لربما علينا التفكير اليوم أبعد من الصورة، بل بما هو خلفها في سياق المخاطر المُحدِقة بها، وبأساس دَيمومتها وحفظها و«أرشفتها»، على أساس كونها «صورتنا» نحن الحقيقية في هذا العصر، عصر الثورات والربيع وما بعده الشتاء والخريف العربي. يحاول الكل تغيير الصورة لتصبح «الصورة التي يريد» عنا وعنه، في هذا الزمن المتغيّر بالشكل الآني ومترافقات هذا التغيير من أدوات. أبعد من ذلك ستستمرّ محاولات تغيير صورة الحقيقة و«حذفها» على طول مدّة أبعد وأطول بامتداد زمن الصراعات والأزمات والحروب. يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون؛ صحيح لأن الكتابة بحدّ ذاتها أداة بيد من يكتب ويسجّل ويؤرّخ، وتبقى هذه الأداة حِكراً على اليد التي تدعمها أو ترضى عنها، فلا يهاجمها أو يعتدي عليها صاحب السلطة في كل زمان ومكان. الصورة كالكتابة كذلك، أداة للتوثيق والتأريخ وحفظ الزمن والتاريخ من الضياع أو التغيير والتحويل المُمَنهَجَين، بيد القريب من السلطة أو صاحب القدرة، أو عن طريق العبث غير القصدي، المتعلّل بعدم كفاية الأدلة والمعلومات أو بضياعها لأي سبب من الأسباب.
وفي هذه الأيام، صاحب القدرة الممنهجة أو العبثية على تعديل التاريخ، تاريخِنا، وعلى تغييره وتحويره بل وحتى «حذف» أجزاء منه، ليس نحن، وليس حتى من نحالف أو نعادي؛ إنه خارج الرقعة الجغرافية للصراع، بعيد عن مكان تسجيل الصورة وأخذها، أو مكان توثيق الحدث وكتابة تفاصيله… صاحب القدرة هو ذلك البعبع الرقمي المتّصل بتعقيدات الاحتياج الكامل للكون على الفضاء الافتراضي المُرَقمَن، والتابع بشكل كامل، من دون أي احتياطات تُذكر، لماهية هذا الكون الرقمي المنسوخ عنّا وعن كينونتنا نحن «الحقيقية»، بعيداً عن «الشبكة» وعن قدرة المتحكِّم بها وبتداخلاها وأدواتها وآليات العمل فيها، بل وحتى بمِنَصّات العمل فيها.
[quotes]وكم من صفحة لجهة إعلامية في دول الربيع العربي أُنشئت على فيسبوك أو حساب خاص على تويتر لمواطن-صحفي في هذا البلد أو ذاك أُغلِق نتيجة هجمات منظّمة من قبل أطراف تعتبر ما يقوله «الجماعة» أو ما يقوله «الأخ» خطراً على مصالحهم ويتعارض مع سياساتهم ومع ما يرونه الحقيقة؟ ما هي الحقيقة إذاً![/quotes]
وبمعنى أدقّ، نحن بشخصياتنا الشبكية ونتاجاتنا الحاضرة عبرها اليوم، هذا هو التاريخ الذي سيُكتَب غداً، فما كان بالأمس يحصل من أحداث، ويسجّلها مؤرّخ ما بخطّ يده على أوراق وصحف، بات في الشكل المعاصر الحديث الأحداثَ التي نقول إنها حدثت من خلال «منشوراتنا» على موقع فيسبوك، والفيديوهات التي نرفعها على يوتيوب، و«تغريداتنا» على تويتر، وصورنا المبعثرة هنا وهناك على فليكر وإنستَغراموأيضاً فيسبوك. علينا أن نؤمن بأننا أصبحنا جزءاً من التاريخ القادم عنّا اليوم، نحن مَن نكتبه، لا فقط من خلال ما يحصل حقيقةً على الارض في الداخل السوري بل من خلال ما نقول إنه حدث، ما نصوّره عن الحدث، وما نسجله على دفاتر ليست مِلكنا، بل مِلك ذاك البعبع!
