رغم أن حصان دون كيشوت الهزيل ورمحه الصدئ لا يمكن مقارنتهما بعربات تنظيم الدولة الإسلامية وبنادقها، إلاّ أن المرء لا يمكن أن يصمد لإغراء المقارنة بين «خليفة الرقّة» وشخصية سيرفانتس الشهيرة. ولعل السبب الأوضح لهذه المقارنة هو أن كلا الرجلين يحملان مشروعاً أكل عليه الدهر وشرب، ويحاربان من أجل ذلك بكل جدّية دون أن يفهما على الإطلاق سرّ استغراب الآخرين لما يفعلان.

ويبدو لي أن الصعوبة الكبرى التي تواجهها هذه المقارنة هي الفرق الأخلاقي البيّن بين شخصية طيّبة وإن كانت حمقاء كدون كيشوت، وشخصية البغدادي الدموية والتي يتم تصويرها وكأنها جمعت الشرّ من أطرافه. بل وحتّى المعيار المذكور أعلاه والمستخدم لتلك المقارنة بالذات على أنه الأمر المشترك بينهما —أي المشروع التراثي المتآكل كرمح دون كيشوت نفسه— ليس بوضوح الفرق بين الشخصيّتين ويحتاج الى معالجة نظرية وتاريخية طويلة.

إذ أن المشروع المذكور، أي الخلافة الإسلامية، ينتمي الى صفحات الكتب القديمة الصفراء فقط في أدمغة بعض المثقّفين العرب والمسلمين. أما «المواطنون العاديون» —وخاصة من الطائفة السنّية— فتشكّل الخلافة لكثير منهم فردوساً مفقوداً يختبئ في مكان ما منتظراً الفارس الذي يستطيع إشهاره. لا يغيّر من حقيقة ذلك أن الصورة التي يحملها ذلك المواطن العادي للخلافة لا علاقة لها بالحقيقة التاريخية، أي بنظام الحكم والمجتمع في عصور الخلفاء الطويلة بدءاً من أبي بكر وانتهاء بعبد المجيد الثاني. فتلك الصورة كامنة في «المخيال الجمعي» للناس الذي تتحكّم فيه العوامل العاطفية والنفسية وليس التحليل المادي التاريخي مثلاً. وعناصر تلك الصورة هي نفسها «عناصر المثال» الذي يحلم به ذلك المواطن أسقطها على الخلافة. وهو يحلم بها لأنه محروم منها. لذلك فليس من الصعب توقّع بعض تلك العناصر كالعدالة والقوة والمكانة الدولية مثلاً. أما العناصر الأخرى فلا يمكن للمثقّف أن يتوقّعها بنفس السهولة لأن ما هو مثالي عنده ليس كذلك لدى ذلك «المواطن العادي». والعكس صحيح. وذلك المواطن العادي بالذات هو من يتوجّه اليه المشايخ والدعاة لأنهم يعرفون كيف يستثمرون «رأسمالهم الرمزي» عنده. ولذلك لم يستنكر أي واحد منهم فكرة إقامة الخلافة بحد ذاتها، ولكن فقط هوية الخليفة والتنظيم الذي يقوده وغياب البيعة من أهل الحل والعقد الحقيقيين. فلو كان اسم الخليفة «رجب طيب أردوغان» والمبايعون «هيئة العلماء المسلمين» مثلاً لاختفى الاعتراض وحل الترحيب محله..مثلاً.

