«من منا، حين يتذكّر بعد مرور هذه المحنة المهولة ما كان يمرّ به، سيصدّق أنه كان يعيش كل تلك الحياة؟! ما عشناه كان مستحيلاً في تخيّلنا، وليس صحيحاً أنه لن يأتينا أسوأ مما نحن فيه!».
ربما من الصعب على أي أحد ألا يعضَّ على ألمه، وأن يكتم حتى عن نفسه مقدار الذلّ الذي لا يُطيقه. صحيح أن الحصار في غوطة دمشق ما زال مستمراً، لكنّ موسم الصيف الذي قال فيه تلك الكلمات أعلاه المهندس عادل درويش (رئيس المجلس المحلي في بلدة جسرين) مليء بالمحاصيل في أراضي الغوطة الشرقية، لذا كانت وطأة الحصار فيه أخفّ منها في الشتاء. وقد ترافق بدء الحصار مع بداية الشتاء، ولم يكن لأحد أن يتخيل مقدار ما سيحتاجه إن وقع الحصار.
ولمن لا يعرف –أو يعرف– ما حدث في الغوطة الشرقية:
ثار الشعب السوري على نظام بشار الأسد الذي ورثه من أبيه بعد أكثر من 40 عاماً على حكم عائلة الأسد، وقد جاءت الثورة أسوةً بثورات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، التي كانت تنشد الديمقراطية وتحقّقت بقدر ما في بعضها، وبعد أن كانت الثورة سِلمية في شهورها الأولى سقط الآلاف من الشهداء؛ استشهد حمزة الخطيب حمزة الخطيب (1997-2011) طفل سوري من بلدة الجيزة في درعا، تعرّض للاعتقال على أحد حواجز الأمن السوري وعادت جثّته بعد أيام وعليها آثار تعذيب مروّع هزّت مشاعر الملايين بعد أن عرضتها أجهزة الإعلام الفضائية. وغياث مطر غياث مطر (1985-2011) ناشط سياسي لاعنفي من مدينة داريّا غرب دمشق، نشط منذ بدايات الثورة السورية حتى اعتقله الأمن السوري في كمين، وتسلّمت زوجته الحامل بعد أيام جثّته وعليها آثار تعذيب شديد. ومشعل التمو مشعل التمو (1957-2011) قيادي كردي سوري ديمقراطي بارز، من مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، تم اغتياله في تشرين الأول 2011 بعد أشهر من إطلاق المخابرات السورية سراحه. ومعن العودات معن العودات (1959-2011) ناشط ديمقراطي سوري من مدينة درعا وأحد قياديي الحراك الثوري فيها، تم اغتياله في آب 2011. وكثير من الثوار السلميين… ومع تخاذل المجتمع الدولي عن اتخاذ المواقف الجادّة والفاعلة لإنهاء حكم الطغيان، لم يكن من خيار للشعب سوى اللجوء لحقّ الدفاع عن النفس، فتسلّح كثير من الثوار واستطاعوا تحرير كثير من المناطق. ثم مع استمرار حرب النظام على الشعب، استطاعت بعض الدول الكبرى والإقليمية ذات المصالح في سوريا أن تصبح لاعباً أساسياً في مجريات الثورة السورية، وارتهن الكثير من الثوار لقرار بعضها بعد سيطرتها على تمويل عملهم العسكري، الذي لم يعد ممكناً دون تلك الدول، إضافة للدعم اللوجستي والبشري الذي دعمت به دول أخرى نظام الأسد، الذي وقعت كثير من المناطق المحرّرة تحت وطأة حصاره. ومع إطالة أمد الحرب وتعرّض الشعب السوري يومياً لجرائم ضد الإنسانية، أصبح للخطابات الأكثر تشدّداً حيّز أوسع بين الحاضنة الشعبية للثورة، بعد أن أحست بنفسها وحيدة مغتربة عن كل ما كانت تسمعه في الإعلام عن حقوق الإنسان وعن حريته وكرامته.
