ما يتطلع إليه الإسلاميون السياسيون والعسكريون، من إرادة فرض نموذج معياري محدّد للإسلام كأساس للحكم، لا يتعارض فقط مع مبدأ العدالة في مجتمعات متعددة الأديان والمذاهب كمجتمعاتنا المعاصرة، ولا فقط مع مبدأ الحرية السياسية والفكرية والدينية، وإنما كذلك مع حق الناس، المسلمين قبل غيرهم، في الدين، دينهم. أعني امتلاك المسلمين للإسلام، وتصرّفهم به، والتفاوض معه، وإنجاز التسويات الملائمة بين مبادئه وشروط حياتهم العينية. حق المسلمين في دينهم يعني أنهم يكيّفون تعاليمه وفق أوضاعهم في كل وقت كمقتضى ضروري للتكيف مع هذه التعاليم. الدين دينهم، بشهادة عيش وموت فوق خمسين جيلاً من أجيالهم به ومعه، ومن أجله أحياناً.
وبمجرد أن نتكلم على امتلاك الناس لدينهم، فإننا نعني أن حياتهم ومقتضيات عيشهم وسلام قلوبهم تشغل موقع المبادرة في العلاقة مع الدين وتعاليمه.
الدين، لمن؟
لا يتماثل المسلمون في امتلاك دينهم، بعضهم أكثر تمسكاً بقواعده من بعض، وهم يميزون في كل وقت بين صور معيارية منه، يأخذون على أنفسهم قبل غيرهم ضعف الالتزام بها، وبين ممارستهم الفعلية التي هي في كل حال تسوية بين أوضاعهم والمعيار المفترض. لكن الإسلام هو مجمل هذه التجارب التي يشغل المؤمنون الفعليون موقع الفاعلية والمبادرة فيها، مقابل التعاليم المجردة التي لا تستمد حياتها من غير أفعالهم ومبادراتهم. الأولوية من منظور امتلاك الدين وحق المجتمع فيه هي للممارسة الدينية يقوم بها المجتمع، أي للتدين الحي المتفاوت الدرجات، وليس للتعاليم الحرفية التي يتفاوت اطلاع الناس عليها وإحاطتهم بها. ولا يكون الإسلام إلا حرفاً ميتاً حين يُفصل عن المسلمين العينيين وتجاربهم الدينية المعاشة. وهذا مبدأ عام، ينطبق على العقائد الدينية كلها، التاريخية والمديدة العمر أكثر من غيرها.
مؤدى مشروع الإسلاميين المعاصر، وهم ينطقون باسم التعاليم، هو نزع ملكية الإسلام من عموم المسلمين، أو الفصل بين الإسلام والمسلمين، وامتلاكه من قبلهم، بوصفهم قائمين على صيغة خاصة منه، تسمى «الإسلام الصحيح» أو «الإسلام الحقيقي». الإسلام هنا ليس ملك المجتمع أو جماعات المسلمين وأفرادهم، بل هو ملك الدولة الإسلامية. على نحو متناقض، يبدو هذا الضرب من تأميم الدين خصخصة له، أو نزعاً لملكية عموم المؤمنين له، بينما يكون الامتلاك العام للدين مرهوناً بنزع ملكيته من يد أي قوة خاصة أو عامة، بما في ذلك الدولة. الأكيد أنه يمتنع الجمع بين امتلاك الناس لدينهم وتصرفهم به، وبين امتلاك الدولة أو أي جهة سياسية لهذا الدين.
وما يستخلص من عقيدة الإسلاميين، هو أن الصحيح من الإسلام نادر، يُرفع من أوتوا العلم به فوق غيرهم درجات، ويمنحهم امتلاكه الحق في السلطة على عموم المسلمين الذين يملكون منه أقل. العلم يعني سلطة ويعطي ملكاً. ليس معرفة نوعية مثل العلوم الحديثة، ليس شأناً اختصاصياً مثل المهن العلمية، ليس حكمة مثل الفلسفة، إنه قاعدة لسلطة ولملك. أي إنه علم سياسي جداً، بل هو علم السلطة. وهذا لأن هذا العلم أَسّس يوماً، وهو اليوم الأساس الوحيد، لأمة خاصة، أمة الإسلام. ومن يحز هذا العلم، بالتالي، يمتلك دين الأمة، يمتلك الأمة ذاتها، وله الأفضلية في حكمها. يقول هؤلاء صراحة إنه دين ودولة، وتوكيدهم ينصبّ على أنه ليس مجرد دين، وأن فرقه عن غيره هو الدولة، هو علمها وهم حَمَلَتُه.