ولنتأمل في الحالة التي لا خلاف على استيهاميّتها: يقول ميشيل فوكو واصفاً موقف دون كيشوت من روايات وملاحم فرسان العصور الوسطى التي حاول أن يجسّد أبطالها: «على دون كيشوت التشبّه بالنصوص التي هو شاهدها وممثّلها ومثيلها الحقيقي. أن يبرهن وأن يحمل العلامة التي لا تُدحض بأنها تقول الحق، وأنها فعلاً لغة العالم. وينبغي له أن ينجز وعد الكتب. وهو الذي عليه أن يعيد صنع الملحمة ولكن باتجاه معاكس: فالملحمة تقص (أو تدّعي أنها تقص) مآثر حقيقية، مكرّسة للذكرى، أما دون كيشوت فإن عليه أن يملاً بالواقع شارات القصة التي لا مضمون لها. وستغدو مغامرته … تحويل العالم الى شارات: … بأن شارات اللغة مطابقة تماماً للأشياء نفسها. إن دون كيشوت يقرأ العالم ليبرهن على الكتب» كتاب الكلمات والأشياء ص 84.

وقد أورد فوكو مثال دون كيشوت في كتابه المذكور لأنه إعلان عن انتهاء «ابستيمة» معيّنة تحكّمت بأنماط التفكير والخطاب لعصر كانت أوربا قد ودّعته تقريباً عندما كتب سيرفانتس روايته تلك التي نُشرت عام 1605. كانت الرواية إذاً وداعاً أدبياً ولكن بوضوح الرسم الكاريكاتيري.

ولكن إذا كان «الفارس الحزين» يقرأ العالم ليبرهن على الكتب، بعبارة فوكو، فهل يفعل «الخليفة إبراهيم» شيئاً غير ذلك؟

جرياً على هذه الاستعارة سنقول أنّ الرجل قد جمع كل ما استطاع من «شارات» القرن الهجري الأول —رموزاً لغوية ومادّية—  في «كتاب» تخيّلي قرّر البرهنة عليه بأي ثمن، وساعده على ذلك تآكل طواحين الهواء التي هاجمها. أي فساد الضبّاط العراقيين وحكومتهم وتآكل البنيان السياسي والحزبي، حيث «الفساد الذهني» —أنماط التفكير الطائفية والظلامية —أسوأ من الفساد المالي، وهو سيئ بما فيه الكفاية.

وتطلع علينا الصحافة كل يوم بشارات جديدة من ذلك النوع كان آخرها العملة المعدنية التي صكّتها «الدولة الإسلامية». وليس الاقتصار على الشكل المعدني للعملة هو الشارة الوحيدة طبعاً. فهي لا بد أن تحمل هي ذاتها علامات موافقة كعبارة «خلافة على منهاج النبوة» مثلاً المطبوعة عليها.  يضاف الى ذلك اللغة التي صيغت بها خطابات البغدادي، والتي جعلتها تشبه خطب الجمعة في المساجد لا خطباً سياسية لدولة تتحدّى العالم. فهذه اللغة بحد ذاتها هي أيضاً «شارة» من تلك الشارات، إن لم تكن أهمّها على الإطلاق. فالمستمع يرصد حرصاً غريباً على أدقّ التفاصيل، منها مثلاً كثرة الاستشهادات «بكتاب الكتب» أي القرآن. ولكنّ اللفظ بحد ذاته شديد الدلالة فالبغدادي —أو صاحب الصوت على الأقل —يحرص مثلاً على اتباع قواعد التجويد بكل دقة فيما يقول. وهي —لمن لا يعرف— قواعد لتلاوة القرآن تراعي أن يلفظ كل حرف بما يناسبة من إخفاء وإظهار وإدغام ..الخ. وعندما يحدّد لزحف جيشه حدوداً لن يقف قبل الوصول إليها فهو يجعلها «روما» —لا باريس ولا لندن ولا واشنطن وهي العواصم التي تقاتله في الواقع— والسبب هو الرمزية التاريخية لروما وساكنيها من «الروم» —لغة الكتب مرّة أخرى—.

