النص الأصلي
وصل هوغو تشافيز هوغو تشافيز (1954-2013) سياسي وعسكري ورئيس فنزويلا السابق. فاز بالانتخابات الرئاسية نهاية القرن الفائت وحكم حتى وفاته. تميّز عهده بتحوّلات عميقة في الاقتصاد والسياسة في فنزويلا، كما قاد تحالفاً ضمّ العديد من دول أميركا اللاتينية التي انضوى قادتها تحت الفكر البوليفاري اليساري الذي قدّمه تشافيز كنموذج لاشتراكية جديدة. إلى الحكم عام 1999، حاملاً معه نهاية النظام السياسي السائد في فنزويلا حتى ذلك الحين، وهو نظام ذو تقليد ديمقراطي متجذّر في الزمن. نفوذ فكرة «اشتراكية القرن الواحد والعشرين» التي جاء بها تشافيز في أميركا اللاتينية ما زال قوياً ومترسّخاً. في عام وصول تشافيز إلى السلطة في فنزويلا، كان برلسكوني سيلفيو برلسكوني (1936) سياسي ورجل أعمال إيطالي، رأس مجلس وزراء إيطاليا لثلاث فترات مختلفة خلال عقدَي 1990ـات و2000ـات. قد تذوٌق طعم الحكم قبلها خلال ترؤّسه مجلس الوزراء أواسط التسعينات، وبعدها بسنتين، أي عام 2001، افتتح عهداً جديداً هيمن فيه على السياسة الإيطالية لفترة طويلة. كان إعصار «تَنغِنتوبولي»تَنغِنتوبولي (أو Tangentopoli، مدينة الرشاوى) هو تحقيق قضائي قاده القاضي أنتونيو دي بيترو عام 1992 وأدى لكشف شبكة فساد واسعة طاولت الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية في إيطاليا، وشكّلت زلزالاً سياسياً وقضائياً في البلد. قد مرّ ممزقاً الأحزاب السياسية الإيطالية إلى أسمال. اليوم، ما زال «إل كافاليري»إل كافاليري (أو Il Cavaliere) هو اللقب الذي يطلقه برلسكوني على نفسه، ويعني بالإيطالية «الفارس». رقماً صعباً في السياسة الإيطالية، وهو، كما تقول كلمات أغنية شهيرة لرافائيل، لا يكاد يخبو حتى يعود بأدوات جديدة. تقدّم هاتان الحالتان نماذجَ لقيادتين أيديولوجيّين مختلفين، متقاربين في الزمن وإن تباعدا في الجغرافيا، وربما من شأن إضافة نماذج أخرى أن تكون نافعة لتكميل الصورة، لكن هذين النموذجين كافيان لمقاربة الحالة التي نتحدث عنها: انهيار النظام السياسي القائم، وظهور حركات شعبوية لتملأ الفراغ. الشعبوية هنا لا تعني توصيفاً سلبياً، بل إشارة لنمط محدّد من العلاقة مع السياسة، الشعبوية كخطاب يُنادي بـ«مصالح» أو عواطف الشعب، أو الأغلبيات، في وجه من يعتبرهم هذا الخطاب «نُخباً».
لا يمكن القول عن أيّ من البلدين –إيطاليا وفنزويلا– أنهما ديمقراطيات شابّة. كلاهما، رغم مطبّاتهما ومنعطفاتهما ومشاكلهما، عاشا على الأقل نصف قرن متواصل من الحياة الديمقراطية المستقرّة نسبياً. رغم ذلك، جاءت لحظة انكسرت فيها الحزبوقراطيا السائدة وظهر فيها «القادة الملهمون». هل كان ظهور هؤلاء القادة سبباً أم نتيجة لنهاية النظام السياسي القائم؟ ما هي الظروف التي أدّت لترسّخ الشعبويّة في هذه الحالات؟ قبل أن ندرس العوامل التي توفرها الشعبوية، ونمط علاقتها مع الديمقراطية، علينا أن ندرس العوامل التي ساهمت في ظهورها.
