يتلذذ الإعلام الأميركي عبر الأيام الماضية بالمقارنة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، وذلك في سياق توجيه النقد للأول بسبب «خذلان» الأكراد في مدينة كوباني. هكذا، استحضرت كل من مجلة ناشونال ريفيو وجريدة واشنطن بوست أحداث ما عرف في العام 1944 بـ«انتفاضة وارسو» في بولندا. حينها أطلق جيش المقاومة البولندية عملية عسكرية كبرى من أجل تحرير العاصمة وارسو من قبضة القوّات النازية. وفي حين كان ’الجيش الأحمر‘ السوفييتي على مشارف مدينة وارسو، أمر ستالين جيشه بعدم التقدم لمساندة المقاومة البولندية، لتقوم القوات النازية بعد ذلك بتدمير المدينة وسحق الانتفاضة التي واصلت القتال لأكثر من 60 يوماً من دون أي دعم خارجي.
وفي محاولة لتأكيد القسوة والخذلان الاستثنائيين للرئيس التركي، تقول المجلة الأميركية إن «أحداً لا يمكن أن يجاري ستالين في قسوته»، باستثناء رجب طيب أردوغان بكل تأكيد الذي «يأمر الدبابات التركية المتجمعة عند الحدود السورية، وعلى مرأى من مدينة كوباني المحاصرة، بالوقوف بصمت دون القيام بأي عمل».
وإذ لا يختلف المرء في أن مدينة كوباني قد تعرضت لخذلان مريع، فكم هو مثير للاشمئزاز حقاً أن تدعي الولايات المتحدة الأميركية أن لديها حساسية عالية تجاه خذلان المظلومين في بلادنا. أولم يشكل الخذلان للسوريين على مدى سنوات الثورة السورية الطويلة والعصيبة أبرز معالم السياسة الأميركية في منطقتنا؟
الولايات المتحدة، ومعها كل الدول التي تصطفّ خلفها اليوم بصورة كاريكاتورية، خذلت السوريين خلال أربعة أعوام متواصلة. لقد مرت لحظات كان فيها الخذلان يعتصر ويأكل قلوبهم. نستذكر منها اجتياح ’الجيش العربي السوري‘ لمدينة حماه التي حضنت إحدى كبرى التظاهرات الحرّة في تاريخ سوريا وتاريخ المنطقة. مروراً بحالات الحصار الوحشي للمدن السورية وقصفها بكل أنواع الأسلحة واجتياحها والتنكيل بسكانها، وأخيراً وليس آخراً استخدام السلاح الكيماوي عندما أوشكت أميركا على التدخل في سوريا، لولا أن مصالحها في انتزاع السلاح الكيماوي أنحت جانباً كل المبادئ الأخلاقية واستحضرت تاريخ الخذلان المديد.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية التي تقود الحرب على داعش، فإن للخذلان معنىً واحداً وسياقاً وحيداً، إنه الخذلان التركي لها في الموافقة العمياء على خطتها المثيرة للجدل والخاصة بالقضاء على داعش. ويبلغ ادّعاء المثالية الأخلاقية الأميركية ذروته عندما تُبدي أميركا ووسائل إعلامها الدهشة والتعجّب من وقوف تركيا صامتةً حيال ما يجري. ربما يليق بهم أن يطرحوا بعض الأسئلة المتناقضة، والساذجة إلى حدّ ما، من قبيل: كيف لا تنخرط تركيا في حربنا ونحن الذين تركناها تتخبط لوحدها طيلة سنوات الثورة السورية؟ كيف لا تمدّ يد العون لنا وقد صمّمنا آذاننا وتعاملنا بصَلَف وعنجهية مع كل مخاوفها ومطالبها سابقاً وحتى اليوم؟ وأخيراً، كيف لا تقدّم تركيا الدعم العسكري للمقاتلين في كوباني وهم يتبعون لحزب العمال الكردستاني، أشدّ أعدائها على الإطلاق؟… هل يحتاج الإعلام الأميركي حقاً إلى نباهة استثنائية لطرح مثل تلك التساؤلات؟
ربما تتم المشاركة العسكرية التركية في حال حصول تقارب فعلي في المصالح والرؤى مع الولايات المتحدة الأميركية. ولا توجد مؤشرات هامة تدل على حدوث مثل ذلك التقارب حتى الآن. فعلى مدى العقد الماضي، افترقت المصالح والرؤى السياسية التركية لقضايا الشرق الأوسط عن مصالح ورؤى الولايات المتحدة، ما جعل تركيا تُحجم عن المساهمة في المشاريع الأميركية خلال القرن الفائت (غزو العراق 2003).
