
لم يقف ’الحزب الشعبي‘، أكبر أحزاب المعارضة في إسبانيا آنذاك، مكتوفَ الأيدي أمام مشروع توسيع الحكم الذاتي لكَتَلونيا، فشنّت أوساطه حملة سياسية وإعلامية شرسة ضد المشروع، وصلت إلى حدّ ظهور مطالبات بمقاطعة البضائع الكَتَلونية في إسبانيا، كما قدّم ’الحزب الشعبي‘ اعتراضاً أمام المحكمة الدستوريّةالإسبانية على مشروع تعديل النظام الأساسي للحكم الذاتي، معتبراً أن هذا التعديل يتعارض مع الدستور الإسباني النافذ. وقد حكمت المحكمة الدستورية في حزيران 2010 بالطعن في 14 مادّة من موادّ النظام الأساسي الجديد للحكم الذاتي الكَتَلوني، ما أشعل موجة غضب شعبية في الأوساط القومية في الإقليم، واستجرّ ردّ فعلسياسي قوي من قبل الدوائر السياسية القوميّة، التي بدأت تبحث عن طرقأُخرى، أكثر جذرية وصدامية، للتعبير عن طموحاتها.
في 2010، العام نفسه الذي أوقفت المحكمة الدستورية فيه تعديلات الحكم الذاتي الكَتَلوني، عاد ائتلاف ’التلاقي والوحدة‘ إلى الحكم في كَتَلونيا بقيادة آرتور ماس آرتور ماس (مواليد 1956) رئيس الحكومة الإقليمية في كَتَلونيا منذ 2010 حتى الوقت الراهن. ، والذي أعلن في برنامجه الانتخابي أولاً، وفي خطاب تقلّده المنصب ثانياً، أن إحراز «حقّ تقرير المصير» للشعب الكَتَلوني سيكون من أولوياته.
لعبت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ضربت إسبانيا اعتباراً من عام 2008 دورها أيضاً في السجال بين مدريد وبرشلونة، إذ اعتبرت الأوساط القومية الكَتَلونية أنّ جزءاً كبيراً من المعاناة الاقتصادية في كَتَلونيا ناتج عن اختلال التوازن بين ما تتلقّاه كَتَلونيا من استثمارات في البُنى التحتيّة والخدمات وما تقدّمه على شكل ضرائب وما تُساهم به للناتج الداخلي الإسباني، وتجلّى هذا السجال أحياناً في خطابات قاربت العنصريّة في مقاربتها، مثل حديث جوزيب أنتوني دوران-جيدا، الرجل الثاني في ائتلاف ’التلاقي والوحدة” الحاكم في كَتَلونيا، أثناء إحدى اللقاءات الحزبيّة حيث تحدّث عن أن مزارعي الأندلس يقضون جلّ وقتهم في البارات يحتسون المشروب متمتّعين بالمعونات الحكومية فيما تساهم كَتَلونيا في الناتج المحلي الإسباني أكثر بكثير مما تتلقاه في إسبانيا. وسط هذا السياق، صادق برلمان كَتَلونيا عام 2012 على مقترح لإنشاء نظام مالي وضرائبي خاص في كَتَلونيا، مستقلّ عن النظام المالي العام في إسبانيا وإن ارتبط به عبر اتفاقات بين الحكومتين الإقليمية والمركزيّة. ماريانو راخوي، رئيس وزراء إسبانيا منذ 2011، رفض الفكرة بشكل قاطع، وامتنع عن التفاوض حولها ولم يطرح حلاً بديلاً. وقد كان هذا الرفض بدايةً لقطيعة فعليّة بين حكومة كَتَلونيا، التي بدأت بالتحرّك من أجل مسارسياسي ينتهي بـ«حق تقرير المصير»، والسلطة المركزيّة، الغارقة في توابع الأزمة الاقتصادية العميقة في إسبانيا.
