لم أنشأ في بيت سوري يساري، ولا أذكر أني سمعت باسم ياسين الحافظ (1930-1978) أثناء تفتّح وعيي المبكّر. في المدرسة، خلال عِقد التسعينات، وباستثناء منظّري القومية العربية أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي، كنا نتعلم عن أدباء العرب لا عن مفكّريهم. أما في المنزل، فكانت أحاديث الكبار السياسية والفكرية لا تتطرّق إلى اليساريين إلا لتُحمّلهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد، وهم في ذلك السياق مجموع البعثيّين والناصريّين والشيوعيّين بمختلف فروعهم وأشكالهم. كان ذلك نقداً ليبرالياً محافظاً، قائماً على حنين شائع في بعض الأوساط المدينية السورية لمرحلة ما قبل البعث ولزعمائها من «صانعي الجلاء»، ورَفَدَته في ذلك الحين مذكّرات تاريخية قديمة وجديدة لخالد العظم ونصوح بابيل وأسعد الكوراني وعبد السلام العجيلي، وأعمال تلفزيونية شيّقة من قبيل «خان الحرير» و«حمام القيشاني»
نصوح بابيل، صحافة وسياسة، دار رياض الريس، لندن 1987؛
أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر، رياض الريس، بيروت 1999؛
عبد السلام العجيلي، حفنة من الذكريات، دار طلاس، دمشق 1987 وذكريات أيام السياسة، رياض الريس، بيروت 2000.
أما مسلسل خان الحرير فعُرض بجزئيه في أعوام 1996 و1998 ونالا شهرة واسعة في الأوساط الحلبية وقتها، وعلى الرغم من أن كاتب المسلسل نهاد سيريس ومخرجه هيثم حقّي ركزا بالدرجة الأولى على الحركة التقدمية والأحزاب الجماهيرية الصاعدة حينها، فإن المسلسل عزّز في الأوساط المحيطة بي حالة الحنين إلى الخمسينات وزعماء الاستقلال، والشيء نفسه ينطبق على الأجزاء الثلاثة الأولى لمسلسل حمّام القيشاني التي عُرضت في أعوام 1994، 1997، 1998 تباعاً والتي كانت من تأليف دياب عيد وإخراج هاني الروماني.
لم أسمع بياسين الحافظ إلا بعد ذلك بسنوات، عندما وَجَدَ كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة (1987) طريقه إلى بيتنا، ربما في السنة الثالثة أو الرابعة لتولّي بشار الأسد مقاليد السلطة في سوريا، ووقتها لم أستطع أن أكمل إلا بضع صفحات. كانت نسائم «ربيع دمشق» قد فتحت أبواب منزلنا الحلبي أمام العديد من المناضلين والمثقفين المعارضين للنظام من ذوي الجذور الماركسية، وكنت بدأت أتبيّن مدى الفقر الفكري والتاريخي لسردية الحنين إلى زعماء الاستقلال الليبرالية… لكن على الرغم من ذلك بدا لي كلام الحافظ عن «الحركة التقدمية» و«القوى الرجعية والإمبريالية» و«الثورة العربية» أشبه بدروس القومية الاشتراكية البائسة. كان كلاماً ثقيلاً على الرغم من مضمونه النقدي.
لكن بدا بعد ذلك وكأن اسم ياسين الحافظ في كل مكان! دراستي الجامعية دفعت بي في اتجاه الاهتمام بتاريخ الفكر العربي الحديث، وبِتّ أكتشف باستمرار المزيد من الكتّاب والمثقفين السوريين واللبنانيين المتأثرين بالحافظ من أبناء جيله والأجيال اللاحقة. كان الرجل في الثامنة والعشرين عندما نشر مقالته الأولى في عام 1958، وتوفي عام 1978 وهو ما يزال في الثامنة والأربعين، بعد معاناة مع مرض السرطان. لكنه خلال هذين العقدين من الزمن، وبالشراكة مع صديقه ومحاوِره الفكري الأقدم إلياس مرقص (1927-1991)، ترك أثراً هاماً على كل من جورج طرابيشي وميشيل كيلو ووضّاح شرارة وجاد الكريم الجباعي وجوزيف سماحة وحازم صاغية، على سبيل المثال لا الحصر. كذلك سيدرّس صادق جلال العظم سيرة الحافظ الذاتية في الجامعات الأميركية، وسيتحدث برهان غليون عن أهمية وأسبقية طروحات الحافظ ومرقص النقدية. أما من الجيل الأصغر عمراً فسيورد كلّ من ياسين الحاج صالح وحسام عيتاني اسم ياسين الحافظ كصاحب أثر تأسيسي على وعيهم السياسي والفكري
من المستحيل إذاً التأريخ للفكر المشرقي العلماني المعاصر، بجذوره القومية والشيوعية العائدة إلى ثلاثينات القرن الماضي وتلاوينه الحالية، ماركسية وليبرالية وما-بعد-قومية، دون التوقّف مطولاً عند ياسين الحافظ. تلك كانت النتيجة التي وصلت إليها، ربما متأخراً، والتي دفعتني مجدّداً إلى كتابات ذلك الرجل المشهور والمجهول في آن معاً، وبالتحديد إلى سيرته الذاتية (1978) التي كتبها قبل وفاته في بيروت بوقت قليل. لكني سرعان ما اكتشفت أن تلك السيرة، وهي في أسلوبها ومضمونها تستحق أن تكون واحدة من كلاسيكيات المكتبة السورية والعربية المشرقية، لا تصلح لأن تكون نقطة البداية لفهم الحافظ تاريخياً؛ لأنها ككل السير الذاتية، ولا سيما تلك العائدة لمفكر أو كاتب، لا تؤرخ لحياة الحافظ كما عاشها بالفعل، متلمساً طريقه لحظة بلحظة ومتفاعلاً مع سياقه التاريخي المتغير، بل كما نظر إليها هو وكما قيّمها في نهاية حياته. أن نقع تحت سحر سيرة الحافظ الذاتية يعني أن نُقرّ للحافظ الناضج بأن حياته كانت كناية عن رحلة انتقال تدريجي من ظلام المعتقد الأيديولوجي إلى نور العقل النقدي، وهذا يعني أن نستبطن مفاهيمه الليبرالية الحداثية التي انتهى هو إليها، فنساويها نحن أيضاً بـ«العقل» وننفي عنها الطابع الأيديولوجي. قد لا يكون في ذلك غضاضة للمثقف المعياري المعني بالدفاع عن الليبرالية الحداثية كمذهب فكري وأخلاقي وسياسي أمثل، أما المؤرخ الفكري فعليه أن يجتهد ليكون خارج معايير بطل قصته، وأن يبقى شَكُوكاً في أي سردية غائية كبرى يرسمها هذا الأخير لحياته. ليس ذلك بغرض «الحياد»، فهذا محال، بل من أجل فهم تاريخي أكثر تركيباً ونقداً.
