ماذا عليّ أن أفعل؟
عندما كنت في السادسة عشر من عمري، شاهدت فيلم الفتاة ذات الشعر الأحمر، وهو من إنتاج الهولندي عن هاني شافيت، إحدى أشهر شخصيات المقاومة الهولندية خلال الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، تأثرتُ كثيراً بشجاعة تلك المرأة في الوقوف ضدّ المحتل والقتال من أجل تحرير هولندا. أتذكر المناقشة التي دارت في الصف: ماذا كنت سأفعل في ظروف مماثلة؟ هل ستكون لديّ الشجاعة نفسها في المقاومة إن كان وطني يعاني من الدكتاتورية أو الاحتلال؟
هذا السؤال لم يكن افتراضياً لرزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حْمادة وناظم حمّادي على الإطلاق. حتى قبل بدء الثورة في ربيع 2011 كان سؤال «ماذا سأفعل» جزءاً من حياتهم. أنا لم ألتقِ بسميرة ووائل وناظم. عرفت سميرة قليلاً من أحاديث أجريتها مع زوجها ياسين الحاج صالح، ومن فيلم بلدنا الرهيب لعلي الأتاسي وزياد الحمصي، الذي سيُعرض بعد هذا الحفل. لذلك أرجو أن تغفروا لي التركيز في مداخلتي على شخصية واحدة كنت قد التقيت بها، وساعدتني في فهم وضع حقوق الإنسان في «سوريا الأسد»، وقتَ كنت أعمل في دمشق كدبلوماسية هولندية بين 1999 و2004. التقيت رزان لأول مرة في 2001 عندما كانت تتدرب في مكتب هيثم المالح، الناشط المعروف بدفاعه عن حقوق الإنسان. ظهرت رزان خجولةً في البدء، ولكن ما إن بدأنا الحديث عن الثمن الذي يدفعه الشعب السوري تحت ديكتاتورية الأسد حتى أدركت أن هناك ناراً تتّقد وراء ذاك المحيّا الخجول. في السنوات التالية أصبحت رزان واحدة من أبرز المحامين المدافعين عن حقوق السجناء السياسيين. بعدها عملت على تأسيس منظمات مثل ’جمعية حقوق الإنسان في سوريا‘ و’رابطة معلومات حقوق الإنسان السورية‘. في كل نشاطاتها ركّزت رزان على أهمية توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في بلدها، على أمل أن يأتي يوم يحاسَب فيه المجرمون أو ينتهي عهد الخوف.
ماذا كانوا يفعلون؟
لم أُفاجَأ بدور رزان المحوري في الثورة السورية. كانت تبدو لي كما لو أن كل حياتها المهنية تحضير لهذه اللحظة. بالتعاون مع نشطاء آخرين أسّست ’مركز توثيق الانتهاكات في سوريا‘، وشاركت أيضاً في تأسيس ’لجان التنسيق المحلية‘. في ’مركز توثيق الانتهاكات‘ حاولت هي وزملائها توثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من جميع الأطراف، سواء نظام الأسد أو المعارضة أو الجماعات الإسلامية المتطرفة.
مع وزوجها وائل وأصدقائها وزملائها سميرة وناظم وغيرهم من النشطاء، عملت رزان مع منظمات المجتمع المدني في الغوطة الشرقية المحاصرة. كانو قد أدركوا أن العمل الثوري الحقيقي يجب أن يكون متّصلاً بالشارع، وباحتياجات الناس الذين يعانون منذ زمن طويل في ظل الدكتاتورية الأسدية. النشطاء السوريون كانوا مثل بَطَلات المقاومة في سنوات صِباي: يقومون بنشر المعلومات وتنسيق المظاهرات وإسعاف الجرحى وتقديم المساعدات الإنسانية حيثما كان ذلك ممكناً. كانوا قد فهموا جيداً أن النضال من وراء الكمبيوتر (clicktivism، تصوُّر أن الثورات تغريدات على تويتر أو لايكات على الفيسبوك) لن يؤدي إلى تغيير حقيقي. ومع ذلك، كانت رزان، وقد توارت عن الأنظار منذ بداية الثورة، تنشر بين حين وآخر صوراً لقِطط لطيفة على صفحتها في الفيسبوك، وكأنما تتحدى صور القطط تلك الجانب المظلم من الثورة وقت تزايد العنف.
