كانت مقالة راناجيت غوها «عن بعض جوانب التأريخ الهندي» بمثابة بيان تأسيسي لمجموعة دراسات التابعين الهندية. فمنذ صدور تلك المقالة في عام 1982، توالت أعداد دورية دراسات التابعين (Subaltern Studies)، وتوالت معها الدارسات التاريخية المعنيّة بالنقاط التي كان غوها قد طرحها بشكل مبدئي في مقالته تلك. الفكرة الأساس في مقالة غوها كانت أن الحياة السياسية الهندية الحديثة، والتي تشكّلت خلال عصر الاستعمار البريطاني، انقسمت دائماً إلى مجالَين مستقلَّين: الأول تقاسمه الحكام البريطانيون مع النخب الهندية من بيرقراطيين وسياسيين، أما الثاني فطغى عليه عموم الشعب الهندي من الفلاحين خصوصاً، أو من أطلق عليهم غوها مصطلح «التابعين» والذي كان المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قد صاغه في دفاتر سجنه الشهيرة. تسليط الضوء على هذا الانقسام كان بالنسبة لـغوها ذا أهمية سياسية أولاً، فمن خلاله فقط تتوضح جذور فشل البرجوازية الهندية في قيادة مجتمعها والتأسيس لدولة وطنية تعبّر حقاً عن سواد الشعب. أما أهميته الثانية فكانت ذات طابع معرفي: فمن خلال حديثه عن مجال عموم الناس السياسي، غوها جعل جيلاً كاملاً من المؤرخين الهنود يتساءل عن مدى معرفة النخب الهندية بهذا المجال، بانتفاضاته وثقافته وتناقضاته ومساهمته في صنع الأحداث التاريخية الكبرى في البلاد. كيف للهند أن تملك تاريخها دون الحفر أولاً في تاريخ السواد الأعظم من أبنائها، المتأرجحين على الدوام بين التهميش والتمرد؟ ذلك كان السؤال الأساسي الذي شغل مجموعة دراسات التابعين خلال السنين الأولى من نشاطها.
خلال عامين من الزمن، تراكمت المساهمات في دورية المجموعة، وجاءت على الأغلب على شكل دراسات تاريخية معنيّة بلحظة محددة من لحظات التمرد الريفي وتقاطعاتها مع الحركة الوطنية الهندية بقيادة حزب المؤتمر. سعى «تلاميذ» راناجيت غوها من أمثال شهيد أمين وغيانيندرا باندي وسوميت ساركار ودايفيد هادريمان إلى تقديم أمثلة ونماذج موثقة في الأرشيف الهندي عن الفعالية السياسية الفلاحية، والبحث في الوقت عينه عن اللحظات الكاشفة للخلاف بين النخب والعموم. كانوا بذلك يجمعون بين الالتزام الليبرالي الكلاسيكي بالبحث العياني القائم على الأدلة والبراهين، والمنهج الماركسي المعني بالتجليات التاريخية للصراع الطبقي. لكن التأثير النظري الأكبر على المجموعة في ذلك الحين بقي لـأنطونيو غرامشي، وبالتحديد لكتاباته المتفرقة عن الفلاحين في إيطاليا وعلاقتهم الإشكالية بالطبقة العاملة الصناعية من جهة، والبنى الإيديولوجية التقليدية من جهة أخرى. كان الاحتفاء بكتابات غرامشي في الأوساط الأكاديمية الغربية قد بلغ أوجَهُ في ذلك الحين، خصوصاً لدى الباحثين عن ماركسية إنسانية وغير مُسَڤيَتة، لكن المقاربة الهندية جاءت متمايزة إلى حدّ بعيد لأنها ركّزت تحديداً على قضية الفلاحين ذات الطابع العالم-ثالثي، ولأنها تفاعلت مع أفكار غرامشي بصورة نقدية، آخذة بعين الاعتبار الخلافات التاريخية بين الحالتين الإيطالية والهندية.
هذا التفاعل النقدي بين أفكار أنطونيو غرامشي والجيل الأول من مؤرّخي مجموعة دراسات التابعين الهندية هو موضوع المقالة أدناه، لـديفيد أرنولد، الصادرة عام 1984. كان أرنولد في حينها أستاذ التاريخ الهندي في كلية لندن للدراسات الشرقية والإفريقية (سْواس SOAS) ومن الأعضاء المؤسسين للمجموعة. نشر عام 1977 كتابه الأول عن الحركة الوطنية الهندية في جنوب البلاد وعلاقتها مع شعوب «التاميل» خلال فترة ما بين الحربين، قبل أن يلتفت في أوائل الثمانينات وتحت تأثير غوها إلى حركات التمرد الفلاحي في المنطقة ذاتها خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وإلى تفاعل الفلاحين في ريف مدينة مدراس مع المجاعات التي ضربتهم خلال أعوام 1876-1878. يستعرض أرنولد في القسم الأول من مقالته هنا أهم أفكار أنطونيو غرامشي عن الفلاحين، مشدداً على تمايزها عن الحتمية الاقتصادوية والاحتقار الحداثي الذي طبع نظرة الماركسيين الأوائل إلى هذه الفئة الاجتماعية. ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تمايزات المؤرخين الهنود عن غرامشي نفسه، وتركيزهم لا على تبعية الفلاحين الأيديولوجية بل على استقلالية مجالهم السياسي خلال العصر الاستعماري.
كرم نشار
النص العنوان الأصلي بالإنكليزية: «Gramsci and Peasant Subalternity in India».
في السنين الأخيرة، تمت استعادة كتابات أنطونيو غرامشي لما تقدّمه من إضاءات على السياسة في المجتمعات الغربية الصناعية المعاصرة، وكمصدر لماركسية محدّثة من أجل الغرب. لكن في المقابل، لم تلقَ طروحات هذا المفكر الإيطالي عن الفلاحين والمجتمعات الريفية الكثير من الانتباه، ولا سيما بين كتّاب اللغة الإنكليزية الاستثناء الوحيد الهام في هذا السياق هو إريك هوبزباوم، والذي تأثر في كتاباته عن الوعي الفلاحي والسياسة الفلاحية بغرامشي (على الخصوص، انظر هوبزباوم 1971 و1973).. ربما يكون غموض المعاني في دفاتر السجن الخاصة بـغرامشي وصعوبة استخراج نظرية متماسكة منها قد لعبا دوراً في هذا. أو ربما طغى الإحساس أن غرامشي لديه القليل ليقوله عن الدراسة العيانية والتحليل النظري لمجتمعات الفلاحين. ستحاول هذه المقالة إظهار خطل الإحساس هذا.
في الحقيقة، لا بد أن تشكل كتابات أنطونيو غرامشي مصدر جاذبية لأي دارس للمجتمعات الفلاحية يهدف إلى التفكير والبحث من داخل التقليد الماركسي الأكاديمي لكن دون الوقوع في النظرة الاقتصادوية والميكانيكية الضيّقة التي طبعت الكثير من الدراسات الماركسية. فعلى المستوى النظري العام، يقدم اهتمام غرامشي بمسألة «الوعي» وبالأبعاد الثقافية والأيديولوجية لمسألة «الهيمنة» تم شرح مفهوم غرامشي عن الهيمنة باستفاضة تجعل من غير الضروري التوقف عند هذا المفوم مجدداً في صلب النص. يعرّف فيميا (1975) الهيمنة على أنها «غلبة مجموعة أو طبقة على الأخرى عن طريق الرضا لا الإجبار». باتس في العام ذاته يصفها بقوله «القيادة السياسية القائمة على رضا من تتم قيادتهم، وهو رضا قائم على انتشار وشعبية أفكار الطبقة الحاكمة». بعض المعلقين يقتصرون في استخدام المصطلح على المجتمعات الصناعية الحديثة، لكن الواضح من كلام غرامشي نفسه عن التاريخ الإيطالي أنه كان يرى عناصر من الهيمنة متواجدة في أزمنة أقدم ومجتمعات ريفية حتى ولو كانت الهيمنة لا تبلغ أشكالها الأكثر تنوعاً وتطوراً وفعالية إلا في المجتمع الصناعي الحديث. الطبقية أساساً لفهم وتحليل نقديين للطبقات الاجتماعية المهمشة، وتصحيحاً للتركيز الضيق على «الأساسات الاقتصادية» للمجتمعات. وعلى عكس مؤسسي الماركسية، الواثقين بانقراض الفلاحين الوشيك على يد الرأسمالية الريفية والصناعية، والمنغمسين في مقارنات عديدة بين «غباء الحياة الريفية» و«البربرية الفلاحية» من جهة، وثورية ووعي الطبقة العاملة الصناعية من جهة أخرى، يقدم غرامشي صورة للفلاحين كقوة حية، سياسياً وثقافياً واجتماعياً. يعتبر غرامشي أن الطبقة الفلاحية بحاجة إلى تمعّن وتحليل دقيق، بالتحديد من خلال الانتباه إلى خصوصيتها التاريخية وإلى وعيها المهمّش المرتكز على المعتقدات الشعبية والفولكلور.
لهذه الأسباب وغيرها مما سوف نعرضه هنا، لاقت كتابات غرامشي اهتماماً لدى مجموعة من الباحثين المهتمين بتاريخ الفلاحين في الهند، ممن صدرت أعمالهم في دورية دراسات التابعين التي يحرّرها راناجيت غوها منذ 1982. وبصفتي عضواً في هذه المجموعة، ستكون هذه المقالة أيضاً محاولة لمراجعة ما أنجزناه في تطبيق مفاهيم غرامشي على الهند. ليس الهدف من هذا نَسْب نوع من العصمة الكونية أو الاكتفاء الذاتي لطروحات غرامشي، فالتأريخ الهندي لديه ما يكفي من الأصنام، وليس بحاجة إلى «مهاتما غرامشي» ليضاف إليها. غرامشي نفسه كان شديد العداء لكل من أراد اختصار الماركسية بمجموعة من الثوابت الجاهزة أو القوانين التاريخية الحتمية. على العكس، الهدف هنا هو تفحّص أفكار غرامشي المتعلقة بالفلاحين، ومن ثم النظر إلى كيفية الاستفادة من هذه الأفكار، تحديداً تلك المتعلقة بـ«التبعية» و«الهيمنة» و«الثورة الساكنة»، في سياق تاريخ الفلاحين الهنود في القرنين التاسع عشر والعشرين.
فلاحو غرامشي
اهتمام غرامشي بالفلاحين في بلده إيطاليا لم يُفضِ إلى دراسة مستقلة عن الموضوع. وحتى ولو لم يقض المفكر الماركسي ردحاً من حياته في السجن، من غير المحتمل أنه كان سيهتم بكتابة دراسة من هذا النوع، لأن الصفة البارزة في كتاباته المتوافرة هي نظرته للقضية الفلاحية كجزء من نظام سياسي-اجتماعي أشمل، لا كظاهرة منفصلة أو مستقلة بنفسها. مع ذلك، شكل الفلاحون عنصراً متكرر الحضور في كتابات غرامشي السياسية والسجالية خلال أوائل ومنتصف العشرينات، واكتسبوا أهمية أكبر في دفاتر السجن، الأكثر تجريداً وعمقاً، العائدة للسنوات بين 1929 و1935. أحد أسباب اهتمام غرامشي بالفلاحين يعود بلا شك إلى تاريخه الشخصي. فابن العائلة المتأرجحة بين توسّط وفقر الحال، المولود في جزيرة سردينيا عام 1891 والمقيم هناك حتى نهاية مراهقته، احتك بشكل مباشر مع الحياة الفلاحية في واحدة من أكثر المناطق الإيطالية تخلفاً. في البداية كان غرامشي الشاب منجذباً إلى الحركات الانفصالية السردينية، لكن بعد انتقاله إلى تورينو ليتابع دراسته وبعد أن بدأ يهتم أكثر فأكثر بالفكر الماركسي، تحولت مشاعره الأولى إلى التزام سياسي صلب بإيجاد حل لـ«القضية الجنوبية» ضمن إطار مجتمع إيطالي اشتراكي. لذا وصل غرامشي لقناعة أن تبعية الفلاحين في الأراضي الجنوبية الإيطالية، بما فيها الجزر، لصناعيي ومصرفيي وبيروقراطيي المناطق الشمالية هي المشكلة الجوهرية لا في الحياة الإيطالية الوطنية فحسب بل أيضاً في تشكيل نظرية واستراتيجية الحزب الشيوعي الإيطالي (Fiori, 1973: 207-11; Davidson, 1977: Chapter 2).
