سُميت ثورات «الربيع العربي» بثورات الحرية والكرامة، حيث بدا أن ما تهدف لتحقيقه الشعوب الثائرة، هو سير قطار التاريخ على سكتي الحرية والكرامة المتوازيتين. كما أخذت الكرامة موقعاً متقدماً على الخبز في الشعارات الأولى للثورات، على عكس ما كان سائداً في الثورات التقليدية في التاريخ.
ذلك الموقع المتقدم للكرامة يعود بتقديرنا لمسألتين: الأولى، هي إنه كان من الواضح في «الغريزة الثورية» لدى الشباب أن تحقيق وتحصيل الحرية والكرامة؛ المهدورتين في بلداننا، هو شرط أولي وأساسي للإنتاج، وتأمين خبز الكفاف والوقاية من الجوع. وذلك ما نصيغه هنا على نحو فكري وفلسفي عبر قول آنتي/ ماركسي نفترض من خلاله أن البنية الفوقية في زماننا المعولم هي الحامل «الموضوعي» للبنية التحتية، وهي الشرط الأساسي —الضروري وليس الكافي— لرفع الاقتصاد وتقدمه. وذلك ربما يعني فيما يعنيه إعادة نصب الإنسان على رأسه من جديد بعد أن أوقفه ماركس على قدميه، وهو تحويل يحمل في صلبه قلب قيمي وتقويمي يجعل من قيمة وأهمية ومعنى الرأس فوق قيمة وأهمية ومعنى القدمين واليدين كأدوات للعمل والثروة وإنتاج الخبز.
المسألة الثانية، هي اقتران الشعلة الأولى للثورات بحرق محمد البوعزيزي لنفسه بعد شعوره باليأس والإذلال، والمعنى الرمزي المكثف الذي لخصته تلك الحادثة في تعبيرها عن واقع الإنسان العربي وعلاقته بالسلطات الحاكمة. حيث أصبحت الكرامة المستباحة، عبارة عن طبقات متراكمة من الذل في اللاشعور الجمعي لشعوبنا، وذلك منذ تأسيس «الدولة» العربية الحديثة على الأقل، فبعد هدر الكرامة الذي جاءنا على يد الاستعمار الأوروبي المباشر بداية القرن الماضي، تضاعف الإحساس الشعبي بالمهانة عندما تم إعلان الدولة اليهودية القومية على أرض فلسطين بالتزامن مع «استقلالنا».
ثم لم تلبث شعوبنا أن شعرت بأمل استعادة الكرامة، مع «الوهم الحقيقي» الذي تركه عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، حتى سقطت، منذ السبعينيات وما بعدها، في استباحة كرامة مزدوجة ومضاعفة، مثلته إسرائيل مرة أخرى بعد حرب الأيام الستة، ثم تابعته أنظمة الاستبداد التي تحالفت موضوعياً مع العدو في سحق الشعوب وإذلالها وإشعارها بانعدام الكرامة.
لقد كانت الرغبة في الاعتراف بالذات واسترداد الكرامة، أشبه «بالمحرك الأول» القابع خلف انتفاضات الشعوب العربية، غير المعترف بها، لا من أنظمتها «الوطنية» ولا من العالم المعولم في صيغته الأشد اغتراباً ووحشية ضد ضعفاء/نا.
يطلق أفلاطون على الشعور بالكرامة وما ينتج عنها من رغبة في الاعتراف بالذات اسم «التيموس» ويضع هذا التيموس، الموجود عند كل البشر بتقديره، في أعلى الصدر، بين النفس الغضبية والنفس العاقلة، ما يجعله حائزاً على سمات العقل البارد، والنفس الشجاعة الحامية، التي تنتفض لأجل كرامتها واعتزازها ورغبتها بأن يُعترف بها ويتم احترامها، وفي الزمن الحديث غالباً ما كانت المطالبة بالاعتراف بالمساواة أو الاحترام هي «عاطفة الحضارة الغالبة»، كما أشار توكفيل منذ أكثر من 170 عاماً في كتابه «الديمقراطية في أمريكا».
ثم تعمقت أطروحة أفلاطون مع الفيلسوف الهيغلي، الروسي الفرنسي، ألكسندر كوجيف الذي ارتكز إلى هيغل في إعادة طرح فكرة «الرغبة في الاعتراف بالذات» ليعدّها مدخلاً لفهم حركة التاريخ وفلسفته، فبعد أن شهد العالم فيما مضى تنافساً وصراعاً بين الأفراد الذين كان كل واحد منهم يرغب في أن يجلب لنفسه اعتراف الغير وإعلان الحرب عليه حتى يستعبده، أخذ العالم الحديث يشهد اعتراف الجميع بالجميع، وذلك بفضل تحقق فكرة الديمقراطية وظهور مفهوم «المواطن» ذي الحقوق والواجبات ومفهوم «المساواة» بين الأفراد على أساس الاعتراف المتبادل.