لماذا الشعبوية؟
يُقال، تقليدياً، إن وجود أحزاب سياسية مستقرّة نسبياً هو أحد العوامل الإيجابية المساهمة في التمكين الديمقراطي. لا يعني هذا الكلام ضرورة وجود سلوك غير متغيّر للأحزاب السياسية والناخبين، وانما تغيّر هذه السلوكيات ضمن الطيف القابل للاستقراء والتوقّع. دون هذا، تكاد تستحيل السيطرة على الحكّام عبر صناديق الاقتراع. كمثال على ذلك تجدر الإشارة إلى الانتخابات الديمقراطية الأولى في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار حلف وارسو، حيث كانت الأحزاب تنتقل من إحراز أغلبيات مطلقة في الانتخابات إلى الفشل في الحصول على أيّ تمثيل برلماني في الانتخابات التالية، وكان هناك وزراء وشخصيات قيادية في أحزاب حاكمة ينشقّون لخلافات داخلية في الحزب ويدخلون الانتخابات ضمن أحزاب وائتلافات جديدة ويُحرزون تمثيلاً برلمانياً. مَن هي المعارضة في هذه الحالة؟ ما هي الأفكار التي تتنافس في اللعبة الانتخابية إن استثنينا شخصية المرشّح؟ لا يجوز أن نرى الوجوه نفسها دوماً تظهر منضويّة في أحزاب متغيّرة وتحالفات وائتلافات واهية. يستحيل هكذا أن تعلم إن كنت تدعم أم تعارض الحكومة بصوتك في الانتخابات، هذا عدا اختفاء الحدود الأيديولوجية والفكرية بين القوى والشخصيات السياسية. هذه كلّها عوامل لا صحّية ديمقراطياً.
ليس من الممكن عادةً البحث عن أسباب تدهور أوضاع الأنظمة والأحزاب في هذه الاتجاهات دون النظر إلى دور الأزمات الاقتصادية التي يمكن أن تعانيها الدول، إذ إن أي تحليل سياسي للاوضاع سيذهب إلى القول بأن لعوامل مثل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبطالة والتنمية والعجز دوراً جوهرياً في تحديد المستقبل الانتخابي لحزب يُمسك بالسلطة. تالياً، من المنطقي توقّع أن الحزب الحاكم سيخسر الانتخابات المقبلة إن فشل في معالجة هذه المسائل. هذا ما حصل في فنزويلا خلال عقود، بين ’العمل الديمقراطي‘ حزب ’العمل الديمقراطي‘ (Acción Democrática) هو حزب اشتراكي-ديمقراطي فنزويلي تأسس عام 1941، ووصل إلى الحكم 9 مرات منذ تأسيسه حتى اليوم. و’اللجنة التنظيمية السياسية الانتخابية المستقلة‘ حزب ’اللجنة التنظيمية السياسية الانتخابية المستقلة‘ (Comité de Organización Política Electoral Independiente) حزب مسيحي- ديمقراطي فنزويلي تأسس عام 1946 وتداول الحكم مع حزب ’العمل الديمقراطي‘ منذ منتصف القرن الماضي وحتى ظهور هوغو تشافيز في التسعينات.، حيث سادت ثنائية حزبية تتبادل أدوار الحكم بهدوء. لكن أزمة اقتصادية أكثر عمقاً من الضائقات الدورية التي قد تمرّ بها الدول يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام برمّته، وليس فقط تحريك تداول السلطة انتخابياً ضمن الطيف السائد، وهذا ما جرى في دول أميركا اللاتينية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، حيث أدّت الأزمات الاقتصادية الحادّة في كثير من الحالات إلى تدخّل ’صندوق النقد الدولي‘ في اقتصادات الدول.