لذا عزَمتُ أن أبدأ بدلاً من ذلك بكتابات ياسين الحافظ الأولى، أي بكتابه الأول حول بعض قضايا الثورة العربية (1965)، والذي جمع فيه الحافظ مقالات ودراسات كان قد نشرها سابقاً في أعوام 1958 و1962 و1964، بالإضافة إلى بعض الأوراق الجديدة. لم يكن الحافظ في ذلك الوقت قد قرأ كتاب عبد الله العروي الأيديولوجيا العربية المعاصرة (1967) ولا ذاق مرارة نكسة حزيران، وهذان حدثان مفصليان في حياته، لكنه كان قد عاش تجربة سياسية حافلة في خضم تلك «الحركة التقدمية» التي غيرت وجه المشرق العربي إلى الأبد خلال خمسينات وستينات القرن الماضي
*****
لكننا لن نستطيع فهم نقدية الحافظ تاريخياً والانخراط في نقدها هي الأخرى دون أن نحيط أولاً بضدّها المباشر، أي بياسين الحافظ كابن لزمانه، حامل في لغته ومضمانيه وحتى في نقده لروح ذلك الزمان «الثوري» بمسلّماته وأحلامه وتناقضاته. ويعني هذا بدوره أننا، قبل أن نغوص في البنية الداخلية لأفكار الحافظ المتمايزة، وفي نقده المزدوج للفكر البعثي والستاليني العربي، لا بد أن نتساءل عن الظروف التاريخية التي دفعت الحافظ كما الكثيرين من أبناء جيله إلى اعتناق تلك الأفكار القومية اليسارية أساساً، والتي ستبدو للكثيرين منهم فيما بعد كسجن حديدي واجب التحطيم. دون تلك الخطوة الأولى، وفي زمن نشهد فيه الموت السريري للأحزاب القومية والشيوعية في المنطقة، فإن نقدنا إما أن يقتصر على نوع من ردّ الأفكار إلى شخصيات بعينها (وهذا شائع في معرض السخرية من منظّري حزب البعث) أو أن ينساق وراء تعالٍ ثقافوي يُحيل خيارات جيل أو مجتمع كامل إلى الطفولة والتخلف (وهذا شائع في معرض الحديث عن عبد الناصر وشعبيته الهائلة)، وفي كلا الحالتين نحن نتهكّم على التاريخ دون أن نفكّكه، لأن نقدنا لا يسبقه حد أدنى من «التفهم» (empathy).
