لم يتخيل الرجل السبعيني، البعثي حتى النخاع، أن يعيش ليرى ما يراه على شاشات التلفاز: مظاهرات في درعا!
دخل وخرج كثيراً وهو يتطلّع إلى التلفاز، ويخرج مذهولاً، ثم يعود ويُلقي نظرة، قبل أن يخرج من جديد. كانت أنظار عائلته متسمّرة على الجهاز الذي يعرض مشاهد مظاهرات مزعومة.
دخل آخر مرة وأطفأ التلفاز. هذا كذب!.. تمتم، وخرج هائماً على وجهه.
من كان موجوداً من أبنائه الثمانية وبناته الثلاث التزم الصمت خوفاً من ردّة فعله الحادّة.
تبنّى مباشرةً رواية إعلام النظام، وانقسم رأي العائلة التي كان ثلاثة من شبابها في ذلك الوقت يؤدّون خدمة العلم الإلزامية:
فريد، الذي لم يُكمل تحصيله العلمي، كان سائق دبّابة في إحدى كتائب النظام في دير الزور.
علي، طالب السنة الثالثة بكلية الآداب في اللاذقية تمّ سحبه من جامعته ليلتحق بإحدى كتائب الدفاع الجوّي – منظومة الصواريخ، بريف اللاذقية.
وائل، الذي أنهى معهد إدارة الأعمال في جامعة حلب، كان يؤدّي خدمته في اللواء 55 الذي أصبح لاحقاً يُمطر مدينته، الرقة، بصواريخ سكود من القطيفة في ريف دمشق.
اصطفّ هاشم، خرّيج كلية التربية والموجّه التربوي في ثانوية قريته، إلى جانب الثورة، وتأثّر إخوته الأصغر بموقفه، مما خلق خلافاً حادّاً مع الوالد.
في 23/7/2012 نجحت مساعي علي في الانشقاق، ونجح أيضاً، بالتنسيق مع هاشم، في الوصول إلى تركيا، قِبلة المنشقين آنذاك – لعدم وجود منطقة محرّرة بالرقة، ولم يمرّ ليودّع والدته لكون الوالد لن يوافق على انشقاقه، وربما يُعيده قسراً إلى قطعته.
في 13/9/2012، وأثناء اقتحام دبّابات النظام لحيّ القوريّة بدير الزور، عاجل قنّاص ’الجيش الحرّ‘ فريد فور خروجه من دبابته بطلقة في الرأس. لم يوصل النظام جثمانه الى أهله، بل ولم يخبرهم بمقتله.
وصلهم الخبر عن طريق أحد زملاء فريد، لتبدأ معاناة جديدة للعائلة. كانت تتقاسم السيطرة على الطريق الواصل بين الرقة ودير الزور قوات ’الحرّ‘ و’العربي السوري‘. بعد عناء، استلموا التابوت ذا الرائحة النفّاذة من المشفى العسكري بدير الزور، ملفوفاً بعلم النظام.
قبل الوصول إلى حاجز ’الحرّ‘، تمّ نزع العلم وإخفاؤه، بل وإخفاء أن المتوفّي عسكري. قالوا إنه مدني مات بالقصف. ثم أعيد مدّ العلم على التابوت قبل الوصول إلى حاجز النظام، وهكذا إلى أن وصل الجثمان إلى قرية «الشهيد» البعيدة.
لم ينجح وائل بالحصول على إجازة ليشارك بتشييع جثمان أخيه، وأيضاً لم تنجح محاولته الأولى بالانشقاق، وتمّ سجنه لدى تنظيم ’المخابرات العسكرية‘ بالقطيفة.
في 21/9/2012 نجحت كتائب ’الحرّ‘ بتحرير منطقة تل أبيض في الشمال، والتحق هاشم بها ليتدرّب كقنّاص (لغاية في نفسه!). شارك هاشم بتحرير تل حلف، وأصفر نجار، ورأس العين، قبل أن يشارك بتحرير الرقة في معركة الأمن العسكري ضمن ’كتائب الفاروق‘.
في هذه الأثناء أُخرج وائل من السجن ليلتحق مجدّداً بكتيبته التي بدأت باطلاق صواريخ السكود على مدينته، المحرّرة حديثاً. كان يرى بأمّ عينه رؤساءه وهم يكتبون أقذع العبارات على الصواريخ قبل أن يطلقوها على «الشوايا الخائنين»، غامِزين من جهته.
كان يرسل خبر إطلاق الصواريخ عن طريق النت، ولكن لجهله بإحداثيات سقوط الصاروخ كانت معلوماته بلا فائدة تُذكر.
نجح أخيراً بالانشقاق عن قوات النظام، والتحق مع هاشم بقوات ’الحرّ‘ في شهر 4/2013.
هنا، بدأت الكتائب الإسلامية، وخصوصاً ’الدولة الاسلامية في العراق والشام‘، بابتلاع كتائب ’الحرّ‘ واحدة تِلوَ الأخرى. جرت محاصرة أحد مقرات ’الفاروق‘، وتمّ أسر 36 منهم على إثر قيام قائد ’الفاروق‘ بقتل اثنين من عناصر ’الدولة الإسلامية‘ في منطقة تل أبيض أثناء محاولة الأخيرة اغتياله.