أحداث إيطاليا وروسيا وتجربة غرامشي السياسية عمّقت من تقديره للأهمية السياسية للفلاحين. ثورة عام 1917 البلشفية، والتي بات غرامشي الخبير الإيطالي الأول بشأنها، أظهرت له الحاجة إلى أرقام الفلاحين الكبيرة في أي محاولة للإطاحة بالدولة البرجوازية. نتائج الثورة الروسية أيضاً جعلته واعياً بالمشاكل المتعلقة بهيمنة الطبقة العاملة –البروليتاريا– في مجتمع كإيطاليا حيث بقي الفلاحون قوة عددية طاغية (SPW II: 430). انخراط غرامشي في تجربة حركة مجالس المصانع الفاشلة في مدينة تورينو خلال عامي 1919 و1920 كانت مؤشرأً آخر وأكثر مباشرة على أن الشيوعية في إيطاليا لن تنجح إذا اعتمدت على البروليتاريا وحدها وتجاهلت الفلاحين بدأت حمّى المظاهرات والإضرابات العمالية تجتاح إيطاليا اعتباراً من عام 1917، على خلفية الثورة البلشفية في روسيا والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة خلال الحرب العالمية الأولى. حسب المصادر الاشتراكية الإيطالية، بلغ عدد الإضرابات في الشمال الصناعي الإيطالي 600 ألف إضراب خلال 1918 ومن ثم فقز إلى 14 مليون إضراب في مختلف المناطق خلال 1919. تورينو، العاصمة الصناعية لإيطاليا، كانت مركز النشاط العمالي الأكثر قوةً وتنظيماً، وحيث بدأ عمال المصانع بتنظيم أنفسهم في لجان تدعى كوميسوني أنترني. في المدينة أيضاً وفي خضم النشاط العمالي الثوري، قام غرامشي وبعض الاشتراكيين الآخرين بتأسيس جريدة تدعى لاوردينو نوفو (أو النظام الجديد) دافعوا من خلالها عن حكم اللجان العمالية للمصانع، وإثر ذلك بدأت اللجان بتنظيم انتخابات ديمقراطية لعضويتها في جميع مصانع المدينة والشمال. عندما حاول الصناعيون مجابهة هذه الحركة عام 1920 انفجر الصراع إلى إضراب شامل تجاوز تورينو ليشمل ليفورنو وجنوا وفلورنسا وبولونيا. لكن كما في كومونة باريس، باقي قيادات أتحادات العمال رفضت أن تدعم الحركة التي سرعان ما اضطرت إلى التفاوض وإنهاء حالة العصيان. لتفاصيل أكثر انظر السيرة الذاتية لأنطونيو غرامشي من تأليف غويسيبه فيوري:
Fiori, Antonio Gramsci: Life of a Revolutionary, New York 1973.. من قراءاته التاريخية، كان غرامشي قادراً على أن يرى كيف أن حركة ثورية تنشأ في المدن ستبقى مهددة بخطر العزل والتدمير من قبل الريف المجاور: مشاركة ضباط من جذور فلاحية ومن مسقط رأسه سردينيا في قمع الحراك العمالي في تورينو عام 1917 كان شاهداً قريباً على ذلك (SPN:92; SPW II: 447-9; Cammett, 1967:53). لتجاوز هذا الاستعصاء يجب كسب الريف إلى صف القضية الثورية من خلال تحالف بين عمال المدينة والفلاحين الأكثر فقراً. على عكس العديد من الاشتراكيين والشيوعيين في إيطاليا وقتها، أصرّ غرامشي على ضرورة فهم القيادة السياسية لظروف وتطلعات الفلاحين، خصوصاً في الجنوب المهمل (Cammett, 1967: 131-3). نموّ نشاط وحماس فلاحي الجنوب في نهاية الحرب العالمية الأولى كان يشير إلى أن تحالفاً كهذا لم يعد مستبعداً: صعود الفاشية في بداية العشرينات جعله يبدو ضرورياً لكي تتمكن الشيوعية من الصمود كقوة سياسية فاعلة (SPW II: 397). في أطروحات ليون العائدة لعام 1926، وفي مقالته «عن بعض جوانب المسألة الجنوبية» غير المنتهية وقت اعتقاله في تشرين الثاني من نفس العام، وفوق كل شيء في دفاتر السجن، سيعود غرامشي مرة بعد أخرى للمسائل الجوهرية المتعلقة بموقع الفلاحين في النظام السياسي الإيطالي. ما الذي أبقى الفلاحين تابعين للطبقات السائدة تاريخياً؟ لماذا فشلوا في الإطاحة بحكامهم وتأسيس نظامهم المهيمن الخاص؟ وبأية وسائل يصبح الفلاحون جزءاً من حركة ثورية ناجحة؟
في طرحه لهذه الأسئلة، وفي سعيه للإجابة عليها، لم يكن غرامشي يتخلى عن إيمانه بأن الطبقة العاملة الصناعية هي الطبقة الثورية القائدة، لكنه كان قد أصبح مقتنعاً أن البروليتاريا لا تستطيع أن تمارس دورها إلا من خلال خلق نظام تحالف طبقي يُجيّش عموم الكادحين ضد الرأسمالية والدولة البرجوازية. في إيطاليا، كان هذا يعني «نجاحها في كسب رضا الجماهير الفلاحية العريضة» (SPW II: 443). وفي الجنوب، كان هذا يعني بشكل أكثر تحديداً أن البروليتاريا لن تحقق هيمنتها إلا من خلال الحلول محل أعيان الريف والبرجوازية الصغيرة كقادة تاريخيين للقوى الفلاحية. لكن ينبغي التأكيد هنا أنه بالنسبة لـغرامشي، ضمّ الفلاحين إلى ثورة الطبقة العاملة لم يكن بغرض نفعي أو انتهازي يتم من خلاله تضليل الفلاحين مؤقتاً لدعم ثورة سيكونون هم أول ضحاياها. لا! التحالف بين العامل والفلاح يجب أن يكون حقيقياً وصادقاً وطويل المدى. الفلاحون سيدخلون هذا التحالف طوعاً من خلال إدراكهم أنهم والعمال يتشاركون مصلحة الخلاص من قمع البيرقراطيين والرأسماليين. ومن خلال ضمّ قُواهم إلى باقي القوى الهادفة لإسقاط الدولة البرجوزاية والرأسمالية الشمالية، سيتحول فلاحو الجنوب إلى طبقة ثورية بحق. تشكيل هذه الكتلة التاريخية سيكون كفيلاً بالنسبة لـغرامشي بحل الإنقسام القديم بين الريف والمدينة والذي طبع السياسة الإيطالية على مدى قرون، والذي تقاطع بشكل فعلي ورمزي مع الخلاف المكرّس بين الشمال والجنوب أيضاً. من جانبهم، على العمال الصناعيين جعل قضية الجنوب قضيتهم من خلال إحساسهم بالظلم الواقع على الفلاحين وتأكيدهم أن إيمان أبناء الشمال بالتخلف الفطري والفيزيولوجي للفلاح الجنوبي ليس إلا أسطورة تروجها الطبقات الحاكمة لتحافظ على هيمنتها وتبقي الطبقات التابعة منقسمة على بعضها (SPW II: 443-4; SPN: 71, 91). بعد الثورة يتم تطبيق نموذج مجالس المعامل على التجمعات الريفية لتشجيع التعاون بين الفلاحين وبين المدينة والريف أيضاً. خبرات المدينة وطاقاتها ستوظَّف هنا لتحرير الفلاحين من الحجر الواقع عليهم نتيجة فقرهم المادي والتقني.
بالنسبة لغرامشي إذاً، لم يكن الفلاحون تلك الطبقة المحكوم عليها بالانقراض، المحافِظة والبربرية دائماً في سياق المجتمع الحديث، كما رأى ماركس. ولكن، في الوقت نفسه، لم يذهب غرامشي إلى النقيض المقابل: طفولته القاسية في سردينيا وتجربته الحميمية مع الفلاحين حصّنتاه ضد أي نظرة رومنتيكية أو طوباوية للحياة الريفية (Davidson, 1977: 45). فكما تشهد رسائل السجن ودفاتر السجن ببلاغة، غرامشي السجين استعاد مليّاً تجارب طفولته ونظرته لفلاحي سردينيا ليفهم بشكل موضوعي الأسباب الكامنة وراء أفكار الفلاحين وتصرفاتهم. بالنسبة له، الماركسية كانت قبل كل شي «فلسفة الممارسة»: وهذا يعني أنه لا يمكن تبلور حركة ثورية في المجتمع طالما أن أشكال وعيه ومراكز سلطته لم يتم تحديدها وفهمها وتقييمها بشكل دقيق وموضوعي ونقدي من قبل هؤلاء الطامحين إلى التغيير. ثقافة ومجتمع الفلاحين يجب دراستهما إذاً، ليس من باب التعاطف مع الماضي أو من أجل إنقاذهم من الفك المفترس للرأسمالية الصناعية، بل لأنهما جزء حيوي من أفكار وأفعال الطبقات التابعة المعاصرة، لأنهما عنصر هام في نظام السيطرة المفروض من قبل الحاكمين على المحكومين. المعتقدات الشعبية، على هذا الأساس، هي أبعد ما تكون عن «شيء ثانوي وخارج حركة التاريخ» (SPN: 419). مستنداً إلى تفسير مجازي إلى حد ما لكتاب ماركس مقدمة إلى نقد فلسفة الحق لـهيغل، قال غرامشي إن الأفكار الشعبية لديها مقدار الطاقة والثقل التاريخي التي تتوفر للعوامل المادية الصرفة (SPN: 165, 377, 404)، وفي نقاشه في دفاتر السجن للحظات تاريخية محددة، بدت أيديولوجيات الطبقات المهيمنة والتابعة أكثر أهمية من العوامل المادية. وبالرغم من أن هذا جعل غرامشي يتعرض فيما بعد لاتهامات بالمثالية والتاريخانية والطوعية من نقاد كـألثوسير، فإن غرامشي ينتقد مراراً في دفاتر السجن هؤلاء الماركسيين غير المعنيين إلا «بحركات الثورة التي تملك وعياً كاملاً، أي الحركات المحكومة بخطط مسبقة ومفصلة بدقة ومتطابقة مع النظرية المجردة». واقعية غرامشي السياسية جعلته مدركاً أنه عند الممارسة، وبالتحديد لدى الفلاحين وطبقات تابعة أخرى، «يُنتج الواقع عدداً كبيراً من التوليفات الغريبة للتوقعات والعقائد» (SPN: 200). المُنافي للعقل والمنطق، حسب غرامشي، أن يصرف الماركسيون النظر عن هذه الحركات ويعتبروها غير مهمة، وأن ينتظروا وصول الحركة الثورية النقية والنموذجية. وظيفة المثقف هي كشف تعقيدات الحياة و«ترجمة» حركتها إلى لغة نظرية، والبحث عن بدايات أخذ المبادرة وتكون الهوية الطبقية لدى المهمشين، وتغذيتها وتثقيفها وتطويرها لتصبح وعياً طَبَقياً وعملاً سياسياً فعالاً. الفشل في القيام بهذا، في انتظار أن يتطابق الواقع مع المخطط النظري، لم يكن بالنسبة لـغرامشي إلا «تعبيراً عن السلبية» لدى المثقفين الماركسيين (ٍSPN: 197-200). الوعي الطَبَقي، بالنسبة لـغرامشي، لا يمكن أن يتشكل إلا من داخل الجماعة، ل ايمكن فرضه بالقوة من الخارج. لذا فإن الواجب هو دراسة العواطف «العفوية» و«البدائية» للمهمشين لا تجاهلها، وتطويرها لا احتقارها. أعطى غرامشي قيمة لدارسة معتقدات ووعي الطبقات التابعة، لا لأنه اعتقد أن تلك المعتقدات «صحيحة» بشكل موضوعي بل لأنها أشكال وتعبيرات عن حياة الجماهير التي لا يمكن لأي مؤمن بـ«فلسفة الممارسة» أن يتجاهلها.