إذاً… ماذا كانت تلك الظروف التاريخية التي شكّلت أُسُس وعي الحافظ وأبناء جيله؟ ياسين الحافظ الناضج يُحيلنا في سيرته الذاتية إلى عائلته ومجتمعه المحلي، أما الشاب الثلاثيني ذو الروح الثورية فهو، على النقيض تماماً، يرى أن لحظته التاريخية لا ترتبط أولاً بمجتمعه المحلي، أو بسوريا، أو بالأمة العربية، أو حتى بصعود المعسكر الاشتراكي. الحدث التاريخي الأهم بالنسبة لياسين الحافظ الشابّ هو انهيار الإمبرطوريات الأوربية الاستعمارية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركات التحرّر الوطني في العالم كله. هذا الحدث الكوني يظهر في كل مقالات الحافظ الأولى كمرجعية موضوعية ومعيارية تأسيسية، والحافظ يقول عنه بشكل واضح أنه «الظاهرة الأكثر أهمية في التطورات السياسية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية»
وإن كان هذا الحدث لا يستطيع تحريك مشاعر العديدين منا اليوم، فذلك لأننا بتنا على مسافة ما يزيد عن نصف قرن من نهاية العصر الاستعماري القديم، شهدنا خلاله من القمع والبؤس المحلي المُشَرْعَن باسم مقارعة الإمبريالية ما قد يجعل بعضنا يحنّ إلى ذلك الزمن الكوزموبوليتي الغابر، أو يشكّك على الأقل في درجة سوئه. أما جيل ياسين الحافظ فتفتّح وعيه في لحظة كانت الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية–وقبلها وبعدها الألمانية والإيطالية والهولندية والبلجيكية والبرتغالية–قد بدأت تترنّح في أفريقيا وآسيا للمرة الأولى منذ قرن أو أكثر. وعلى الرغم من تفاوت تجارب نظم الحكم الاستعماري، بين نموذج وحشي استعبادي كما في حالة الحكم البلجيكي للكونغو وبين نموذج استشاري «غير مباشر» كما في حالة الحكم البريطاني في العراق، يبقى ثابتاً أنه خلال القرن الزمني نفسه الذي خضعت فيه الحياة السياسية في أوربا باطّراد لحكم القانون والرأي العام والأحزاب الجماهيرية، لجأت أوربا في مستعمراتها في أول المطاف وآخره لحكم الاستثناء والقوة العسكرية والنخب البيرقراطية، واستندت إلى جموع المستوطنين البيض أو لأبناء الأقليات الإثنية والدينية
جوزيف كونراد، قلب الظلام، 1902 (العنوان بالإنكليزية Heart of Darkness)؛
أيميه سيزير، دفتر العودة إلى الأرض الأم، 1939 (العنوان بالفرنسية: Cahier d’un retour au pays natal)؛
فرانز فانون، معذبو الأرض، 1961 (العنوان بالفرنسية Les Damnés de la Terre)؛
ألبير ميمي، المستَعمِر والمُستعمَر، 1965 (العنوان بالفرنسية: Portrait du Colonise, Precede du Portrait du Colonisateur)؛
بارثا شاترجي، الفكر القومي والعالم المستعمَر، 1986 (العنوان بالإنكليزية: Nationalist Thought in the Colonial World)؛
إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، 1993 (العنوان بالإنلكيزية: Culture and Imperialism)؛
هومي بابا، موقع الثقافة، 1994 (العنوان بالإنلكيزية: The Location of Culture).
ياسين الحافظ الشاب ينظر إلى حركة القومية العربية من هذا المنظار الكوني التحرري المعادي للاستعمار تحديداً، وهو لذلك يعيب عام 1958 على الأحزاب الشيوعية في المنطقة عدم انخراطها في النضال القومي للجماهير العربية. الخلفية السياسية المباشرة لحكمه هذا كان الموقف الشيوعي البارد تجاه الوحدة بين مصر وسوريا، لكن الحافظ يتجاوز الحدث الآني ليطرح فكرة أشمل وأكثر عمقاً. أن ننظر إلى المسألة القومية فلا نفهمها إلا من خلال التجربة الأوربية، كما يفعل «الستالينيون العرب» حسب مقالة الحافظ الأولى في نيسان 58، يعني أن نتجاهل التجربة التاريخية لأبناء المستعمرات، والتي أعطت حركاتهم القومية طبيعة مختلفة عن القوميات الأوربية. تلك الأخيرة نشأت مع السوق الرأسمالية، وارتبطت بالبرجوازيات الوطنية، ومن ثم اكتسبت طابعاً شوفينياً استعمارياً، أما القومية العربية فقد نشأت «في خضمّ الكفاح العربي العام ضد الاستعمار»، وهي لذلك تحمل طابعاً جماهيرياً ثورياً نبيلاً
لم يكن جيل ياسين الحافظ قادراً على توجيه مشاعره القومية نحو سوريا، الوطن الغضّ الذي كان قد نال استقلاله عام 1946. ولم يكن ذلك بالدرجة الأولى نتيجة التأثر المثالي بالأفكار الرومنطيقية لـ ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وقسطنطين زريق، كما قد يتراءى للبعض. الأدق هو البدء من الظروف التاريخية الموضوعية التي جعلت تلك الأفكار تبدو منطقية وتحرّرية وجيدة لأبناء ذلك الجيل، وهذا بدوره يُحيلنا إلى حقيقة أن مناهضة الاستعمار كانت الشرط المؤسّس لتفتّح الوعي السياسي المعياري في سوريا لدى غالبية الفئات الاجتماعية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وأن هذا كان يعني بالضرورة رفض الكيان الجديد الذي كانت فرنسا وبريطانيا قد خلقتاه قبل أقل من عقدين من الزمن من ولادة ياسين الحافظ وضمن ظروف مليئة بالمرارة لدى أبناء المدن السورية الداخلية. بكلمات أًخرى، إذا كان التفاعل الجدلي بين الاستعمار الفرنسي والحركة الوطنية المعادية له هو شرط تأسيس المجال السياسي السوري الحديث، فإن هذا التفاعل الجدلي كان يُنتج أيضاً منطق إلغاء أو تجاوز هذا المجال نفسه لصالح أمّة أكثر تاريخيةً ومنطقيةً وطُهراً من فعل التدخل الاستعماري. وعلى الرغم من أن سياسيي الكتلة الوطنية بدأوا بالقبول بالكيان السوري والانخراط في أُطُره السياسية منذ نهاية العشرينات، فإنهم لم يتخلّوا في الوقت عينه عن خطابهم العروبي الوحدوي، ولا انشغلوا بصياغة عقيدة وطنية سورية واضحة. والنتيجة أنهم ظهروا للفئات «الثورية» الجديدة بمظهر التوفيقي المساوِم على قضية الوحدة القومية، لا الدستوري الحريص على المؤسسات السياسية الوطنية
وفي حقيقة الأمر فإن المشاركة الجماهيرية في السياسة في سوريا، بدءاً من «اللجان الشعبية» التي شكلها عموم الناس في الشهور السابقة لدخول الجيش الفرنسي إلى دمشق عام 1920، وصولاً إلى الإضرابات والمظاهرات في الثلاثينات والأربعينات، كانت ستمهّد أيضاً للثورة الأيديولوجية التي شنّها جيل الصاعد حينها على «الطبقات السائدة» ممن اصطُلح على تسميتهم في أدبيات التاريخ المشرقي بـ«أعيان المدن»
فمن ناحية، نظر أعيان المدن عموماً إلى عالمهم من المنظار النهضوي المنبثق عن نهاية القرن التاسع عشر، والذي جمع بين الليبرالية البرجوازية في تعويلها على العلم والعمل والدستورية السياسية، والارستقراطية العثمانية في اهتمامها بالإحسان الأبوي والزعامة المحلية والتهذيب الاجتماعي وقبولها لتمايز الهويات الثقافية المناطقية والطائفية، وأخيراً الإصلاحية الإسلامية في تجديدها الفقهي البراغماتي وتأكيدها في الوقت نفسه على أهمية الدين كمصدر أساسي للأخلاق.