وفقاً لمنهج الإسلاميين (أهل العلم بالإسلام ومن والاهم)، الحق في الدين ليس متساوياً بين جميع المسلمين، بل إن التمييز بين الإسلاميين والمسلمين قائم بالضبط على الفصل بين الإسلام والمسلمين، وعلى الوصل بين الإسلام والإسلاميين، بحيث أن هؤلاء، وليس عموم المسلمين، هم المالكون الشرعيون للإسلام.
في المحصلة يمتلك الإسلاميون حقوقاً في الإسلام أكثر من غيرهم، ومنها الحق في الحكم، لأن الإسلام الصحيح مستودع لديهم.
مشروع الإسلاميين
ولأن مشروع الإسلاميين يقوم على رفع العلم في وجه العالَم والحياة في هذا العالم، ورفع المجرّد في وجه الحيّ وفوقه، والحرف فوق العيني، أي بقدر ما مشروعهم هو فعل تجريد ونزع ملكية، فإنه لا يتحقق دون إكراه. وبدل أن يكون الإسلام دين المسلمين، الدين الذي طوّروا طوال أجيال وقرون صيغاً مؤنسنة منه، تساعدهم على الحياة، يجري نزعه منهم، وفرض صيغة إكراهية متصلبة وغير مؤنسنة منه عليهم، تلبّي حاجات المتسلطين الجدد السياسية، لا عموم الناس. وهو ما يعادل فرض دين جديد من فوق على من أنسنوا عبر الأجيال والقرون دينهم، وجعلوه في مستواهم.
ورفع الإسلام فوق المسلمين، وهو مشترك بين الإسلاميين على اختلافهم، هو ما يكمن وراء القول الشائع: إن المشكلة في المسلمين وليس في الإسلام. وبما أن الإسلاميين هم من يَعرفون الإسلام ويُعرّفونه، فإن مؤدى كلامهم هو أن المشكلة في عموم المسلمين، وليست فيهم هم، أي الإسلاميين. وهذه استراتيجية سياسية لنزع الإسلام من ملكية المسلمين والتقليل من شأنهم ورفع شأن مالكي الإسلام من الإسلاميين.
فمعنى مسلك الإسلاميين لا يقتصر على أن السلطة لهم، بل الدين لهم أيضاً (السلطة لهم لأن الدين لهم)، وأن على عموم السكان، المسلمين، أن يثبتوا إسلامهم أمام حكامهم الجدد، مثلما يقع على عموم السوريين أن يثبتوا وطنيتهم أمام نظام الطغمة الأسدية. وهذا بالطبع يضع عموم المؤمنين في وضع أضعف وأدنى حماية. وما تفعله داعش و’جبهة النصرة‘ في مناطق سيطرتهما اليوم هو «تأميم» الإسلام، نزعه من أيدي عموم المسلمين ليكون ملكاً لمن ينفردون بتعريِف الأمة بدلالة معرفتهم بما يفترض أنه أساس الأمة، أي دينها. شهدت بنفسي عيّنات أولية من هذا النهج في الغوطة الشرقية: كانت هناك ورقة صادر عن ’مجلس الشورى‘، الذراع الديني لـ’جيش الإسلام‘، تحظر استخدام تعابير بعينها مما طوره الناس في سياق امتلاك دينهم، مثل «عيني ع ربك!» أو: «أبوس ربك!» أو: «أبوس النبي!» أو: «يلعن سماك!». إثارة الشعور بالذنب عند عموم المؤمنين هو الخطوة الأولى في مشروع نزع عقيدة إيمانهم منهم ووضع اليد عليها.
وعبر إنكار ملكية الدين كحق للمسلمين مكرس عبر الممارسة الفعلية، يجري أيضاً إنكار تاريخية الديني، أعني التكييفات التي لا تكفّ عن إنجازها جماعات المسلمين لدينها في أوضاعها العينية وكذلك التكيف معه، وهما متغيران بحسب الزمان والمكان. التكيف يعني التفاوض ويعني الأنسنة، جعل الدين سكناً لنفوس المؤمنين وملاذاً من محن الحياة، وليس قوة خارجية إكراهية مفروضة عليهم من خارجهم.