الطريق الكَتَلوني نحو تقرير المصير
أواخر أيلول 2012، في الوقت الذي كانت الحكومة المركزية في مدريد ترفض مقترح إنشاء نظام مالي وضرائبي خاص في كَتَلونيا، أقرّ البرلمان الكَتَلوني بياناً مؤسّساتياً يدعو فيه لعقد استفتاء حول حقّ تقرير المصير في كَتَلونيا خلال الفترة التشريعية العاشرة في الإقليم (أي الفترة التشريعيّة التالية)، ورداً على الأبواب الموصدة في مدريد، قرّر رئيس الحكومة الإقليمية آرتور ماس حلّ البرلمان الإقليمي والدعوة لانتخابات جديدة، شكّل فيها موضوع الاستفتاء جوهر الحملة الانتخابية. أُعيد انتخاب ماس رئيساً للإقليم بعد انتخابات 2012، وقد اتفق مع ’حزب اليسار الجمهوري‘ الكتَلاني ERC خلال مفاوضات تشكيل الحكومة على إقامة الاستفتاء خلال عام 2014.
في كانون الثاني 2013، أقرّ البرلمان الكَتَلوني «إعلان السيادة»، والذي دعا للتجاوب مع «الإرادة الشعبية المعبَّر عنها ديمقراطياً في كَتَلونيا» وإقامة استفتاء حول حقّ تقرير المصير. سارعت المحكمة الدستورية بإصدار حكم ببطلان هذا الإعلان، واعتبرت أن مضمونه ومقاصده «تصطدم رأسياً مع الدستور الإسباني». لكنّ المسار السياسي الكَتَلوني في اتجاه تقرير المصير لم يتوقّف، بل دخل في عملية تفاوضية طويلة بين الأحزاب السياسية المنضوية ضمن الحركة الاستقلالية، أدّت في كانون الأول 2014 إلى إعلان 9 تشرين الثاني 2014 موعداً للاستفتاء العام في كَتَلونيا حول حقّ تقرير المصير، كما أُعلن عن أن صيغة السؤال الموجّه للناخبين سيكون مركّباً على الشكل التالي: «هل ترغب في أن تكون كَتَلونيا دولة؟ وفي حال الموافقة، هل ترغب أن تكون هذه الدولة مستقلّة؟». فور إعلان الاستفتاء، عبّرت الحكومة الإسبانية عن رفضها الكامل للمسار الكَتَلوني، وأعلنت عن أنها ستستخدم كلّ الصلاحيات القانونية لمنع إقامة استفتاء لا مكان له في الإطار الدستوري الإسباني.
تزامناً مع المسار السياسي، لم تتوقّف المبادرات الشعبية الداعمة لحقّ تقرير المصير في النموّ، مقدّمةً في مناسبات عديدة، ولا سيما في تظاهرات اليوم القومي لكَتَلونيا عامي 2013 و2014 صوراً مهيبة لكمّية الدعم الشعبي للمسار الاستقلالي الكتَلاني. من جهتها، القوى السياسية الرافضة للمسار الاستقلالي في كَتَلونيا، ممثّلةً بفرع ’الحزب الشعبي‘ وحزب ’مواطنون‘،تحاول التكتّل وإسماع صوتها المناوئ للانفصال، معتبرةً أنها جزء جوهري من كَتَلونيا ولا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال.
لم تتوقّف مساعي الحكومة الكَتَلونية لإقامة استفتاء حول حقّ تقرير المصير عند السياسة الإقليميّة والإسبانية، بل فتحت في الشهور الأخيرة مساراً دبلوماسياً لتدويل القضية ونيل دعم المنظمات الأوروبية والدولية. لكنّ هذه المساعي لم تجد الصدى الكافي، إذ عبّر الاتحاد الأوروبي عن نأيه بنفسه في هذا المجال واعتبار المسألة شأناً داخلياً إسبانياً، مكتفياً بالتوضيح أن أيّ دولة مستقلة ستقوم في كَتَلونيا لن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي حال قيامها، على عكس ما وعد به آرتور ماس رئيس الحكومة الكَتَلونية. من جهتها، عبّرت الولايات المتحدة عن احترامها للخصوصية الثقافية والسياسية الكَتَلونية، وإن أكّدت أنها لن تتدخل فيما تراه شأناً داخلياً إسبانيا يُحلّ عبر مؤسّسات الدولة الإسبانية. أما بان كيمون، الأمين العام للأمم المتحدة، فاكتفى بالقول إن المسألة الكَتَلونية يجب أن تُحل بالسبل السياسية السلميّة.