كما أظهر ألبرتو ماريا شيريزه، باستطاعة المرء أن يستخلص من كتابات غرامشي المتأخرة مجموعة من الصفات السيئة للطبقات التابعة وفي مواجهتها، مجموعة من الصفات الإيجابية أو التي لديها القدرة لتكون إيجابية (Cirese, 1982). على الجانب السلبي توجد نقاط الضعف المعروفة عن الفلاحين كقوة سياسية من دراسات أخرى. تشتّت الفلاحين وعزلتهم تجعل من الصعب جمعهم في «تنظيم صلب» (SPN: 75). هم منقسمون فيما بينهم، بشكل أساسي بين من يملك الأرض من بينهم ومن لا يملك الأرض، وهذا خلاف انقسام يستثمره ملّاكو الأراضي الكبار لصالحهم (SPN: 75-6). الحشود الإيطالية إلى ذلك توصف بـ«السلبية التقليدية والبعد عن السياسة» (SPN: 203). هذا يسهّل السيطرة والهيمنة الفعالة عليها، ويجعل الطبقات السائدة قادرة على الحفاظ على مواقعها من خلال موافقة الفلاحين ودون لجوء إلى العنف المكشوف (SPN: 12). ويجعلهم قادرين أيضاً على تجنيد الشباب من الفلاحين كضباط أو مرتزقة خادمين لقضايا رجعية ومحافظة (SPN: 74, 85, 215). الفُرقة وغياب وعي جماعي يطبعان أيضاً أيديولوجيا الطبقات التابعة. مطالب الفلاحين تبدو «بدائية» وتتعلق بشكل رئيسي بالأرض، تملكها والاحتفاظ بها (SPN: 68, 74). وفي حين أن الفلاحين وباقي الطبقات التابعة يملكون نوعاً من «المنطق الجماعي»، فإن هذا يبقى أشبه بالجعبة الممتلئة بشتى أنواع الافتراضات والمعتقدات التي قد لا تتوافق أو تتجانس مع بعضها. «صفته الأساسية أنه مفهوم متشذر ومتناقض وبدون ثقل، ومتوافق مع الموقع الحقيقي والاجتماعي للجماهير التي يعبر عنها» (SPN: 325-6, 419). الفلاحون نادراً ما يقبلون أفكاراً جديدة بشكلها المجرد، بل يمزجون أفكاراً عديدة في «توليفات غريبة وغير متجانسة» (SPN: 338). وحتى عندما تتغير الشروط المادية لوجود الطبقات التابعة، تبقى الأفكار أكثر عناداً في وجه التغيير. كون «العوامل الأيديولوجية تتأخر خلف العوامل الاقتصادية» كان بالنسبة لـغرامشي سبباً هاماً للابتعاد عن أي نوع من أنواع الحتمية الاقتصادوية (SPN: 168, 324-5). لوحدهم إذاً، لا يملك الفلاحون إلا شذرات وعي طبقي. وهم يشاركون في عملية إخضاعهم لأنهم يحملون قيماً تشرع الهيمنة عليهم، ويسعون إلى الكثير من صفات الطبقات السائدة. لذلك فإن كراهيتهم لا تتوجه نحو الملاكين أو نحو البرجوازية الصغيرة، بل إلى موظفي الدولة القادمين في معظم الأحيان من المدن. هذه الكراهية لا تمثّل إلا «موفقاً سجالياً وبدائياً وسلبياً» ولا تحمل سوى «ومضة» وعي طبقي «أولى» (SPN: 272-3).
ضعف الفلاحين يجد تعبيره أيضاً في الحركات النضالية التي ينتجها وعيهم. فتلك كانت عفوية، هلامية، عنيفة وتدميرية (SPN: 74, 97, 102, 340; SPW II: 397, 454-5). وصف غرامشي فلاحي الجنوب عام 1926 ككيان «في غليان مستمر، لكنهم كمجموع غير قادرين على إنتاج تعبير ممركز لطموحاتهم واحتياجاتهم» (SPW II: 454). بدون توجيه خارجي، تبقى حركات الطبقات التابعة معرضة لخطر التحول إلى «اهتزاز فوضوي»» (SPN: 94) أو أن يتم امتصاصها من جديد ضمن البنى المهيمنة السائدة». الحركات الفلاحية المستقلة نادرة (SPW II: 456) باستثناء أشكال محدودة كأعمال الشغب وقطع الطريق والتي نظر إليها غرامشي كنوع من «الإرهاب البدائي، دون أي نتائج مستدامة أو فعالة» (Fiori, 1973: 31). وحتى في ساعات التمرد، لاحظ غرامشي، تكون الفئات التابعة «خاضغة لنشاط المجموعات الحاكمة»، وتبقى كذلك حتى يتم إحراز نصر دائم يُنهي تبعيتهم، ولكن ليس على الفور حتى. في الواقع، كون هذه الطبقات تفتقر إلى الاستقلال هو العلامة الفارقة التي تجعلها «تابعة» بالنسبة لـغرامشي، وهذا مفهوم حيوي سنعود إليه بعد قليل.
ضمن هذه القائمة من الصفات السلبية توجد بعض التناقضات التي لا يحاول غرامشي التوفيق بينها: بين «السلبية»، على سبيل المثال، و«الغليان». من المغري ردّ هذه التناقضات إلى كون كتابات غرامشي في السجن ذات طابع غير منتهيْ. لكن المتوافق أكثر مع فلسفة غرامشي ككل هو رد هذه التناقضات إلى واقع الطبيعة المتناقضة لثقافة وسياسة الطبقات التابعة. لذا قد ينهل أفراد هذه الطبقات من الجوانب الساكنة والفاعلة في ثقافتهم دون أن يسيّرهم أحد منها بشكل كامل ودائم، لكن الجانب الساكن أو السلبي قد يغلب نتيجة ظروف الإخضاع نفسها. بكلمات أخرى، المجتمع التابع هو دائماً في صراع جدلي مع نفسه، بين صوته الفاعل وصوته الساكن، بين المقاومة والقبول، بين التجمع والعزلة، بين التجانس والفرقة. ثنائية «التبعية» هذه (وهذا مصطلح لم يستخدمه غرامشي لكنه مفيد هنا كمعبّر عن الشرط المادي والأيديولوجي والسياسي للطبقات التابعة) ستتوضح أكثر عندما نلتفت إلى الجوانب الإيجابية للفلاحين حسب غرامشي.
لكن قبل هذا علينا توضيح نقطتين هامتين. الأولى أن نظرة غرامشي لما هو سلبي أو إيجابي كانت معتمدة بالضرورة على ماركسيته الثورية: أي أن نظرته على مدى مساهمة عنصر ثقافي ما في تكوين وعي طبقي ثوري أو منع هذا الوعي من التشكل. بعض الصفات التي تبدو في هذا السياق سلبية قد تبدو أيجابية في سياقات أخرى. أعمال قطع الطريق والتمرد الفلاحي قد تبدو هلامية، غير فعالة وغير مهمة إذا كان الهدف هو إنهاء تبعية الفلاحين واستغلالهم، لكنها قد تحمل نتائج محلية هامة بالنسبة للعلاقات بين الفلاحين المظلومين وطبقة ملّاكي الأراضي. النقطة الثانية هي أن غرامشي كان واعياً أيضاً أن فهم تاريخ الطبقات التابعة يواجه دائماً تحدي ندرة المصادر التاريخية التي تعكس وجهة نظر التابعين. يبدو لنا تاريخ الطبقات التابعة مشذراً ومتناقضاً وعفوياً، لكن ربما لو كان السجل التاريخي أكثر كمالاً وتنوعاً كنا سنرى درجة أكبر من التناسق والتجانس والوعي السياسي لدى تلك الطبقات. لذلك يدعو غرامشي إلى بحث أكثر تمعّناً ودقّةً في تاريخ ومجتمع الطبقات التابعة، وهذا يعني ترك الباب مفتوحاً أمام نظرة أكثر إيجابية من نظرته الشخصية (SPN: 54-5, 196).
وبالعودة إلى الصفات التي اعتبرها غرامشي إيجابية لدى الطبقات التابعة، فقد كانت هذه بالمجمل تنتمي إلى الحقل الثقافي السياسي. لا يبدو أن غرامشي وجد أية نقاط قوة في النشاطات الاقتصادية أو التنظيم الإجتماعي للطبقات التابعة، أقله ليس في الريف. عداء غرامشي للحتمية القدرية أو الموضوعية لدى بعض المنظرين من أمثال بوخارين، وعناصر «الماركسية الإنسانية» في فكره جعلته مؤمناً بأن الثورات لا تنتج فقط نتيجة ظروف أو بُنىً مادية، بل أيضاً من خلال العمل السياسي وتطور وعي طبقي لدى الفئات المهمشة. غرامشي، كما ذكرنا للتو، كان معارضاً لهؤلاء الماركسيين المنتظرين للحركات الثورية الصافية، لذلك وجد أن عفوية وبدائية مشاعر عموم الناس يجب أن يتم تطويرها وتشذيبها لتتوافق مع النظرية الحديثة (أي مع الماركسية). لذلك فإن التزام التابعين وطاقتهم هي العناصر الأولية الأولى التي قد ينشأ من خلالها وعي طبقي حقيقي (SPN: 198).
