تنتشر اليوم حالة إحباط بين السوريين. سيطرة داعش على مناطق واسعة، وعنف النظام المدعوم برضا قطاعات واسعة من الشعب، والتدخّل الأميركي وما سيتبعه من إلحاق الحرب السورية بملف مكافحة الإرهاب، تجعل الوضع السوري يبدو وكأنه دخل مرحلة جديدة ستطول لعقود، على غرار الحروب في أفغانستان والصومال والعراق. معملايين المهجّرين واللاجئين، ومئات آلاف الشهداء، ومثلهم من المعتقلين والمفقودين، تحوّلت سوريا إلى ثقب أسود يبتلع السوريين ومن يقترب منهم. في هكذا ظروف، من الطبيعي أن ينتشر التشاؤم واليأس.
نميّز هنا، في محاولتنا لتعريف أخلاق التشاؤم، بين المتشائم الخامل السلبي والمتشائم الفعّال الإيجابي. المتشائمون السلبيون هم الناس العاديون؛ أولئك اللذين يشعرون بتعب يومي، وبأعباء الحرب تثقل كاهلهم. يتأثر المتشائم الخامل بحجم الدمار والخراب الهائل، بخطف أصدقاء وأقارب، بالمقتلة السورية المفتوحة. معظم البشر يمرّون بحالات إحباط وتشاؤم مرحلي، يقوى أو يضعف تبعاً للظروف المختلفة؛ ويعودون للعمل المنتج بعد انقضاء فترة نقاهة ضرورية. التشاؤم المرحلي طبيعي في حياة البشر.
أما المتشائمون الفاعلون الإيجابيون فهم نوع آخر من البشر، إنهم أولئك اللذين يدعون علناً إلى الاستسلام. ينشر هؤلاء تطيّرهم وبؤسهم بشكل فعّال وحيوي ومقصود. يريدون من السوريين، ومن غير السوريين، أن يسقطوا في متاهة التساؤل الأبدية. يعيش هؤلاء بيننا كأنبياء كَذَبَة، يدعون إلى السكون والقبول بالكارثة بتسليم ورضا. هؤلاء يحملون ما أدعوه بأخلاق التشاؤم.
أخطر ما تتعرّض له سوريا اليوم هو انتشار هذه الأخلاق. في حربنا المفتوحة مع الفاشيّات الدينية والقومية والعلمانية، نحتاج إلى أخلاق منفتحة سمْحة تسمح لنا بالحفاظ على أملنا بمستقبل أفضل لأطفالنا، وعلى القدرة على التفكير العقلاني الهادئ. المعركة مع أخلاق التشاؤم توازي بأهميتها المعركة نفسها مع الفاشيات، إذ تنتصر الفاشيات إن سادت روح التشاؤم.
ما هي أخلاق التشاؤم؟ ومن يدعو إليها اليوم في سوريا؟ وما صلتها بالفاشيّات المتكاثرة؟
أخلاق التشاؤم
نستطيع التمييز بين نوعين من المتشائمين الإيجابيين اللذين يحملون أخلاق التشاؤم. النوع الأول أولئك اللذين شاركوا في الثورة في بدايتها ثم يئسوا مع تصاعد الخراب. أما النوع الثاني فأخطر وأبعد مدى، ويمثّله مثقفون سوريون شكّكوا بالحراك منذ اليوم الأول ولم يشاركوا من قريب أو بعيد بأية نشاطات.
النوع الأول من المتشائمين الإيجابيين يتمثل بمجموعة ناشطين مدنيين وسلميين يتذمّرون باستمرار مما وصلت إليه الأمور في سوريا، ويردّدون مقولات من قبيل «هي الثورة مو ثورتي»، و«الثورة صارت بإيدين داعش والنصرة وعلّوش»، و«أنا عليي بحالي»، و«ما في شي نعمله»، و«أنتو يلي تحالفتو مع الإسلاميين ووصلتونا لهون»، و«الثورة انخطفت يا أخي» و«يا عدي هالحكي بيناتنا، البلد راحت، ما بقي محل للي متلنا». تضاف إلى ذلك تصريحات حقودة ونارية بحق معارضين آخرين، تتّسم بدرجة مخيفة من العنف اللفظي والتهجّم الشخصي واتّهامات بالخيانة والعمالة بحق كل من يخالفهم الرأي.