في كثيرٍ من الحالات، يعجز تداول الحكم الديمقراطي ضمن الطيف الحزبي السائد عن تحصين النظام السياسي في حالات الأزمة الاقتصادية العميقة، وعن حماية صورة الفاعلين الديمقراطيين العامة، حيث أن جزءاً جوهرياً من مكانة المؤسّسات لدى الناس لا ترتبط بالقيم أو المعاني التي ترمز إليها بل بمدى نفعها لحياة المواطنين ورفاهيتهم، ومن السهل أن يُدير هؤلاء ظهورهم للمؤسسات إن توقفت عن المساهمة الإيجابية في حياتهم. هذا لا يحدث فقط في حالات الأزمات الاقتصادية الخانقة، بل أن هذه الازمات كثيراً ما ترتبط بأزمات سياسية عميقة وتتضافر معها. أمثلة الفساد المستشري في إيطاليا واليابان في التسعينات تصوّر بشكل جيّد أهمية سلوك الفاعلين السياسيين أمام الأزمات، أي أن التفكير في الاقتصاد البحت لا يكفي، بل يجب أخذ سلوك الطبقة السياسية ضمن النظام السياسي بعين الاعتبار.
أمر جوهري آخر نجده في استشعار الناخبين لوجود بديل سياسي، حيث تلعب الأيديولوجيا دوراً مفتاحياً. في حالة أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، يُشير باحثون عديدون إلى أن المنطقة عاشت عملية تلاقي أيديولوجي بين الأحزاب الكبرى في الحقبة ما بين 1973 و1993. ففي بيرو ما قبل فوجيموري ألبرتو فوجيموري (1938) رئيس بيرو السابق بين عامي 1990-2000، أُدين بتهم فساد وجرائم ضد الإنسانية عام 2010.، على سبيل المثال، لم يشعر الناخب بفروقات ما بين الحزب الآبريي الحزب الآبريي (الحلف الثوري الشعبي الأميركي Alianza Popular Revolucionaria
Americana، أو حزب أبريستا Partido Aprista) حزب اشتراكي- ديمقراطي بيروفي تأسّس عام 1924 وحكم دولة البيرو في مراحل عديدة منذ تأسيسه حتى اليوم. ومرشّحه، رئيس الدولة آنذاك آلان غارثيا آلان غارثيا (1949) زعيم الحزب الآبريي ورئيس الدولة سابقاً لفترتين: 1985-1990، 2006-2011.، وحزب ’العمل الشعبي‘ حزب ’العمل الشعبي‘ أو Acción Popular هو حزب وسط بيروفي تأسس بين عامي 1955-1956 الذي انضوى ضمن ائتلاف بقيادة ماريو بارغاس جوسا ماريو بارغاس جوسا (1936) روائي بيروفي حائز على جائزة نوبل للآداب عام 2010، ترشّح للانتخابات الرئاسية في البيرو عام 1990 وهُزم أمام ألبرتو فوجيموري.. بدورها، عاشت فنزويلا عملية التقاء سياسي بين ’العمل الديمقراطي‘ و’اللجنة المستقلة‘، ما منحهما مظهر المدافعين عن مصالح واحدة. أي إن التخشّب الأيديولوجي والتنظيمي لهذه الأحزاب وقف حائلاً دون تأقلمها برنامجياً مع الأوضاع المستجدّة، وهذا ما جعل طيفاً واسعاً من ناخبي اليسار ويسار الوسط في حالة يُتم سياسي. لو حوّل الدارس نظره نحو أوروبا، بالتحديد نحو الجمهورية الإيطالية الأولى، حيث لعبت المسيحية الديمقراطية دور الهيمنة السياسية، فلن يتأخر في التقاط صور مشابهة. هذا النوع من التلاقي السياسي ليس حكراً على أنظمة الثنائيات الحزبيّة.
