بهدف سحق الثورة العارمة التي يواجهها، وبالاستفادة من طبيعته المركبة، ينصاع النظام الحاكم في دمشق لحقائق الحرب، ويقبل باقتسام السيطرة مع غيره على ميادين مختلفة بهدف التفرّغ للقتال في ميادين غيرها. فهو قد وافق ضمنياً على إدارة الأكراد الذاتية لشؤونهم، ووافق علناً على هُدَن وتسويات تترك لخصومه من مسلّحي الثورة بعض السلطة على أحياء ومناطق مختلفة، وخاصة في حزام دمشق. لكن هذا لا يقتصر على الأكراد أو المسلحين الثائرين على سلطته، فهو قد تراجع عن بعض سلطته المركزية داخل معسكره أيضاً، مفسحاً المجال لميليشيات وتشكيلات مختلفة لممارسة مستويات متعددة من السلطة المحلية أو الجزئية، لكن الظاهرة الأبرز كانت صعود «النمر»، التي يرى فيها كثيرون اليوم بداية لانحدار «الأسد».

يمثّل العقيد سهيل الحسن المعروف بـ«النمر» تكثيفاً لهذه القدرة على التأقلم مع ظروف الحرب عند النظام السوري، فهو يقود تشكيلاً عسكرياً خاصاً قوامه بضعة آلاف من الرجال الذين خاضوا ويخوضون أشرس المعارك ضد قوى الثورة المسلحة و’جبهة النصرة‘ شمال ووسط سوريا. وقد شكّل انتقاله من ريف حلب إلى ريف حماه عاملاً حاسماً في إيقاف زحف مقاتلي الثورة نحو مطار حماه العسكري، وفي ردّهم على أعقابهم حتى حلفايا، ثم استعادة السيطرة على مورك بالتعاون مع قوات ’حزب الله‘ بعد أشهر من المعارك الضارية. كما أنه نجح مؤخراً في صدّ تقدم قوات ’الدولة الإسلامية‘ على جبهتي حقل الشاعر ومطار التيفور العسكري بريف حمص مؤخراً.

سهيل الحسن هو ضابط في الجيش النظامي السوريكانت الصياغة الأولى للمقال تشير إلى أنه كان ضابطاً في الحرس الجمهوري، لكن تبين لاحقاً أن هذه المعلومة غير مؤكدة فتم تعديلها.، ترجع أصوله إلى قرية بيت عانا في ريف جبلة، وهو كان معروفاً بقسوته وانضباطه إلى حدّ تململ كثيرين من الخدمة تحت إمرته قبل اندلاع الثورة السورية. ومع اشتداد المعارك في سوريا تم تكليفه بقيادة مهام ميدانية، وصعد نجمه بعد التغيير النوعي الذي أحدثه تدخّل قوات يقودها في معارك حلب، حيث نجح في تأمين طريق أثريا-خناصر انطلاقاً من معاقل النظام في سَلَميّة وريفها. ونجح في فك الحصار عن عدة مواقع للنظام السوري كان أبرزها سجن حلب المركزي، وكاد ينجح عدة مرات بالتعاون مع ميليشيات أخرى في إحكام الحصار على أحياء حلب الشرقية، من خلال المحاولات الفاشلة المتكررة للسيطرة على منطقة حندرات، حيث يبدي الثوار هناك بسالة كبيرة في مواجهة القصف العنيف بكل صنوف الأسلحة.

