حملة الرئيس باراك أوباما الجديدة ضدّ ’الدولة الإسلامية في العراق والشام‘ (داعش) حتى الآن عتّمت على سؤال الاستراتيجية الكاملة للولايات المتحدة تجاه الحرب الأهلية السورية، غير أن دوام الصراع في سوريا سيوفّر لداعش كلّ ما يجعلها أعصى على الكبح، ولفوضى الشرق الأوسط كل ما يجعلها أبعد عن الاستقرار. يبقى أساسياً بالنسبة للولايات المتحدة أن تنفّذ سياستها بشكل صحيح، وهذه السياسة بحاجة لتغييرات واسعة من الألف إلى الياء.
كان هدف الولايات المتحدة الرئيسي لثلاث سنوات أن تتملّق روسيا من أجل دعم انتقال سياسي في سوريا بناءً على خطة مشاركة السلطة بين أعضاء من نظام بشار الأسد والمعارضة، وهي الخطّة التي وُضعت منذ إعلان جنيف في تموز 2012. لكن في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفي مؤتمرات السلام في جنيف التي تلت، اكتفت الحكومة الروسية بدعم نظام الأسد، ضمن استراتيجية أطالت حرب إطلاق النار وساعدت في تعزيز صعود داعش. التقدّمات الأخيرة للتنظيم حثّت الولايات المتحدة على إطلاق هجمات جوّيّة ضدّه في كل من العراق وسوريا، وعلى تشكيل تحالف واسع ضد داعش يضمّ حلفاء أوربّيين ودولاً إقليمية سنّيّة كتركيا والأردن والسعودية – بدرجات متفاوتة من الالتزام. لكن داعش أثبتت صعوبة طردها من العراق، وقد يتعسّر لبعض الوقت استئصال معاقلها في شمال وشمال شرق سوريا، ولا يمكننا الانتظار حتى هزيمة داعش لتطوير خطّة أوسع للحدّ من العنف ووقف الصراع السوري.
تتراوح تقديرات القوة العددية لداعش بين 15,000 و50,000 مقاتل. التقديرات الأكثر اطّلاعاً تقترح نواة من 10,000 إلى 15,000 مقاتل محلّي، موزّعين بين العراق وسوريا، بالإضافة لأكثر من 10,000 مقاتل أجنبي، يشكلون بالمجمل قوة قتالية بين 20,000 و30,000، باعتبار التجنيد ارتفع إثر التقدّم الدراماتيكي لداعش في العراق هذا الصيف. وبما أن التنظيم سيطر على معظم شمال وشرق سوريا، فإن أي دولة سوريّة بعد-أسدية تحكمها معارضة ذات أغلبية مسلمة سنّيّة ستكون عرضة لتأثيرات داعش وغيرها من التنظيمات الجهادية، وقد تشجّع بالنهاية انتشار الإرهاب في المنطقة وربما في العالم.
كان الرئيس أوباما محقّاً حتماً في إعلان أن الأسد «لن يستعيد شرعيته» التي فقدها. على المدى البعيد، وحده الضغط المستمر على الأسد مع دعم الثوار غير المتزمّتين سيُنتج نوعاً من التوازن السياسي المطلوب لإنتاج صفقة تقاسم سلطة وطنية مقبولة – صفقة يجب أن تضمّ السنّيّين والعلويّين والمسيحيّيين. لكن وحدها الدبلوماسية البطيئة والمُضنية ستقود إلى نتيجة كهذه، ولا ظروف لدبلوماسية كهذه حالياً. أكثر من ذلك، سيكون من الساذج بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها أن يأملوا بأن إنعاش عملية جنيف قد يكفي لذلك.
الهدف الأقرب والأقرب إلى الواقع في سوريا هو إيجاد وسائل لتقييد المناطق الواقعة في صراع مباشر، وذلك بغاية احتواء العنف المتزمّت وإحداث فارق محرز في أعداد القتلى المدنيين. هذا الهدف ليس كما يبدو بعيد المنال، وهناك أصلاً أساس للسعي نحوه: عن طريق سلسلة من اتفاقات وقف إطلاق النار التي، إن طُبّقت وفُرضت بشكل صحيح، يمكنها تأمين طريق للاستقرار في عدة مناطق من البلاد، حتى بينما يتواصل العنف في مناطق أخرى. على وجه الخصوص، قد تساعد مجموعة اتفاقات وقف إطلاق النار حول حماه وحمص ودمشق، وربما حلب، في إنهاء الصراع ضمن منطقة واسعة على طول المحور الشرقي-الشمالي الأساسي في سوريا، جالبةً إلى هذا القطاع الحيوي من البلاد نوعاً من الحياة اليومية العادية.