عند هذه النقطة، لا يمكننا تفادي الجدل حول أثر السياسات الاقتصادية في سياق الأزمة أو دور الهيئات الدورية في منع تطبيق سياسات أكثر شعبية، ما يساهِم في إشعار الناخب بأنه أمام برامج انتخابية متطابقة. لكن أياً يكن السبب، يوفّر هذا العالم شرطاً قوياً لظهور البديل السياسي الشعبوي. في حالة فنزويلا، نهلت التشافيزية من نبع اليسار، لكن الحالة الإيطالية الممثلة بـ بِرلِسكوني قدّمت النموذج المناقض تماماً من حيث اللون السياسي. علينا هنا أن نؤكد على ضرورة أخذ عامل الفساد بعين الاعتبار، ففي إيطاليا، كانت صورة الأحزاب السياسية قد انهارت بعد قضية «ماني بوليتي» ماني بوليتي (بالإيطالية Mani Polliti أي الأيادي النظيفة) هو اسم آخر تُعرف به قضية تانغنتوبولي. لدرجة أن الناخبين كانوا يخجلون من التصريح بتصويتهم لأحد الأحزاب المتورّطة في فساد عقد التسعينات. انهيار صورة ومصداقية الأحزاب، أكانت يمينية أم يساريّة، جعلت من قرار الناخبين أقل تماسكاً من وجهة نظر أيديولوجية، ما يحوّلهم لمستقبليِن جيدين للبدائل الجديدة.
ثمة عامل آخر علينا أن نأخذه بعين الاعتبار عند دراسة هذه الحالات، ألا وهو التحوّلات البنيوية في اقتصاد أميركا اللاتينية في حقبة الثمانينات. لقد أدّت هذه التحولات إلى ازدهار الاقتصاد الموازي، ما أضعف مقدرة الفاعلين السياسيين-الاجتماعيين التقليديين (أحزاباً ونقابات) على تمثيل مصالح طبقات شعبية واسعة. لم يعد هؤلاء الفاعلون قادرين على الوصول إلى طبقات عاملة مفتقرة إلى أدنى أشكال الحماية الاجتماعية، وتقبع في درجات فقر مدقعة. هذه التحولات لعبت، للمفارقة، دوراً إيجابياً من حيث أنها دمّرت الشبكات الزبائنيّة الموجودة حتى ذلك الحين، إذ حرمتها من الاحتضان الشعبي والانتخابي. لكنها، من ناحية أخرى، حلّلت طبقات اجتماعية واسعة لم تكن قادرة على تقبّل تغيير سياسي خارج طيف النظام القائم؛ نتحدث عن طبقات اجتماعية غير قادرة، لأسباب ذاتية وموضوعية، على التأقلم مع نمط التنظيم في حركات سياسية شعبية، وعاجزة عن الانضواء في الاحتجاجات العنيفة التي ظهرت كمقاومة لنماذج سياسية لم تعد قادرة على استيعاب الوضع.
هكذا، يمكننا القول إن الحركات الشعبوية تظهر عندما تتضافر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع ضعف واضح في البنية السياسية، بالإضافة لفضائح فساد عريضة. يشعر الناخب بتلاقي أيديولوجي بين الأحزاب الكبرى الموجودة وبضعف في ما تعرضه من سياسات ووعود انتخابية، يُضاف لضعف الإحساس بالتمثيل الحزبي أيضاً، وطبقات اجتماعية متحللة أو في طورها للتحلل. لا يمكننا، أيضاً، نسيان بعض عوامل «الصدفة» التي قد تُضاف إلى كلّ ما سبق لتحمل الجماهير نحو «القائد الملهم».
الشعبوية والديمقراطية
تؤسّس الشعبوية خطابها على أساسين اثنين: الأول هو التمييز بين «هم» و«نحن»… «نحن» الناس العاديون، الشعب أو ما يرادفه في الخطاب، و«هم» النخبة الفاسدة، أو الطبقة السياسية المغلقة، أي «الأوليغارشيّة». بهذا الشكل يقدّم العدو بطريقة فضفاضة بقصد حشد أكبر قدر ممكن من الدعم الشعبي، ويقدّم الهدف على أنه طرد هذا العدو من السلطة ووضعها في يد الـ«نحن»، أي الشعب. الأساس الثاني هو تقديم خطاب الدفاع عن السيادة الشعبية مهما كلّف ثمن هذا الدفاع. بمعنى آخر، نعلم أن الديمقراطية الحديثة تعمل على استيعاب التوتّر بين إرادات الأكثريات السياسية، والتي يتم التعبير عنها دورياً بالانتخاب أو الاستفتاء، وآليات الرقابة والتوازن التي تمثل ثقلاً مضاداً لهيمنة هذه الأكثريات، أي النظام القضائي المستقلّ. لا تتعايش هذه الأثقال المتضادة ودّياً في مراحل عديدة من الحياة السياسيّة، والشعبوية هنا توضّح في خطابها أنها، أمام هذه الصراعات، تنحاز لصالح الثقل الأول، الثقل الشعبي.