لكن ما سنناقشه هنا في سياق الثورات، هو أن الكرامة بوصفها هدفاً ومطلباً، تمت إعاقتها على طول الخط الثوري، من معنى آخر مترسِّب للكرامة، هو الكرامة بوصفها موروثاً ثقافياً بارانوئياً لدى شعوبنا ذاتها، وهو معنىً مستقدماً من تاريخنا الذي لم نصفِّ حسابنا معه حتى اليوم بأي شكل من الأشكال. حيث تجد هذا المعنى للكرامة في المركزية العربية/الإسلامية القائمة على الماضي المجيد، والبطولات والفتوحات العربية التي توقف عندها الزمن، فبقينا فيه وبقي فينا دون أن ندرك مضيه وانقضاءه، ودون تقبُّل حقيقة، غير حقيقة أننا «خير أمة أُخرجت للناس»، مع إنكار مديد لهزيمتنا، بل لهزائمنا التاريخية منذ قرون.
إن ما هو مُلاحظ دون أن تخطئه عين في الثقافة العربية/ الإسلامية الحديثة ثم المعاصرة، هو أن هناك شعور واسع ومترسب بالكرامة، لكنه شعور وهمي ومرضي وتعويضي عن افتقاد الكرامة في الواقع، وهو قائم بوصفه ردة فعل تاريخية على الانحطاط الذي تلقته التجربة العربية الإسلامية بفروعها كافة منذ انتهاء العصر الإسلامي الذهبي، كما أن الرغبة في الاعتراف لم تعد ترتكز في ثقافتنا الحديثة على الاعتراف المتبادل، وعلى قدم المساواة، مع شعوب سبقتنا في طور الحضارة، بل الاعتراف بتفوقنا الجوهري على تلك الشعوب، وهي رغبة لا ترتكز على الواقع بأي حال، بل على واقع مخيالي مضى وانقضى، ولكننا مصرّين أن نتعامل معه؛ انطلاقاً من لاشعورنا الثقافي الجمعي، على أنه حاضر كامل الحضور دون أن يمسّه نهر الزمان وتغيراته.
يمكن أن نضيف إن الكرامة الأصل بوصفها كرامة مخيالية متمركزة على الإسلام الفاتح في عصره الذهبي، انتقلت بطبيعة الحال إلى الكرامة الفرع فأصبح كل مذهب وكل طائفة تمتلك شعوراً خاصاً ومتمركزاً على ذاته من الكرامة، معاد للآخرين في الطوائف والمذاهب الأخرى، كما أنه معاد وناف للعالم في الوقت ذاته، وتشكل ظاهرة البغدادي وخلافته الإسلامية أسوأ أنواع الردود على الكرامة المهدورة وأقصاها تطرفاً في التعبير عن حاجة استرداد الكرامة.
[quotes]إن تحول مفهوم الكرامة من هدف رئيس وشعار نبيل للثورة السورية إلى مشكلة وعائق أمامها، هو استعادة لمعنى الكرامة الوهمي الذي ساد دائماً قبل الثورة[/quotes]
نسمّي هزيمة حزيران «نكسة»، بل يخرج علينا من يشكر الله على حدوثها كونها أبعدت الخطر الشيوعي (الشيخ متولي الشعراوي)، ثم نسمي حرب تشرين بـ«التحريرية» رغم نزوح ثمانون ألف مواطن جديد من القنيطرة المدمرة وخسارة قرى جديدة لم تكن محتلة من قبل، ثم نسمي هزيمة لبنان في 2006 نصراً إلهياً لحزب الله، ولا تتورع حركة حماس عن تسمية الدمار والهزيمة التي تلقتها في شهر تموز الماضي بالنصر الإلهي أيضاً، لكن الأخطر بتقديرنا، هو أن الثورات التي خرجت ضد هذا النوع البارانوئي الوهمي من الكرامة، وضد عدم الاعتراف الذي عانته الشعوب العربية من أنظمتها ومن العالم، وبغية استبداله بنوع آخر أكثر واقعية يقوم على الاعتراف المتبادل والمساواة الحقوقية والإنسانية، بدأت تسقط في آتون النوع القديم للكرامة الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ذلك ما بدأ مع «تخبيصات» الإخوان المسلمون في مصر ومهزلة الانقلاب العسكري ضدهم فيما بعد، ثم استمر مع المآلات المخزية للثورة الليبية، لكنه أخذ كل أبعاده في سورية بعد الهزائم المتوالية التي تلقتها الثورة على يد أمريكا الأوبامية وروسيا القيصرية، ثم إيران الخمينية وأتباعها في سوريا ولبنان، دون أن ننسى التحالف الموضوعي الذي أقامه الإسلام المتطرف (وأحياناً السياسي) مع كل من سبق ذكرهم من «أصدقاء» وأعداء للثورة السورية.