مؤخراً بذل النظام بعض الجهد لمفاوضة قوات المعارضة على هُدَن في عدة مناطق، وقد نال بعض النجاح. في تقرير مسحي نُشر في تموز، قامت شركة المحاسبة اللندنية ’إنتيغرِتي ريسيرتش آند كونسلتنسي‘ بتحديد 26 هدنة تم التوصّل إليها في 2013 و2014، كما قامت بمتابعة عشرات الهدن الأخرى في مراحل متفاوتة النضوج في ضواحي دمشق وأجزاء من حمص ومناطق أخرى. ضمّت هذه الصفقات جماعات معارضة إسلامية وأخرى علمانية نسبياً، لكن ليس داعش.
علاوة على ذلك، لاحظ تقرير ’إنتيغرِتي‘ أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصّل إليه في حمص –المدينة الموصوفة سابقاً بـ«عاصمة الثورة» ضد الأسد والتي بقيت محاصرة عدة أشهر– كان فاعلاً بشكل استثنائي. تم التوصل إليه مبدئياً في أوائل أيار للسماح لمقاتلي المعارضة المحاصَرين والمتضوّرين جوعاً بإخلاء المدينة القديمة، ثم أيّدتها الأمم المتحدة ونالت دعماً حتى من مقاتلين متشدّدين من ’جبهة النصرة‘، التنظيم الإسلامي الذي اعتبرته ’القاعدة‘ ممثّلها في سوريا. في الشهور التي تلت، تطوّرت الهدنة إلى وقف إطلاق نار واسع يشمل شمال حيّ الوعر، وهو حيّ يضمّ كثيرين من مؤيدي المعارضة ويؤوي آلاف النازحين من مناطق سوريّة أخرى. ورغم أن الإذعان للاتفاق كان غريباً ومخالفاً للتوقّعات، إلا أن الثوّار والنظام توصّلوا إلى تسوية مؤقتة قابلة للعمل. في أواخر حزيران، وصف إيان بلاك، الصحفي في الغارديان، بقايا الصراع في الوعر على أنه «شبه ساكن وحميمي بشكل مثير للفضول»، وأشار إلى أن السكّان، ومنهم موظّفو دولة، يقومون برحلات يومية هادئة مِن وإلى العمل كل يوم، وعبر حواجز للنظام وللثوار على بُعد أقلّ من مئتي متر.
مع هدن محلية أخرى، يعطي اتفاق وقف إطلاق النار في حمص لمحة عما قد تبدوه خطط أطمح لتخفيف العنف في سوريا. تحت استراتيجية «لطخة الحبر» الكلاسيكية هذه، يمكن لاتفاقات كهذه أن تتطور إلى ترتيبات أمتن للحكم المحلّي – ترتيبات يمكنها أن تلتحم تدريجياً بالمزيد والمزيد من المناطق المستقرّة. إعادة بناء المجتمع المدني بدورها يمكن فرضها في هذه المناطق عبر المساعدات الاقتصادية الدولية وعبر مراقبةٍ هدفُها إعطاء السكّان في المحافظات التي تشهد معارك كحلب وحمص المزيد من الحكم الذاتي ليختاروا حكامهم ويسيّروا مؤسّساتهم المحلية. لكن لتجنّب الأخطاء التي حصلت في العراق، فإن استئصالاً بالجملة لبقايا المؤسّسات السورية خيار يجب نزعه من الحسبان، لذا فالطبقة الحاكمة في دمشق مثلاً، والتي يغلب عليها علويّون، ستحتفظ بدرجة كبيرة من التأثير في الجيش الوطني (المركزي بالتعريف)، لكن يمكن منح السكان المحليين سيطرة أكبر على الشرطة وقوى الأمن الأخرى. التقدم خلال هذه الخطوط قد يقلّل العداوات بين الأطراف المختلفة، ويشجّع سوريين منفيّين على العودة لضبط استقرار أقاليم البلاد – وهي خطوة قد تساعد في عكس نتائج النزوح البشري الكارثي لهذه الحرب، وسيُقنع جماعات المعارضة بأن الهدن المحلية يمكنها جلب نتائج ملموسة.