أمام التساؤل حول أثر الشعبوية على سلامة النظام الديمقراطي، يدافع كتّاب كثيرون عن فكرة أن الشعبوية، رغم شبه الإجماع على دورها السلبي في أوساط الخبراء السياسيين، لها بعض الآثار الإيجابية. بإمكان الشعبوية أن تساهم بإدخال صوت فئات شعبية محرومة من التمثيل ضمن النظام السياسي الديمقراطي، فهناك فئات شعبية، قد تكون واسعة في بعض الأحيان، لا تجد نفسها ممثلة ضمن الطبقة السياسية القائمة. يُشير الكثير من الباحثين الأكاديميين، على سبيل المثال، إلى دور حكم الحركات السياسية المصنّفة كشعوبية في بعض دول أميركا اللاتينية في إيجاد تمثيل سياسي لفئات شعبية كانت قد حُرمت ممن يتحدث عن مصالحها طوال عقود. عدا ذلك، لا يمكننا أن ننسى أن هذا النمط من الشعبوية قد ساهم في إدخال فئات شعبية واسعة ضمن العمل والحياة السياسيتين بعد عقود من التجاهل المتبادل، ولدينا في نموذج السكان الأصليين في بوليفيا مثال ساطع.
تساهم الشعبوية أيضاً في رفع أهمية المحاسبة وخشية العواقب على سياسيات خاطئة أو فاسدة، ما يُجبِر الأحزاب الكبرى على اتباع سلوكات أجود. أي أن الشعبوية قد تساهم في رفع السويّات الأخلاقية للعمل السياسي، كدفع أهل السلطة لاتخاذ سلوكيات أكثر تقشّفاً في ممارساتهم وحياتهم. ختاماً، تشكّل الشعبوية تهديداً جدياً للأحزاب التقليدية، ما قد يدفع هذه الأحزاب لتوجيه مواقفها وسياساتها تجاه قضايا معينة بُغية جذب الطيف الجمهوري الداعم للحركة الشعبوية.
لكن للشعبوية جوانب مظلمة خطيرة
تُركّز الشعبوية في خطابها وممارساتها على مسألة السيادة، ما أدى إلى إضعاف الأثقال المضادة المستقلة في الديمقراطيات الليبرالية. حيث حكمت الشعبوية تلقّت الأنظمة القضائية والمحاكم العليا وكل الآليات الدستورية طعنات بالغة في وجه الاستفتاء الشعبي كطريقة وحيدة لفهم وممارسة الديمقراطية بالنسبة للشعبويين. هذا أيضاً أدى لانتهاك الأكثريات السياسية لحقوق الأقليات، التي تُربط دوماً بالأنظمة القديمة، وأدى أيضاً لتمديد السلطة المطلقة للدولة ضمن شرائح اجتماعية واسعة. المعضلة الهائلة الأخرى تكمن في أن الشعبوية تمنع تشكّل تحالفات وائتلافات كلاسيكية بين القوى السياسية، والتي قامت تقليدياً ضمن عناوين اليمين واليسار، ففي الخطاب الشعبوي الذي يتحدث عمّن هم «تحت» ضد من هم «فوق» يفقد أي سجال سياسي مركّب معناه أمام تبسيط القضايا إلى السؤال حول المستفيدين منها، أي أن كل التفكير في كلّ المقترحات والمشاريع ينحصر في منطق الصراع ضد الأوليغارشية. عدا ذلك، عجزت الشعبوية عن الهروب من فكرة «القائد» ذي القدرات ما فوق البشرية، وذي التوجّهات الخلاصية التي تكاد في بعض الأحيان تتخذ ما يشبه خطاب التقديس الديني، هذا ما يؤدي لاختباء أنماط سلطة غاية في العمودية داخل مظهر العمل على جمع أكثريات شعبية.