يبدو من غير الممكن معرفة حجم ودور سهيل الحسن الحقيقي، ولا حجم ودور القوات التابعة له في جميع هذه المعارك من خناصر وحتى حقل الشاعر مؤخراً، لكن ثمة نزوعاً لدى جمهور النظام، وخاصة المنحدرين من أصول علوية، إلى أسطرته وتحويله إلى بطل شعبي. ولعبت المقابلة التي أجراها معه روبرت فيسك، والمنشورة في صحيفة الإندبندنت اللندنية «مقابلة مع النمر، جندي بشار الأسد المفضّل»، روبرت فيسك، الإندبندنت، 8 تموز 2014.وهنا تلخيص من بي بي سي لأهم ما جاء في المقابلة:يهوى «النمر» كتابة الشعر، إلا أنه من أشرس الجنود، وهو يتوقع الموت في أي لحظة وأن يسقط «شهيداً» فداءاً لوطنه سوريا.وعن حملته العسكرية التي قادها من حماه إلى حلب، يقول «النمر» إنه حاول عبر مكبرات الصوت إقناع رجال جبهة النصرة وداعش أو المعارضة بالاستسلام لأن ليس أمامهم أي خيار آخر، مضيفاً «أحاول اقناعهم أن ثمة خيار آخر غير الحرب والدمار، استسلم المئات منهم، إلا أنهم اعتقدوا اننا نتآمر عليهم فحاولوا الاعتداء علينا بعد استسلامهم».وأوضح النمر أن من يخونه يكون مصيره الموت. ويعتبر العقيد حسن أن ما يجري في سوريا هو حرب أهلية ، وهي معركة ضد مؤامرة دولية».ويصف «النمر» اعداءه بأنهم «مخلوقات وليسوا بشرا، فهم يرتدون الأحزمة الناسفة ويحملون الاسلحة الثقيلة المتطورة والسكاكين».ويقول الرجل الذي يهابه الجميع بأن «قلبه مثل الحجر وأن عقله صاف وهاديء كهدوء البحر، وما من أحد لا يعلم أنه عندما يرتفع الموج فإن البحر يبتلع كل شيء».ويتمتع «النمر» بشعبية منقطعة النظير بين رجاله، فهو نادراً ما يروي نكتة وهو متفان في الإخلاص للنظام السوري»، بحسب فيسك.ويؤكد «النمر» أنه لم ير ابنه منذ 4 سنوات، وأن آخر مرة رآها فيه كان في الثانية من عمره واليوم هو في السادسة من عمره»، مضيفاً «سوريا هي منزلي، وأقسم بأنني لن أراه إلا بعد تحقيق النصر، وربما أموت قبل أن أراه». دوراً مهماً في هذه الأسطرة، حيث قام الأخير بتسويقه كقائد عسكري فذ وبطل أسطوري يحمل مزيجاً من القسوة والنزوع إلى العدالة على غرار أبطال الشعوب المختلفة. ومع انتقاله إلى حماه عقب سيطرة قوات الثورة على رحبة خطاب العسكرية، وحصار ’جبهة النصرة‘ لبلدة محردة، ارتفع منسوب الأسطرة بين أنصار النظام لشخص «النمر»، حيث ذاعت أحاديث وشائعات غير موثقة عن هتافات الجنود بحياته في قلب مطار حماه العسكري، وعن إعدامه عدّة ضباط وجنود بتهمة الخيانة فور وصوله، ثم توجّهه نحو الجبهة للقتال دون أخذ قسط من الراحة.

وكما أن من الصعب الوصول إلى معلومات دقيقة وتفصيلية عن طبيعة تشكيل «رجال النمر»، وعن شخص قائد هذا التشكيل، فإنه يبدو صعباً أيضاً فصل الحقائق عن الهوى عند بحث مسألة كهذه. لكن واقع الحال أن الأمر وصل إلى حدّ انتشار شائعات عن قلق «الأسد» من صعود نجم «النمر»، وعن مسؤولية مخابرات النظام عن عدّة محاولات اغتيال له. وكذلك إلى حدّ انتشار أنباء صحفية مُحالة إلى مصادر مجهولة عن تفكير جهات دولية في التفاوض مباشرة مع سهيل الحسن على مرحلة انتقالية انظر «مقترح ’طائف‘ سوري يناقش في باريس: وسهيل الحسن بديلاً للأسد!»، أحمد صلال، أورينت.نت. وكذلك مقال راديو روزنة «ضوء على مرشّح قوي كبديل للأسد» المنشور في موقع هنا صوتك.، وهو ما يؤشر إلى قرب تفكّك وانهيار النظام السوري. ولأن الوصول إلى مصادر موثوقة يبدو مستحيلاً، فإن الذهاب نحو التفاصيل الصغيرة في أوساط أنصار النظام السوري وتحليلها قد يكون مفيداً في هذا الاتجاه.

تجوب سيارات تحمل عبارة «رجال النمر» شوارع وطرقات الساحل السوري حيث غالبية سكانية تنحدر من أصول علوية، وينظر كثيرون إليها بعين الرضا والإعجاب. فرجال النمر لا يرتكبون أية أعمال مسيئة في تلك المناطق، وليس لهم صلة واضحة بمجموعات الشبيحة والمهربين واللصوص، كما أنهم يخوضون أشرس المعارك بصمت وثِقة. ويركّز كثير من عموم السكان هناك على جملة معطيات أبرزها أن سهيل الحسن لا يترك رجاله للموت تحت الحصار، وأن طعامهم مختلف عن طعام بقية قطعات الجيش السوري الرديء، وأن معاشاتهم الشهرية أعلى، وأن سهيل الحسن يخوض المعارك قرب مقاتليه، ويأكل معهم من طعامهم نفسه. أما سكان قريته فيعرفون جيداً أنه لم يزر القرية منذ أكثر من عامين على الأقل، لكن بعضهم مستاء منه لأنه يرفض كل أنواع الوسائط والرشاوى، ولا يساعد أحداً في تحسين أوضاع خدمته.