كم من حساب أُنشئ على مِنصّة يوتيوب لنشر مقاطع فيديوهية مصوّرة في سوريا عمّا يحصل فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان أو من معارك واشتباكات ثم حُذف لأن المقطع مخالف لقوانين هذا الموقع؟؟ ألا يجب أن يكون هناك بعض الاستثناءات؟ كيف سنعرف مَن فعل ماذا وأين حصل هذا؟ وكم من صفحة لجهة إعلامية في دول الربيع العربي أنشئت على فيسبوك أو حساب خاص على تويتر لمواطن-صحفي في هذا البلد أو ذاك أُغلِق نتيجة هجمات منظّمة من قبل أطراف تعتبر ما يقوله «الجماعة» أو ما يقوله «الأخ» خطراً على مصالحهم ويتعارض مع سياساتهم ومع ما يرونه الحقيقة؟ ما هي الحقيقة إذاً! إذا لم تكن مجموع ما يراه الكلّ ويتداولونه بشأن أيّ شان؟.. الفعل الثاني مبرَّر، مبرّر أن يقوم بعض من يخالفون صاحب الرأي بمحاولة إسكاته أو تغييب صوته بأية طريقة، لكن الفعل الأول، أي قيام القائمين على هذا الموقع أو ذاك بالانصياع لمحاولات المخالِفين إسكاتَ من يخالفه، فهذا ما لا يمكن تقبّله، خاصةً إن كان سبب التواجد على الشبكة الافتراضية هو أساساً الهروب من مِقصَلة الرقيب وقيود هامش حرّيته الأشبه بالسجن… إذا مرحباً بكم مرة اخرى إلى سجن آخر، سجن حرية الإنترنت!
ولأجل ما سبق، قد نحتاج للرجوع خطوة إلى الوراء، من أجل فَهمٍ أعمق للتطوّر الذي أدّى بنا إلى هذه اللحظة، أن نعتقد بحريتنا في هذا السجن الكبير ذي الفضاء الحرّ. فنحن ولسوء الحظ لسنا فقط موجودين على الشبكة كنُسَخ كربونية افتراضية «عنا»، نسخ مرقمنة في فضاء «الشبكة العنكبوتية»، ولكن في كثير من الأوقات والأماكن «نحن» موجودون على الشبكة أكثر من تواجدنا على أرض الواقع. والحقيقة، «نحن الافتراضيون» أكثر نشاطاً وإنتاجاً وعملاً من «نحن الحقيقيين». كثير من الذي يحدث على الأرض يُرَقْمَن ويُنسَخ ليصبح مُتاحاً لـ«الجميع» على الإنترنت، لكن القليل فقط من الإنتاج الرقمي الكثير يُنقَل ليصبح نُسَخاً ملموسة تُتداول على الأرض وبين الناس، وهذا متّصل، أساساً وقبل كل شيء، بالوصول إلينا وإلى أعمالنا وأفكارنا التي كانت تحت مِقصّ الرقيب بشتّى أنواعه، الأمني والفكري والثقافي؛ ويتعدّاه للوصول (access) وسهولة اجتياز الحدود والقارّات إلى أماكن وأشخاص كان من المستحيل الوصول إليهم مع البعد الجغرافي وعدم الاتصال المباشر المَبنيّ على اللقاء والالتقاء؛ ويتصل بذلك أيضاً موضوع التكاليف المادية الباهظة لأي فعل ملموس في هذا الإطار… الرقمنة والافتراضية أوسع انتشاراً واتصالاً وأكثر سِعَةً من حيث الحدود المسموح بها للعمل وتناقلِه من حيث انعدام وجود الرقيب، ولا ننسى أيضاً أنها أرخص كِلفةً. هذه حقيقة يعرفها جداً الداخلون الأوائل إلى الفضاء المتعدّي للواقع، وأولئك الذين وفّروا لنا مِنَصّات العمل وتناقله ورقمنته ورقمنة أنفسنا، فقد قدّموا لنا ما نحتاجه ليأخذوا ما يحتاجونه وما يريدونه، من «أموال» في البداية ثم من «وصول» إلينا، وفي النهاية «تحكم» بنا.
فنحن إلى حدّ ما «نملك» أنفسنا في الواقع الفعلي، لكن في الواقع الافتراضي لا نملك سوى ما ملّكونا إياه، على أساس أنه راجع إلى المالك الاصلي في حال تعدّينا معاييره «التجارية» أو تحدّينا قوانينه «الأخلاقية» أو تصدّينا لمصالحه «السياسية». وهنا المشكلة؛ فالناظم لجميع هذه القضايا خارج إرادتنا الفردية والجمعية بالمطلق، وإلى خروجه عن إرادتنا يضاف خروجه عن دائرة احتياجاتنا ومفاهيمنا اللحظية والمستقبلية، وهي التي تُقَولَب حسب احتياجات مالك هويّتنا الافتراضية ومِنصّات نشر أعمالنا، هو واستراتيجياته الشبكية، والمتعدّية لأرض الواقع… وهنا الخطورة الكامنة، وعنها كانت المقدمة الطويلة السابقة.