مجموعات الإسلاميين الأشد امتلاكاً للإسلام، أو «تأميماً» له (اقرأ: خصخصة)، مثل داعش، هي في الوقت نفسه المجموعات التي تجرد المسلمين من إسلامهم، لتستخدم الإسلام ضد المسلمين (وضد غيرهم حيثما تيسّر)، وهي الأشد نفياً لحق الناس في دينهم، وهي أيضاً الأكثر رفضاً للتاريخية، تاريخية الديني وتطوره، وإنسانيته.
وعلى الأساس نفسه من نزع ملكية الإسلام من المسلمين وتقرير ندرته، تقوم أوضاع امتيازية، وتنشأ أقلية، هي أقلية الإسلاميين، أو أقلياتهم المختلفة المتخاصمة. حول الامتياز والندرة لا تنشأ أكثريات، تنشأ أقليات ممتازة فقط.
التاريخية تتأسس على امتلاك الناس للدين، وأولوية الممارسة على «العلم»، وأولوية المسلم العادي أو جماعة المسلمين على «أولي العلم»، بينما تتأسس اللاتاريخية، أو «السنّة» كآلية لطرد الحدث (بتعبير عبدالله العروي) على أولوية التعاليم والفقهاء والسلطة الدينية الخاصة التي تعمل على «تندير» الإسلام: أعني جعل الصحيح منه نادراً، ووضع عموم المسلمين في موقع الناقصين المشكوك بصحة إسلامهم، وتحكيم مالكي الدين الصحيح بهم. هذا النهج متأصل جداً إلى درجة أن الذهن ينصرف أمام كلمة إسلام إلى تعاليم ونصوص، لا إلى حياة المسلمين الدينية.
ويعرض الإسلام المنزوع التاريخية سمات لاإنسانية: سواءً بمعنى مباشر، أي الوحشية والقسوة البالغة بدرجة تتناسب مع امتلاك الإسلام السياسي أو العسكري للإسلام ونزع ملكيته من عموم المسلمين؛ أو ثم بمعنى أكثر تركيباً: فرض إسلام مجرد، قسري، إكراهي، متمركز حول ما يُفترض أنها أوامر الله، ولا تشغل حاجات الناس ومطالبهم الدنيوية مكانة تذكر فيه.
نفي الإكراه
ولا يتمثل التطور التاريخي الذي تحقق عبر امتلاك المسلمين للإسلام وتأكيد حقهم فيه في نفي البعد المعياري عن الإسلام، أو إذابة الإسلام كلياً في ممارسات المسلمين الدينية؛ يتمثل التطور بالأحرى في الأنسنة والتفاوض ونفي الإكراه عن الصيغ المعيارية التي طورها المسلمون لمحاكمة سلوكهم الديني بالذات. بلى، هناك سلوك أكثر إسلاميةً من سلوك، وسلوك أقل إسلاميةً من سلوك، وهو ما يُتيح الحكم والتحفظ، بل وما يتيح التمييز بين مسلمين يعلمون أكثر ومسلمين أقل علماً. لكن سار هذا التطور باتجاه يتجاوز نزع الإكراه إلى ظهور تسامح واقعي مع الأقل تديّناً وصولاً إلى اللامتدينين في عصرنا. لقد جنح إسلام المسلمين (بالتقابل مع إسلام السلطة، واليوم مع إسلام الإسلاميين) في كل مكان وعبر 14 قرناً (نتكلم في المحصلة على مليارات الناس) إلى التخفف من الإكراه في العلاقة بين مراتب الدين الاجتماعية، وإلى درجات متفاوتة من التسامح أو تعليق الحكم. وما كان ممكناً للإسلام أن يصير دين مئات ملايين الناس، عاش كثيرون منهم آماداً طويلة دون دولة، ولا تطالهم سلطات إكراهية، لولا أنهم امتلكوه، وصار لهم. بالمقابل، كان الإكراه من خُطَط أولئك الذين يتطلعون إلى السلطة أو يسعون إلى تثبيت سلطة قائمة: يمتشقون صيغة معيارية لا تاريخية للإسلام، ويقولون للناس إن ما هم عليه ليس صحيحاً، فيجردونهم من دينهم ويمتلكونه لأنفسهم، ويحكمون به غيرهم.