أما النخب الجديدة فمن الإرث الليبرالي الحداثي أخذت، بالإضافة إلى احتفائه بالعلم والعمل، تركيزه على الإنسان المجرد القادر على التحرّر من هوياته ما-قبل-الحداثية (قَبَلية كانت أم طائفية أم مناطقية) وضرورة إخضاع العمل السياسي لسلطة الفكر من جهة ولسلطة الجمهور من جهة أخرى. وأخذت من الإرث الرومنطيقي ثورته على غربة الإنسان في المجتمع الحديث وحنينه إلى مجتمع المساواة والتجانس الثقافي، ومن الماركسية-اللينينية درجة متفاوتة من الوعي الطبقي والفكر السياسي الانقلابي. هذا البنيان الأيديولوجي «الثوري» سيظهر بأشكال مختلفة لدى الأحزاب الجماهيرية الجديدة (بما فيها ’الإخوان المسلمين‘) وسيكتسب في سياق التحرر من الاستعمار بُعداً معنياً بالمساواة بين الأمم والأعراق، لكن القومية العربية ذات الروح الاشتراكية كانت الأكثر قدرة على التعبير عن رغبة ذلك الجيل في تمثّل أوربا والثورة عليها في الوقت عينه، ولأن العِقدين اللاحقين للحرب العالمية الثانية شهدا بالفعل انهيار إمبراطوريات كانت الأجيال السابقة تعتبرها جزءاً من سنن الكون الطبيعية، فقد بلغ التفاؤل القومي التقدمي في ذلك الحين حده الأقصى، وبات كاتب رصين ونقدي كياسين الحافظ قادراً على النظر إلى الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 كجزء من تحول أممي ينتصر لقيم «الحرية والتقدم والعدالة والسلام لكل الشعوب»
*****
أوبريت الجيل الصاعد (1960، أيام الوحدة السورية-المصرية حيث يظهر في الأوبريت علم ’الجمهورية العربية المتحدة‘ وهو العلم السوري فيما بعد) كان بلا شك التعبير الأكثف عن التفاؤل الثوري في تلك الحقبة وعن الأيديولوجيا القومية التقدمية التي وجد الحافظ نفسه مدافعاً عنها وناقداً لها في الوقت نفسه. الروح التعبوية، الجمالية الحداثية، والتحالف الطبقي بين العمال والفلاحين من جهة وبين الجيش والمتعلّمين والمثقّفين من جهة أخرى كلها تساعد على فهم المرحلة التي تفتّح وعي الحافظ خلالها
لكن الوحدة سرعان ما ستنهار عام 1961، ويبدأ بعدها ما نظر إليه الحافظ على أنه ثورة مضادة يقودها الاستعمار الأميركي الجديد، بالتحالف مع الأنظمة المعادية لعبد الناصر وبالاستناد في سوريا إلى تحالف طبقي جديد، جمع ما تبقى من الإقطاع والبرجوازية الكبرى إلى فئات جديدة من البرجوازية الصغيرة و«اليسار التقليدي الانتهازي». سيهاجم الحافظ أولاً قرار إلغاء قوانين التأميم والإصلاح الزراعي، في مقالة طويلة نشرتها جريدة البعث في تموز 1962. سيحاول فيها إقناع قرائه بأن البرجوازية السورية –بغض النظر عن نواياها ونوايا سياسيين من أمثال خالد العظم وعزت طرابلسي– غير قادرة على النهوض بأعباء التنمية الاقتصادية، والتي تتطلب في بلد متخلف مثل سوريا استثمارات ضخمة في البنية التحتية والصناعات الثقيلة. وفي حين أن البرجوازية الأوربية أنجزت ثورات وطنية وحققت نهضة ثقافية واستفادت من الإمبريالية لتدعيم مكاسبها الاقتصادية، فإن نظيرتها السورية على حد تعبير الحافظ «لم تستطع فرض قيادتها وهيبتها على البلاد» وأنتجت «برلمانات هزيلة وعاجزة» وبقيت «لاصقة بأوهام وثقافة القرون الوسطى»