فنحن إن كنا نتحدث عن هوية مرقمنة لشخصية ما من الناس، لا يتعدّى نتاجها الافتراضي والنَّسخ الحاصل لهويتها الحقيقية على الشبكة حدود مشاركة الأحداث اليومية لحياتها والتفصيلات المتعلّقة بهذه الحياة، فلا خطر يلوح في الأفق… أما إذا كان الحديث يتعلق بما يحصل اليوم أو حصل في الأمس القريب، وبما سيحدث من أحداث سياسية وما سيتبعها من صراعات وحروب وأزَمات، فهنا سيبدأ الاصطدام مع السياسات الخاصة بمالِكي الشبكة ومِنصّاتها، وقد حصل هذا الاصطدام بالفعل ولمرات أكثر من أن تحصى. وحتى لا يبقى الحديث في فلك العموميات والمفاهيم، فنحن هنا نتكلم عن مِنصّات حفظ ونشر وأرشفة كل ما يتعلق بالسياسي وما هو قريب من السياسي، ما يمت لتاريخ الشعوب أو لحاضرها ومستقبلها بصلة، وبما له علاقة بالانتهاكات الموجَّهة ضدّها أو الانتهاكات المنسوبة إليها. وكمثال عن هذا كله فحديثنا مرتبط بالانتفاضة الشعبية في سوريا، حيث تتعدّد الأطراف وتكثر الجهات الداخلة في الحراك، وفي الوقت نفسه تتكاثر مخرجاتها على أرض الواقع وتلك النسخ عنها في فضاء الإنترنت بالمجمل. ومن دون تعميم يمكن اعتبار أغلب هذه النسخ في إطار الدعاية (بروباغندا propaganda)، أو في سياقات أخرى هي توثيق وتأريخ ما يحصل، ومع كثرة الأطراف تُعتبر الدعاية الموجهة عدواً وسلاحاً بالنسبة للطرف الآخر، لا فقط دعاية سياسية معادية! وأياً تكن منتجاتها فهي ستَعِد بعلاقة متعدّية كجزء من المشكلة أو كسلاح في مكان ما… هذا بالنسبة للأطراف المتخاصِمة بالضرورة مع صاحب المادة المرقمنة، والذي سيكون نتاجه الافتراضي هدفاً لـ«التبليغات» (reports) أو لمحاولات «الاختراق»، وفي النهاية سيكون الهدف الأساس التحوير أو الحذف.
[quotes]نحن إلى حدّ ما «نملك» أنفسنا في الواقع الفعلي، لكن في الواقع الافتراضي لا نملك سوى ما ملّكونا إياه، على أساس أنه راجع إلى المالك الاصلي في حال تعدّينا معاييره «التجارية» أو تحدّينا قوانينه «الأخلاقية» أو تصدّينا لمصالحه «السياسية». وهنا المشكلة…[/quotes]
بالنسبة لصاحب المِنصّة، ستكون كل الموادّ المرفوعة على منصّته داخلة في إطار ما تسمح به قوانينه هو، وفي الوقت نفسه قوانين البلد الناظم لشركته ومؤسّسته: هل قد تعتبر هذه المادة «محرِّضة على العنف»؟ أو هل تتخلّلها «مشاهد عنيفة»؟ قد تحضّ على «الكراهية»! من هي الجهة المُنشِئة لهذا المحتوى، وهل هي على خلاف مع سياساتنا بالمجمل، أو سياسات الدولة التي تحتضن نشاطاته التجارية وغير التجارية، كالمنظمات التي تعتبر «إرهابية»؟ الخ. كل هذا يبقى في حدود المفهوم، أن تحذف مادة بناءً على أسباب كالتي ذكرت، لكن لماذا موادّ أخرى لا تُحذف؟ ولمَ صفحات وحسابات كثيرة تبقى مرضيّاً عنها، وتبقى لا تمسّها يد الموظف الرقيب العامل في هذه «الشركات»؟ مع أن المادّتين قد تدخلان تحت البند القانوني نفسه! تتدخل هنا لعبة السياسة والمصالح الخاصة ونفوذ الدول المتحكمة بالشركات الكبرى العالمية العابرة للقارّات، وارتهان هذه الشركات لسياسات الدول الخارجية –قبل الداخلية– وعلاقاتها الدولية التي قد تستثني مصالح الشعب نفسه، وكون كل ما ذُكر سابقاً هي نتاجات ما لمرحلة من تاريخ أمة وشعب، حتى تلك المُخرَجات (outputs) القادمة من أكثر الجهات الإرهابية تطرّفاً، سترتبط بعلاقة وثيقة بمستقبل الشعب الذي سيحاول الجميع التأثير عليه، ولربما التعتيم على بعض أجزاء الماضي بما يتناسب مع مصالح مستقبلية لكل طرف ولكل جهة.