ثانياً، وبالرغم من نقده للطبيعة غير المتسقة لـ«المنطق الجماعي والثقافة الشعبية»، نظر غرامشي بعين إيجابية إلى هذه الثقافة بوصفها تعبيراً عن وعي الطبقات التابعة. علينا أن نحذر هنا إذاً ونوازن بين جانبي المعادلة: موقف غرامشي الأساسي تجاه المعتقدات الشعبية أنه يراها مستمدة بشكل أساسي من ثقافة الطبقات السائدة، وأنها لهذا السبب تشكل أحد الروافع الأساسية للهيمنة الطبقية والإخضاع (SPN: 327). لكنه في نفس الوقت اعتبر أن الطبقات السائدة قد تجعل من ثقافة الطبقات السائدة ثقافتها الخاصة عبر تطعيمها بقيم مختلفة غير سائدة، أو عن طريق قبول بعض القيم ورفض بعضها الآخر. لهذا السبب مثلاً تبدو كاثوليكية الفلاحين الإيطاليين شديدة الاختلاف في نظرتها للعالم عن كاثوليكية الطبقات السائدة (SPN: 420, cf. Cirese, 1982: 226). العناد الفكري للطبقات التابعة، والذي يجعلها تقاوم الأفكار الثورية، يجعلها أيضاً تقاوم محاولات لإدخال أو فرض قيم جديدة من قبل الطبقات السائدة (SPN: 337). ولأن الوعي هو في التحليل الأخير ناتج عن الظروف المادية (غرامشي هنا يعود إلى نوع من الحتمية الاقتصادوية) (SPN: 324, 326) تتوافق أيديولوجيا الطبقات التابعة، ولا سيما الدين، مع ظروفها ووجودها المادي. لذا فإن دين الفلاحين يبقى شديد التجسد والمادية، بل يقارب «الوثنية» حتى (SPN: 420; SPW II: 456)، وهو في هذا يعكس حاجات وآمال الفلاحين لا الطبقات السائدة (SPN: 337). الدين إذاً لم يكن نوعاً من «خداع الذات» (أو «الوعي الزائف») (SPN: 326-7) بل، بالنسبة للمهمشين، «طريقة محددة لعقلنة العالم والحياة». الدين يقدم «إطاراً عاماً للعمل السياسي الحقيقي» (SPN: 337)، خصوصاً في ظل غياب حزب اشتراكي متجاوب مع مطالبهم. يعني هذا أن ثقافة الطبقات التابعة المشتركة تحمل بذور الانشقاق عن الطبقات السائدة وتقدم أسساً للعمل الجماعي بين المهمشين. وبالنسبة لـغرامشي، وهو طالب لسانيات فيما مضى، تلعب اللغة في هذا المضمار دوراً شديد الأهمية لأنها تجسد أولاً مفهوم هؤلاء الناس عن العالم (SPN: 323) وثانياً الوسيلة التي يعبرون ويتشاركون من خلالها عواطفهم.
آمل أن يكون هذا العرض السريع قد وضّح الأهمية التي عقدها أنطونيو غرامشي على الفلاحين. فلاحو إيطاليا قدموا لـغرامشي برهاناً تاريخياً على كيفية بقاء الطبقات التابعة أسيرة أسيادها بسبب نقاط ضعفها الداخلية وبسبب قبولها بالقيادة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية للطبقات العليا، أي بهيمنتها. ومن خلال فهمه لطبيعة هذه الهمينة، آمن غرامشي أن باستطاعته كسرها من خلال تحالف بين العمال والفلاحين، وتعميق الوعي الطبقي لدى القوى الفلاحية بشكل عام. على خلاف العديد من الفلاحين، لم ينظر غرامشي إلى الفلاحين بعين الاحتقار ولم يعتبر أنهم ينتمون إلى مقبرة التاريخ. كان مقتنعاً باستطاعتهم التحول إلى طبقة ثورية، ولذلك اعتقد أن مهمة الماركسيين كانت تكمن في فهم ونقد الأيديولوجيا والثقافة الفلاحية من أجل تجاوز جوانبها السلبية وتقوية وتطوير جوانبها الإيجابية.
ضمن هذا السياق تحديداً سيتوضح لنا أهمية مصطلح «التابعين» الذي استخدمه غرامشي مراراً وتكراراً (سب-ألترن subaltern). باستطاعتنا طبعاً أن ننظر إلى الكلمة كاختصار ملائم لمجموعة متنوعة من الطبقات الخاضعة أو الضعيفة: العمال الصناعيين، الفلاحين، المياومين، الحرفيين، الرعاة، الخ. وربما استخدمها غرامشي في دفاتر السجن بكثرة لكي يستطيع الالتفاف على الرقابة، التي ما كانت لتسمح بمرور كلمة أكثر صراحة مثل «بروليتاريا». لكن خيارات غرامشي الاصطلاحية نادراً ما كانت بغرض التورية فقط، بل كان هناك أيضاً تطوير للمفهوم والمعنى مصاحب لتبديل الكلمات، مثل استخدام كلمة «فلسفة الممارسة» بدلاً من «الماركسية». وبالتأكيد فإن استخدام كلمة «تابعين» أو «سب-ألترن» لم يكن خياراً موفّقاً تماماً، أقله بالنسبة للإنكليزية حيث تستخدم الكلمة غالباً كمصطلح عسكري يشير إلى الضباط المبتدئين، وهي طبعاً لا تسدّ الحاجة إلى تعريف أكثر دقة للانتماء الطبقي. لكن الكلمة لديها بعض الحسنات أيضاً. فهي تركز على أهمية علاقات القوة بين الطبقات والجماعات المختلفة: ليسوا فقط فلاحين وملاكي أراضي، وإنما هم خاضعون وأسياد، مدركون لتَبِعَات ونتائج مواقعهم المختلفة في المجتمع، حتى وإن لم يكتسب هذا الإدراك طابع الوعي الطبقي المتطور. عندما نتحدث عن مجتمعات كإيطاليا في القرن التاسع عشر أو الهند لم تصبح رأسمالية بشكل كامل، لغة «التبعية» أكثر ملائمةً لتوصيف الواقع من لغة «الطبقة». استخدامها يعبر أيضاً عن تلك الثنائيات الجدلية التي لطالمها رأى غرامشي أنها أكثر تعبيراً عن تناقضات حركة الواقع من الفكر الحتمي الموضوعي، كثنائية الهيمنة والخضوع، العنف والرضى، الحركة والسلبية.
استخدام غرامشي لكلمة «تابع» يدعونا أيضاً لنتمعّن في الصفات والثقافة المشتركة لجميع الفئات الخاضعة في المجتمع – تهميشهم، ضعفهم الداخلي، نقاط قوتهم المحدودة. لذلك فإن الطابع الثوري الخاص بالبروليتاريا الصناعية كما نظر إليها ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي ستتوارى قليلاً في فكر غرامشي. لم يعترض غرامشي على كون العمال ذوي مناقب معينة من حيث التنظيم والوعي، وكما أشرنا في السابق فهو توقع أن تقوم طبقتهم تحديداً بفرض هيمنتها على المجتمع. لكن العمال أيضاً ذوو مثالب شبيهة بما لدى الفلاحين: السلبية في كثير من الأحيان، التشرذم، العفوية… (SPW II: 453, 462). تجربة حركة المصانع في تورينو أظهرت غرامشي أن حركة عفوية ومستقلة يقودها العمال وحدهم ليست كافية للإطاحة بالدولة الرأسمالية؛ العمال أيضاً كانوا بحاجة قيادة سياسية وتنظيم حزبي. بالإضافة إلى ذلك، لاحظ غرامشي أن وسائل الإدارة الصناعية الحديثة، من تايلورية وفوردية، كانت تشيد عوائق جديدة أمام تطور وعي طبقي وطبقة عاملة ثورية (SPN: 277f). وربما من المفيد التذكير هنا بخطأ غرامشي في شبابه عندما اعتقد أن وصف ماركس للفلاحين أنهم كـ«حبات البطاطا في الأكياس» كان المقصود به عمال المدن (Pozzolini, 1970: 79-80). مايقدمه لنا غرامشي، باختصار، هو شيء مختلف تماماً عن المقارنة الحادة التي قدمها لنا ماركس بين العمال والفلاحين بوصفها مقارنة بين القوى الثورية والقوى الرجعية. غرامشي يتحدث عن درجات متفاوتة من الوعي والتضامن لدى كلا الطبقتين، وعن قدرتهما معاً على التحول إلى طبقة ثورية.
غرامشي في الهند: الاستقلال والإخضاع
تضعنا محاولة تطبيق أفكار غرامشي على السياق التاريخي المختلف للفلاحين الهنود أمام إشكالية رئيسية: الاستقلالية. تركيز غرامشي كان دائماً على قوة السلطة القصرية والهيمنة الأيديولوجية التي مارستها الجماعات الحاكمة على الطبقات التابعة. هدف غرامشي كان شرح صعوبة الإطاحة بسلطة الدولة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة ولماذا كان الطبقات التابعة تبدو وكأنها قابلة بخضوعها. لم يجد غرامشي الكثير من الأدلة على «استقلالية» الحركات الفلاحية: أي قدرتها على إنتاج قيادة وتنظيم خاصين بها وصياغة مطالبها بشكل فعال، أولاً، وتوجيه ضربة سياسية وأيديولوجية قاصمة لحكم وهيمنة الطبقات السائدة، ثانياً. «الجماعات التابعة»، يذكرنا غرامشي دائماً، «تبقى دائماً تحت سلطة الجماعات الحاكمة، حتى عندما تتمكن من التمرد والثورة» (SPN: 55).
في المقابل طرح راناجيت غوها في مقالته التأسيسية لمجموعة ودورية دراسات التابعين فكرة وجود «مجال سياسي مستقل» لعموم الشعب خلال الحقبة الاستعمارية في الهند، «لم ينبثق عن المجال السياسي للنخب ولا اعتمد في وجوده عليه» (Guha, 1982: 4). وحسب غوها، فإن جذور هذا المجال السياسي كانت تعود إلى فترة ما قبل الاستعمار، لكنه «استمر في الوجود الفاعل» تحت الحكم البريطاني، لا بل تطورت بعض تعابيره حتى في «الشكل والمضمون» (4: 1982). طرح غوها تصوراً لمجالين سياسين مستقلين، الأول يألفه عموم الناس ممن يشكلون الكتلة العاملة والطبقة المتوسطى في الريف والبلدات (4: 1982)، والثاني تحكمه «النخبة»، لا بالمعنى الثوري الطليعي الذي يقصده غرامشي، بل كمرادف للطبقات السائدة أو المهيمنة. في السياق التاريخي للهند المستعمَرة تشكلت النخب من الإداريين والملاكين والمبشرين الأوروبيين، وطبقة كبار الملاكين والتجار والبيرقراطيين المحلية (8: 1982). هذا التقسيم الثنائي لمجتمع ذي تراتبية شديدة التعقيدة لم تكن خالية من الإشكاليات. فعلى سبيل المثال، الفلاحون الأغنياء الذين قد يبدون في موقع تابع بالنسبة للنخبة الإقطاعية «الزامندارية» الزامندار هم أعضاء الطبقة الأرستقراطية المالكة لمساحات شاسعة من الأراضي في الهند خلال عهد الإمبراطوريات المغولية والاستعمار البريطاني فيما بعد. من هؤلاء من حمل اسم راجا أم مهراجا (الملك أو الملك العظيم) ومن اعتبر نفسه حاكماً مستقلاً لمنطقته. تم إلغاء نظام الزامندار في الهند عقب الإستقلال.
انظر Thomas Metcalf and Barbara Metcalf, A Concise History of Modern India, Cambridge, 2012.، يحتلون هم أنفسهم موقعاً مهيمناً في علاقاتهم مع الطبقات الأفقر في مناطقهم من فلاحين غير مالكين للأراضي ومياومين وحرفيين وخدم. تنقسم المجتمعات بأشكال مختلفة حسب الظروف، لكن وبالتوافق مع نظرية غرامشي، يبقى الانقسام الجوهري بين الطبقات العاملة والمزارعة الخاضعة والطبقات التي تمارس السلطة السياسية والاقتصادية عليهم. المكان الدقيق للخط الفاصل يجب أن يعتمد على السياق المحلي والتاريخي المحدد ضمن هذه المبادئ العريضة.