يقول أحد الشبان من أبناء ريف طرطوس إنه «غير مستعد للالتحاق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية ما لم يكن ذلك في عداد قوات النمر، وأنه سيذهب إليه طالباً الانضمام، وفي حال تم رفضه فإنه لن يسلم نفسه لشعبة التجنيد تحت أي ظرف». يثني الحاضرون في المجلس على ما قاله ذلك الشاب، لأن «مقاتلي الجيش يموتون بالمجان، ولأن أحداً لن يدافع عن الطائفة العلوية إلا سهيل الحسن ورجاله في حال خروج الأسد من دمشق».

في جلسة على أحد المقاهي في ريف جبلة يشرح أحد الحاضرين أن سهيل الحسن «ينتقي رجاله من خيرة جنود الجيش السوري المخلصين للدولة وللطائفة العلوية، وأن الرئيس الأسد يثق به جداً ويعطيه الصلاحيات الكاملة، وأن الإسناد بالمدفعية الثقيلة والطيران والدبابات لا يتأخر لثانية واحدة عندما يطلبه النمر»، لكن أحد الحاضرين ينتقد الشق الثاني من الجملة قائلاً: «لا أعتقد أنه يثق به كثيراً، لماذا لا يسمح له بالقتال في محيط دمشق بدل حزب الله؟ ولماذا لا يضع الدبابات والمدفعية الثقيلة تحت إمرته المباشرة بدل هدر الوقت في طلبها للإسناد في كل معركة؟».

يمكن أن يسمع المرء أيضاً عبارات تبدو متناقضة، من قبيل أن «سهيل الحسن مقاتل شريف لا يقبل الوسائط والرشاوى ولا يميز بين رجاله، حتى أنه يقوم بتوزيع عائدات جميع الأشياء التي يتم الاستيلاء عليها بالتساوي على الجميع». وأيضاً ثمة من يقول إن من أسباب قوة رجال النمر أنهم «لا يتقاتلون على الممتلكات عند اقتحام مناطق سكنية، لأنهم يعرفون أن ما سيتم العثور عليه سيتم توزيع عوائده عليهم بالتساوي».

يمكن الاستناد إلى ما تمت الإشارة إليه أعلاه للوصول إلى النتائج التالية:

«رجال النمر» هم تشكيل عسكري منضبط يمكن اعتباره مزيجاً من فكرة القوات النظامية وفكرة الميليشيات التي تساندها في الحروب، وعناصره مقاتلون في الجيش النظامي يتم انتقائهم من قبل قيادة التشكيل ويعملون وفق نظام خاص. يعتمد التشكيل في تمويله على مزيج من أموال وزارة الدفاع والأموال العائدة من بيع المسروقات (ما يعرف بـ«التعفيش» كلمة «تعفيش» مشتقة من «العفش» وهو أثاث المنزل، وتطلق على عمليات تفريغ بيوت النازحين المهجورة من محتوياتها بهدف بيعها كغنائم حرب، وهي مصدر رزق وثروة لكثيرين بين قوات الأسد من ضبّاط ومجنّدين ومرتزقة، بالإضافة للعديد من المقاتلين المناوئين للأسد ولا سيما المنشقّين عن ’الجيش العربي السوري‘. ). وعلى الرغم من اعتماد نظام الأسد على هذا التشكيل في معارك مصيرية فإنه لا يثق به تماماً، إذ لا يسمح له بالسيطرة على أسلحة ثقيلة. أما أنصار النظام المنحدرون من أصول علوية فالأرجح أن أغلبهم يثقون برجال النمر أكثر من وثوقهم ببقية تشكيلات الجيش السوري، لأنه يتصرف كما لو أنه جيشهم الخاص. ولا يجد النظام السوري مانعاً من أسطرة هذا التشكيل وزعيمه، بل إنه يدعم تقديمه شعبياً كمخلِّص محتمل للعلويين في حال سقوط النظام في المركز، لأن ذلك يُبقي أولئك الذين فقدوا الثقة بالنظام مرتبطين به بشكل غير مباشر. لكنه في الوقت نفسه يُبقي التشكيل برمّته تحت السيطرة خوفاً من أن ينازعه على السلطة، سواء في المركز أو في الأطراف.

يمكن اعتبار ما تقدم دليلاً على سير النظام السوري تحت وطأة الحرب الطاحنة على طريق الانتقال النهائي من منطق الدولة إلى منطق أمراء الحرب، ويمكن اعتباره مَعلَماً هاماً على طريق استقراء المآلات المحتملة لأبناء الطائفة العلوية في حال انهيار السلطة المركزية في دمشق، إذ يبدو أن ثمة تشكيلات تنمو وتتطور لتكون نواة إمارات حرب يمكن تتولى مهمة الدفاع عن مناطق العلويين، وإخضاعهم عند اللزوم أيضاً. لكن هذه التشكيلات لا تزال منضبطة حتى اللحظة بحيث يمكن إعادتها إلى حظيرة السلطة المركزية في حال نجاة النظام السوري، أو في حال الوصول إلى الحل التفاوضي الذي يسعى إليه المجتمع الدولي.