إن تحول مفهوم الكرامة من هدف رئيس وشعار نبيل للثورة السورية إلى مشكلة وعائق أمامها، هو استعادة لمعنى الكرامة الوهمي الذي ساد دائماً قبل الثورة، وروجته واحتفلت به دول الممانعة بثقافتها ومثقفيها وانتصاراتها الوهمية و«الإلهية»، كما أن التعالي الأجوف على الهزيمة الذي تمثله قوى المعارضة السياسية البليدة، ليس سوى استمراراً لثقافة الإنكار التي برع فيها النظام حدَّ الجنون، وحدَّ الخراب الشامل الذي تركه ذلك الإنكار في سوريا وفي شعبها.
لكن الاعتراف بالهزيمة ليس بأي حال اعترافاً سياسياً هدفه التحريض على اليأس، بل هو اعتراف ثقافي من موقع القوة لا من موقع الضعف، حيث إنه من غير الممكن للهزائم السياسية والعسكرية أن تصبح واقعاً، طالما أن الثقافة العامة والخاصة فاعلة وحيَّة ومنتصرة، ومن هنا فإن روح الثقافة السورية التي لفظت النظام خارجها منذ البدايات السلمية للثورة، لم يعد من الممكن هزيمتها إلا في حال النكوص الثقافي الكلي للشعب السوري نحو المبادئ التكوينية المؤسسة لثقافة النظام بما تمثله من ذل ومهانة وانكار وانفصال وكرامة وهمية مترسبة، وذلك ما يجب استدراكه إذا اعتبرنا أن الثقافة هي ما يبقى بعد أن تنتهي الحروب، وليس بعد أن ننسى كل شيء، كما في تعريفها السائد والصحيح أيضاً.
إن الاعتراف بما نشهده من هزائم هو باب أول للتجاوز، وطريق رئيس للنصر واستعادة المبادرة والنهوض والقيام و«القيامة»، ليس ذلك اعترافاً بالواقع على طريقة سياسة الأمر الواقع المقيتة التي يتعامل بها الغرب مع مجريات الحدث السوري، ولا دعوة لقبول الواقع والاستكانة له على طريقة ثقافة الرضى والقناعة والصمت والتسليم للقدر والسلطة، بل دعوة لفهم الواقع للثورة عليه، رفضه وتغييره واقعياً وتنظيمياً، لا رومانسياً ولا إرهابياً. دون فهمه لا يمكن تجاوزه وفتح طرقات الأمل ومسالك الرشد أمامنا من أصغر تفصيل حتى أكبر العمليات السياسية والعسكرية «النوعية»، كما أن إنكار الهزيمة وعدم جعلها عتبة للفهم والتجاوز والانطلاق، ليس سوى تكراراً لما عاينه جيل كامل ممن عاشوا أحداث الثمانينيات وإصرار الغالبية منهم على إنكارهم، ليصبحوا عقبة سياسية وثقافية أمام تقدم الثورة منذ انطلاقها.
إن كرامة الشعب السوري التي خرج السوريون لأجلها، والتي ما زالت مستباحة بعد ثلاث سنوات ونصف من الثورة، ليست في استعادة الدولة الأموية، ولا الخلافة الإسلامية، بل في سحب الاعتراف من فم العالم المتوحش، ومن قلب النظام الموغل في البربرية، هي كرامة الاعتراف المتبادل، لا فوق ولا تحت، لا سيادة همجية ولا عبودية خانعة، نحن من هذا العالم، لسنا أفضل ولا أسوأ منه، لكننا قمنا بثورة، وهي ثورة الكرامة، ولابد أننا سنجد طريقنا للخلاص، لدينا قضية عادلة ومحرز كبير ولّدته التضحيات، وهو محرز جديد ومتجدد في تاريخنا، خلقته الثورة منذ انطلاقها، ومنذ وقوعها وبقائها واقعاً يفرض نفسه بقوة على الجميع، وأمراً واقعياً وفي صلب الواقع السياسي المحلي والاقليمي والدولي، والواقع الثقافي للبلد وشعبه في الداخل و”الشتات”، ولذلك لابد من الاصرار على محرز الثورة، ومحرز الكرامة بوصفها هدفاً في الأفق لا وهماً من الماضي، الوهم أيضاً هو وهم الانتصار الإلهي لنظام على شعبه، علينا ألا نشارك من جهتنا، وعلى طريقتنا، في هكذا انتصارات وهمية ليس مصيرها في التاريخ سوى الخيبة.