التطورات الأخيرة في الصراع السوري يزيد من جاذبية هذه المقاربة. بعيداً عن التهديد الجديد الذي تمثّله داعش، فصائل الثوّار استنزفت الزخم العسكري لنظام الأسد في الأسابيع الأخيرة، وقد ارتفعت أرقام ضحايا النظام بحدّة إلى 1,100 في شهر تموز الأخير. المصادر الحكومية اعتادت على تسمية الهدن المحلية «مصالحات»، وببالها أنه كلما طالت الحرب تآكلت الموارد المادية والطاقة المؤسساتية للحكومة. من جانبهم فإن جماعات المعارضة السورية السائدة قد تكون، وقد ذعرتها نجاحات داعش في الشمال والشمال الشرقي، أميل إلى تأسيس هدن مع النظام في مناطق سيطرتها لجلب المعونات والمساعدة في تعزيز درجة الحكم الذاتي المحلي، وللتركيز على إعاقة داعش من التسلّل والسيطرة. الوضع مُقلق خصوصاً في شمال حلب، حيث تهدّد داعش بالسيطرة على معابر حدودية مع تركيا تعتبر حسّاسة لجهة تأمين مؤن وتدريبات ومعونات إنسانية لأبرز فصائل الثوار. بدورها، الصفقات المحلية التي تخفّف عدوان النظام ستقلّص أيضاً من رغبات الثوّار في هذه المناطق بتشكيل ترتيبات تكتيكية –منها الهدن– مع داعش ضد دمشق. (كانت هناك تقارير أن ’جبهة ثوار سوريا‘، وهي فصيل من الثوار غير المتزمّتين، تسعى إلى هدنة مع داعش جنوب دمشق لأن قواتها مستنزفة بشدّة من قتال النظام، علماً أن ’ثوار سوريا‘ أنكرت ذلك).
أواخر الربيع الماضي، أحد الثوّار المقاتلين في معقل المعارضة شرقي حلب أخبر صحفيين أن جماعته متنصّلة من داعش لما ارتكبته من فظائع قرب المدينة، وأنه رأى في اتفاق وقف إطلاق النار في حمص خطوة جيدة إلى الأمام. قال «نحن لن نستسلم، لأننا سنمنع الأسد من البقاء في السلطة… لكن بوسائل أخرى. لا أحد يمكنه البقاء بالسلاح». تقترح هذه الاعتبارات أن اتفاقات وقف إطلاق نار قد تكون ذات جدوى حتى في مناطق لم تصل إلى حالة من الدمار الكامل. رغم مزاعم بعض الثوار بأن النظام ساعد في صنع داعش لتقسيم معارضيه، تبقى الأخيرة هي العدوّ المشترك لكل من المعارضة والنظام.
بَيد أنّ مقاربة كهذه قد تواجه تحدّيات أساسية. مثلاً هناك بعض نقاط الضعف الجدّيّة في الهدن الحالية. حسب تقرير ’إنتيغرتي‘، ما تزال هذه الصفقات غامضة وصعبة الفَرض، وقد كان أثرها على السلامة وظروف العيش صغيراً لدرجة مخيّبة للآمال. التقرير يلاحظ أكثر من ذلك أن الاتفاقيات افتقرت عموماً إلى ثلاثة مكوّنات أساسية كي تدوم: 1) عقبات قوية تمنع المزيد من الهجومات؛ 2) إجراءات بناء-ثقة كالإدارة المشتركة والأمن المحلّي والتوزيع العادل للمعونات الإنسانية؛ 3) وقيود على تصعيد العنف في حال حدوث خروقات. أكثر من ذلك، العديد من الصفقات الموجودة إن لم نقل معظمها مغلق على مناطق كانت من قَبل ضحية عنف مكثّف وتكتيكات حصار قروسطي، وكانت قد وصلت إلى نقطة واجه فيها مسؤولو المعارضة المحليون والإقليميون الانهيار العسكري، أو كان السكان المدنيون في المنطقة على حافة نكبة حقيقية… هدف نظام الأسد في القيام بهذه الصفقات الحلية كان بشكل أساسي استغلال حالة الثوار التي يرثى لها وتحرير بعض الموارد العسكرية النادرة لمقاتلة جماعات تمثّل تهديدات أخطر أو أكثر.