[quotes]تقف نسبة غير قليلة من السوريين ضد الضربات الأميركية لتنظيم ’الدولة الإسلامية‘، مستذكرةً إعدام الأخير لمئات الشبان من قبيلة الشعيطات في مدينة دير الزور، ومقتل آلاف من مقاتلي «الجيش الحر» في مواجهة داعش، دون أن تحرك أمريكا وحلفاءها ساكناً.[/quotes]
لقد رهنت تركيا تحرّكها دوماً بحدوث حراك دولي في سوريا، فأعلنت مراراً عن استعدادها لإقامة منطقة عازلة، لكن فقط إذا ما ساندها ’حلف شمال الأطلسي‘ (الناتو) وهو ما لم يحدث. أما نشاطها المستجدّ اليوم لإقامة تلك المنطقة، فظهر أنه لا يستند إلى خطة التحالف الدولي. ربما استند إلى قراءتها للتطورات القادمة، حيث وجدت الفرصة مُواتية للتحرك، فالتحالف الدولي انزلق إلى عمل عسكري ما في سوريا، وحتى لو اقتصر ذلك على الضربات الجوية، لكنه عمل عسكري قد يستدعي تورّطاً أكبر على ما يحصل في تجارب عسكرية عديدة. هكذا، سارعت تركيا إلى إرسال إشارات للجانب الأميركي بأنها باتت مُتاحة بجيشها وجنودها، وستكون في خدمة التحالف الدولي إن مدّ يده هذه المرة وإلّم يخيّب رجاءها. لكن أميركا على عادتها خذلت تركيا، وما كان من الأخيرة إلا أن ردّت لها التحية بمثلها.
اليوم، تقف نسبة غير قليلة من السوريين ضد الضربات الأميركية لتنظيم الدولة الإسلامية، مستذكرة إعدام الأخير لمئات الشبان من قبيلة الشعيطات في مدينة دير الزور، ومقتل آلاف من مقاتلي ’الجيش الحر‘ في مواجهة داعش، دون أن تحرك أميركا وحلفاؤها ساكناً. انتظرت أميركا حتى أعدمت داعش أول صحفي أميركي لكي تتحرك… وأي خذلان وصفاقة في هذا الفعل؟ يردد السوريون.
تعامل الولايات المتحدة والعالم مع داعش يشبه إلى حد ما تعاملهم مع مرض إيبولا. ففي شهر شباط من العام الحالي، أي قبل نحو 8 أشهر، أعلنت ليبيريا عن ظهور إصابات بمرض إيبولا في إحدى القرى الريفية. طلبت ليبيريا مساعدة ’منظمة الصحة العالمية‘ والدول الكبرى بصورة عاجلة، لكنها لم تجد سوى التجاهل والخذلان، فلم يكن المرض ليهدّد أيّاً من تلك الدول بعد.
يخبرني أحد الأصدقاء من ليبيريا بأن المستشفيات في بلده كانت عاجزة تماماً عن التعامل مع الإصابات، فكانت ترفض إدخال المريض إلى المشفى. يعود المريض إلى عائلته، التي تتجاهل التحذيرات الطبية بالابتعاد عنه وتركه يموت وحيداً. في حقيقة الأمر، يرفض هؤلاء القرويون خذلان المريض وهو أحد أفراد العائلة، فلا يفارقونه حتى تنتقل العدوى إليهم جميعاً!
في نيسان 2014 أبلغت ليبيريا ’منظمة الصحة‘ وبعض الدول الأخرى بأن المرض يتفشّى بسرعة جنونية، وقد وصل إلى العاصمة الليبيرية حيث الكثافة السكانية العالية، وحيث لا يمكن مقاومة انتشاره، وطلبت إعلان حالة الطوارئ في المنظمة. لكن الأخيرة كانت وفيّة لمبدأ الخذلان الذي يقوم عليه كل ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» فواصلت تجاهل المأساة لينتقل المرض إلى سيراليون وغينيا ونيجيريا وليفتك بأكثر من 3000 شخص ويخلّف عشرات آلاف الإصابات. في شهر آب الماضي، أصيب أول طبيب أميركي أثناء علاج مُصابي إيبولا في إفريقيا، وبعد ذلك بأربعة أيام فقط أعلنت ’منظمة الصحة العالمية‘ «حالة طوارئ عالمية» في مواجهة إيبولا!
ليس السوريون والأكراد وحدهم من كابدوا الخذلان، بل ومعهم الأشقاء في القارة الأفريقية، وكل شعوب هذا العالم البائس.