كان دون كيشوت يرسل «انتصاراته» لأميرة فؤاده —وهو سلوك مأخوذ من الكتب نفسها— التي لم تكن في الواقع الذي كان عليه أن يبرهن الكتاب، سوى فلاّحة بسيطة. وبالطريقة نفسها يعيّن خليفتنا زعيم عصابة هنا أو هناك (قد تكون في الجزائر أو ليبيا وقريباً في نيجيريا ربما، بل ولن أستغرب إن كانت في أحد غيتوات الأجانب في برلين) والياً بعد أن يأخذ منه البيعة. كما أن الدول الغربية تصبح «دول النصارى» وأهلها صليبيّون، والأعداء هم صليبيّون ويهود ومرتدّون وروافض. وهؤلاء جميعاً «يجب» أن يكونوا كذلك لأن هذا ما جاء في «الكتب» إيّاها. والواقع يقول غير ذلك، أي أن تلك الدول علمانية مثلاً ويمكن أن تسمّيها إمبريالية إن شئت ولكن أن تكون صليبيّة فهو هراء محض ورطانة غير مفهومة. وقد كان دون كيشوت يعيد هذا اللبس الى عمل السحرة طبعاً، ومنظّرو الدولة لا يفعلون شيئاً مختلفاً عن ذلك كثيراً إذ أن كل ما لا يناسب قوالبهم اللغوية هو مؤامرات على «العقل المسلم» من سحرة الحداثة الصليبية.

يمكن الاستمرار باستعراض إشارات الدولة الإسلامية الى ما لانهاية ومقارنتها بمغامرات البطل التخيّلي للكاتب الإسباني. لكن من يستطيع الضحك على هذه المفارقات «الواقعية» بالطريقة نفسها التي ضحكنا بها على مفارقات دون كيشوت التخيّلية؟  إذ أن ما يتم مهاجمته هنا ليس طواحين هواء وبرمح صدئ، ولكن أبنية وجسور حقيقية تُفجّر بمن فيها أو عليها. وكل ذلك «للبرهنة على الكتب» بتعبير فوكو، ثانيةً.

وتصبح هذه المأساة كارثة إذا عرفنا أن تلك «البرهنة» نجحت فعلاً، أي أنها أقنعت عشرات الآلاف فبايعوا صاحب البرهان على أنّه الخليفة الذي انتظره المسلمون طويلاً وبحثوا عن أقرب الطرق للالتحاق بدولته. أحد هؤلاء له قيمة رمزية لا شك فيها وهو الدكتورة إيمان البغا أستاذة الفقه وأصوله في جامعة الدمام التي تركت وظيفتها في تشرين أول/ أكتوبر 2014 والتحقت بخليفتها. وأكّدت أنّ السبب الوحيد لفعلها ذلك هو قناعتها المطلقة بأن ما جاء به البغدادي ينطبق مئة بالمئة مع ما تعلّمته (وعلّمته لتلميذاتها) من فقه وأصوله. هذا الخبر الذي نشرته كل الجرائد المهتمة تقريباً، والذي يمكن متابعته في مدوّنة الدكتورة المذكورة كان قد سبقه خبر أقل رمزية، ولكنّه ليس أقل قيمة. فقد كان مركز «ركين» الذي يعرف نفسه بوصفه «أول منصة سعودية متخصصة في الرأي العام السعودي»، قام باستطلاع لآراء السعوديين حول داعش ووجد أن 76 في المئة من المستطلعين قد شعروا بالسعادة لسقوط المحافظات العراقية في يد داعش، و92 في المئة منهم أكدوا أن داعش تتماشى وقيم الإسلام والشريعة الإسلامية، وهذا الاستنتاج الأخير كان هو نفسه الذي توصّلت إليه الأستاذة في الفقه وأصوله كما أسلفنا.