وبعد أن كان واقع بعض المناطق المحرّرة أنها تعاني من القصف والموت اليومي، فقد أضيف إليها بعد حصار الغوطة الشرقية ومناطق أخرى شحّ مستلزمات ضرورية للحياة، وانعدام بعضها الآخر، ولم يبقَ شيء من ضرورات الحياة متوفراً بيُسر، لا الماء ولا الغذاء ولا الدواء ولا المحروقات ولا الكهرباء، ولا حتى الهواء الذي ملأه نظام الأسد بغازات الكيماوي مراراً.
مَن من أولئك المحاصرين كان سيصدق أنه عاش كل تلك الأهوال؟ آلاف الشهداء وآلاف الجرحى ومئات آلاف الجوعى وآلاف الأطفال المحرومين… كانت الحياة سَحقاً للبشر ولم يكن لهم أنين يُسمع.
يُذكر أن هناك أمّاً وضعت ابنَيها عند حاوية القمامة وتركتهما أمام أعين المارة، وأن أمّاً تسبّبت بموت ابنها الرضيع لأكلها خبز الصويا الذي لم تكن تجد غيره، وأمّاً هتفت باكية «بالروح بالدم نفديك يا بشار» بعد أن وقفت عاجزة عن شراء الطحين الذي تبيعه بعض الجهات الخيرية بنصف سعر السوق.
بداية الحصار
بدأت الحكاية قبل تحرير معمل التاميكو للأدوية في بلدة المليحة في تشرين الأول 2013 بأسابيع، ويبدو أن نظام الأسد كان يخطط لهذا الحصار مع بدء الشتاء، بعد أن استطاع في ربيع العام نفسه قطعَ خطوط إمداد الغوطة إلى المناطق الشمالية المحرّرة، ولم يتبقّ للغوطة من طُرُق سوى تلك التي تربطها بمناطق سيطرة النظام؛ تلك الطرق التي آثر النظام الحفاظ على استمرار عملها حتى تحين لحظة الحصار.
كان تحرير معمل التاميكو هدفاً للثوار منذ أشهر طويلة، لكنّه أصبح أكثر إلحاحاً بعد بدء شعورهم بكارثة وقوع الحصار وضرورة التقدّم أكثر نحو دمشق، وهو ما جعل النظام يعمل أكثر على إطباق الحصار ومنع أي عمليات تهريب عن طريق جنده الفاسدين. وبعد أسبوع أو أقلّ على تحريره، وإمطار الغوطة بآلاف القذائف انتقاماً، بدأ تضاعف أسعار معظم المواد الغذائية حتى اختفائها نهائياً من الأسواق. بات من يمشي مالئاً جيوبه بالمال وباحثاً عن أي شيء ليأكله لا يجد رغيف خبز أو حفنة برغل أو أرزّاً أو عدساً أو سكّراً أو زيتاً. جميع الباعة والتجار آثروا احتكار ما تبقى من بضائعهم ليزيد سعرها بشكل جنوني بعد أسابيع قليلة. وجوم منتشر بين الجميع وكلام عن «التجار الخونة» وترقّب للقادم، ولا لومَ بعدُ للثوار الذين حرّروا التاميكو منذ أيام بعد أن ظن الجميع أنها حصن منيع.
فجأة بدأت تظهر بَسْطات لبيع قمر الدين، وبدأت تتكاثر إلى أن أصبح في كل شارع واحدة منها، ومع أن أسعارها كانت تصل إلى بضعة أضعاف سعرها قبل الحصار إلا أنها كانت مُنجِية للكثيرين من الموت جوعاً.