يعتبر غوها أن المجال السياسي للطبقات التابعة يحتوي على أنماط عديدة من التفكير والعمل، تعبر عن نفسها بشكل خاص من خلال التمرد والاحتجاجات والحركات الشعبية. وعلى الرغم من أنه لا يشرح أو يستفيض في هذا المجال، يبدو من الواضح أنه يعتبر أن هذه التعبيرات السياسية للثقافة الفلاحية الشعبية مستقلة عن ثقافة النخب. فهذا الأخيرة تمحورت خلال حقبة الاستعمار حول القوانين والتشريعات ومؤسسات المجتمع السياسي التي خلقها البريطانيون من جهة، ونشاطات وتنظيمات الأحزاب السياسية الهندية الرسمية، من جهة أخرى، أي قبل كل شيء، ’حزب المؤتمر الوطني‘. لا يعتبر غوها أن مجالَي السياسة هذين مغلقان على بعضهما الآخر، فهما من وقت لآخر يتقاطعان ويتفاعلان لكنهم لا يندمجان ببعضهما. يبقى هناك «مجالان» أو «تياران»، بسبب فشل البرجوازية الهندية في تجاوز «الانقسام البنيوي» الجذري وتأسيس هيمنتها فوق كامل المجتمع الهندي. «كان هناك»، يكتب غوها، «مجالات واسعة في حياة ووعي عموم الناس لم تستطع البرجوازية دمجها تحت إطار مشروعها الأيديولوجي، أي تحت هيمنتها» (6-5: 1982). أما عندما جرى بعض الاختلاط بين المجالين فقد كانت النتيجة دائماً ذات طابع انفجاري، «لأن الحشود التي كانت النخب قد جيّشتها لتحارب من أجل أهدافها هي (أي النخب) تمكنت من كسر سيطرة هذه الأخيرة ووضع بصمتها الخاصة على الحملات التي كانت الطبقات العليا قد بدأتها». ماهي هذه البصمة الخاصة؟ غوها يقدم جواباً كاملاً في كتابه عن الثورات الفلاحية في الهند الصادر في العام التالي (1983a).
من الجدير بالذكر هنا أن باحثين متخصصين في مجتمعات ما قبل صناعية أخرى كانوا قد تحدثوا عن افتراقات مشابهة بين ثقافة وسياسة النخب من جهة والطبقات التابعة من جهة أخرى. المؤرخ البريطاني الشهير إدوارد تومبسون إدوارد تومبسون (1924-1993) مؤرخ وكاتب بريطاني اشتراكي، من أكثر المؤرخين البريطانيين إبداعاً في كتابة تاريخ الطبقات العاملة والشعبية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، ويعبر كتابه تشكيل الطبقة العاملة الإنكليزية مرجعاً لجميع المؤرخين في العالم من حيث الحرفة والبحث والكتابة، E.P. Thompson, The Making of the English Working Class, Vintage, 1966.، كان قد شكّك على سبيل المثال بالنظرة القائلة بأن المجتمع الريفي في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر تمحور بشكل حصري حول قصور مالكي الأراضي. نظرة كهذه تعكس، حسب تومبسون، تقدير طبقة النبلاء لأنفسهم وتقييمهم لمدى أهميتهم. من الممكن بناء صورة مختلفة للمجتمع الريفي البريطاني في حال اعتمدنا وجهة نظر الطبقات التابعة. «قبل كل شيء»، يقول تومبسون، «من الممكن وجود نوع من الافتراق الجذري –وفي بعض الأحيان نوع من العداء– بين ثقافة و’سياسة‘ الفقراء وثقافة وسياسة العظماء» (Thompson, 1978: 136). إذاً، يختلف تومبسون مع نظرية غرامشي في الهيمنة بقدر ما تصرّ هذه الأخيرة على سيطرة سياسية وثقافية وأيديولوجية كاملة للنخب على الطبقات التابعة. في إصراره على «البعد الهائل» بين الثقافتين «المهذبة» و«الشعبية»، يشير تومبسون إلى أنه «بغض النظر عن شكل الهيمنة، فهي لم تغلف حياة الفقراء بشكل كامل ولا منعتهم من الدفاع أنماطهم الخاصة في العمل والراحة، وتشكيل طقوسهم ومصادر رضاهم ونظرتهم الخاصة للحياة». الهيمنة، حسب تومبسون، لم تأخد شكل بنية مصمتة ومحكمة للسيطرة، بل كانت «عبارة عن هيكل عام لشكل العلاقات بين السادة والتابعين» كان ممكناً من خلاله لهذه العلاقات أن تجري حسب نماذج عدة ومن خلال «حبكات درامية» متنوعة (163 :1978). عالم الاجتماع البريطاني رايموند وليامز رايموند وليامز (1921-1988) من أشهر المفكرين واالأكاديميين البريطانيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، من الأباء المؤسسين لليسار الجديد في بريطانيا ولمجال «الدراسات الثقافية» القائم على النقد الماركسي للإنتاج المعرفي والأدبي والإعلامي في العصر الحديث. من أهم كتبه الثقافة والمجتمع، Culture and Society, London, 1958 والماركسية والأدب، Marxism and Literature, Oxford, 1977. حذّر أيضاً من تفسير الهمينة الغرامشية كنوع من السيطرة السياسية والأيديولوجية المطلقة على المجتمع. «الهمينة كما نعيشها في الواقع»، يقول وليامز، «هي عبارة عن صيرورة»: أي إنها ليست بنية مصمتة وشاملة وغير قابلة للخرق، بل على العكس يجب دائماً تجديدها وإعادة خلقها والدفاع عنها وتعديلها». يوجد دائماً، بمعنى آخر، قيم غير خاضعة لهيمنة الطبقات العليا تعمل للحد أو تحدي نظام الهيمنة نفسه (Williams, 1977: 112-13). من خلال مجابهتهم للتفسير الحتمي لنظرية الهيمنة الغرامشية، كان غوها وتومسبون وويليامز يعيدون التأكيد على الطبيعة التاريخية والإنسانية ووالجدلية لمواقف غرامشي السياسية والفلسفية الأساسية.
بعد عام من صدور مقالة غوها الأساسية، سيؤكد تلميذه الأبرز بارثا شاترجي أن استقلالية الطبقات التابعة لا تتعارض في الواقع مع هيمنة النخبة لأن العلاقة بينهما تبقى جدلية بالتعريف. «السيطرة»، يشرح شاترجي، «لا توجد إلا من خلال علاقة بين طرفين. الطبقات المسيطرة، عندما تمارس سيطرتها، لا تستهلك وتدمر التابعين لها، لأنها لا يمكن لعلاقة السيطرة عندها أن تستمر». بدون حد أدنى من الاستقلالية، لن يكون لعموم الناس أي نوع من أنواع الهوية، أي لن يتوفر لهم مجال يستطيعون من خلاله المقاومة في نفس الوقت الذي يخضعون من خلاله أيضاً لسيطرة النخب. لأنهم عندها سيتم سحقهم واستيعابهم في تاريخ حياة الطبقات السائدة، يقول شاترجي، «علينا دائماً أن ننظر إلى جانب هام من التاريخ البشري على أنه تاريخ، أي أنه حركة تنبع من التضاد بين مجموعتين متمايزتين». أن نحرم التابعين من استقلاليتهم يعني أن نجمد هذا الجانب من العملية التاريخية، نختصره بنوع من القالب الساكن، نحطم تاريخه». هذا تماماً ما يقوم به التأريخ النخبوي للهند حسب شاترجي (Chatterjee, 1983: 59).
استقلالية مجال العموم السياسي ستبقى نقطة جوهرية متكررة في المقالات الظاهرة في دورية دراسات التابعين. غاينيندرا باندي، في تأريخه للحركة الفلاحية في أواذ أواذ منطقة جغرافية من الهند تقع في شمال شرق البلاد على الحدود مع نيبال، مدنها الأهم فايزأباد ولاكناو.[1] بين عامي 1919 و1922، أظهر كيف أنها بدأت كحركة مستقلة وأخذت أشكالاً حددها الفلاحون أنفسهم وعبرت عن إحساسهم الخاص بالظلم ضد مالكي الأراضي وبعدها النظام البريطاني ككل. قوميو الطبقة الوسطى تحت قيادة غاندي ونهرو لم يطلقوا هذا الحراك ولم يتزعموه، بل على العكس حاولوا متأخرين احتواء الحراك من خلال مناهضة هجومه العنيف والجذري على طبقة الملاكين من خلال الدفاع عن «الوحدة الوطنية» وعن «اللاعنف» الغانديّ. لكن الوطنيين لم ينجحوا إلا جزئياً، والوادي الفاصل بين أيديولوجياهم ومنهجهم وأيديولوجيا ومنهج الفلاحين بقي من دون جسور حقيقية (Pandey, 1982).
هناك نقاط تشابه أيضاً في الطرح والتفسير بين الأحداث التي يناقشها باندي ونظرة دايفيد هارديمان إلى حركة ديفي في جنوب غوجارات غوجارات منقطة جغرافية في الهند في الشمال الغربي من البلاد، تطل على المحيط الهندي وتحاذي باكستان شمالاً، وهي من أعرق المناطق الهندية ثقافة وتاريخاً، ومنها ينحدر كل من المهاتما غاندي ومحمد علي جناح. خلال أعوام 1922-1923. فهذه الحركة أيضاً بدأت بشكل مستقل بين فلاحي «الأديفازي» (العشائر) الطامحين إلى تحطيم سيطرة الملاكين البارسيين البارسيون هم المجموعة الإثنية المنحدرة من أصول إيرانية زردشتية في الهند، والمتمركزة تاريخياً في أقاليم غوجارات والسند في غرب البلاد خلال العصر الحديث. استطاع البارسيون تحقيق نهضة اقتصادية وثقافية في صفوفهم وكانوا سباقيين في «التفرنج» ضمن المجتمع الهندي، وشكلوا في نهاية القرن التاسع عشر مايقارب 6% من سكان مدينة بومباي وارتبطت فيهم الكثير من المبادرات التجارية والثقافية في المدينة. وتجار الكحول الإقتصادية عليهم من خلال إعادة تنظيم جماعي لطريقتهم في الحياة. وكما في أواذ، لم يكن حزب ’المؤتمر‘ ذا أهمية حقيقية في حركة الديفي. لكن بالتدريج، بدأ أعضاء ’المؤتمر‘ من الطبقة الوسطى بالبروز وإحراز القدرة على التأثير وشجعوا الإديفازي على تبني المشروع الغاندي والتخفيف من عدائهم الطبقي ومطالبهم الإقتصادية من البارسيين. وعلى الرغم من أن الحركة اضمحلت بحلول عام 1924، فقد نظر إليها هارديمان كدليل على قدرة إحدى أكثر الطبقات حرماناً في المجتمع على أخذ المبادرة وتنظيم حركة احتجاج ضد الهيمنة الاقتصادية والسياسية السائدة (Hardiman, 1984).
وفي دراسة محلية ثالثة، ومن خلال تحليل دقيق للشائعات الشعبية في تلك الحقبة، أظهر شهيد أمين كيف أن نظرة الفلاحين إلى غاندي في إقليم غوراخبور خلال أعوام 1921 و1922 تشكلت من خلال معتقداتهم وتوقعاتهم وثقافتهم المادية الخاصة، ولذلك لم تتوافق تماماً مع البرنامج السياسي الذي كان غاندي ورفاقه يحاولون نشره. المبادرة السياسية هنا نبعت من خارج المجال السياسي للفلاحين، لكن هؤلاء لم يتجاوبوا مع أفكار غاندي أو قيادة حزب ’المؤتمر‘ بل مع مفهومهم هم لمن هو «المهاتما» وطبيعة قواه (Amin, 1984).