لقد سار نزع ملكية الدين وتنديره والإكراه واللاتاريخية، جنبا إلى جنب في التاريخ؛ بقدر ما سارت التاريخية واللاإكراه والامتلاك العام للدين واعتباره وفيراً متاحاً للجميع والتسامح الواقعي جنباً إلى جنب. لا يقتضي نزع ملكية الدين الفصل بين المسملين ودينهم فقط، وإنما أولاً الفصل بين عمومهم والخاصة الحاكمة، باسم امتلاك هذه للدين الصحيح النادر. الامتياز الاجتماعي يأتي أولاً، ثم تبريره الإيديولوجي. قد يتقدم التبرير الإيديولوجي زمنياً، لكن محرك العملية هو الامتياز الاجتماعي والسياسي.
أما امتلاك الناس للدين فينفي التمييز، وليس بالضرورة التمايز، ويصلح اليوم أساساً للتسامح والحرية الدينية. هذا لأن امتلاك الجماعة للدين يفسح مساحات حرة واسعة بخصوص السلوك الديني لأفرادها، قد لا ينظر إليهم بتقدير، لكنهم مصانون ولا يتعرضون لإكراه. بالمقابل فإن استئثار سلطة عليا ما بالدين يقترن بمراقبة سلوك جميع الأفراد، والمطالبة بانضباط ديني من الجميع، لأن الانضباط الديني هنا يؤسس للانضباط السياسي.
امتلاك المسلمين لدينهم يعني أنه كثير، إنهم بينما يمتلكونه لا يكفون عن إنتاجه وتكثيره. وهذا مقترب ديمقراطي، نقيض لمنظور الندرة النخبوي والإكراهي الخاص بالإسلاميين. قبل أن يعني التسامح أن لكل دينه، إنه يعني أن لكل إسلامه أو نصيبه الخاص من دينه. لا يتأسس التسامح بين معتنقي الأديان المختلفة دون التسامح داخل كل دين، أي دون الملكية الاجتماعية للدين.
خصمان للملكية الاجتماعية للدين
يقف في وجه امتلاك الناس للدين تياران فكريان سياسيان في مجتمعاتنا المعاصرة:
تيار علماني تسلطي أو فوقي، يسوق صيغة متعالية للعلمانية لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية من فوق، أو وفق قواعد كلية مجردة، يفترض أنها تتوافق مع التقدم أو الحضارة أو الحداثة أو العقلانية، دون سؤال عن توافقها مع العدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، ودون اهتمام بامتلاك عموم الناس للدولة والحق فيها؛
ثم تيار الإسلاميين، التسلطي والفوقي بدوره، الذي يجمع بين فصل الناس عن الدين من جهة، والانطلاق من تعاليم دينية ثابتة تنفي التاريخية والتغير من جهة ثانية، ثم تأسيس أوضاع امتياز سياسي واجتماعي ينالها الإسلاميون فوق غيرهم من جهة ثالثة، فيتأدون عبر ذلك إلى الإكراه، من جهة رابعة.
العلمانية الفوقية تنفي بدورها تاريخية تعاليمها الخاصة، وتميل إلى الإكراه والوقوف إلى جانب السلطات الإكراهية في مجتمعاتنا. وهي لا ترتاح لحق الناس في الدين الذي هو جانب أساس من الحق في الاعتقاد وحرية الاعتقاد، ولا هي معنية باحترام عموم الناس وكرامتهم والعمل بينهم ومعهم. تعرض العلمانية الفوقية أيضاً السمات اللاإنسانية للإسلام السياسي والعسكري، إن من حيث سكوتها على نظم طغموية متوحشة وتواطؤها معها مع العداء للعامة والتخويف منهم، أو من حيث تمركز تفكيرها حول معانيَ مجردة كالتي ذكرنا للتو، لا حول حاجات الناس المادية والسياسية، والروحية.