من ناحية أخرى، ورغم أن رفع السوية الأخلاقية للعمل السياسي هو نتيجة سامِيَة كما ذكرنا أعلاه، إلا أنه قد يتحول لسلاح ذو حدّين. صحيحٌ أن التمسّك بالمبدأ الأخلاقي في العمل السياسي يدعم مبدأ المحاسبة للمخطئين، لكنه قد يعطّل إحدى أهم مبادئ العمل الديمقراطي، أي التوافق. حين يدور الخطاب السياسي حول نقاء وسموّ موقف سياسي ما فإن الوصول إلى توافق مع وجهة نظر أخرى يغدو وكأنه تنازل عن هذا النقاء والسمو، أي يستحيل. لهذا السبب، قلّما تعمل الحركات الشعبوية على بناء توافقات مع حركات سياسية أخرى، ولا سيما الأحزاب التقليدية، وتمتنع عن الدخول في ائتلافات حكومية، ولا تشارك في آليات مناقشة وبحث عن توافقات إلا لتعطيل كل أنواع المبادرات التي لا تنسجم بالكامل مع تطلعاتها.
تقدّم الشعبوية حُكماً متناقضاً للشؤون العامة، فهي تنبثق من أنظمة سياسية عاجزة، أكان كتهديد وجودي لهذه الأنظمة أو كحركة تصحيحية ضمنه، وتُدخل توجّهات ومصالح وأفكاراً جديدة إلى الدائرة السياسية باستخدام خطاب جذّاب ورابح، يعرّفنا جميعاً كـ«شعب» في وجه الأوليغارشية، أي «هم». لكن من ناحية أخرى تقع الشعبوية في أزمة تقديمها لمنطق ضرورة استبدال «الفاسد» بـ«النقي» والـ«المُستغِل» بـ«ممثل الشعب»، وهذا ما يؤدي للاعتقاد بأن ذاك الفاعل غير «النقي» لا دور له في أفعال إيجابية، كما يؤدي لترسيخ فكرة القيادة المطلقة. هذا يعني، أيضاً، عودة الخلط والالتباس بين معاني الأخلاق ومبادئ السياسة بعد أكثر من خمسة قرون من تعريف ماكيافيلو لمبدأ السلطة!
من ناحية مُعيّنة، يناقض منطق الشعبوية الفكرة المؤسساتية، أي مبدأ أن الأفراد ثانويون أمام أهمية المؤسسات والمبادئ التي تحدد سلوكيات الأفراد ضمن المؤسسات. لا وجود لآليات فحص نقاء لممثّلينا السياسيين، بل توجد مؤسسات جيدة أو سيئة، وقوانين ونُظُم صالحة أو فاسدة. ليس استبدال شخص فاسد بآخر «نقي» هو المهم الوحيد، بل يتوجّب استبدال المؤسسة والقانون الذي توفّر ضمنهما توازن يجعل الفساد خياراً رابحاً، أن يكون الاختلاس، مثلاً، هو الخيار الغبي وليس العكس. ليس بالإمكان فحص نقاء الأشخاص بشكل مسبق قبل تسليمهم السلطة، بل ينبغي الإقرار بأن أي شخص، مهما كان نقياً من حيث المبدأ، قد يضعف إن توفّرت بيده سلطات مطلقة. بنفس الشكل، لا يمكن التعويل على سياسات تبسيطية وحدها لدعم الفئات الشعبية التي عانت من الإقصاء في مراحل تاريخية سابقة، فلكل سياسات أثمان، وبالنهاية لا بد من توزيع السياسة والثروة لتشميل جميع الفئات الشعبية.