في جميع هذه الدراسات ينصبّ تركيز الباحثين على رؤى ونشاطات الفلاحين أنفسهم، وعلى الوادي الفاصل بين تطلعاتهم ومنهجهم وتلك العائدة للنخبة المحلية. وفي نفس الوقت، تعيد هذه الدراسات التأكيد على فكرة غوها أنه وعلى الرغم من تمايز المجالين السياسيين للنخبة والعموم، فإنهم يبقيان متصلين ببعض. فمن ناحية، استمر سياسيو حزب ’المؤتمر‘ في محاولاتهم لتجييش أو احتواء الفلاحين أو دمجهم في الحركة الوطنية حسب شروطهم. درجة نجاح هذه المحاولات تفاوتت بين الحالة والأخرى، فالوادي بين النخب والعموم كان أوسع من أن يتم رأبه بسهولة. ومن ناحية أخرى، كان الفلاحون على استعداد لطلب المساعدة والقيادة أو قبولها من خارج مجتمعهم في حال آمنوا أنها ستساعد قضيتهم، لكنهم لم يهتموا حقيقةً بقضايا النخب. في مقالته عن انخراط العموم في حركتي السواديشي وعدم التعاون في البنغال، فضل سوميت سركار التركيز على «الاستقلال النسبي» للطبقات التابعة. فكما تظهر مقالته، انطلاق حركة العموم قد لا يكون نتيجة مبادرة أو قيادة النخب السياسية، لكنها قد تكون نتيجة أزمة داخل مجال النخب السياسي، واستيقاظ أمل ما في نهاية القمع وبداية عصر للحرية والعدالة. حركة العموم بدورها، وبالرغم من عدم كونها إلا جزئياً تحت قيادة النخب، تستطيع زيادة تأثير وفعالية حركة التحرر الوطنية المعادية للاستعمار والإسهام في زعزعة الأسس العميقة للقوة والهيمنة الإستعمارية (Sarkar, 1984). من خلال الانتباه الدقيق إلى الخصوصيات التاريخية فقط، نستطيع الكشف عن التفاعل المعقد للنخب والعموم وفهم الطبيعة الجدلية والمتغيرة لعلاقاتهم.
إنجاز وتقديم دراسات متخصصة في مواضيع تختص بعامة الشعب كان محاولة واعية من المساهمين في دورية دارسات التابعين لقلب شكل التأريخ الهندي وتكريس مركزية تطلعات وأفعال عموم الناس في العملية التاريخية. في ذلك، كان هؤلاء مخلصين لفكرة غرامشي عن «المؤرخ التكاملي» الذي يدرس الطبقات التابعة ويبحث عن أي أثر «للمبادرة المستقلة التي تقوم بها تلك الطبقات» (SPN: 55). وفي نفس الوقت، كانوا يردون على أنماط الكتابة التاريخية التقليدية عن الهند الحديثة والتي عرفت التاريخ والسياسة حصرياً من خلال النخب. فعموم الناس، عندما يتم ذكرهم أصلاً في الأعمال التقليدية، لا يأخدون إلا دور المتلقّن أو المنفعل مع قرارات النخبة، فيبدون ككتلة جامدة منعزلة لا تتحرك إلا لخدمة قضايا النخبة. المشاركون في دورية دراسات التابعين كان يردّون أيضاً على المقاربة الاقتصادوية أو «الموضوعية»، والتي، في سعيها لقياس وتعريف واقع الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، تجاهلت أو تناست الفاعلية الإنسانية للمشاركين في هذه الظواهر. التأريخ التقليدي للمجاعة، على سبيل المثال، تجاهل عموماً نظرة وتفاعل أبناء الطبقات التابعة مع ما كان في واقع الأمر أزمة استمراهم أو موتهم هم (cf. Arnold, 1984). كما أنهم بدأوا في التشكيك في صورة المجتمع الهندي التي رسمها بشكل أساسي منظرو المدرسة «البنيوية-الوظائفية» كمركب معقد ولكن متجانس، حيث الصراع موجود لكنه قابل للاحتواء من خلال البنى الفكرية للهندوسية ونظام الطبقات. الصراع، حسب هذه النظرة، يعطي شرعية ويحافظ على النظام الاجتماعي الشامل من خلال تشجيع الراوبط العمودية (شبكات الزعامة والولاء والفئات والمنظمات السياسية) بدلاً من التسبب في خلافات طبقية واضحة (cf. Hardiman, 1981: 223; 1984).
ليس من الصدفة أن معظم المشاركين في دورية دراسات التابعين كانوا من المؤرخين أو من الباحثين العاملين بشكل أساسي من خلال الأطر التاريخية. فهولاء كانوا أكثر من شعر بمثالب الدارسات الهندية في شكلها التقليدي. مؤرخو الهند حتى تلك اللحظة كانوا شديدي الخجل. فإما تعلقوا بالإطار المعتاد للتأريخ النخبوي أو قبلوا ببعض النماذج والتعريفات المنتجة في مجالات أكاديمية أخرى عندما حاولوا النظر إلى الجماهير الهندية. مؤرخو دراسات التابعين كانوا غير راضين عن فشل التاريخ في التصالح مع نفسه ومقاربة مسائل السيطرة والإخضاع، السلبية والمقاومة، والتي بدت لهم مركزية في تاريخ الهند الحديث. لم يكن هذا يعني قطع الصلات مع الفروع الأكاديمية الأخرى والارتداد إلى ما وراء جدرانهم الفكرية الخاصة. على العكس تماماً، فكما بيّن راناجيت غوها، مؤرخ الطبقات التابعة يحتاج أكثر من غيره أن يتعلم من مناهج وأسئلة الأنثربولوجيا البنيوية والسيميولوجيا ليكون قادراً على «فك شفرة» المعاني الكامنة في أفعال ومعتقدات الطبقات التابعة وصورهم الطاغية في أرشيف النخب (أنظر تحديداً،Guha, 1983b). مع ذلك يبقى الهدف الأساسي ذا طابع تأريخي: أي شرح كيف ولماذا بقيت الطبقات التابعة في الهند الحديثة خاضغة على الرغم من مقاومتهم الموسمية واستقلالية مجالهم السياسي ولم تنجح في تحصيل حريتها.
هذه المحاولة الجريئة لإعادة تعريف أساسات الجدل التاريخي الهندي لم تخلو من الصعوبات. فلكي يدحضوا الافتراضات الشائعة عن سلبية الفلاحين وعدم عقلانيتهم، انجذب المساهمون في دورية دراسات التابعين إلى تلك الحركات أو الجوانب المحددة من الحركات التي كانت تعبر بكل وضوح عن قدرة عموم الناس على أخذ المبادرة والتأكيد على فعاليتهم المستقلة. الجوانب السلبية والمعروفة في ملاحظات غرامشي عن الفلاحين تم تجاهلها أو إعطاؤها اهتماماً أقل من الجوانب الإيجابية أو المهملة في الأيديولوجيا والتنظيم الفلاحين. لكن ستقوم البحوث المستقبلية على الأرجح بتقويم هذا الخلل عن طريق التركيز على العوائق المحيطة بالمجال السياسي للطبقات التابعة. من الممكن نقد هذه الدراسات من باب أنها من خلال تركيزها على الحركات والثورات الفلاحية، فهي تعطيها أهمية مبالغة فيها وتهمل 99% من الحالات الأخرى عندما لا يكون الفلاحون ثائرين أو نشطين. البحث في أنماط وثيمات متعلقة بالطبقات التابعة غير التمرد لا بد أن تعكس أنماطاً مخلتفة من العلاقات بين النخب والطبقات التابعة وأشكالاً مختلفة من المبادرات والتعبيرات الشعبية. فكما يقول غرامشي، حتى القدرية «ليست إلا الرداء الذي ترتديه الإرادة الحقيقة والفاعلة عندما تجد نفسها في موقع ضعف» (SPN: 337). لذا كون «القدرية» و«السلبية» إريك هوبزباوم (1973:13) أيضاً يفسر «السلبية» على أنها شكل شائع وناجح من أشكال مقاومة الفلاحين ولذلك شكل من اشكال الصراع الطبقي. و«علاقات التبعية» موجودة في الهند الحديثة لا يلغي أهمية فهم جميع أشكال العلاقات بين النخب والعموم بشكل جدلي. لكن الأهمية الأكثر إلحاحاً كانت لتسديد ضربات للنظرة التأريخية السائدة ولذلك كان التركيز على حركات الفلاحين وتمرداتهم ضرورياً لإثبات استقلالية وحيوية المجال السياسي للطبقات التابعة.
وبالإضافة إلى ذلك، من الطبيعي أن تجذب التمرّدات بسائر أشكالها اهتمام المؤرخ المعني بالطبقات التابعة. ذلك لأنه غالباً ما يقتحم العموم سجلات وأرشيف النخب من خلال هذه التمردات فقط فيتركون من خلالها دليلاً على وجودهم. أما السبب الأكثر أهمية فهو أن تمرّد الفلاحين بحدّ ذاته دليل على وجود مجال سياسي مستقل لهم لم تستطع هيمنة النخبة وسيطرتها من تجاوزه أو قمعه. بهذه الطريقة، يستطيع فعل التمرد (أو أزمة مشابهة مثل المجاعة أو الطاعون) أن يكشف أكثر عن طبيعة الهويات الكامنة والصراعات من دراسة الحياة اليومية، حيث تبقى تلك العلاقات نائمة أو غير ممتحنة. نتائج التمرد الهائلة على الفلاحين تعني أنه ليس بالأمر الهين أو العفوي، وهو لا يتفجر دون أن يقوم الفلاحون أولاً بخطوات أقل جذرية للتعبير عن تظلماتهم. التمرد بمعنى آخر لم يكن أبداً منعكساً أتوماتيكياً ناتجاً عن محفز اقتصادي أو سياسي. بل هو دائماً «ممارسة الفلاحين» لفاعليتهم؛ إنه التعبير من خلال العمل عن الوعي الجماعي الفلاحي (Guha, 1983b).
في نفس الوقت، تشير مقالات دورية دراسات التابعين إلى عدم قدرة الفلاحين على إنهاء حالة إخضاعهم بدون أي مساعدة. التمايز عن غرامشي إذاً لم يكن في التشكيك في حقيقة خضوع الفلاحين للجماعات المهيمنة والمسيطرة، وإنما في إظهار قدرة الفلاحين على حفر مجال سياسي مستقل لهم ضمن بُنى السيطرة الكبرى. خلال الحقبة الاستعمارية، استمتع الفلاحون الهنود بهذا المعنى بدرجة واسعة من الاستقلالية من كلّ من الحكام البريطانيين والنخب المحلية. وقد يكون من الممكن إيجاد أسباب تاريخية وثقافية معيّنة جعلت عنصر الاستقلالية هذا في الهند خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أكبر من إيطاليا ما بعد عصر النهضة التي درسها وحللها غرامشي.
ما كانت هذه الأسباب إذاً؟ إذا كان صحيحاً قول غرامشي أن ثقافة الطبقات التابعة تتألف من توليفة تطغى فيها شذرات من ثقافة النخب وقيمها المهيمنة، كيف يمكن أن تكون الحال في الوقت نفسه، كما رأى غوها، أن «مفهوماً لمقاومة سيطرة النخب» كانت عنصراً ثابتاً في سياسة العموم؟
من الممكن الإشارة أولاً أن عنصر المقاومة جزء عضوي من واقع الإخضاع الاقتصادي والسياسي للفلاحين. طبيعة العلاقة بين الفلاحين المنتجين بهدف العيش والتبادل، وملاكي الأراضي والمسؤولين وآخرين من أصحاب الامتيازات ممن طالبوا بقسم من المحصول وبخدمات متعدّدة من الفلاحين، كانت لا بد أن تنتج الخلاف. الوعي بالخضوع المشترك لعملية الاستقطاع هذه يسهم في صبّ أساسات الأشكال الأولى للمقاومة الجماعية والتضامن بين الفلاحين والمجموعات التابعة الأخرى.