النوع الثاني من المتشائمين الإيجابيين أكثر أهمية وأبعد أثراً. إنهم أولئك المشكّكون بجدوى الحراك منذ اليوم الأول للثورة، والأمثلة الأشهر هي أدونيسأدونيس (أو علي سعيد محمد إسبر، مواليد جبلة 1930) شاعر وناقد وكاتب سوري، يعيش في فرنسا. وجورج طرابيشيجورج طرابيشي (مواليد حلب 1939) كاتب وناقد ومترجم سوري، يعيش في فرنسا. ونزيه أبو عفشنزيه أبو عفش (مواليد مرميتا 1946) شاعر نثر سوري، يعيش في دمشق.، وآخرون بالطبع ممن يُفترض أن يكونوا مثقّفي التنوير والعقلانية. ما يدعو إليه المتشائم الإيجابي المثقف، من وجهة نظر الأخلاق، هو الطريق المؤدي إلى الاستسلام للطغيان.
لفهم أخلاق المتشائمين، يجب أن نفصل بوضوح بينهم وبين دعاة الاستبداد. مماهاة أدونيس وطرابيشي بشبّيحة من مستوى إبراهيم الأمين ونبيل فيّاض ينمّ عن ضعف فكري وتجنٍّ غير مقبول، يشبه مماهاة ’القاعدة‘ بـ’الإخوان‘ بجمال البنّا جمال البنّا مفكّر إسلامي ليبرالي مصري، هو أخو حسن البنّا مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين الذي اغتيل عام 1949. وجودت سعيدجودت سعيد مفكّر إسلامي لاعنفي سوري من أصول شركسية.. لم يدعم المتشائمون الإيجابيون نظام الأسد، بل وقفوا على الحياد. نلاحظ أيضاً أنّ لهؤلاء المثقفين صوتاً مسموعاً ودوراً ريادياً في الثقافة العربية، على مستويات متعدّدة فكرية ومعرفية وأدبية. من الخطأ أن يتم تقييم مساهماتهم المتعددة اليوم بناءً على موقفهم من الثورة، ولكن الموقف من الثورة هو المعيار لتقييم فلسفتهم الأخلاقية.
ما هو موقفهم من الثورة إذن؟
يعيش المتشائم الإيجابي على المعرفة والفنّ، ولكنه لا يملك روحاً معطاءة لتُلهم السوريين في محنتهم. أخلاق المتشائم الإيجابي لا تلهم إلا العبودية
الموقف السياسي والأخلاقي للمثقف المتشائم يعلن عن نفسه في مجموعة مقالات حزينة يرثي فيها الوطن وما تبقّى منه. على سبيل المثال، يختم طرابيشي أحد مقالاته بأن «الألم يشلّ القلم»، وبأنه لم يبق له إلا أن يقول «وداعاً يا سوريا التي كنت أعرف». يلجأ رجل التنوير المفترض إذن إلى الصمت في اللحظة الأكثر كشفاً! بأسلوب مماثل، يُنذرنا أدونيس منذ بداية الربيع العربي بخراب أخير، ويوزّع نبوءاته شبه الدينية بسخاء، لا يجاريه فيها إلا أسى نزيه أبو عفش الأصيل ويأسه من الوجود البشري.
لم نسمع صوتاً لهؤلاء في حملات الإغاثة، في مؤسّسات العمل السياسي المختلفة، في الإنتاج الثقافي أو الفنّي الفاعل في الثورات؛ لا حملات تضامن ولا محاولات تواصل مع الداخل، مع المصابين، مع المفقودين، مع أسر الشهداء، مع اللاجئين في المخيمات. لا شيء من هذا كله، بل فقط صمت مطبق، يقطعه نواح متشائم بين حين وآخر. العلامة الفارقة لأخلاق التشاؤم تكمن في غياب أي مشروع عملي يتعلّق بحياة الناس العاديين.
الصمت ونشر روح التشاؤم واليأس يعبّر عن أخلاق مستعبدة، تعيش بين ظهراني الطغيان والفاشيات وتقتات بغياب الفعل وبالحزن وبالسلبية. تنتصر الفاشيات عندما نستسلم، وليس عندما تعرض مظاهرها الأكثر عنفاً. هذا الاستسلام يعكس روحاً مستعبدة في الأصل لكل أشكال العنف والطغيان.