تشتهر غوطة دمشق –وخاصة مدينة عربين– بصناعة قمر الدين من محاصيل المشمش الوفيرة فيها. ولإمكانية تخزينه دون حاجة إلى مبردات، منع الثوار المعنّيون خروج هذه البضائع إلى مناطق النظام، ظنّاً منهم حينها أنهم يحاصرونه ويضيّقون عليه. وقد حاولوا قبل وقوع الحصار منع كل منتجات الحليب ومشتقاته من الخروج إليه، لكنّ كمياتها الضخمة المنتجة في الغوطة وعدم إمكانية تبريدها في ظل قطع النظام للكهرباء كانت ستسبب ضرراً كبيراً للمزارعين ومنتجي الحليب. فكان أن اكتفوا بنسبة 20% من الحليب ومشتقاته، وإرسال 80% إلى دمشق، وهو ما يكفي حاجة ثلاثة أرباع سكانها.
كان أكثر ما سبّب الكارثة هو عدم الاستحياط من احتمال وقوعها، وظنُّ الجميع أن سقوط النظام وشيك بعد التقدّمات التي يُحرزها الثوار حتى إن كانت بطيئة، وأنه سينهار لا محالة إن وصلوا إلى ساحة العباسيين في دمشق، إضافة لما ذكرنا من أنهم هم من كانوا يفكرون بمحاصرة النظام.
مضاعفات المأساة
بعدها بدأت تظهر بعض الموادّ الأساسية كالرزّ والسكّر والبرغل والعدس والزيت والمعكرونة وغيرها بكميات لا بأس بها، ولكن بأسعار خيالية على السكان. وصل سعر كيلو السكّر إلى 3,800 ليرة (حوالي $24، أي أكثر من 25 ضعف سعره القديم). وتفاوتت أسعار باقي تلك الموادّ بين أكثر قليلاً أو أقلّ قليلاً منه، ووصل سعر رغيف الخبز الواحد إلى 300 ليرة (حوالي $2، أي 150 ضعف). معظم الناس امتنعت عن شراء السكّر والخبز والرزّ واكتفت بالبرغل والعدس والزيت، واستبدلت السكّر ببديلاته التجارية التي كان يطلق عليها محلياً أسماء كالسكَّرِين وأصانص السكّر، وهي كما قال بعض الأطباء «أحد مشتقات حمض الأسيتواسيتيك التي تسبّب مضارّ نفسية نحن في غنى عنها، كما أنها تسبب على المدى الطويل أوراماً خبيثة».
كثير من الناس كانوا يمشون المسافات الطويلة للوصول إلى الغذاء الذي يريدونه، بسبب وصول سعر لتر البنزين إلى 10,000 ليرة ($62)، ولتر المازوت إلى 6,000 ($37). بعضهم كان يمشي عدّة ساعات بغية الوصول إلى مكان سمعوا أن فيه سعر كيلو البرغل أرخص بـ100 ليرة من بلدتهم، وبعضهم يمشون ساعات من أجل تأمين لتر حليب لأطفالهم، ولا وجود للبيض أبداً.
وصل الحال ببعض الناس أن خرجوا في ليالي الصقيع لتجميع أوراق الفجل وطبخها، وكذلك الخبّيزة والسبانخ. كانت درجة الحرارة تصل إلى تحت الصفر، لكن لا مفرّ من الذهاب إلى الأراضي الزراعية التي لا أصحاب لها وتجميع الخبّيزة والسبانخ التي تنمو لوحدها، وأصبحت الزهرة (القرنبيط) غذاء يومياً، وكذلك الملفوف الذي بدأ كثيرون باستخدامه عوضاً عن الخبز، ويصل سعر الثمرة الصغيرة منه إلى 500 ليرة ($3.1)، والكبيرة إلى 1500 ليرة ($9.2). كما كانت تتم تحلية المخلّل وطبخه!