وينكر العلمانيون التسلطيون ما يمكن أن نسميه الحق في العلمانية، أعني تكييفها وأنسنتها والتفاوض معها كي تساعد عموم الناس على الحياة، على نحو ما يفعلون بأديانهم. يريد العلمانيون التسلطيون علمنة الحياة العامة، وفي الوقت نفسه أن تبقى العلمانية عقيدة لا تمس، يمتلكون مفاتيحها هم، ولا يستأمنون عموم السكان عليها. لديهم صيغتهم الخاصة من ندرة العلمانية، وهي تؤسس للنخبوية والامتياز والإكراه، مثل ندرة الإسلام. ولا يريدون أن يتبيّنوا أن امتلاك الناس لدينهم وحقهم فيه يعني بالضبط فصله عن الدولة والإكراه، وهو ما يفترض أن العلمانية تتطلع إليه.
والواقع أن هذه مفارقة شائعة في التاريخ العقدي. أراد الشيوعيون أن يصير الناس والمجتمع كله شيوعياً، لكن أن تبقى الشيوعية ملك الحزب الشيوعي وقيادته خاصة، وألا يكون للناس حق فيها، يتفاوضون معها ويكيفونها وفق حاجاتهم. وأراد البعثيون تعريب العرب، لكن أن تبقى مفاتيح العروبة بأيديهم. ويريد الإسلاميون أسلمة المسلمين وأسلمة مجتمعات المسلمين، وأن يبقوا في الآن نفسه قيّمين على إسلام الناس، لا يمتلكونه ولا حق لهم فيه. وراء ذلك في كل الحالات إرادة امتلاك الصواب واحتكار السلطة باسمه. ليس هناك ذرة أصالة أو خصوصية في نهج دعاة الأصالة والخصوصية الإسلاميين هذا. إنه النازع الإنساني الأشد عمومية وابتذالاً وتدهوراً: نازع الاستئثار بالحق والسلطة.
تمايز وظيفي لا امتياز اجتماعي
لكن ألا يحتاج المسلمون إلى مجمع أو مجامع دينية، تحمي دينهم من الانحلال في تقلبات الأيام عبر العقود والأجيال والقرون؟ ألم ينتجوا طوال تاريخهم «علماء» ومفتين، يستفتونهم أو يأتمّون بهم ويحتكمون إليهم في ما أشكل من أوضاع دينهم ودنياهم؟ ثم ألا تقترن الحداثة في كل مكان بعلاقات فصل وتجريد وتمايز، فصل المنتجين عن وسائل الإنتاج، وفصل المقاتلين عن وسائل الحرب، وفصل الحكم عن السلالة والأصل، وفصل التشريع عن التنفيذ، والقضاء عن التشريع والتنفيذ، والفصل بين المجالين العام والخاص و… فصل الدين عن الدولةأحيل في شأن علاقات الفصل والتجريد والتمايز في الحداثة إلى مقالتي «ضمائر الحداثة المنفصلة والمتصلة والمعاقة»، 2007.، وهي عمليات تنظيم وعقلنة، فلماذا لا يكون فصل الإسلام عن المسلمين خطوة في اتجاه تشكل المجمع الإسلامي المفترض، وعقلنة المعتقدات الإسلامية؟
الأساس في الأمر في تصوري ليس نفي التمايز الوظيفي، بل نفي الامتياز، وما يقترن به من إكراه. تعريف الإسلام بالمسلمين، أو بحقهم في دينهم وامتلاكهم له لا يؤسس لنفي التمايز أو الحيلولة دون ظهور اختصاص ديني، بل لنفي الإكراه والامتياز باسم المرجعية (أوثورِتي authority). نزع ملكية الإسلام من المسلمين أو فصلهم عنه باسم صيغة معيارية مُلزِمة ليس فعل عقلنة وتنظيم، بل فعل سلطة وإكراه. وهو في صيغته الإسلامية موجه ضد عموم المسلمين، وليس فقط ضد غير المؤمنين؛ وهو في صيغته العلمانية متعاليْ على عموم المسلمين وليس معادياً للسلطويين الإسلاميين وحدهم. عبثاً يبحث المتابع عند العلمانيين الفوقيين عن تعابير عن احترام إيمان المؤمنين أو دفاع عن حقهم في دينهم، أو احتجاجاً حارّاً على تحقيرهم والتعالي عليهم.