سيأتي الاستفتاء العام في كَتَلونيا حول حق تقرير المصير، إن عُقد، بعد شهرين من استفتاء مشابه في اسكتلندا، انتصر فيه خيار البقاء ضمن المملكة المتّحدة (بريطانيا). تحاول القوى السياسية الاستقلالية الكَتَلونية تقديم استفتائها المرجوّ على أنه نسخة عن المثال الاسكتلندي، فيما ترفض السلطة المركزية في مدريد والأحزاب الإسبانية هذه المقارنة، موضّحة أن الاستفتاء الاسكتلندي أتى نتيجة عملية سياسية توافقية بين السلطة الذاتية في اسكتلندا وسلطات المملكة المتحدة، وأن هذا الاستفتاء –على عكس استفتاء كَتَلونيا–عُقد ضمن الإطار الدستوري. بغضّ النظر عن هذا السجال، تستمر الحكومة الكَتَلونية في استكمال الأطر والأدوات القانونية الذاتية لعقد الاستفتاء في التاسع من تشرين الثاني المقبل، فيما تحضّر الحكومة الإسبانية أدواتها السياسية والقضائية لإبطال هذا الاستفتاء بكل السبل الممكنة.
المستقبل الكَتَلوني، والإسباني
لا يبدو اليوم، قبل نحو شهر ونصف من الموعد المعلن للاستفتاء، أن الحكومة الكَتَلونية ستتراجع عن عزمها على عقده، كما لن تخطو الحكومة الإسبانية خطوة نحو الخلف للسماح بعقده. قد يُفضي تفاوض الساعة الأخيرة على اتفاق يضمن حلاً وسطياً بين الطرفين، أو ربما تأخذ الأمور مجراها ويتحوّل المسار السياسي إلى عملية قضائية طويلة الأمد أمام المحكمة الدستورية الإسبانية، وربما أمام القضاء الأوروبي والدولي أيضاً. بغضّ النظر عن إجرائيات إدارة الخلاف، يبدو واضحاً أن الشقاق أعمق من المسارات السياسية التوافقية الممكنة.
إسبانيا أمام تحدٍّ مستقبلي ورثته من ماضيها، فهي أمام أزمة هوية كبرى، عاجزة في وسطها عن التفاعل المجدي مع القوميات الطرفيّة مثل الكَتَلونية والباسكيّة. وفوق كلّ ذلك، أدّت الأزمة الاقتصاديّة الكبرى في السنوات الستّ الأخيرة إلى انحسار المدّ عن أعمق أزمة سياسيّة تعيشها الدولة منذ عودة الديمقراطية إليها بعد وفاة فرانكو، أزمة متمثلة في عدد هائل من قضايا الفساد، تبدأ من أصغر البلديات لتصل إلى العائلة المالكة. تُدافع بعض القوى السياسيّة الناشئة في خضمّ الأزمة عن ضرورة إطلاق مسار إعادة تأسيس يُجيب على كلّ الأسئلة الكبرى الإسبانية، من سؤال الهويّة، إلى نمط الحكم والتوزيع الإداري للبلاد، إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية على أسس صحّية. التحدّيات الكُبرى تستوجب تحرّكات كبرى، لكن إسبانيا مكبّلة بقيود عديدة، وماضيها أكبر هذه القيود، وأثقلها.