في وحوالي حلب نفسها، وحلب هي أكبر مدن سوريا ومحورها اللوجستي الرئيسي في الجزء الشمالي الغربي من البلاد، قد تواجه خطة مبنيّة على اتفاق وقف إطلاق نار إعاقات إضافية. كانت حلب على مدى السنتين الماضيتين منهكة بشدّة، بينما لا قوات النظام ولا قوات المعارضة تحرز تقدماً واضحاً. تقديرات ’إنتيغرتي‘ أشارت إلى اتفاق واحد قرب المدينة على الطاولة الآن، بالمقارنة مع أكثر من 12 في جنوب غرب سوريا. أكثر من ذلك، زاد تحكّم الفصائل الجهادية في المناطق حول المدينة، بينما أمسكت داعش بعدد من القرى في المحافظة هذا الصيف. في الوقت نفسه يملك نظام الأسد حوالي 6,000 من المقاتلين النظاميين والشبّيحة، بمرجعية ومساعدة ذات كفاءة عالية من ’فليق القدس‘ الإيراني ورجال ’حزب الله‘ الذين يحمون الضواحي الشرقية للمدينة. لكن كانت هناك مؤشّرات في الأشهر الأخيرة أن نقاشات تضمّ محاوِرين إيرانيين وأتراكاً تحدثت عن اتفاق وقف إطلاق نار ممكن في حلب، يمكنه على نحو ما أن يتبع النموذج الحمصي. العديد من التقارير أيضاً تقترح أن سكان المدينة، بالإضافة للعديد من الثوّار هناك، متعبون من القتال ويَتُوقون إلى الاستقرار.
لكن حتى لو أثمرت مثل هذه النقاشات، لا يبدو أن جماعات النظام والمعارضة ستحقّق من تلقاء نفسها المزيد من اتفاقات وقف إطلاق النار طويلة المدى. يبدو أنه ليس لدى رمز أو جماعة من النظام ما يكفي من النفوذ البيرقراطي والكرامة الشخصية والإرادة السياسية لرمي صفقة في ملعب المعارضة وتنفيذ خطط أكثر استدامةً لإنهاء العنف. النظام المتمدّد من أجل الموارد ليس لديه الكثير ليقّدمه مقابل التنسيق مع المعارضة، باستثناء بعض الليونة العسكرية، ولا مؤسّسات مدنية طبعاً ولا قدرات مادّيّة كافية من أجل مساعدة إنمائية ذات قيمة. المعارضة غير المتزمّتة أيضاً تزداد إرهاقاً وتتراجع قدرتها على تنظيم مجتمع مدني، كذلك يزداد افتقارها لقيادة موثوقة ومتماسكة. بالإضافة لذلك، الغياب شبه الكامل للثقة المشتركة يقلّل كثيراً من احتمالات اختراق استراتيجي دون وساطة.
لذا من الضروري لتكتّل دولي ذي سلطة وموثوقية كافيتين على الجانبين أن يجلب الأطراف مع بعضها في المناطق التي يمكن عقد مثل هذه الصفقات فيها. هناك تكتّل واحد كهذا في الأزمة الحالية هو الأمم المتحدة، والتي لعبت دوراً متمّماً في إدامة اتفاقية حمص وفي الواقع دعت للمزيد من هذه الاتفاقيات. الهدف المباشر يجب أن يكون إجبار النظام على التوقيع بالسماح لأشخاص من الأمم المتحدة ولمنظمات الإغاثة غير الحكومية بالدخول إلى المناطق التي قد تشهد اتفاقات هدنة. بعد اعتراف الطرفين بهذا الطرف الداخل، يمكن له حماية السكان المحليين والعمل مع المجالس المحلية على تقدّم إعادة الاستقرار والإعمار.
لكن للحصول على أثر أطول على الصراع السوري فإن مقاربة «وقف إطلاق نار + تنمية» ستحتاج إلى مصادقة من الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الداعمة للمعارضة. نظام الأسد ربما سيطلب عهوداً مؤقّتة من حكومات أجنبية، كالمملكة السعودية وقطر وتركيا، بأنهم سيوقفون دعم الجهود الرامية إلى طرده بالقوة. هذه الدول الثلاث كانت وما تزال أنشط من واجه النظام ودَعَم المعارضة، وهي ترى الولايات المتحدة عائقاً يشجّع نظام الأسد وتعتقد أن سياسات الولايات المتحدة –بالإضافة لدعم إيران وحزب الله وروسيا لدمشق– هي التي سمحت للنظام بالمقاومة والبقاء خارج الضغط. كذلك بينما قدّمت هذه الدول بعض الدعم للجهد الذي تقوده أميركا ضد داعش ما تزال بعض نخبهم الحاكمة تعتبر إسقاط الأسد الأولوية القصوى.