ما لدينا اليوم، مجسداً في داعش بخاصة، هو المزج بين الإكراه ونفي الحق في الدين في إطار امتيازي، وليس تمايزي، ومع نفي جذري للتاريخية. داعش ليست تكويناً منحرفاً تولّد عن عدم فهم الإسلام، بل هي نتاج فصل الإسلام عن المسلمين في وجودهم الحيّ من جهة، والاعتقاد من جهة أخرى بأن المبادئ العامة للدولة في بلداننا يجب أن تكون مبادئ هذا الإسلام المنفصل الذي تمتلكه هي. وبعبارة أخرى، داعش هي ذورة معاكسة المسار التاريخي الفعلي الذي نزع نحو امتلاك المسلمين للإسلام وأنسنته وفصله عن الدولة والإكراه. هذه المعاكسة مهّد لها الإسلام السياسي منذ نشوئه، وعليها تقوم هويته.
وليس مؤدى القول إن الإسلام دين ودولة غير جعل دين المسلمين دولة على المسلمين وغيرهم، أي فرض سلطان الإسلاميين على الكل. من هذه العقيدة (الإسلام دين ودولة) لن نستطيع نصب أية حواجز تحول دون الحصول على داعش.
وليس لمفهوم دين الدولة مكرّساً في مادة دستورية تقرر أنه الإسلام، أو حتى غير مكرس، غير المؤدى نفسه. دين الدولة هو الدين الذي تملكه الدولة وتفرضه على الناس، وإن من وراء قناع امتلاك الدين للدولة. هذه الدولة انتهاك دائم للضمير، ونقيض لمبدأ الدولة كتحقيق لعمومية المجتمع.
وما لدينا مقابل داعش اليوم هو سلطة إكراهية ليست دينية، ولا مبدأ لها، تفصل عموم السكان عن الدولة وتنكر عليهم الحق في السياسة. وإذا كان صحيحاً أنها لا تفصلهم عن دينهم وأديانهم عموماً، فإنها تتلاعب بهذه الدوائر تلاعباً يخرب ثقة المؤمنين بصيغ التديّن المتاحة.
يقتضي الأمر، فيما نرى، كسر هذه الثنائية بين إكراه ديني في خدمة سلطة مطلقة (الدولة التي يقاتل من أجلها الإسلاميون) وبين تلاعب سياسي بالدين مع إكراه سياسي (دولنا السلطانية المحدثة). حق الناس في الدين وأوّلوية الممارسة الدينية في تعريف الدين ركن أساسي فيما نرى لإعادة بناء الحياة الدينية، والعامة، على أسس أكثر عدالة وحرية.
ومثله حق الناس، السكان، في الدولة. الطغيان مثلما عرفناه في سوريا الأسد يفصل الناس عن السياسة بوصفها جملة مناهج امتلاك الدولة وتحكم السكان في الحياة العامة في بلدهم.
المجرد الذي يرفع في وجه الناس وفوقهم هنا هو «الوطن». والإكراه لازم حتماً في عملية نزع ملكية الدولة من السكان. والمحصلة وضع امتيازي، مبني حول ندرة الوطنية، تتشكل حوله أقلية مثل أقلية الإسلاميين.
من التسامح الواقعي إلى الحرية الدينية
واقعياً، ينفتح امتلاك الناس للدين على درجات متفاوتة من التدين بما فيها أدناها، وهو ما سمح في مجتمعاتنا ذاتها بظهور لا متدينين، لم يواجَهوا بالإكراه إلا في حالات قليلة، وعلى يد من يريدون السلطة السياسة والدينية، أو من ينتزعون ملكية الدين من الناس ليحكموهم به. لقد توافَق امتلاك السكان للدين/الأديان مع درجات من التسامح الواقعي كما سبق القول، ولا شيء يمنع تحولها إلى حرية دينية. التسامح سماح متبادل، وتقبّل متبادل بين طرفين، يفترض تساوياً مبدئياً بينهما. يفترض في الوقت نفسه سماحة في النفس، أي ليناً وانشراح صدر ورحابة داخلية. ولعل شعار التسامح الواقعي هو ذلك القول السائر في سوريا: «كل مين على دينو، الله يعينو!». يكثّف الشعار خبرة مديدة في مجتمع متعدد الأديان، ويرفض ادعاء امتياز لدين على غيره، ولا يخلو من نظرة إلى الدين كعبء. إنه نظرة إلى الدين من زاوية الناس وممارستهم الدينية، لا من زاوية السلطة، ولا من زاوية دين بعينه.
