في بداية عام 1963، وخلال إضراب شهير للصحف السبع الأهم في مدينة نيويورك، قرّر الصديقان روبرت سيلفرز وباربرا أبستين إطلاق دوريّتهم الخاصة. لم يكن هدفهم الربح التجاري أو التبشير الأيديولوجي، ولا حتى التركيز في الدوريّة الجديدة على مواضيع معيّنة، بل كان هدفهم إحداث ثورة في نوع من أنواع الكتابة كان في حينها مُهمَلاً وشديد الجمود. أسّس سيلفرز وأبستين دوريّة متخصّصة بمراجعات الكتب، أرادا من خلالها تجاوز كلٍّ من التقريرية الأكاديمية الجافّة التي كانت تطغى على هذا النمط من الكتابة أحياناً؛ والتقييم المُشَخصَن الذي طغى عليه في أحيان أخرى. أرادا إخراج فنّ المراجعة من قالب الحكم الضيّق على كتاب بعينه إلى فضاء التفكّر من خلال كتاب أو عدة كتب في إشكاليات كبرى، تاريخية أو سياسية أو أدبية.
منذ ذلك الحين تحوّلت دوريّة سيلفرز وأبستين إلى إحدى أهمّ وأشهر المجلّات الثقافية في العالم الأنغلو-أميركي، تحت اسم «مراجعة نيويورك للكتب» أو ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس. نشرت الريفيو مقالات لأهمّ الكتّاب والأدباء، من حنّا أرندت وأشعيا برلين إلى دزموند توتو وإدوارد سعيد، وتوسّعت في أبوابها ومواضيعها وبات لديها موقع إلكتروني وتقارير متنوّعة من العالم، لكن قراءات الكتب بقيت تحتلّ القسم الأكبر والأهمّ في كل عدد من أعدادها. وعلى الرغم من المنشأ الأكاديمي والتخصّصي لمعظم كتًاب الريفيو، فقد استطاع كلّ من سيلفرز وأبستين كمحرّرَين تطوير أسلوب نثري خاصّ بدوريّتهم، ابتعد عن الحشو اللغوي البالغ التعقيد دون الوقوع في التبسيط أو السطحية للمزيد من المعلومات عن نيويورك ريفيو، انظر مقال واشنطن-بوست عن الدوريّة، 6 تشرين الثاني 2013 «The New York Review of Books Turns 50»،
والمقابلة الطويلة مع روبرت سيلفرز بعنوان «Editing the New York Review of Books» والتي استضافتها جامعة بيركلي في 28 نيسان 1999، والمنشورة بنصّها الكامل حالياً هنا: http://www.markdanner.com/orations/show/133.
لكن ما داعي كل هذا الكلام عن مراجعة نيويورك للكتب؟
الجواب هو أن الجمهورية تُطلق اليوم باباً جديداً تحت اسم «كتب»، تدعو فيه أصدقاءها من باحثين وكتّاب ومتابِعين إلى رفدها بقراءاتهم النقدية لأهمّ ما كُتب ويُكتَب في مجالات التاريخ والسياسة والاجتماع والفكر، وبخاصة ذلك المتعلّق منه بسوريا ومناطقها التاريخية أوالمنتَج بأقلام سوريّة، قديمة أو معاصرة. إن دلّ مثال مراجعة نيويورك للكتب على شيء فهو على المكانة الفكرية التي تستطيع المراجعة تحصيلها في حقل ثقافي معين، بما يتجاوز الانطباعية السريعة والفردية لمقالة الرأي ويؤسّس لتراكم معرفي تشاركي نحن في أشدّ الحاجة إليه اليوم.
لقد استعدنا كسوريّين ناصية الكلام في شأننا الوطني منذ ثلاث سنوات، هذا لا شك فيه، لكن كلامنا الجديد، على غِناه، عَكَسَ غياب أرضيّات معرفية مشتركة لدى جمهور الكتّاب والقرّاء المعنيّين والمتابِعين لهذا الشأن. لا أعني بـ«الأرضية المعرفية» مذهباً نظرياً أو فكرياً واحداً يَدين به الجميع، بل نوعاً من «اللغة التأسيسية» التي تقوم على معرفة معمّمة بالحدّ الأدنى من الطروحات والخلاصات المتعلّقة بالشأن السوري والمشرقي، مما ذهب إليه المؤرّخون وعلماء الاجتماع والإنسان والسياسة خلال نصف القرن الماضي. من الصعب طبعاً قياس أو تحديد حدّ المعرفة المعمّمة تلك، لكن باستطاعتنا القول –على سبيل المثال– إنه في حين يندر أن يكتب لبناني عن التاريخ السياسي لبلاده دون قراءة كتاب كمال صليبي بيت بمنازل كثيرة (1992) لا يبدو أن لدى السوريين –كتّاباً وباحثين وقرّاءً متابِعين– كِتاباً أو كُتُباً مماثِلة؛ قد يتّفقون أو يختلفون معها لكنها تشكّل لهم في كل الأحوال مرجعيات ناظمة لإنتاجهم ونقاشاتهم فيما يخصّ كينونتهم الوطنية العامة.