يعيش المتشائم الإيجابي على المعرفة والفنّ، ولكنه لا يملك روحاً معطاءة لتُلهم السوريين في محنتهم.
أخلاق المتشائم الإيجابي لا تلهم إلا العبودية.
أخلاق التفاؤل
على العكس من هذا الإحباط الأليم، يبدو لي أن ما نحن بحاجة إليه اليوم هو بالضبط روح التفاؤل وأخلاق العمل.
صحيح أننا لا نملك رؤية مثالية للخروج من الكارثة التي حلّت بنا، فقد دخلت سوريا مرحلة متقدّمة من الصراعات المعقّدة على كافة المستويات، تغيب معها القدرة على طرح حلول وتصوّرات لما ستؤول إليه الأوضاع. كما أننا لا نتفق على أجوبة لأسئلة مصيرية، من قبيل إشكاليات التحالف مع دول الخليج والدول الغربية، وكيفية إدارة العلاقة مع المقاتلين الإسلاميين، والتعامل مع أطروحات الحوار مع النظام، وغيرها من الأسئلة المُلِحّة. ولكننا، بالرغم من غياب اليقين عن إجاباتنا، نملك الرغبة والعزيمة في مساعدة السوريين على تخطي محنتهم.
دعوات التشاؤم تصدر فيما ملايين السوريين يعانون اللجوء والاعتقال، بالإضافة إلى الحاجة الملحّة للتعليم والطبابة والمواصلات وتأمين الاحتياجات الأساسية للناس. في ظل هكذا ظروف، يخبرنا المتشائم الإيجابي بأن الصمت واعتزال الفتنة هو الحلّ. نرى أن العكس هو الصحيح، وأن المطلوب اليوم هو بالضبط النقيض من الاعتزال. في هذه الظروف القاسية، علينا أن نعمل بشكل مضاعف. غياث مطر والأب فرانسيس، ومقاتلون بالمليحة وجوبر وزملكا، وعاملون بالإغاثة في عرسال، ومهرّبو سلاح في أنطاكية، وأساتذة مدارس في حلب ودرعا وتلبيسة، وصحفيون ومترجمون، وآلاف غيرهم، لم ييئسوا… هؤلاء هم من يحملون اليوم أخلاق التفاؤل.تقضي هذه الأخلاق بأن العمل جوهر الوجود الإنساني، وبأنطبيعة الكائن البشري تتجلّى في الفعل.
المعركة مع الفاشية
تختلف منظومتا التشاؤم والتفاؤل في كيفية النظر للإنسان ولماهية وجوده القصير على سطح الكوكب. المتشائم يحتقر الإنسان وسعيَه للتغيير ويدعو إلى الاستكانة للظروف والكفّ عن العمل. المتفائل يُعلي من قيمة الإنسان ويؤمن دوماً بإمكانية التغيير.
معركتنا مع المتشائم الإيجابي تعادل في أهميتها معركتنا مع الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي. تعتاش أنواع الاستبداد المختلفة على أخلاق المتشائمين الإيجابيين. على السوريين اليوم أن يضعوا المشروع الأخلاقي لأدونيس وطرابيشي وأبو عفش وأمثالهم خلفهم مرة واحدة وإلى الأبد. على السوريين أيضاً أن يواجهوا حالة الإحباط المنتشرة بين الشباب السوري والناشطين السابقين ودعاة العزلة والحل الفردي، ممن ساهموا في البداية بقسط وافر في الحراك وتحولوا اليوم إلى قادة حملة تيئيس تنضح بأخلاق التشاؤم.
هذه الأخلاق الخانعة هي الدرب المؤدي لهزيمة الروح في معركتنا مع الفاشيات.
بالمقابل، نجد على الأرض السوريين اللذين يعملون بتفانٍ للخروج من المحنة. يتحلى هؤلاء بما أسميته أخلاق العمل والتفاؤل. الإيمان بحرية الإنسان، وبحقه في حياة كريمة، يتجلّى في الفعل والعمل وبالسعي الحثيث واليومي لحفظ كرامة السوريين ومساعدتهم بكل السبل الممكنة، مهما كانت المساهمة صغيرة وهامشية.
بهذه الأخلاق سننتصر على الفاشيات.
على كل منا أن يختار منظومة الأخلاق التي تناسبه.
من هنا تولد الحرية، من هذا الاختيار الأخلاقي المبدئي.