معظم الدول العربية تزداد قلقاً من الإسلامانية المقاتلة، وعلى الولايات المتحدة وشركائها الأكثر حماساً أن يكونوا قادرين على تحصيل اتفاقية ضمنية على الأقل تضمّ هذه الدول مع مبادرة وقف إطلاق نار عبر قنوات تفاوض خلفية. لتأكيد هذا النوع من الدعم ستحتاج الخطة لإيلاء اهتمام خاص بالمناطق السنّية من سوريا، كالطريق بين حمص وحماه. يجب أن يتضمّن هذا تعهّدات بمساعدات اقتصادية أساسية لهذه المناطق، وضمانات بشكل من الحكم الذاتي، والتزاماً طويل الأمد بانتقال سياسي وطني يُعطي الأكثرية السنّية صوتاً رئيسياً في الحكومة. في الحقيقية، وبالنظر إلى وضع الأكثرية السنّية في سوريا، لن تقبل فصائل المعارضة ولا مساندوها الأجانب أقلّ من ذلك – وإلا، بدون هذا النوع من الضمانات، سيقاتل هؤلاء لعقود أطول ليعارضوا ما يعتبرونه نظاماً لاشرعياً ضمن حلف شيعي.
يمكن لواشنطن وحلفائها أيضاً أن يهدّدوا بعمل عسكري محدّد، ومتبادل طبعاً، ضد دمشق –كما فعلوا في ليبيا تحت رعاية الناتو– وذلك في حال أخلّ نظام الأسد باتفاقيات وقف إطلاق النار المحلية. لكنّ تهديداً كهذا قد يورّط الولايات المتحدة بالتدخّل في حرب سوريا الأهلية عن جدّ – النتيجة ذاتها التي تسعى الخطة المطروحة هنا لتجنّبها. إذن، سيكون من الحكمة إبقاء أية تهديدات ضد النظام ضمنيّة. رغم أن ضربات جوية ضد مواقع داعش، وهي الآن في طريقها نحو العراق وسوريا، قد تزيد من الأفكار غير المرغوبة؛ كفكرة أنّ التحالف المعادي لداعش يشتغل كالقوّات الجوية لنظام الأسد، إلا أن هذه الضربات أيضاً توضّح الإرادة الأعمّ لدى الولايات المتحدة باستخدام القوة لجلب الانتظام إلى سوريا دون التورّط بوضوح في مهاجمة النظام بشكل مباشر. (لتخفيف استنتاجات من قبيل الدعم الأميركي للأسد، ستحتاج الولايات المتحدة للحدّ من الدرجة التي تطارد بها قوات داعش في الجزء الغربي من سوريا، قرب مناطق يتحكم بها النظام فعلياً. في هذه المناطق، التدريب المدعوم أميركياً لقوى الثوار غير المتزمّتين –والضروري للإمساك على المدى الطويل بالمناطق بعيداً عن النظام وداعش– سيكون مهماً للغاية لتكسير داعش أيضاً).
للحصول على حظ كبير بنجاح طويل الأمد، على الولايات المتحدة أيضاً البدء بتحضير الجولة الأولى لمحادثات تمهيدية مع إيران حول سوريا. لا واشنطن ولا طهران تريد تعقيد مفاوضات معلّقة حول المسألة النووية بقضايا أخرى، لكن هذا يعني فقط أنه يجب تجنّب أي نقاشات علنية ثنائية حول سوريا. المحادثات الثنائية السرية بين واشنطن وطهران، ربما عبر شخصيات استخباراتية، تستدعي اعتبارات جدّيّة. كان لإيران في العراق دور مهم في الضغط على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ليستقيل، وفي الترحيب، بالتوازي مع إدارة أوباما، برئيس الوزراء القادم حيدر العبادي، وقد أشارت بتحفّظ إلى أنها ستدرس حواراً ثنائياً مع الولايات المتحدة لصدّ داعش في العراق.