[quotes]كان هناك أطفال يقعون أرضاً وهم ذاهبون إلى المدرسة، وشيوخ يبحثون عن دوائهم ولا يجدونه، ومات كثير منهم بسبب نقص الإنسولين وغيره من الأدوية، ومزارعون يبكون لأنهم لم يستطيعوا إطعام مواشيهم وماتت أمام أعينهم.[/quotes]
ووصل الحال بالكثيرين أنهم بدأوا بأكل أعلاف الحيوانات، وانتشر طحين الشعير والذرة والدخن والصويا بأسعار مضاعفة، وبدأ الأطبّاء (من تبقّى من أطبّاء الغوطة) يحذّرون من أكل الأخيرة منها. وكان الخَبز يتم في البيوت ودون وجود المعدّات اللازمة له، ودون الخبرة. ورغم صعوبة خَبز طحين الذرة والدخن والصويا إلا أن من كان يحظى برغيف متكتّل بحجم الكف يسعد به جداً! ولم يتم التوقف عن بيع طحين الصويا إلا بعد تسجيل حالات وفاة أطفال بسببه.
لكنّ الكارثة الأكبر كانت حين تم بيع التمر العلفي. ورغم سوء طعمه، أقبل الناس عليه. ومع أنه غير سامّ، تسبّب في تسمّم الكثيرين وموت بعضهم. وقد تبيّن أن سبب التسمّم ناتج عن فيضان مياه الصرف الصحي على مستودعاته ومعرفة تجاره بذلك، فتم سجنهم ثلاثتهم.
ومع ذكر الموت تسمّماً، كان للموت جوعاً، وللموت بسبب قلة الدواء ومستلزمات الرعاية الصحية، ولموت المواشي بسبب أكل البشر لعلفها، نصيب من تلك الأهوال. كان هناك أطفال يقعون أرضاً وهم ذاهبون إلى المدرسة، وشيوخ يبحثون عن دوائهم ولا يجدونه، ومات كثير منهم بسبب نقص الإنسولين وغيره من الأدوية، ومزارعون يبكون لأنهم لم يستطيعوا إطعام مواشيهم وماتت أمام أعينهم.
عاد المزارعون إلى حرث الأرض يدوياً، وتناقصت كمية الأرض المزروعة بسبب الجهد البالغ الذي تتطلبه وقلّة المحروقات لسقاية الأرض. بعض المحظوظين استطاع عمل حفر النفايات العضوية التي تطلق غاز الميثان وتقلل كمية المحروقات اللازمة لتشغيل مضخات المياه. وبعد انتهاء عمل المزارعين اليومي عليهم تأمين لقمة الطعام اليومية لعائلاتهم، فتخور قواهم آخر اليوم.
كانت غالبية الناس تنام جياعاً، يكتفون بوجبة واحدة يومياً أو نصف وجبة، ولا يفكّرون إلا بطعام اليوم ويتركون الغد لغده. وقد تناقص وزن كل منهم عشرات الكيلوغرامات، ينامون ولا يكلّمون بعضهم. والأطفال الذين يبكون من جوعهم يقول لهم أهلهم أن يناموا كي يحصلوا صباحاً على الطعام، كما في كل المرويّات عن المجاعات.