عرف نشطاء ’مركز توثيق الانتهاكات‘ أنه يجب توظيف وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية والحراك الرقمي من أجل تحقيق أهداف أوسع. حدّد المركز هذا الهدف بجمع وتبادل معلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان من أجل وضع حدّ لانفلات منتهكي حقوق الإنسان في سوريا من القانون.
رزان ليست فقط رمزاً للثورة السلمية التي تريد تغيير نظام الأسد، ولكنها أصبحت أيضاً رمزاً لدور المرأة المحوري في الثورة السورية. كلما تيسّر الأمر، كانت رزان تحاول أن تنقل لوسائل الإعلام الغربية رسالة مفادُها أن الثورة السورية هي حراك سلمي شعبي يهدف للتحرر من حكم دكتاتور قاسيْ. لجهودها هذه مُنحت جائزة ساخاروف لحرية الفكر من البرلمان الأوروبي عام 2011. ولكن رزان لم تكن مهتمّة بالجوائز. أخبرني صديق –كان قد سألها إن كانت ستوافق على ترشيحها لجائزة التوليب الهولندية المرموقة لحقوق الإنسان– أنّ رزان ردّت على الاقتراح فوراً بترشيح شخص آخر، كأنها لم تكن تريد أن تكون محطّ أنظار لعمل تعتبره الشيء السويّ الذي يبنغي القيام به. في أحد أخر الايميلات التي تبادلناها سألتها من أين لها كل هذه الطاقة للمتابعة، فأجابت: «أنا أعمل من أجل حلم الغد، لا أستطيع الاستسلام أمام معانيات أجيال من السوريين جاءوا قبلي».
ماذا يمكننا أن نفعل؟
عندما طُلب مني الكلام في هذه المناسبة كنت متردّدة في البداية. فأنا لا أريد أن يُحرم النشطاء السوريون من فرصة إيصال أصواتهم. ولكني أدركت أهمية التضامن بين الأوروبيين، نشطاء وجمهوراً متابعاً وكتاباً وحقوقيين، ذلك أن ما يحدث في سوريا هو أيضاً عمن نكون نحن كأوربيين. كيف يمكننا الردّ كمواطنين أوروبيين عندما ينجرّ بلد على الضفة الاخرى من المتوسط إلى هكذا حرب رهيبة؟
هذا ليس المكان المناسب لمناقشة ما إذا كان ينبغي للمجتمع الدولي أن يتدخل عسكرياً، في 2011 أو 2013 (بعد الهجوم على الغوطة بالكيماوي) أو الآن، في المعركة ضد داعش.
ولكنه مكان مناسب لنسأل أنفسنا عما إذا كان يمكننا كمواطنين أوربيين الضغط على حكوماتنا لتكون سياساتها في شأن سوريا ذات أفق استراتيجي، عبر الإصغاء إلى الأربعة من دوما وكثيرين غيرهم. ينبغي أن نسأل حكوماتنا عما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي (أعني أوروبا والولايات المتحدة، وغيرها من الدول التي تشاطرها الرأي – لأن من الواضح أن روسيا والصين ليستا إلى جانب الشعب السوري). كيف يمكن أن ندعم رزان وسميرة ووائل وناظم وغيرهم؟ ألا ينبغي لنا أن نتأسّف لردود فعلنا الفاترة، بل الجليدية، في الأشهر الأولى للثورة السورية؟ وقتها لم يكن كثيرون يؤمنون بأن الشعب السوري يمكن أن يثور وينجح في ثورته، وكان الكثيرون من سياسيينا وأصحاب القرار وأصحاب التنبؤات مأخوذين بالصورة المفبركة لبشار الأسد والسيدة أسماء عن «النظام العلماني» الذي يحمي الأقليات الدينية والنساء.