هل كانت ثورة أم انقلاب؟ يتساءل الحافظ بخصوص أحداث عام 1952 في مصر، ويُجيب بأن سجلّ المتغيرات منذ ذلك العام وحتى عام 1961 يشير بشكل واضح لا لبس فيه أن ما جرى كان ثورة، بكل ما في الكلمة من أبعاد ومعاني. صحيح أنها كانت ثورة «من فوق»، لكن هذا لا ينفي عنها طابعها الاجتماعي الجذري، «فالثورة ليست ذات قياس محدد أو نموذج معين كما يزعم المذهبيون – الثورة ظاهرة حية». في نفس الوقت، وعلى الرغم من عدائها للاستعمار وإقامتها النظام الجمهوري وانتصارها لطبقة الفلاحين المسحوقة تحت النظام الملكي، تبقى الثورة المصرية ضحية طابعها «الفوقي»، حسب تقييم الحافظ. فهي فشلت في بناء ديمقراطية شعبية حقيقية، بل على العكس لجأت إلى استعمال القمع كوسيلة للنضال إلى حدّ كادت معه أجهزة القمع تصبح فوق قيادة الثورة نفسها. للسبب نفسه، ولأنها لم تستطع تفعيل دور الجماهير في العملية السياسية على حدّ تعبير الحافظ، اضطرت قيادة الثورة إلى مسايرة «القوى الرجعية» ولا سيما على الصعيد الفكري والمعنوي، ووقفت عاجزة أمام نموّ القوى البيرقراطية واتساع نفوذها وامتيازاتها إلى حد كادت معه أن تصبح وريثة الطبقة المستغِلّة. وبالإضافة إلى فوقيتها، بقيت الثورة المصرية ذات طابع تجريبي لأنها افتقرت إلى نظرية ثورية «متفاعلة مع الجماهير الشعبية ومستعينة بالتجارب الاشتراكية الأخرى في العالم». هذه التجريبية انعكست بوضوح على الصعيد الاقتصادي كما على الصعيد الأيديولوجي الفكري، وفتحت باب التحالف الكارثي مع البرجوازية الصغيرة غير المعنية بالديمقراطية أو بالتوجه الإشتراكي الحقيقي
من الصعب ألا يشعر المرء بانحباس الحافظ ضمن قالب ماركسي شديد الجمود عندما يتحدث مراراً وتكراراً عن تخاذل «البرجوازية الصغيرة» دون أن يؤرخ لهذه الطبقة في السياق المصري أو العربي أولاً. لكن الشاب ابن الثانية والثلاثين كان يحاول من خلال هذا المفهوم الطبقي أن يجد تفسيراً موضوعياً للممارسات السياسية القمعية والانزياحات الفكرية الخطيرة التي كان يشهدها داخل المعسكر التقدمي في ذلك الوقت. وفي حين ننظر اليوم للتاريخ السياسي للتجارب الاشتراكية في القرن العشرين فلا نستطيع الفصل بينها وبين أنظمة الحزب الواحد وظواهر تغوّل الدولة وعبادة الفرد وسحق الحريات السياسية، كان الحافظ في ذلك الزمان يرى أن كل هذا لا يمتّ للاشتراكية بشيء، لأن روح هذه الأخيرة لا يتجسد حقاً إلا من خلال إطلاق حريات الجماهير الكادحة، وهو لذلك سيكتب في ذلك الزمان الطليعي الانقلابي، وقبل الكثيرين من أبناء جيله، دفاعاً حارّاً عن الديمقراطية وضرورة ممارستها الفورية:
«الحقيقة ثورية وأخلاقية دوماً. والديمقراطية هي التي تتيح للحقيقة التفتّح، وإن غرس فكرات الديمقراطية الشعبية لا يتأتى وفق أسلوب مفاجئ، يَسقط من علٍ كمِنحة من الحاكم عندما يقتنع أن الجماهير قد شبّت عن الطوق، فالديمقراطية لا يمكن أن تُؤجَّل أو تُقنّن، ولا توضع على الرفّ اليوم بزعم ممارستها غداً عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى. الديمقراطية اليوم هي أمر لا بد منه للديمقراطية غداً، لأن ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج ومسؤول ومنضبط لا يمكن أن يتهيأ إلا بالممارسة الدائمة والمعاناة. فلكي نتعلم السباحة غداً يجب أن نمارسها اليوم»
ص1\218 .
في نفس الوقت كان الحافظ يتحسّس مشكلة أخرى، بالإضافة إلى الديكتاتورية والقمع السياسي، في النظام الناصري والتيارات القومية التقدمية بشكل عام: المشكلة هي ابتعاد تلك التيارات عن القيم الحداثية الإنسانية المستندة إلى العلم والعلمانية والفهم الموضوعي للتاريخ القومي، وارتدادها إلى مواقع تصالحية مع «التخلف الثقافي والاجتماعي، الغارق في ظلامات السحر والوهم والغيبيات». لا يقدم الحافظ لنا الكثير من الأمثلة الملموسة في هذا السياق، ولا نعلم إن كان يقصد في نقده هذا عدم التزام النظام الناصري ببرنامج جذري لعلمنة الثقافة والمجتمع المصريين على غرار التجربة الكمالية في تركيا، لكن الثابت أن هذه المشكلة ستؤرقه منذ تلك اللحظة وأنه سيحاول فهمها من خلال الإطار النظري الماركسي. محاولته هذه ستقوده مجدداً إلى «البرجوازية الصغيرة».