لكن باستطاعتنا الذهاب أبعد من هذا والإشارة –كما فعل رودني هيلتون في سياق الحديث عن أوروبا القرون الوسطى– إلى أن «القدرة على التنظيم في سبيل السعي وراء مطالب اجتماعية وسياسية نشأت بشكل طبيعي من تجربة الحياة اليومية للفلاحين» (Hilton, 1974: 70). التعاون الزراعي خلال موسم الحصاد والرعي، واستخدام الأرض المشاع والغابات ساهم في الحدّ من عزلة البيوت الفلاحية الفردية وعزّز الجماعية القروية. أنماط من التعاون هذا لم تكن غريبة على الهند طبعاً. التضامن الفلاحي ممكن أن ينشأ من نشاطات جماعية أخرى أيضاً. غوها أظهر على سبيل المثال كيف أن اللغة والتنظيم المتّبعَين في الصيد في الريف الهندي تستطيع أن تقدم أسس طبيعية للتعاون بين الفلاحين أثناء حركات التمرد. الطقوس الدينية المرتبطة بالمواسم الزراعية وحاجات العيش، مثل احتفالات الاستسقاء خلال أوقات الجفاف (Arnold, 1984) أو احتفالات طرد الكوليرا والجدري، تلك أيضاً عبّرت عن الهوية الجماعية للقرية الهندية. قد تقوم كل تلك النشاطات بتحديد الهوية الفلاحية ضمن نطاق ضيق محدود بالقرية أو المنطقة المجاورة مما يؤدي إلى التعامل بحذر أو عدائية مع الغرباء، بما في ذلك فلاحين آخرين. لكن توفرت أيضاً وسائل أخرى للتواصل وهويات أخرى تجاوزت المحلية المفرطة. حركات إرضاء الآلهة بغرض طرد الأمراض، مثل تلك التي تحولت فيما بعد إلى حركة ديفي في جنوب غوجارات، غطت مساحات واسعة وقطعت الحدود الفاصلة بين الطبقات الهندية التقليدية والمجموعات اللغوية. الإشاعات أيضاً انتقلت بسرعة من قرية لأخرى، ومن سوق لآخر، وعملت كعناصر قوية في التجييش الذاتي للفلاحين من خلال التعبير بشكل خفي عن المخاوف والتوقعات الجماعية. في بعض الأحيان، الانتقال هذا أخذ طابعاً مادياً محسوساً من خلال أجسام رمزية أو أضاحي تنقّلت من قرية لأخرى لإرضاء إله غاضب أو للدعوة للتحضير للثورة (Guha, 1983a: ch.6). دايفيد هارديمان أظهر أيضاً كيف أن التضامن الاجتماعي والثقافي ضمن الطبقة التقليدية الهندية، والذي نظر إليه المؤرخون في معظم الأحيان كقوة شِقاق وانقسام في الريف الهندي، ساعد على التجييش في منطقة باتيدارس في غوجارات في العشرينات والثلاثينات وسمح لهم بالاستمرار في التعبئة والتحرك ضد السلطات الاستعمارية (Hardiman, 1981). إذاً، قدمت أشكال الحياة الفلاحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحد ذاتها عناصر مهمة في التأسيس للتضامن والعمل الجماعي الفلاحي، إلى حد أكبر بكثير مما وجد غرامشي لدى الفلاحين الإيطاليين.
حدود الاستقلالية الثقافية للفلاحين والطرق التي تؤثر فيها على وعيهم تبقى مسائل معقدة بلا شكّ. لكن الحالة الهندية تشير إلى أن تعريف غرامشي لثقافة الطبقات التابعة على أنها مشتقة من النخب بشكل أساسي وتلعب دوراً في الحفاظ على تبعيتهم ليس دقيقاً. فكما في أوروبا عصر النهضة، أخذت العلاقة بين النخب والفلاحين خلال الحقبة نفسها في الهند شكل التبادل الثقافي الثنائي الاتجاه، لكن الفتح الإسلامي والبريطاني بعده خلق في العديد من المناطق الريفية نوعاً من الاختلاف الثقافي والديني بين النخب المدينة والإدارية ومالكة الأراضي، وبين جماهير الفلاحين الهندوسيين. على العموم، يبقى صحيحاً أن نعطي مكاناً أكبر مما أعطى غرامشي لقدرة الطبقات التابعة الريفية على الحفاظ على ثقافة تتوافق مع حاجاتهم وتجاربهم بدلاً من تعكس أتوماتيكياً رؤى النخب.
مسألة استقلالية الطبقات التابعة تكتسب أهمية تاريخية إضافية في سياق الانتقال الطويل الأمد من الإقطاع إلى الرأسمالية. قبل الاستعمار البريطاني، سمحت البنية السياسية والاقتصادية الإقطاعية في الهند بقدر واسع من السلطة في أيدي الحكام والملاكين المحليين، كما أن العلاقات مع العالم الخارجي بقيت محدودة على الصعيد الاقتصادي. في بيئة معزولة كتلك، حافظ المجتمع المحلي، بما في ذلك الفئة الفلاحية على هامش أوسع من الاستقلالية الاقتصادية والسياسية والثقافية. في سياق نقاشه للمجتمع الإيطالي خلال القرون الوسطى، كتب غرامشي (SPN: 54):
«بقيت المركزية السياسية-الجغرافية كما الاجتماعية (والواحدة تابعة للأخرى) في حدودها الدنيا. الدولة كانت، بطريقة ما، عبارة عن تكتّل ميكانيكي لعدّة مجموعات، من خلفية إثنية مختلفة، وضمن دائرة الضغط السياسي-العسكري، الذي مورس بدوره ضمن لحظات معينة فقط، بقيت الطبقات التابعة محافظة على وجودها الخاص ومؤسساتها المستقلة».
باستطاعتنا قول كلام مماثل عن الهند ما قبل الاستعمار، وعن أجزاء كثيرة من الهند المستعمرة حتى نهاية القرن التاسع عشر. لكن الدولة الاستعمارية، وبعد أن حافظت على بعض الأنماط الهندية الإقطاعية في البداية، تطورت في شكلها ووظيفتها لتصبح كالدولة البرجوازية الأوروبية. إعادة توجيه الاقتصاد الهندي نحو متطلبات النظام الاقتصادي العالمي؛ التغير في طبيعة ومدى نفاذ سلطة الدولة،؛ والتطور في وسائل النقل والتواصل: كل هذه العوامل تضافرت لتحطّم النظام الإقطاعي القديم وتمحو استقلالية المجتمعات المحلية. تفاوتت سرعة هذا التحول من منطقة لأخرى: في مناطق كادت تكون معزولة تماماً مثل هضاب الغات الشرقية، جاءت التحولات سريعة وخلال فترة صادمة قصيرة في نهاية القرن التاسع عشر، ولاقت مقاومة شديدة من الفلاحين كما من أسيادهم التقليديين (Arnold, 1982). في مناطق أخرى، كانت التغييرات تدريجية وردّات الفعل أكثر تنوعاً أو صمتاً. التغييرات الاقتصادية والإدارية ونمو الرأسمالية الريفية بدأت بتغيير العلاقات المحلية. الفلاحون بدأوا ينظرون إلى النخب التي انتظروا منها القيادة تاريخياً إما كعملاء وحلفاء للقوى الخارجية أو كخط دفاع متهاوي ضدها. عملية التطور والتمايز الإقتصادي ستنشئ خطوط تماس وصراع ما بين الفلاحين أنفسهم. لكن، وكما كان غرامشي قد أشار، قد لا تتغير الأيديولوجيا بالسرعة نفسها. في البنغال منقطة جغرافية تشمل شمال شرق الهند ودولة بنغلادش. في الهند تعتبر كلكتا العاصمة التاريخية لإقليم البنغال، ومركزاً أساسياً للنهضة الثقافية والسياسية البنغالية خلال القرن التاسع عشر والعشرين. والبنغال هي أيضاً مسقط رأس الغالبية العظمى من مؤرخي مجموعة دراسات التابعين. على سبيل المثال، وكما أظهر بارثا شاترجي، حافظ الفلاحون خلال عقود العشرينات والثلاثينات على إحساس قوي بهويتهم الجماعية المحلية، بالرغم من أن التغييرات الخارجية والتمايزات الداخلية كانت قد غيرت الظروف الموضوعية لهذه الهوية. بمعنى أخر، هناك دائماً «فرق زمني» ثقافي وأيديولوجي، ولأن مفهوم «الجماعة» حافظ على وجوده من خلال الدين، بدأ تمرد الفلاحين المسلمين على سبيل المثال يأخد شكل الهجوم على التجار والمقرضين الهندوس، وعلى المعابد الهندوسية وبات «أهلياً» بالمعنى الهندي الحديث للكلمة (Chatterjee, 1982). تدريجياً فقط بدأت النظرة تتغير من نمط فلاحي-أهلي، طغى فيه الدين كوسيلة للتعبير، إلى نمط أكثر علمانية وأكثر تمحوراً حول المفاهيم الطبقية.
إذاً، غيّر كلّ من الاستعمار والرأسمالية العلاقات التقليدية القائمة بين الطبقات السائدة والتابعة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. بالتدريج فقط تم التأسيس لآليات سيطرة جديدة من خلال القوة الصاعدة للدولة الاستعمارية والبرجوازية الهندية، لكن هذه العملية لم تكتمل في معظم الأحيان. خلال فترة الانتقال تلك، بين تفكك النظام القديم وتأسيس نظام جديد، عاش الفلاحون زماناً من الضبابية والغموض، فقدوا إيمانهم بهوياتهم وقياداتهم القديمة لكن دون أن يتخلوا عن عدائهم للقوى الجديدة حولهم. من الممكن أنه في هذا الزمن الانتقالي تحديداً، اكتسبت استقلالية الفلاحين أهمية بالغة، وكذلك حاجتهم إلى تنظيم صفوفهم من أجل الدفاع عن مصالحهم أو تذكير الأسياد بالتزاماتهم نحوهم.