التعاون الأميركي-الإيراني في سوريا قد يكون أصعب، لكنه ليس خارج السؤال. ترى طهران في سوريا-صديقة حصناً لا بدّ لها منه ضد الدول السنّيّة، وهي تُقدّم لنظام الأسد السلاح والمال والدعم العسكري المباشر. لكن تورّط ’فليق القدس‘ و’حزب الله‘ الإيرانيَّين في القتال أصبح شديدة الكلفة لإيران ولوكيلها ’حزب الله‘، كما أن الفوضى في سوريا أضرّت أيضاً بالمصالح الإيرانية في العراق ولبنان. القيادة الإيرانية أشارت إلى أنها تعتقد أن الأسد نفسه قد تعاون بسذاجة مع قوات المعارضة، وبخصوص إن كانت إيران مستعدة لتخليص نفسها من سوريا مع الاحتفاظ بمعظم نفوذها هناك واحتواء نموّ داعش، سيكون من مصلحتها أن تفعل ذلك.
طرحت طهران حتى الآن عدة خطط لحلّ الصراع –ووضوحاً لم يتضمّن أيّ منها رحيل الأسد– وهي قد تقبل مشروعاً يحتفظ فيه العلويون بالقوة الأمتن في دولة سوريّة لامركزية جديدة. بإعتاق السنّة والإمساك بالتطرّف والتزمّت السنّيَّين تحت السيطرة، فإن خطة نزع المركزية، المطروحة نقاطها هنا، ستردّ أيضاً على المخاوف الروسية حول الإرهاب، ولربما تحثّ موسكو على المشاركة بشكل بنّاء أكثر في الاستجابة الدولية للأزمة السورية. وأخيراً، إن أظهر النظام السوري إرادة للتعاون حول التنمية ونزع المركزية، قد تدرس الولايات المتحدة وحلفاؤها رفع العقوبات التصاعدية عن دمشق لحثّها على المزيد من التعاون.
الدولة السورية اليوم منهارة. البلد انفرط إلى قطع، وهو عالق بحرب أهلية هي الآن في سنتها الرابعة، شاهدة على واحدة من أهول الأزمات الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، مع حوالي 200,000 قتيل وأكثر من 3 ملايين لاجئ و6.5 مليون نازح داخلي. القتال المستمرّ والمكثّف سيضاعف فقط من الدمار الذي تُحدثه داعش وفصائل جهادية أخرى. من الكريه أن الأسد ما يزال في السلطة، لكن رحيله العاجل ليس واقعياً. التركيز الضيّق من أميركا وحلفائها على داعش –ضمن حملة قد تفيد نظام الأسد و، ربما بشكل طفيف، فصائل إسلامية عنيفة أخرى كـ’جبهة النصرة‘ بقدر ما تساعد المعارضة غير المتزمّتة– لن يجلب الاستقرار المطلوب إلى سوريا لاحتواء الخطر الإقليمي للجهادية السنّية.
بغض النظر عن مَن هو في السلطة، سوريا غير قابلة للحكم ضمن شروطها اليوم. ربما كان نظامها المركزي الهرمي الصارم يعمل حين كان عدد السكان بالكاد يبلغ 8 مليون، لكن لا يمكنه التعامل مع عدد سكان تضاعف ثلاث مرات إلى 25 مليون خلال الجيل الماضي. تفهم هذه الحقيقة جهات داخل النظام، وقد أشارت فعلاً إلى الحاجة للمزيد من «تقرير-المصير» أو «اللامركزية». واليوم بسبب الخطر المتنامي من داعش تمتلك الولايات المتحدة المزيد من النفوذ لإقناع أكثر الدول التي دعمت المعارضة السورية بقوّة لإسكات إصرارهم على إسقاط النظام بدل التركيز على تقليص العنف وزيادة الاستقرار. في نفس الوقت، يجب على إدارة أوباما أن تضع في رأسها أنه لا القوى المحلية ولا المعارضة السورية نفسها ستسمح باتفاقات وقف إطلاق نار قصيرة الأمد وبجهود تنمية وبلامركزية محقّقة فعلاً لتعود إلى «صفقة» يتمكّن فيها نظام الأسد القمعي من البقاء في السلطة بشكل غير محدّد – يجب ألا يسمحوا بذلك. الانتقال السياسي السوري الأصيل عليه أن ينتظر، لكن أيضاً عليه أن يأتي.