فهل يكون ذلك مفتاحاً لحل اللغز الداعشي؟ وأقصد باللغز هنا هذه السرعة المذهلة وذلك التمدّد الجغرافي الواسع لدولة البغدادي؟ اعتقد أنه أحد المفاتيح ليس المهمة فحسب، بل والمسكوت عنها أيضاً. وأحد أسباب هذا السكوت واضح، إذ أن حرّاس «الكتب» بأحزمتهم الناسفة في كل مكان. وحتى ولو كانوا غائبين فإن 92% من الناس جاهزون لاستدعائهم، حسب الاستطلاع المذكور. وإن كان الخوف بلا أدنى شك لا يفسّر ذلك السكوت إلاّ جزئياً فقد عوّدنا «المسكوت عنه» على أن تكون له علاقة ما بنوع آخر من الخوف، أكثر عمقاً في «الأنا الجمعي» وهو في حالتنا يرتبط بما تحظى به «الخلافة» أي خلافة على الإطلاق بسبب اسمها بالذات من «رأسمال رمزي» عند الناس، حتى ولو كان من النوع النوستالجي. وهذا يعني أننا ما زلنا كمسلمين نعيش فيما قبل «العصر الكلاسيكي» —التحقيب المفضّل لدى ميشيل فوكو كتأريخ لقطيعة إبستمولوجية محدّدة في الثقافة الأوربية— بالمقارنة مع أوروبّا أي ما قبل القرن السابع عشر تقريباً، حيث يحلّ «التشابه» محلّ «القياس» في محاكماتنا العقلية اللاشعورية. وهذا المنطق بالذات هو الذي يكمن خلف «السلاح الشاراتي» للبغدادي. لكنّه هو بالذات ما كان يتسلّح به دون كيشوت أيضاً.

لكنّ تنظيم الدولة الإسلامية ليس هو البغدادي وحده طبعاً. وما أنجزه حتى الآن هو حصيلة الخبرة العسكرية لضبّاط صدام حسين الذين «أهدتهم» إياه السياسة الأميركية الحمقاء (وهو أخف التعابير لوصفها) عندما حلّت الجيش والشرطة العراقيين وسلّمت السلطة لأحزاب طائفية. أضيفت إليها خبرة مقاتلي القاعدة السابقين والحماس الديني لآلاف «المهاجرين»، وملايين الدولارات التي جمعت بكل الطرق باستثناء النظيفة منها، إلاّ اذا اعتبرنا تبرّعات أثرياء النفط أمراً نظيفاً. إذ أن تلك التبرّعات لفتت النظر للمرة الاولى الى خطورة «المال النفطي السلفي غير الحكومي».

كل ذلك بالإضافة الى فراغ السلطة شبه الكامل في المحافظات الشرقية السورية، والتقريبي في بعض محافظات وسط وغرب العراق. والتعاون (أو عدم الاكتراث) الذي أبدته العشائر التي عانت من ظلم الحكم المركزي في بغداد وعدم مصداقيته، أو انتهازيته بكلمة أدق، وارتهانه للنفوذ الإيراني. بالإضافة الى فساد المسؤولين العراقيين غير المسبوق والذي جعلهم يبيعون البلد ويهربون.

إن كارثة «الدولة الإسلامية» هي حالة أنموذجية للدراسة حيث تضافرت العوامل الإيديولوجية (السلفية الجهادية بأكثر أشكالها دوغمائية من ناحية ووجود حاضنة شعبية لها بسبب «غياب التنوير» من ناحية أخرى) والسياسية (عنف الدكتاتوريات الطويل من ناحية وصراع القوى الإقليمية على الأرض السورية العراقية من ناحية أخرى) والاقتصادية (بنى إنتاج ريعية من ناحية وتوفّر النفط من ناحية أخرى). ولا شك أن «صفّ» العوامل بهذه الطريقة ليس تحليلاً. ولم يكن تحليل بنية الدولة الداعشية هدف هذه المساهمة على أية حال. لكنّ ثمة سؤالاً ما زال ينتظر لا الإجابة فقط بل والطرح أيضاً، وهو: إذا كان الشكل السياسي الذي يحكم الآن في الرقّة هو ما استطاع حاملو حلم «الخلافة» تحقيقه، فهل ستختلف عنه كثيراً الحصيلة الواقعية لعمل التنظيمات الإسلامية المقاتلة في المعارضة السورية (النصرة ومثيلاتها) والتي تحمل في الواقع الحلم نفسه؟