من العوامل المؤثرة أيضاً على قوة المجال السياسي للطبقات التابعة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين طبيعة الحركة الوطنية وقتها. تحت قيادة غاندي تحديداً، استطاعت قومية الطبقات الوسطى تطوير موقف أيديولوجي مستقل عن البريطاني، وتقديم نفسها كقائدة للمجتمع الهندي ككل، بما ذلك الطبقات الفلاحية (Chaterjee, 1984). لكن، كما أشار عدة مشاركين في دورية دراسات التابعين، فشلت البرجوازية في التأسيس لهمينة حقيقية بالمعنى الغرامشي. ربما كان غاندي الأكثر نجاحاً في تحصيل «رضا» الفلاحين عن القيادة السياسية والأيديولوجية للطبقات الوسطى، وذلك بسبب تقمصه الواعي لأسلوب حياة ومظالم الفلاحين، أولاً، وبسبب تقبلهم لشخصية «المهاتما» الذي رأوا من خلاله انعتاقهم هم من الطغيان والاستغلال. لكن وكما تُظهر رواية غيان باندي لحركة الفلاحين في أواذ، فشلت قيادة حزب ’المؤتمر‘ في تجاوز قاعدتها الطبقية المباشرة لأنها تمسكت باللاعنف الغاندي وبمفاهيم «الوحدة الوطنية» المبنية على تصالح الطبقات مع بعضها، على حساب مصالح الفلاحين. بنفس الوقت، وبدون قيادة فعالة، عجز الفلاحون عن تطوير وعي سياسي أكثر نضجاً وتركوا وحيدين ليواجهوا الانتقام العنيف للدولة الاستعمارية (Pandey, 1982). هذا الحكم يكرره غوها (1982:6) عندما يشير إلى أن المبادرات الناشئة في المجال السياسي للعموم لم تكن قوية بما يكفي لتحويل الحركة الوطنية إلى «حركة تحرر وطني مكتملة المعنى». الطبقة العاملة لم تكن قد تطورت بعد كطبقة من حيث ظروفُها الموضوعية أو وعيُها، ولذلك لم تكن قادرة على القيادة أو حتى على تقديم العون للفلاحين. عبء القيادة وقع لذلك على البرجوازية وحدها، وهذه الأخيرة فشلت، حسب تعبيره، في تقديم قيادة ترفع نضال الفلاحين من نطاقه المحلي ونواقصه الأخرى وتعممه ليصبح حملة وطنية معادية للاستعمار».
فشل البرجوازية الهندية هذا في التوحد مع الفلاحين وقيادة عملية تغيير أكثر جذرية يذكرنا بتحليل غرامشي لعملية التوحد الإيطالية في منتصف القرن التاسع عشر. فحسب غرامشي، عملية التوحد لم تجرِ إلا بسبب القوة العسكرية والدبلوماسية للدولة البيدمونتية الدولة البيدمونتية هي المملكة القائمة في شمال غرب إيطاليا وعاصمتها تورينو، والتي قادت خلال القرن التاسع عشر عملية توحيد إيطاليا.. الطبقات الوسطى، وتحديداً من يسميهم غرامشي بـ«حزب العمل»
بقيادة مازيني وغاريبالدي غوسيبية مازيني (1805-1872) كان سياسياً وصحفياً ومفكراً قومياً إيطالياً من جنوا، أسس جمعية ’إيطاليا الفتاة‘ التي لاقت نجاحاً في بيدمونت لدى أبناء الطبقة الوسطى والمؤسسة العسكرية وشارك في الإعداد لعدة أنتفاضات قومية في شمال شرق إيطاليا قبل نفيه إلى لندن ومن ثم عودته خلال انتفاضات 1848.
أما غويسيبه غاريبالدي (1807-1882) فكان جنرالاً وسياسياً قاد من خلال عملياته العسكرية عملية توحيد إيطاليا. شارك في حرب الاستقلال الأولى في مدينة ميلانو المنتفضة على الإمبراطورية النمساوية وحقق بعض النجاح ومن ثم شارك في حرب الاستقلال الثانية وقاد الحملة العسكرية المتوجهة من بيدمونت إلى روما. فشلوا في التصدي لمسؤوليتهم التاريخية (اليعقوبية) في التحالف مع الفلاحين ضد الطبقات الإقطاعية السائدة وفي فرض هيمنتها على الطبقات التابعة. بدلاً من ذلك، تبع مثقفو الطبقة الوسطى جنرالات وديبلوماسي الدولة البيدمونتية، أما الفلاحون فهم إما حاربوا مع النمساويين ضد الوطنيين كما في لومباردي والبندقية، أو تم قمعهم بوحشية في صقلية عندما ثاروا دعماً لغزو غاريبالدي. وصف غرامشي النتيجة النهائية بمصطلح «الثورة السلبية»: تحوُّل سطحي قائم على السيطرة القمعية للدولة البيدمونتية على مجتمع غير كامل التجانس، في ظل غياب المشاركة الجماهيرية والقيادة البرجوازية الفعالة. هذا الفشل في خلق «أمة- شعب»، كان –حسب تحليل غرامشي– أحد الأسباب المؤسسة لصعود الفاشية فيما بعد (SPN: 52-120).
بالمقارنة مع ’حزب العمل‘ الايطالي، يبدو أن القيادات الوطنية الهندية نجحوا في تحقيق مشاركة أكبر مع الفلاحين، تحديداً الأغنياء منهم. وصف غرامشي للغاندية والتولوستية بأنها «تنظيرات ساذجة لـ’الثورة السلبية‘ بنبرة دينية» (SPN: 107) كان شديد القسوة. مع ذلك، تساعدنا فكرة «الثورة السلبية» على توصيف الانخراط الجزئي لجماهير الفلاحين الهنود في الصراع من أجل الاستقلال ودرجة اعتماد سلطة الدولة في الهند منذ الاستقلال على السيطرة القمعية لا على هيمنة الرضا. في هذا، كما يقول غوها، باستطاعتنا رؤية «حقيقة تاريخية هامة … فشل البرجوازية الهندية في الحديث باسم الأمة».
خاتمة
ملاحظات غرامشي عن الفلاحين موزعة بين كتاباته وليست مرتبة بشكل منهجي، وهذا يجعل من الصعب نسب مدرسة واضحة في التفكير له. لكن ابتعاد غرامشي عن الكتابة في الشأن الفلاحي بمعزل عن باقي الظواهر السياسية والاجتماعية هو تحديداً واحد من عناصر قوة إسهامه الخاص في الفهم النظري والعياني للفلاحين. لدى غرامشي، يظهر الفلاحون دائماً كطبقة على علاقة بطبقة أخرى، تابعين إما للأسياد الإقطاعيين، أو البرجوازية، أو القيادة البروليتارية. طبيعة واستمرارية علاقة التبعية هذه أثارت اهتمام غرامشي. نسبها في بعض الأماكن إلى الظروف المادية، إلى فقر الفلاح وموقعه ضمن نظام الانتاج الاقطاعي أو الرأسمالي. تبين أيضاً الدور الذي تلعبه القوة الإجبارية الخام في السيطرة على الفلاح وإبقائه خاضعاً. لكن لا الظروف المادية ولا القوة العارية بدت لغرامشي جواباً مقنعاً أو شاملاً. مفهوم الهيمنة قدم له خياراً آخر (أو خياراً مكمّلاً، لأن غرامشي لم ينظر إلى الواقع التاريخي على أنه إما أن يكون هيمنة صافية أو إجباراً صافياً) لشرح سبب بقاء الفلاحين مشتّتين، ساكنين، وراضين بخضوعهم. نظرية الهيمنة أعطت نوعاً من الفاعلية للمهيمن عليهم، فالسيطرة هنا لم تكن مفروضة من الخارج من خلال القوة المادية أو البنى الاقتصادية والسياسية، بل تم تبنّيها من قبل الفلاحين كجزء من ثقافتهم ووعيهم. وفي حده الأقصى حرمت نظرية الهيمنة الطبقات التابعة من أي نوع من الاستقلالية الفكرية: كانت نظرية شمولية، تماماً كما اعتقد بعض منتقدي غرامشي.
ربما كان يحق لغرامشي أن يجنح إلى المبالغة المتشائمة، هو حبيس السجن الفاشي ذو الصحة العليلة. قراءته للتاريخ الإيطالي وسياسة عصره دفعتاه للإيمان بأن الهيمنة كانت وراء قوة الدولة وتفوق الطبقة الحاكمة في المجتمع الرأسمالي الحديث، ووراء تردد أو عدم قدرة الجماهير في المدن والأرياف على الانتفاض ضدهم. لكننا إن قرأنا غرامشي بدقة وبقينا متيقظين لاهتماماته السياسية والفلسفية الأعمق، سنتمكن من رؤية أنه يلفت الانتباه إلى أهمية وصلابة الهيمنة من أجل أن يفهم بشكل أفضل كيفية إيجاد نقاط ضعفها والإطاحة بها. إيمان غرامشي بالماركسية كجدلية تاريخية كان عميقاً ومتفائلاً وإنسانياً. السيطرة والهيمنة، مهما كانا قويين، لا يمكن أن يكونا مطلقين. وبالرغم من إخضاعهم، حافظ الفلاحون على بعض الصفات السياسية والثقافية الإيجابية خارج هيمنة الطبقات السائدة. لوحدها، ربما تبقى تلك الصفات مليئة بضعف الفلاحين السياسي: تقلّبهم، عفويتهم، سلبيتهم، وعدم تجانسهم. لكن مع الإرشاد الصحيح والتثقيف السياسي، يمكن تطوير تلك العناصر لتتحول إلى وعي طبقي ناضج. بالتحالف مع المثقفين والعمال الصناعيين، كان لدى الفلاحين القدرة حسب غرامشي على الثورة على الطبقات السائدة وتحرير أنفسهم من قيدهم العتيق. لكن الوعي الطبقي، كما هيمنة الحكام التقليدين، لا يمكن أن يفرض على الفلاحين من فوق. لذلك كان من الهام جداً لغرامشي ألا يفهم فقط طبيعة السيطرة والهيمنة الممارسة على الفلاحين بل أيضاً تلك المطالب «الأولية» والأشكال «الأولية» للتعبير عن الذات والتنظيم التي بدت من خلالها أولى ومضات الوعي الطبقي الفلاحي.
المشاركون في دورية دراسات التابعين لم يعطوا اهتماماً كافياً بعد لأشكال السيطرة والهيمنة المخلتفة في الهند المستعمرة. بعض تلك الأشكال تم بحثها في الأدبيات الموجودة لكن ليس باستخدام المفاهيم الغرامشية. بالنظر إلى أنماط التأريخ الطاغية، الأولوية الأولى كانت لتغطية اهتمام غرامشي الآخر وكشف وتقييم التاريخ المهمل لوعي الطبقات التابعة ومبادرتها ومقاومتها. كانت هذه نقطة بداية ضرورية لتأسيس لمفهوم العلاقة الجدلية بين الطبقات السائدة والتابعة ولمجابهة الاقتراضات النخبوية والبنيوية-الوظيفية عن «أحادية» علاقات السيطرة في الهند والتجانس الأصيل للنظام السياسي والإجتماعي الهندي. من خلال نتائج بحوثهم العيانية ونماذجهم النظرية العامة، مال المساهمون في دورية دراسات التابعين إلى تجاوز غرامشي في ما يختص بدرجة استقلالية المجال السياسي للعموم وتجانسه الداخلي في الهند بالمقارنة مع إيطاليا. لكن مجتمعاً ذا صفات إيقاعية كثيرة، مجتمع كانت سلطة الدولة فيه (وفي بعض المناطق السلطة الاقتصادية أيضاً) تقبع في يد مجموعة صغيرة غريبة، وحيث لم تستطع البرجوازية المحلية الصاعدة تأسيس سيطرة فاعلة على جماهير الفلاحين، مجتمع كهذا كان مؤهلاً ليفسح مجالاً أكثر استقلالية لجماهير الفلاحين. مع ذلك، المساهمون على العموم لم يغضوا النظر عن الحاجة للنظر إلى الفلاحين طبقة تابعة، منخرطة في مجموعة من علاقات الخضوع للنخب المحلية والأجنبية ولأشكال من السيطرة من نوعي الإجبار الواضح والهيمنة المنمّقة. كما قلنا في البداية، لا تشكل أفكار غرامشي شروحات كاملة وهي ليست بالضرورة ذات تطبيق عالمي. لكنها مع ذلك تسلط الضوء إلى عدد من جوانب علاقة الإخضاع والسيطرة التي لا بد أن تكون في جوهر اهتمامات المختصين بتاريخ الفلاحين في الهند.