من هنا تبدأ مشكلتنا: أننا لا نملك ما هو لنا، بينما يملكه غيرنا، وأن ذاكرتنا المستقبلية المتمثلة بآلاف آلاف آلاف الفيديوهات والصور، ومثلها الكتابات والصفحات المقروءة والكتابات المتعلقة بحدث ما من تعليق أو استفاضة أو شرح، هي بالأساس نسخة واحدة في مكان واحد لا نعرفه! الانتفاضة الشعبية السورية، ومن قبلها ما حدث في بلدان الربيع العربي، يؤكد حفظ أرشيفها التاريخي بشكل رقمي على مِنصّات فيسبوك ويوتيوب وتويتر، وسيكون في لحظة ما تحت رحمة من يتحكّم فيها بنهاية المطاف، رقيب لديه من قوانينه الخاصة وقوانين شركته الأم ما لا يتناسب مع كون المادة المنشورة لديه هي ذاكرة شعب وأمة قد يرى أنها تخالف أنظمته الموضوعة بشكل عام، فيحذف أو يُلغي ويغيّر ما لا يعي أهميته! فهو الجالس خلف شاشة حاسوبه في مكتب ما بمكان ما ضمن شركة ما همُّها الأساس الرِّبح المادي الناتج عن تواجدنا على مِنصّاتها للتواصل الاجتماعي وعن نشر الصور والفيديوهات. ما يستدعي الأهمية هنا هو هو الربحية المادية والراتب المكافئ لساعات عمله في الدوام الرسمي الروتيني، بالإضافة إلى سياسات شركته!
وهنا تواجهنا مشكلات لا مشكلة واحدة، ولا حلول في الأفق القريب، وإن كان طريق حلّ مشكلة ما سردها وتفصيلها وملاحظة ما يتفرّع عنها من مشكلات، فهذا ما نريده الآن؛ نريد أن نجمع كل هذه المشكلات في صعيد واحد ونعمل سوياً على محاولة حلّها من الجذور وحتى آخر طرف من آخر غصن. أساس المشكلة أخلاقي، لكوننا أساساً رهن مسار حياتنا اللحظي، وأبعد، بينما تاريخنا بأيادٍ غريبة، لا تمتّ لنا ولا لما يحدث معنا بِصِلَة، مع وجود مصادر مالية ضخمة ضخّتها كل الأطراف المتصارعة وداعموها، وتلك التي لا علاقة لها مباشرة بأساس الصراع، لكن دعمها كان موجهاً لـ«الحيادية» من كل طرف. هذا الدعم، الخاص بنقل الحدث وتداعياته والحديث عن إرهاصاته، كان موجّهاً لدعم الكلمة والصورة والصوت كمُخرَجات تتطور وتتجه في سياق التطور التاريخي للأزمة، مخرجات، لا ما خلفها من شراء مُعدّات وصرف رواتب وكِلَف أخرى معنية بما هو للاستهلاك الآني من قِبَل المجموع العام للشعب السوري، أو لمن خارجَ الحدود من غير السوريين، كصحفيين ومراقبين ومُحللِّين ومؤسسات إعلامية وغيرها.
وحتى لا يبقى كل الحديث متعلقاً بالآخر وقوانينه وسيطرته وبخطورة هذه السيطرة علينا، نحن وانتفاضاتنا ونتاجها الـ«مرقمن»، فالحال الموجود عندنا هو نفسه في أغلب أرجاء العالم مع اختلافات بسيطة هنا وهناك، وهذا لكون المِنصّات الآنفة الذكر ليست محلية أو أقرب للإقليمية؛ إنها عالمية! وعالميتها تجعل منافستها أشبه بالحلم، واستخدامها المستمرّ والمتواصل من «الجميع» جعل منها سبيلاً لا مفرّ منه لكل من يريد أن يكون متواجداً على الشبكة في بيئة يتواجد فيها «الجميع». الإلغاء مستحيل، والتوجّه الكلّي نحو بديل آخر خيار غير معقول، لكن المحاولة تستحق الجهد الذي سيُبذَل عليها، والخيارات والبدائل دائماً موجودة، إنما علينا نحن البحث عنها، وعلينا الانطلاق من الفكرة القائلة بأن ضغطة زرّ واحد هذه الأيام كفيلة بتهشيم وسحق ذاكرة أمة، أو أجزاء منها، لكنها تبقى أجزاء ذاكرة أمة.