كيف يمكن أن نمضي في اعتقاد كهذا بعد ما يقارب أربع سنوات من القتل والفظائع واستعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه؟ وبعد دعم النظام الضمني لإرهاب لا يبدو أحد قادراً على التصدّي له؟ وبعد لجوء الملايين إلى دول الجوار؟ وقبل أن يفرح أي شخص اليوم بأن حجم اللجوء من سوريا قد انخفض، يجب أن نتذكر ملايين النازحين داخل سوريا من أناس خسروا كل شيء في كثير من الأحيان، ولا يستطيعون حتى الحصول على المساعدات الإنسانية، لأن نظام الأسد لا يسمح بوصولها إلى المناطق الشمالية وإلى مخيم اليرموك ومناطق أخرى تحت الحصار. آلة القتل الأسدية والتقاعس الدولي ساهما في هوس وسائل الإعلام الغربية بداعش، ما عزّز لدى السوريون الشعور بالعدمية المطلقة، وهذا مزاج يعزّز التطرف. نحن في أوروبا خائفون من عودة محتملة للجهاديين، ولكن أليس علينا أن نتخيل وجودهم داخل بيئات سورية فرضوا عليها الخضوع لهم بالترويع؟
سأعيد طرح سؤالي: ماذا يمكن أن نفعل لدعم المجتمع المدني في سوريا؟ هل من استراتيجية طويلة الأمد لدى العواصم الأوروبية في هذا الشأن؟ كم من الملايين التي رُصدت لدعم المجتمع المدني أنفقت فعلاً على تعزيز طاقة المنظمات السوريين والناشطين السوريين؟ كانت المبادرات الداعمة لـ’المجلس الوطني السوري‘ ولـ’وحدة الإغاثة والتنسيق‘ ومبادرات الحكم المحلي أو «الجماعات المسلحة المعتدلة» في الغالب قصيرة الأمد وغير منتظمة. وفيما كان المانحون الأوروبيون يطالبون أن يعمل متلقّو المساعدات بشفافية وبصورة مستدامة، ثبت أنهم هم أنفسهم ليسوا كذلك.
سيكون من الخطأ أن نعتقد أننا لا نستطيع فعل شيء. الحلّ في الواقع بسيط جداً: يجب أن نثق بالسوريين وندعمهم لأنهم الأقدر على تقرير مصيرهم. اليوم، يجب أن يفتح المجتمع الدولي عينيه ويدرك وجود سردية سورية أخرى، وأن الشعب السوري يشاركنا إنسانيتنا. ياسين الحاج صالح، زوج سميرة الخليل، قال ذات مرة: «إنهم لا يروننا في الغرب، علينا دائماً أن نقدم البراهين على أننا موجودون… لكننا موجودون فعلاً، أقسم على ذلك!».
والسؤال المطروح هو: هل نحن على استعداد أن نقبل هذا الوجود؟ لماذا كلما نشر النشطاء السوريون شيئاً على يوتيوب يقال: «هذه صور لا يمكن التحقق منها»؟ في حين أن صور داعش يُنظر إليها على أنها الحقيقة الكاملة عن سوريا! لماذا الفيديو الذي يُظهر رزان فقط أربعة أيام قبل اختطافها وزملاءها لم يسجّل أكثر من 6000 مشاهدة؟ هل نحن مهتمون أكثر بمشاهدة قطع الرؤوس مما بمطالبة النشطاء السوريين الشجعان بالحرية والعدالة؟
هل يمكن لنا نحن، الجمهور الحاضر هنا، الصحافيين، السياسيين، أصحاب القرار، أن نقوم بتسليط الضوء على هذا السرد الآخر المختلف تماماً عن قصص مهيمنة في وسائل الإعلام، مثل قصة «الأسد هو الشيطان الذي نعرفه»، وقصة الشياطين المجهولين ذو اللحى الطويلة المعروفين باسم داعش.