كانت معاناة الأطفال والنساء هي الأشدّ، مَن كان مِن الأطفال يستطيع أكل بسكوتة أو قطعة شوكولا مرةً في الأسبوع يُعَدّ محظوظاً. وانتشرت في المحالّ قطع قمر الدين الصغيرة المغلفة للأطفال، وانتشر باعة متجولون يبيعون حلوى قاسية جداً لا يحظى كثير من الأطفال برفاهية شرائها! وبدأ تشغيل الأطفال في تعبئة المياه من الآبار وحملها إلى البيوت بسبب عدم توفر المال للتعبئة عبر سيارات المياه، وانشغال الرجال والنساء بأعمال أشد قسوة. كانت النساء تغسل الثياب يدوياً وتعتمد في كل حوائج البيت على العمل اليدوي في غياب الكهرباء، وتطبخ على مواقد الحطب وتنظّف المداخن التي لم تكن مهيّأة لاستعمال الحطب، وقد كانت أنواع الحطب السيئة أكثر من الجيدة. وتسعى المرأة من مكان إلى آخر من أجل تحصيل أي مساعدة غذائية من الجهات الإغاثية المنتشرة، التي لم تعد تستطع تغطية 1% من حاجات الإغاثة الغذائية. وكانت غالبية النساء يبكين في مكاتب الإغاثة ومستوصفات الرعاية الطبية من أجل تأمين حليب لأطفالهنّ الرضّع، أو تأمين دواء يلزم لهم. وامتنع كثير من الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس بسبب عدم القدرة على تأمين مصاريفهم، وكان يروي كثير من المعلمين الذين استمروا في عملهم دون تقاضي أجرهم عن عدم قدرة معظم الطلاب على استيعاب دروسهم بسبب خواء بطونهم.
ومن اللافت أن الدخان، رغم تضاعف سعره أيضاً، لم ينقطع إلا أياماً معدودات بدأ بعدها دخوله من دمشق عبر حواجز النظام. وبدأ المشايخ في خطب الجمعة يقرّعون المدخنين لأنهم ينفّذون ما يريده النظام من استنزاف أموالنا بما يضرّ ويُغضب الله.
ورغم فتح النظام للحواجز بين الفترة والأخرى لإدخال بعض البضائع بأسعار خيالية، وبما لا يسدّ رمق قلّة من السكان، إلا أن نوعية البضائع كانت سيئة في معظمها، وكان يقول البعض: اللي ما بيمشي بالشام بيكبّوه (يرمونه) لعنّا، عاملينّا زبالتهن!
[quotes]وصل القهر بالعفيفين إلى أن يضطروا إلى سرقة الطعام. ومَن مِنهم استعفف عن السرقة كان يخرج ليلاً ملثَّماً ويلمُّ ما قد يستطيع أكله من القمامة.[/quotes]
وانتشرت ظاهرة خلع أبواب البيوت التي هجرها سكانها، من أجل أخذ ما يمكن أكله فقط. ولم يكن أحد يلوم من يعلم عنه أنه قام بذلك. لكن لم تخلُ الأوضاع من حالات سرقة بعض الأشياء من أجل بيعها. كانت السرقة ظاهرة منتشرة في الغوطة قبل الحصار بسبب غياب قوة المخافر الناشئة حديثاً، وكثرة البيوت والمحال والمعامل والمزارع التي هجرها أصحابها، وضيق الأحوال المادية، لكنّ القهر أن تصل الحال بالعفيفين إلى أن يضطروا إلى سرقة الطعام. ومَن مِنهم استعفف عن السرقة كان يخرج ليلاً ملثَّماً ويلمُّ ما قد يستطيع أكله من القمامة.
خاتمة
يجب في الختام أن نوجز عن أوضاع عامة أخرى ترافقت مع المجاعة وصعوبة المعيشة اليومية. فمن جهة، كان لوم الكتائب المسلحة على عجزهم عن فتح طريق الإمداد أو الدخول إلى دمشق كثيراً ومتفاوتاً حسب اشتداد المعارك. كما كان يتم اتهام القادة العسكريين باللصوصية ورغبتهم في استمرار الأوضاع القائمة لاستفادتهم منها عبر سلطتهم.