وما كان امتلاك الناس للدين أن يؤسس للتسامح الواقعي لو لم يكن امتلاكاً واقعياً هو ذاته. وتدهور التسامح الواقعي هذا اليوم، وفي العقود الأخيرة في سوريا، يسير في تناسب طردي مع منازعة الناس ملكية الدين من قبل الإسلاميين، ومن الدولة الأسدية. يريد الأوّلون إدراج الدين في مشروع سياسي خاص، وتريد الدولة الأسدية جعله «منظمة شعبية» ووضعه تحت الرقابة. لا يطيق الطرفان أن يكون الدين ملكاً اجتماعياً عاماً مستقلاً، يريدانه مشروع حكم مأمول أو أداة حكم قائم.
داعش تجمع مأمول الإسلاميين بقائم الأسديين! هنا نرصد أشد فصل –على الإطلاق– للمسلمين عن دينهم، وهو يتحقق على يد الإسلاميين السلفيين الأكثر استئثاراً بالدين أو «تأميماً» له. رداً على هذا التأميم، وهو في الواقع خصخصة للدين لمصلحة الحاكمين، ينسحب الناس من المساجد، ويمارسون دينهم في فضاءاتهم الخاصة، وقد ينسحب بعضهم من المعتقد الديني ذاته. هذا محقق منذ الآن في الرقة.
من هذا الباب فإن حماية الملكية العامة للدين، والعمل على إدراجها في نظام قِيَم وحقوق يقرر حق السكان في الدين في مواجهة انتهاكات قوى دينية أو غير دينية، يمكن أن يكون سنداً قوياً للعمل التحرري، ولحماية الدين ذاته وصون كرامته. ولا يكون الدين بلا كرامة أكثر مما حين يكون سلطة تفرض على الناس من فوقهم كحال إسلام السلفية العسكرية اليوم. ولا يكون كريماً أكثر مما حين يكون ملكاً للناس وحقاً لهم.
ومنذ أن نتكلم على الحق في الدين فإننا نوفر أساساً صلباً للحرية الدينية، أي لحق للناس في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. إن كان حيوياً جداً ضمان الحق في اللاإيمان، فإنه حيوي بالقدر نفسه ضمان الحق في الإيمان. وعلى أرضية إنكار الحق في اللاإيمان لا يمكن أن يتأسس الحق في الإيمان، بل فقط سيتأسس امتلاك سلطة عليا ما للإيمان وفرضه بالقوة على الناس. نخرج هنا من نطاق الحق كله. التفكير في الدين كحق هو النقلة التي تكفل الاتصال بين الامتلاك الفعلي للدين من قبل المؤمنين وبين الحرية الدينية. بالمقابل، من يعادي حق الأفراد والجماعات في الدين هو ما يمارس الضغط على الملكية الاجتماعية للدين، ويربط الدين بالسلطة.
الحق في الدين ضد الاستبداد
والخلاصة أن من شأن الدفاع عن حق المسلمين (وفي كل حال غير المسلمين) في دينهم أن يؤسّس لمقاومة الاستبداد الديني ولانتهاك الضمائر الذي يمكن أن تمارسه أية سلطة إكراهية. وعلى ملكية الناس لدينهم وأديانهم يقوم تسامح واقعي يعاديه تيار الإسلاميين الذين لا يرضون بما ينطوي عليه التسامح من قلة يقين ومن تساويْ مبدئي، ويعاديه كذلك مزايدون يرفعون المجرد راية، ويعنيهم طرد الدين من الحياة العامة ولو مع طرد الحرية أكثر مما تعنيهم الحرية الدينية، وليس في سجلّهم اعتراض على تجريد الناس من السياسة والحق في الدولة.
السند الأقوى للدفاع عن الامتلاك العام للدولة هو الدفاع عن امتلاك السكان لدينهم/أديانهم. هذا أيضاً انحياز للـ«تحت» الاجتماعي على حساب الـ«فوق» السياسي، أياً تكن إيديولوجيته، وهو بالتالي مساهمة في تحرر المجتمع والانعتاق العام.