ملاحظة جانبية: أودّ أن أقترح أن نسميها «داعش»، وهذا الاسم اختصار سلبيّ التضمينات في العربية لاسم ’الدولة الإسلامية العراق والشام‘، وهو مكروه من أتباع ذلك الكيان لأنه لا يتضمن ما يريدون من إحالة إلى الإسلام. ويعني الجمع «دواعش» المتعصبين الذين يفرضون معتقداتهم على الآخرين. إن ذلك الإحساس الذي تتضمنه كلمة «داعش» يصف لي من يكون الدواعش: منظمة إجرامية تُفرط في استعمال اسم الإسلام لشنّ حرب غرهابية ضد الشعب السوري والعراقي – وفي النهاية ضد الإنسانية.
إن من الطبيعة البشرية أن تمسّنا الأحداث الجارية عن قرب في ديارنا. لكن هذا لا يعني أن نبقى صامتين عن هؤلاء المتأثرين بشكل مباشر من إجرام داعش ومن عنف نظام الأسد. إن القلق حول ما يسمى الجهاديين الأوروبيين الذاهبين إلى سوريا يكتسح وسائل الإعلام لدينا. أصوات الخوف وأفعال الكراهية والقسوة الداعشية هي على أخبارنا، ويمكن أن يراها ما لا يحصى من الناس على اليوتيوب. لكن صوت الديكتاتور المسؤول عن مقتل أكثر من مئتي ألف من شعبه هو أكثر من مجرد همسات «الشيطان الذي نعرفه».
في الواقع، هناك قصة ثالثة يمكن أن نختارها. ابتداءً من اليوم وحتى 9 ديسمبر، المناسب لذكرى اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم، نطلق حملة لمحاولة خلق الوعي عن محنتهم والعمل على إطلاق سراحهم من خلال مطالبة البلدان القادرة على الضغط التأثير على الخاطفين المفترضين للنشطاء الأربعة.
آمل أن تساعد جائزة بترا كيلي الممنوحة لمركز توثيق الانتهاكات والأربعة من دوما في جذب المزيد من الاهتمام لقصة رزان وسميرة ووائل وناظم، وعملهم لسوريا أفضل، سوريا حرة وعادلة.
لقد حان الوقت لنسرد هذه القصة الأخرى، وحان الوقت لنستمع لأصوات الناس الذين يمثلون ما يريده العديد من السوريين من الثورة: الحياة بكرامة، والحياة بحرية. بعد أن نكون استمعنا لمطالبهم يمكننا أن نبدأ في العمل – وسنقدر أن نعزّز عمل ’مركز توثيق الانتهاكات‘ ونشاط رزان وزملائها. بغض النظر عن صعوبة العمل في الظروف الحالية في سوريا، بقي ’مركز التوثيق‘ يحاول الاستمرار. لهذا فإنه يستحق منا الدعم المعنوي والمالي بطرق تناسب وضعه في سوريا. في يوم ما سوف تنتهي الحرب في سوريا، وسيقع على السوريين أن يعيدوا بناء مجتمعهم. يمكننا أن نبدأ بدعم الرؤية لمستقبل جديد من خلال دعم طويل الأجل للمجتمع المدني السوري وللناشطين داخل سوريا وخارجها. وقتها سنتمكن أن نقول لرزان وسميرة ووائل وناظم: غبتم لبعض الوقت، لكننا واصلنا عملكم لأننا مؤمنون بكفاحكم.
وختاماً، قال لي ياسين الحاج صالح الأحد الماضي في محادثة سكايب: «هل تعرفين ما الذي يجعل سميرة مميّزة؟ هي تحب العزلة، ولكنها مستمِعة مدهشة في الوقت نفسه، تشجّع الناس على قول ما في قلوبهم، لذلك يحبها الجميع».
أجرؤ على القول إنني أبوح بما في قلوبنا كلنا حين أقول إننا نأمل بيوم، عاجل أو آجل، نقول فيه لسميرة ورزان ووائل وناظم وعشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين لدى النظام أو المخطوفين من قبل الجماعات المتطرفة: لقد واصلنا العمل بالروح التي عملتم أنتم بها من أجل سوريا حرة وعادلة لجميع مواطنيها.
شكراً لاهتمامكم.