وقد استشهد الآلاف في معارك منطقة المرج لفتح طريق الإمداد، وعدرا التي تم دخولها لمحاولة طريق إمداد آخر، وجوبر المشرفة على ساحة العباسيين، والمليحة المشرفة على جرمانا الملاصقة لدمشق، ولم يحظَ أي هدف لهم بالتحقق. وبدأ تخوين قيادات فصائل مسلحة لقيادات أخرى، واشتداد النزاعات الأيديولوجية بين التيارات الإسلامية، ووصلت ذروتها مع الاقتتال بين داعش و’جيش الإسلام‘ ’جيش الإسلام‘ (’لواء الإسلام‘ سابقاً) تنظيم سلفي مسلّح تعتبر مدينة دوما في الغوطة الشرقية معقله الأساسي، تأسّس باسم ’سريّة الإسلام‘ في أيلول 2011 بزعامة الجهادي السابق زهران علّوش، وتتحدّث الكثير من القرائن عن علاقة قوية تربطه بالمملكة العربية السعودية. انتسب أواخر 2013 إلى ’الجبهة الإسلامية‘ (مظلّة فضفاضة تضمّ أقوى التنظيمات السلفية غير الجهادية في سوريا).، مروراً بالاعتقالات المتبادلة بين ’جيش الإسلام‘ و’الاتحاد الإسلامي‘ ’الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام‘ تنظيم إسلامي مسلّح ذو خلفية إخوانية، تأسّس إثر اندماج مجموعة من الكتائب والقوى العسكرية التي تشتغل في العاصمة السورية ومحيطها كـ’كتائب الحبيب المصطفى‘ و’ألوية الصحابة‘ و’كتائب شباب الهدى‘ و’لواء درع العاصمة‘، يرأسه أبو محمد الفاتح-القادري (ناشط ومقاتل وخرّيج شريعة وقائد ’كتائب شباب الهدى‘ سابقاً). التي كادت تؤدي إلى اقتتال عسكري.
ومن جهة أخرى، قامت كتائب متشدّدة بعمليات خطف طالت ثواراً غير إسلاميين، كالدكتور أحمد البقاعي ومعه قائد كتيبة في ’قوات المغاوير‘ آنذاك، واثنين من قادة ’المجلس العسكري‘ وسرقة مستودعاته، والناشطين العلمانيين رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم الحمادي ووائل حمادة. وما زال مصير الأربعة الأخيرين مجهولاً رغم وجود دلائل ثابتة تُدين جهات متشدّدة بحسب أقاربهم.
كما تمت سلسلة محاولات اغتيالات لناشطين مدنيين وآخرين من قادة الكتائب المسلحة، كان أهم ما نجح منها اغتيال أبو عدنان فليطاني ذي التوجه الناصري الاشتراكي.
لا يمكن ألا نضع لاشتداد المشكلات والنزاعات الداخلية والاعتداءات على الثوار عاملَ الأوضاع شديدة الكارثية التي كانت تمرّ بها الغوطة الشرقية، فقد وجدت بعض الجهات المتشدّدة بيئتها التي تستطيع فيها تبرير أعمالها: القصف اليومي والجوع وقسوة العيش والحرمان، وأهمها عدم قيام القادرين في الخارج على إنهاء مأساتهم، علاوةً على الثوار العسكريين والمدنيين الذين «لا يسعون لإرضاء الله» و«لا يرفعون شعار إعلاء راية لا إله إلا الله وإقامة الدولة الإسلامية» والذين «بسببهم يتأخر النصر».
ومع أن الحصار ما زال قائماً حتى اللحظة، إلا أن فصل الصيف ومحاصيله أدت إلى تخفيف المعاناة رغم استمرار القصف اليومي وبقية مصاعب المعيشة، إضافة إلى الاعتياد على التحمل، دون إخفاء الوجوم من اقتراب فصل الشتاء القادم وما قد يعانونه من جديد فيه.
وإن هذا التأريخ الموجز للشتاء الأول في حصار الغوطة، من ناحية الأوضاع الإنسانية بشكل رئيسي، لا يسعى إلى الإنذار بقرب تكرار الكارثة فحسب، بل أيضاً إلى ترك توثيق مكتوب للأجيال القادمة التي تجد فيه مادةً تساعدها في نقل إحدى مراحل الثورة إلى الفنون المتنوعة، لترسم لها معاناة آبائهم من أجل الحرية.