تبدو الثورات العربية متشابهة من حيث أن شرارتها كانت ردة فعل على «مَسَسَان الكرامة» على حدّ تعبير والدة الشهيد «محمد البوعزيزي» في معرض تفسيرها لما قام به ابنها قبل نحو أربعة أعوام، لكن المآلات والمسارات تبدو مختلفة إلى حد بعيد. إذ في الوقت الذي ذهبت فيه تونس نحو العمل في السياسة و«إبقاء الحرب خارج المدينة»، فإن سوريا ذهبت نحو الحرب، إلا أن حجم حضور حزب ’نداء تونس‘، وهو امتداد النظام السابق في العملية السياسية، وحجم حضور قوات النظام السوري في الحرب، يقودان إلى الاستناج بأن ثمة عناصر مشتركة في المآلات والمسارات أيضاً.
ليست الأنظمة السياسية، سواء كانت ديمقراطية أم ديكتاتورية، مجرد مجموعة أو مجموعات من الأشخاص الذين يُمسكون بالسلطة أو يتداولونها بأنفسهم، بل إنهم يمسكون بها أو يتداولونها بالاعتماد على أنصار ومقاتلين وأموال وإعلام وخطاب سياسي، ولذلك فإن إقصاءهم عن السلطة أو إجبارهم على تقاسمها مع غيرهم يقتضي إلحاق الهزيمة بهم وبما يمثّلون ومن يمثّلون، كما أنهم عندما يقومون بالدفاع عن سلطتهم فإنهم يفعلون ذلك باستخدام كل ما يمثّلون ومن يمثّلون. وكما يتمظهر ذلك في سوريا على هيئة حرب دموية يشنّها النظام على خصومه وأنصارهم مدعوماً بكل هذه العوامل والعناصر، فإنه يتمظهر في العملية السياسية في تونس من خلال حزب ’نداء تونس‘ الذي خاض الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية وحصد ملايين الأصوات.
والحال هذه، فإن النظام التونسي الذي تمّت إزاحة رأسه عن السلطة بعد ثورة شعبية لا يقتصر على المخلوع «بن علي» وعائلته والمقربين منه فحسب، بل إنه كان ممثِّلاً لشرائح وكُتَل إجتماعية وشبكات مصالح معقدة، وهؤلاء يخوضون اليوم غمار الصراع السياسي على السلطة وينجحون في الانتخابات لأنهم يمثلون بشراً في الشارع، بشراً من لحم ودم تُقرّ الديمقراطية بحقوقهم في الانتخاب والمشاركة. وكذلك هو حال النظام السوري الذي لا يزال رأسه صامداً في قمة هرم السلطة، وهو إذ لم تسمح له بُنيته بالذهاب نحو السياسة فإنه يُمعن في الحرب والتدمير دفاعاً عن سلطته، يُمعن فيها مدعوماً بتمثيله لشرائح وكُتَل اجتماعية وشبكات مصالح معقدة، وهو ما يزال صامداً في وجه خصومه لأسباب شتّى في القلب منها أنه يمثل بشراً في الشارع، بشراً من لحم ودم يقاتلون دفاعاً عن مصالحهم، أو عما يعتقدون أنها مصالحهم، وأعني بقاء النظام الحاكم برأسه في دمشق.
ليس نجاح الباجي قائد السبسي (88 سنة) في انتخابات الرئاسة التونسية، وقبله حصول حزبه على أغلبية برلمانية، نعياً للثورة التونسية وإعلاناً لفشلها، بل إنه تعبير عن حقيقة حجم الكتل والمصالح والرؤى وتوازنات القوة التي يمثلها النظام السابق في المجتمع التونسي. وإذا كانت الثورة التونسية قد أتاحت دخول شرائح أوسع من التونسيين إلى حقل السياسة بعيداً عن العنف المباشر والسجون والقمع، فإن انتصار القوى التي تمثل الثورة دون الذهاب إلى العنف المسلح يكون بقدرتها على استخدام عناصر قوتها في إلزام ممثّلي النظام السابق بالاستمرار في خوض الصراع بآليات السياسة، وبقدرتها على الاستمرار في تفكيك شبكة مصالح هؤلاء، واستقطاب المزيد من التونسيين بالوسائل السياسية.
يختار البشر أن يتصارعوا بالسياسة عندما لا يريدون أو لا يستطيعون الذهاب إلى الحرب، وحيث تسود السياسة بديلاً عن العنف في الصراع على السلطة والثروة يفترض بجميع الأطراف أن يستخدموا الوسائل السلمية بما فيها الإعلام والمال والمظاهرات والعصيان المدني للدفاع عن سلطتهم أو للوصول إلى السلطة. وحيث تفشل السياسة وتنهار قواعد السلم الاجتماعي المفروضة بالقوة في الأنظمة الديكتاتورية، أو تنهار قواعد الصراع السلمي المتفق عليها لتداول السلطة في الأنظمة الديمقراطية، فإن الصراع يذهب إلى العنف بسويّات مختلفة يمكن أن تتطور إلى حرب طاحنة تستمر حتى إحلال سلم اجتماعي جديد بقوة الطرف المنتصر، أو إحلال قواعد جديدة للصراع السلمي بنتيجة تفاوض الأطراف التي لم ينتصر أي منها.
إن تخلّي أي من الأطراف عن السياسة والذهاب نحو العنف يمكن أن يقود تونس إلى مآلات شبيهة بالمآلات السورية، وهو ما يجب أن تعيه تيارات الثورة التونسية جيداً وهي تواجه وصول خصوم الثورة إلى سدّة السلطة بنتيجة الانتخابات. على أن نجاح القوى الممثلة للثورة للتونسية في السير نحو انتظام سياسي جديد دون اللجوء إلى العنف ليس رهيناً فقط بإرادتها ورؤيتها، بل إنه رهين قبل ذلك بإدراك أركان النظام السابق ونخبه ومنظريه وجمهوره أن العودة إلى عصور العنف والقمع لن تقودهم هذه المرة إلى إحكام السيطرة على المجتمع التونسي كما كان عليه الحال قبل الثورة التونسية، بل إنها قد تقودهم إلى مواجهة دموية شاملة يمكن أن يكون أحد أبرز أطرافها «داعش» أو واحدة من أخواتها.
لم يُظهر النظام السوري أي قدرة على ممارسة السياسة إلا في ظل تفرده بالسلطة واستئثاره بالثروة وعملية توزيعها، ولم يتمكن خصومه في زمنهم الثوري من إجباره بالوسائل السلمية على سلوك طريق السياسة بدل العنف، بل إنه أمعن في العنف معلناً أن البديل عن تفرّده بالسلطة هو الحرب ولا شيء سوى الحرب. وإذا كان خيار الإذعان له متاحاً نظرياً أمام خصومه، فإن وقائع الأرض تشير إلى أنه لم يكن متاحاً جرّاء الاختناق السياسي والاقتصادي الذي سبّبته سياسات النظام السوري في البلاد، فكان أن «دخلت الحرب إلى المدينة» بديلاً عن السياسة في الدولة السورية، فهل ستبقى «الحرب خارج المدينة» في الدولة التونسية؟