لكن قبل ذلك، سيقرأ الحافظ كتاب فرانز فانون معذبو الأرض (1961) بعد أن كان سامي الدروبي وجمال الأتاسي قد ترجماه ونشراه لدى دار الطليعة في بيروت (1963)، وهذا سيمكّنه من وضع أفكاره في سياق تاريخي مقارن. في العام التالي سينشر دراسة طويلة عن السياسة الاستعمارية في المشرق العربي، سيؤكد فيها على ضرورة تدعيم الأُسُس المبدئية لا الانتهازية لـ«الثورة العربية» وتقوية روابطها مع حركات التحرر الوطني الأخرى في العالم كما مع الدول الاشتراكية. وبعد محاولة أولى في ذلك العام أيضاً لنقد «المفاهيم الفاشية والشوفينية» التي تنزلق البرجوازية الصغيرة العربية إليها من خلال عقيدتها القومية، سيعود الحافظ ليتوسّع في هذا الموضوع نفسه في ورقة أطول لن ينشرها إلا كجزء من كتابه الصادر في أيلول 1965
من هي البرجوازية الصغيرة إذاً حسب الحافظ؟ إنها الطبقة الإجتماعية التي دخلت الحياة السياسية في المشرق العربي من خلال الأحزاب الأيديولوجية الحديثة الصاعدة منذ فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي انقسمت إلى فئات عربية انضوت تحت لواء الأحزاب والحركات القومية، وفئات غير عربية نشطت في الأحزاب الشيوعية. تلك الأخيرة بقيت خارج النضال الشعبي ضد الاستعمار والتجزئة بسبب حساسياتها الأقلوية من جهة، وانصياعها لسياسات الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. وهذا ساهم في جعل الأحزاب القومية التقدمية تتصدر نضال الجماهير في سبيل نهاية حقيقية للاستعمار، أي في سبيل إنهاء الأنظمة المهادِنة للغرب وتحقيق الوحدة العربية. هذا النضال القومي، يؤكّد الحافظ من جديد، كان ذا طابع ديمقراطي وثوري وتحرري، لا لأنه سّيس عموم الناس فقط بل لأن الرباط القومي هو بالتعريف «تصفية لجميع أنواع العبودية». فعندما ينادي الرجل الأسمر بهويته القومية فذلك لأنه يعادي التسلط الأجنبي أولاً ويريد التحرر من الروابط التقليدية العشائرية والطائفية والإقطاعية ثانياً. وعندها، عندها فقط، سيكون قادراً على التواصل مع العالم. لأنه كما قال فانون «الوعي القومي الذي هو ليس تعصباً قومياً هو الأمر الوحيد الذي يهب لنا بُعداً أممياً… التحرر القومي يكشف عن قيم أممية شاملة، ففي قلب الوعي القومي إنما ينهض الوعي الأممي ويحيا»
لكن هذه البرجوازية العربية الصغيرة، وبعد أن أصبحت هي الطبقة السائدة، ستنقلب على الطابع الديمقراطي والثوري والتحرري للشعور القومي وستحوله إلى «شكليات عقيمة». وبدلاً من التركيز على تاريخية الأمم وحداثتها وتجسّدها أولاً وأخيراً من خلال حركة الجماهير، ستقوم الأحزاب القومية الممثلة لهذه الطبقة بالانغماس في تمجيد الماضي والغرق في أساطير قبلية غيبية «تحتقر العلم والتجربة الإنسانية». ولأنها، حسب تعبير الحافظ، تحول «الواقعة القومية إلى أيديولوجيا كاملة» فهي ترفض التحليل الطبقي لقضايا المجتمع، وتلجأ إلى ردّ الواقع الفاسد المتخلّف إلى شخصيات فردية أو إلى الجماهير، «متهمةً إياها بالعاطفة والتقلب والجهل والتأخر». وفي الحقيقة فإن الحافظ يرى أن البرجوازية الصغيرة من خلال أيديولوجيتها الغيبية لابد أن تنقلب في المحصلة إلى موقع نخبوي وفاشي. وهو لذلك سيختم مقالته بكلام لا بدّ أن يبدو للكثيرين منا وكأنه توصيف لنخب سورية وعربية في يومنا هذا:
«التاريخ [حسب هذه النظرة] تصنعه النخبة، وهو مجرد تعبير عن إرادتها، لذا فهي بديل للتاريخ وبديل للتطور الموضوعي أيضاً. أما ’العامّة‘ فدورها الوحيد هو أن تكون أداة، مجرّد أداة بين يدي النخبة. النخبة تعلّم العامّة وتثقّفها، وترفع مستواها الأخلاقي، وتحرّرها من سجن الأنانية وسجن المصالح، لأنها تحمّلت مسؤوليتها… ولم يقف بعض مفكّري البرجوازية الصغيرة عند هذه الحدود في تأليه النخبة وتكريس معصوميتها، بل ذهبوا إلى مدى بعيد في إظهار احتقارهم الشامل العميق للجماهير، وهذا لا بدّ أن يدفع إلى انزلاقات دكتاتورية في الموقف من الجماهير الشعبية. إنّ رفض الواقع، عندما لا ينطلق من وجهة نظر اشتراكية طبقية، لا بدّ أن ينتهي إلى ضرب من الفاشي»
ص1\148 .