النقطة السابقة هي بالضبط ما يجعل من الشعبوية محرّكاً لسلوك سياسي متناقض. الأحزاب السياسية التقليدية في إيطاليا وفنزويلا رفضت لفترات طويلة من الزمن مطالبات الإصلاح، ولذلك انهارت في المحصلة. لكن، في سياقات أخرى، تصرّفت القوى السياسية بشكل مغاير أمام صعود الحركات الشعبوية. يكثر الحديث، في السياق الإيطالي الحالي، عن الإصلاحات التي يقوم بها رينزي ماتيو رينزي (1975) هو رئيس وزراء إيطاليا الحالي.، لكن السؤال حول إن كان سيدخل في هذه الإصلاحات لو لم يشعر بالخطر الذي يشكّله بيبي غريللو بيبي غريللو (1948) سياسي وممثل كوميدي إيطالي. بزغ نجمه في السنوات الأخيرة بفضل خطابه الشعبوي ضد الطبقة السياسية، وحقّق عبر حركة ’النجوم الخمس‘ التي أسّسها نتائج انتخابية مهمة في الانتخابات المحلية الإيطالية وفي انتخابات البرلمان الأوروبي. وحركته الشعبوية مشروع. بإمكاننا تقديم هذه الحالة كجانب إيجابي لعمل التيارات الشعبوية. لكن، أليس هدف الحركات الشعبوية هو مسح الطبقة السياسية القائمة؟ بإمكانها أن تحقق ذلك، لكن الخطوة التالية، أي بناء طبقة سياسية جديدة، قلّما حمل تحسينات على الأوضاع السابقة، ولا أدّت إلى تحسين الظروف الديمقراطية، لأن السلطة هي النقطة التي يجب أن يضع الشعبوي «نقاءه» جانباً ليبدأ بممارسة السياسة عندها.
هكذا، أود أن أختم عرضي باقتباس لماكس فيبر، وأن يكون هذا الختام إيقافاً مؤقتاً للنقاش أكثر من إنهاءٍ له، فهو نقاش يحتاج لإعادة زيارة بين الحين والآخر لم يُشِِر الكاتب إلى مصدر الاقتباس، وهو من محاضرة «السياسة بوصفها حرفة» التي ألقاها عالم الاجتماع الألماني في جامعة ميونيخ عام 1918 ونُشرت ضمن مجموعة كتابات سياسية (Gesammelte Politische Schriften, Muenchen 1921). اعتمدنا في نقل الاقتباس على الترجمة العربية العلم والسياسة بوصفهما حرفة التي صدرت أخيراً ضمن «أعمال فاكس فيبر» عن ’المنظمة العربية للترجمة‘ (بيروت، 2011)، قام بالترجمة جورج كتورة، ص367-368.:
«حين ينبري سياسيو أخلاق الاعتقاد معلنين بشكل قوي وواسع قولهم: ’إن العالم هو الأحمق والسطحي وليس أنا، وإن المسؤولية المترتبة عن العواقب لا تطالبني، بل تطال الآخرين الذين أنا في خدمتهم، وأنا من سيتولى اجتثاث حماقتهم وسطحيتهم‘، إلى هؤلاء أقول وبصراحة: إني أنا نفسي سأقوم بالسؤال أيضاً عن مقدار التوازن الداخلي الذي يكمن خلف أخلاق الاعتقاد هذه، وإنه قد تكوّن لديّ الانطباع الآتي: أجد نفسي في تسع من عشر من الحالات إزاء قِرَب مليئة بالهواء، لا تشعر فعلاً بما يلقى على عاتقها من مسؤولية، بل هي تنتشي بالمقابل بالأحاسيس الرومانسية التي لا تهمني إطلاقاً من الناحية الإنسانية، بل هذا لا يهزّني ولا بشكل من الأشكال.
وبالمقابل، فأنا أشعر بوقع عميق حين أجد رجلاً ناضجاً –ولا يهم إن كان شاباً أو عجوزاً– يشعر فعلاً من كل كيانه بمسؤوليته عن العواقب ويتصرّف تبعاً لأخلاق المسؤولية ويصل في بعض الأحيان إلى حدّ القول صراحةً: “لا أستطيع أن أتصرف بشكل مغاير، وها أنا أتوقف عند هذا الحدّ”. وهذا موقف إنساني أصيل ومؤثّر أيضاً».