كان من بين الأسرى هاشم الذي لا يزال مغيّباً من تاريخ 16/5/2013، تاركاً خلفه ثلاثة أطفال لم يعرفوا وجه أبيهم جيداً.
بعد حوالي ثمانية أشهر سيطرت ’الدولة الاسلامية‘ بشكل كامل على مدينة الرقة، واستتبّ لها الأمر تماماً في بداية شباط 2\2014، وتكاثر منتسبوها كالسرطان.
تفتح وعي قاسم، «طفل الثورة»، كما كل أقرانه في سوريا، على المظاهرات، وإن كانت في منطقته ضمن حدّها الأدنى، بل شبه المعدوم، فأخذ دور «قاشوش»ـها و«رجلها البخاخ».
خمسة عشر عاماً عمره، وهو يرى سطوة النظام العدوانية من خلال مداهمة عناصره لبيت أهله عدّة مرات بسبب انتماء إخوته لـ’الجيش الحرّ‘، واحتلالهم كذلك لبيت أخته المتزوّجة.
يُعجب بالسيارات والرشاشات، والقوة التي لا يردعها رادع التي لم يرها إلا عند «حرامي المدينة» (Grand Theft Auto – GTA)، لعبة الفيديو الأحبّ إلى قلبه، حيث ذاك الرجل الأميركي الذي يتمتع بقوى خارقة، محطّماً وقاتلاً كل ما يصادفه دون حسيب أو رقيب. كان الفتى قاسم يجد في ذاك المقنّع المتّشح بالسواد «حراميّه» المنشود!
تتطور قصته بصورة درامية عندما يوقفه أحد أقرانه من منتسبي ’الدولة‘ على أحد الحواجز، ويُلقيه أرضاً واضعاً حذاءه على خدّه وسكّينه على رقبته، طالباً منه تقبيل حذائه، غير نَاسٍ قصةَ الفتاة التي اختارت قاسم ورفضته هو.
يتدخل آخرون، وتنتهي المشكلة. تحدث ردّة فعل عند قاسم، ويلتحق بـ«معسكر أشبال الزرقاوي» بمدرسة الزراعة، شرقي تل أبيض.
لم تفلح كل مساعي والدته بإخراجه من المعسكر ومحاولاتها مع ذاك المسخ السعودي، أمير المعسكر، وتذكيره بأن قاسم طفل! توسّلت إليه بكل الآيات التي تعرفها وبالأنبياء والصالحين الذين اكتشفت هنا أنهم على خصومة مع ’الدولة الإسلامية‘، لكن المسخ ضرب بتوسّلاتها عرض الحائط، محمّلاً إياها الحنق على من اعتقدت منذ ولادتها أنهم رُسُل الله وأولياؤه الصالحين.
تعود الوالدة التي فقدت اثنين من أبنائها، وهي تدعو لثالثهم، قاسم، أن يحفظه إله غيرُ إله هؤلاء.
بعد 45 يوماً يعود قاسم مُنهياً دورته الشرعية، قبل التحاقه بالدوره العسكرية، لتتفاجأ أمه وأخواته وزوجات إخوته بإنكاره للباسهنّ، ولطريقة كلامهنّ، وإنكاره على إخوته التدخين.
لم يرض عن ذاك سوى الأب البعثي، الذي تفاخر بابنه الداعي إلى «الإسلام الحق». رأى فيه قوة فقدها هو منذ بداية الثورة.
ذُهل الجميع وتساءلوا عن صاحب النفس المَرِحة والمقالب الطريفة، لصّ الدجاج الذي كان يسطو على أقنان (جمع قنّ) القرية. تُرى، أيّ أفكار أدخلوها إلى عقلك الصغير؟.. تتساءل الأم التي كلما زاد سُبابها للبغدادي، ازداد قاسم تطرّفاً وتشدّداً.
التحق بالمعسكر التدريبي في اللواء 93 بعين عيسى ليتدرب على فنون القتل والقتال مع 80 آخرين، يطلب منهم أمير المعسكر، التونسي، أن يتقدم عشرة منهم لذبح عشرة أشخاص جيء بهم مغطّأي الرؤوس، وقيل لهم إنهم من جيش النظام!
لم يتقدم أحد، فقام الأمير باختيار عشرة، وكان قاسم من بينهم، وقف كل واحد بجانب شخص ممدّد ومغطى الرأس، وبجانبهم أيضاً مقاتل آخر من ’الدولة‘، وبدأ التونسي بالذبح شارحا آلية الفعل.
اختلط قيء قاسم مع دموعه ومخاطه وهو يحس بالدم الحارّ يشخب على يده التي يمسك بها مدربه، وسط تكبيرات لم يسمعها سوى بشريط الفيديو الذي صوّروه لهم وهم يذبحون ضحاياهم.
سمع صوت مدرّبه يقول: ارفعوا الرؤوس المقطوعة عالياً، وكبّروا! تساقطت قطرات الدم على وجهه لتعيد إليه الإحساس بما حوله.
أنهى قاسم دورته القتالية مع آخرين، وتمّ زجّهم جميعاً في جبهة عين العرب.