*****
لكن إلى أي مدى ينجح الحافظ نفسه في الانعتاق من نخبوية البرجوازية الصغيرة هذه؟ أو بكلمات أخرى، إلى أي درجة تستطيع ماركسيته النقدية وفهمه التقدّمي للقضية القومية التأسيس حقاً لالتزام مبدأي بحرية وفاعلية عموم الناس من سكان المستعمرات السابقة غير المنتظمين عموماً في أطر النضال الإشتراكية أو التقدمية الكونية؟ في مكان ما من مقالته الأخيرة تلك سيُصرّ الحافظ على أن أي مقارنة بين النخب المؤدلجة والجماهير ستكشف أن الأخيرة «أقل تعصّباً وجموداً»، وأن «انفتاحها النسبي والتواضع الذي يطبع مواقفها يجعلها أقرب إلى الحقيقة الموضوعية العِيانية من المواقف السكونية القبلية التي يتميز بها الفكر السياسي الإيماني». وفي مقدمة كتابه، سيتحدث الحافظ أيضاً عن أن أي نضال لا تصنعه الجماهير لا يدوم، وهذا يجعل من الضروري الانتقال «من الكواليس الدبلوماسية والغارات الثورية البيرقراطية إلى الشوارع والمتاريس». لكنه في أماكن أخرى، وفي معرض نقاشه لانخراط الجماهير في الحياة السياسية تحديداً، يعود ليتحدث عن أن بناء الديمقراطية الاشتراكية «لا يُغني عن وجود حركة طليعة، ففي بلد متخلّف، حيث الطبقة العاملة لم تنضج أيديولوجياً بعد، وحيث لا تزال ضعيفة عددياً، يصبح وجود حزب اشتراكي ضرورة لا بد منها لقيادة التطور». وبينما لا يملّ الحافظ من تكرار ضرورة تفعيل الحياة الديمقراطية في مصر، فإنه لا يقدم أي وصف أو شرح تفصيلي لشكل الديمقراطية الشعبية المنشودة، بل على العكس يكتفي في النهاية بالتعويل على قيام الرئيس عبد الناصر «بوضع ثقله مع الطبقة العاملة».
نحن هنا أمام تناقض جوهري في فكر ياسين الحافظ الشابّ: تناقض بين، من جهة، اللحظة النضالية الثورية التي تدفع الحافظ للالتحام بعموم الناس، وللإصرار على رشدهم وجاهزيتهم السياسية في وجه الاستعمار والشيوعية الستالينية والبرجوازية الصغيرة، ومن جهة أخرى الفكر الحداثي، الذي لا يملك إلا أن يؤجّل أو يساوم على الفاعلية السياسية لهؤلاء الناس أنفسهم، وذلك بسبب عدم تطابق وعيهم أو حالهم أو شكل نضالهم مع النموذج الأوربّي المركزي ذي المراحل الواضحة والمنطقية. ماركسية الحافظ نقدية وديمقراطية وواعية بضرورة استنادها إلى الواقع قبل النظرية، لكنها مع ذلك لا تستطيع تخيّل المستقبل العربي إلا من خلال الحاضر الأوربي: تصنيع ثقيل – طبقة عاملة عريضة – وعي سياسي طبقي يستوعب فلسفة الأنوار العلمية ويتجاوزها من خلال المادية التاريخية… لذلك فهو يُدين نخبوية ودكتاتورية البرجوازية الصغيرة من جهة، ومن ثم لا يلبث أن يجد في «عدم نضج» وعي الطبقة العاملة العربية وضآلة عددها سبباً موجباً لوجود حزب طليعي يقود التطوّر. أما بالنسبة للفلاحين، وهم غالبية «الجماهير الكادحة» العربية في الخمسينات، فالحافظ يعبّر هنا أيضاً عن موقف ثنائي يجمع بين التضامن الثوري والتهيّب الحداثي: فللفلاحين، حسب تقييمه، جوانب إيجابية تتجلى في زخمهم وإصرارهم ورغبتهم الحارّة في الانفلات من أسر الواقع، لكنهم في الوقت عينه «عفويون»، «يشدّهم حنين خفيّ نحو التقاليد والعادات والأطر الاجتماعية والاقتصادية الموروثة»، و«ويغلف منطقهم صدى السحر والخرافة»
قول الحافظ بالحاجة لحزب طليعي للتعويض عن ضعف الطبقة العاملة في الدول المتأخرة صناعياً، وموقفه المزدوج تجاه الفلاحين في تلك الدول، لا بدّ أن يستدعيا في أذهان الكثيرين بعض النقاشات الكلاسيكية في الإرث الماركسي-اللينيني، والتي أثّرت لا شكّ في الحافظ منذ سنوات دراسته الجامعية. لكن الاكتفاء بردّ أفكار الحافظ إلى هذا القالب الأيديولوجي الضيّق يتجاهل أولاً السياق الفكري والثقافي الأشمل الذي جعله –وهو ذو الحسّ النقدي الديمقراطي– يتأثر بهذا الجانب من الماركسية اللينينة، ويتجاهل أيضاً أن تلك الأخيرة بحدّ ذاتها هي جزء من منظومة حداثية فكرية أكبر تستند إلى سرديات التقدّم الأوربي الكبرى. والواقع أن الحافظ لا يقتصر في استناده إلى