أسباب الغياب هذا كثيرة، تطرّق إلى بعضها ياسين الحاج صالح في مقالة سابقة له في الجمهورية، وهي باختصار شديد تتعلّق بغياب الحرية وضعف الهوية الوطنية السورية وإهمال الدراسات الإنسانية والاجتماعية المُزمِن. لكن ما يهمّنا هنا هو نتائج هذا الغياب… فحتى الآن، ومع الكمّ الهائل من مقالات الرّأي المتوزّعة على صحف وجرائد ودوريّات ومواقع لا تُحصى، يبدو نقاشنا السوري كمجموعة ضخمة من الومضات الفردية التي ترتبط بأسماء مُنتِجيها أكثر من ارتباطها بحقل أو موضوع إشكالي معيّن، وبدلاً من أن تتآلف مع بعضها تدريجياً لتخلق نوعاً من التراكم المعرفي الذي يتسرّب تدريجياً إلى الجمهور الأعمّ ويصبح نقده أو تجاوزه ضرورة للأصالة عند الكتّاب اللاحقين، تبقى تلك المقالات معلّقة كلٌّ لوحدها في فضاء واسع بالغ الازدحام والفوضى.
لذا فإن الجمهورية مع باب «كتب» تطمح إلى المساهمة بشكل رئيسي في خلق معرفة معمّمة قدر الإمكان بأمّهات الكتب وجديدِها على الصعيد السوري: معرفة تستوعب طروحات تلك الأعمال وتتفاعل معها نقدياً، وتستطيع مع الوقت نَظْم النقاش والتفكير السوري حول عناوين واضحة وتقسيمات سِماتية (thematic) متعارف عليها… مع بداية تشرين الأول 2014 ستكون الجمهورية قادرة على استكتاب المساهِمين فيها مقابل تعويض مالي، وبالإضافة إلى مقالات الرأي المعتادة سنتطلّع لاستقبال مقترحاتكم لكتب يجدر الحديث عنها ومن ثمّ التواصل من أجل نشر قراءات نقدية لها.
بعض الكتب التي تتناول سوريا أجنبيّ المنشأ لكنه بات اليوم مترجماً (ككتاب سوريا والانتداب الفرنسي (1997) لـ فيليب خوري أو السيطرة الغامضة (2010) لـ ليزا وَدين) في حين ما يزال البعض الآخر دون ترجمة (ككتاب حنّا بطاطو (1999) فلاحو سوريا: سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأناً وسياستهمتحديث: تمّت ترجمة كتاب حنّا بطاطو بالفعل وصدر بعد شهرين من تاريخ نشر هذه المادّة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي.) مما يستدعي كاتباً ثنائيّ اللغة من السوريين أو غير السوريين.
وبعيداً عن النتاج الأكاديمي الأجنبي، هناك المئات من الكتب لمفكّرين وباحثين محليّين قد لا تتناول التاريخ والسياسة السورية بشكل مباشر لكنها تعكس تطوّر الفكر العربي في سوريا ومناطقها التاريخية منذ أواخر العصر العثماني حتى وقتنا الحالي. كم منّا يعرف حقاً ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي أو عبد الرحمن الشهبندر؟ أو تمعّن في إنتاج عبد الله حنّا وعبد القادر عيّاش؟ ماذا تقول أعمال ياسين الحافظ وصادق جلال العظم عن اللحظة التاريخية التي صدرت فيها؟ وماهي مناقب ومثالب العمل الجديد والموسوعي لـ محمد جمال باروت عن الجزيرة السورية؟… تلك عيّنة عشوائية عن كمّ الأسئلة الهائلة التي قد يطرحها الكتّاب في مراجعاتهم النقدية.
وعدا عمّا هو «عن سوريا» أو «من سوريا»، لا باب مغلق أمام مراجعات لكتب نظرية أو سياسية أو تاريخية محورية قد لا تتعلق بسوريا على الإطلاق وليست من تأليف أحد أبنائها.
وفي حال نجحت تجربة «كتب» قد تستطيع الجمهورية توسيع حقل «المراجعات» ليشمل ما ليس كتباً نظرية، كالنتاج الإبداعي من رواية وشعر وموسيقا ومسرح وسينما – ولا سيّما منها المسيّس، وكذلك المراجعات الموسّعة التي تغطّي شخصيات أو مراحل أو مواضيع أو مشاريع (إعلامية مثلاً) ذات صلة.
في النهاية سيعتمد الشكل النهائي لهذا الباب على تَراكُم موادّه تدريجياً وعلى مدى تجاوب الأصدقاء مع دعوة المجموعة هذه. هي دعوة منّا للقراءة بصوت عالٍ، وكلّنا أمل أن تستجيبوا لدعوتنا!