هذه السرديات على فهمه للوعي الطبقي والعلاقة بين العمّال والفلاحين والشكل المثالي للثورة الاشتراكية، بل أيضاً في فهمه للدولة-الأمة القائمة على التحطيم الكامل للروابط المحلية والعائلية والطائفية، والإخراج الكامل للكنيسة والدين من الحيّز العام، والانتصار الكامل للبرجوازية الرأسمالية الصناعية ذات الهوى الجمهوري على الأرستقراطية الإقطاعية والمصرفية. لذلك، فهو عندما يهاجم البرجوازية الوسطى في سوريا في 1962 يَعيب عليها فشلها في إنجاز ما أنجزته نظيرتها الأوربية أولاً، واستغلالها وانتهازيّتها الطبقية ثانياً، وعندما يهاجم البرجوازية الصغيرة في عامي 1964 و1965، فهو ينتقد عدم جذريتها العلمانية والعلمية في الوقت نفسه الذي يشير فيه إلى نخبويتها. طليعية الحافظ وتهيبه من «السحر والخرافة» لا ينبع إذاً من الماركسية-اللينينة وحدها، بل من البنيان الإيديولوجي الحداثي الأعمق الذي يحوّل الماركسية في المستعمرات (تماماً كما الليبرالية والقومية) إلى أيديولوجيا تنويرية، ذات طابع تحرّري ونخبوي في الوقت عينه، تبشّر بالحرية والمساواة من جهة، وتنكرهما في الوقت عينه على «أبناء القرون الوسطى».
لكن إذا كنت أنا وآخرين من أبناء اللحظة الحالية قادرين على نقد حداثية الحافظ، فذلك لأننا بالدرجة الأولى نعتمد على ما كُتب في نقد الحداثة فلسفياً وتاريخياً خلال نصف القرن الماضي، ولأن حركة الواقع العربي من حولنا تُتيح لنا أيضاً تبيّن الاصطفاف التنويري بجميع ألوانه الأيديولوجية ضد الحركة السياسية الشعبية لعموم الناس. لم يحيا الحافظ في زمن كان المؤرّخون فيه يفكّكون سرديات التقدّم الهيغلية والماركسية والفيبرية الكبرى، ويكشفون مدى مساهمة الإقطاع والكنيسة والدين والهويات المحلية والأيديولوجيات المحافِظة في بناء الحداثة الأوربية، وينقدون الطابع الاستعماري أو الفوقي الذي اكتسبته التجارب التحديثية القومية في أوربا نفسها. أما الواقع العربي في الخمسينات والستينات فلم تكن حركته بالدرجة الأولى محكومة بمواجهة بين حِراك شعبي محافِظ ونُخَب علمانية تنويرية، بل بالصدام بين الأرستقراطية العربية المحافِظة والأحزاب الجماهيرية التقدّمية. حركة الواقع بمعنى آخر لم تكن قد بلورت بعدُ التناقضَ بين العلمانية الحداثية والديمقراطية الشعبية، والحافظ لم يكن مضطراً للاختيار.عندما ننقد حداثة الحافظ إذاً فنحن لا نساجل الرجل الفرد أو نُحاكِم خياراته الفكرية المثالية، بقدر ما نتبيّن من خلاله محدودية الأدوات الفكرية التي توفّرت لجيله من كتّاب ومثقفين في ذلك الوقت، وطبيعة الظرف السياسي وما أنتجه من تحدّيات ونقاط عمياء.
وفي الواقع فإن الفضيلة الأساسية لقراءة كتاب ياسين الحافظ حول بعض قضايا الثورة العربية أنها تجعل المرحلة الفكرية السابقة لسنة 1967 أكثر استعصاءً على النقد الليبرالي السهل. نقدية الحافظ المبكّرة وابتعادُه عن الفهم العقائدي المُعَلّب للقومية العربية والماركسية تجعلنا نأخد هذه الأفكار نفسها على محمل الجدّ، فنتساءل عن قيمتها التحرّرية وأسباب جاذبيتها التاريخية دون أن نتغاضى عن تناقضاتها وأوهامها. ليس هذا بتفصيل أكاديمي كما قد يتراءى للبعض… فأن ننظر لمرحلة تاريخية كاملة فلا نرى فيها إلا شخصيات وأفكاراً رثّة، هذا لا يختلف كثيراً عن أن ننظر للمرحلة ذاتها فنرى أنبياء وقادةً مُلهِمين. نصل في الحالة الثانية إلى صَنَمية فكرية مهترئة، نراها اليوم ماثلة أمامنا في هياكل الأحزاب القومية والشيوعية المتبقّية في المنطقة، بينما في الحالة الأولى نحن قابَ قوسين أو أدنى من نخبوية ثقافوية تستخدم التاريخ في مشروع شامل لتحقير الذات. أن نقرأ ياسين الحافظ الشابّ يعني أن نبدأ بفهم مرحلة الخمسينات والستينات في المشرق العربي بعيداً عن هذَين الخيارين. وربّما لو بحثنا عن شخصيات مماثِلة له في العمق والصدق والاستقلالية من الفترة ذاتها قد ننتهي إلى تاريخ جديد ومختلف للفكر العربي الحديث.