لا تتوفر أرقام واضحة وفعلية حول العدد الفعلي للسوريين في اسطنبول، فنسبة كبيرة من السوريين غير مسجّلين كمُقيمين هناك بل استخرجوا إقاماتهم في إحدى مدن الجنوب التركي قبل انتقالهم إلى المدينة الكبرى. هناك أيضاً نسبة عالية من غير المسجّلين كمُقيمين في تركيا عموماً، إما لأنهم دخلوا بشكل نظامي ثم لم يستخرجوا إقامات بعد انتهاء المدة القانونية لڤيزا الدخول، أو لأنهم دخلوا تركيا بشكل غير نظامي أساساً. مع ذلك، يمكن الحديث عن مئات ألوف من السوريين في اسطنبول دون خوف من الوقوع في مبالغة، ويمكن تحسّس هذا الأمر في وسط المدينة التجاري أو في الضواحي السكنية.
وصل السوريون إلى تركيا بأعداد كبيرة وخلال فترة زمنية قصيرة، وفي المخططات الأولى، كان التفكير بأن هذا الانتقال ليس إلا نزوحاً مؤقتاً هو الطاغي، لكن طول شلال الدم السوري، كما غياب أي أفق للحلّ أجبر السوريين على البحث عن العمل والاستقرار. مما سهّل حجم التواجد السوري في اسطنبول، وتركيا عموماً، توافر فرص للعمل دون الحاجة لأوضاع قانونية، أو دون تعلّم اللغة التركية. فالسوري غالباً ما يضطر للعمل للسوريين فقط: الطبيب السوري يفتح عيادة في بيته ليستقبل فيها مرضى سوريين، التاجر يحاول فتح مصالح تجارية ببضائع سورية وزبائن سوريين، الزبائن السوريون هم الأكثرية الساحقة في المطاعم السورية حيث يندر وجود زبائن أتراك. وكثيراً ما يقوم صاحب متجر تركي بتوظيف سوريين لديه، ليس فقط لأن رواتبهم أقلّ بل أيضاً لتسهيل التعامل مع السوريين وجذبهم كزبائن دائمين.
خريف هذا العام، بدأت جريدة الرؤيا الإعلانية بالصدور في اسطنبول. تشبه جريدة الرؤيا جرائد إعلانية راجت في سوريا في العقد الماضي، وهي مثلها توزّع بالمجان في مناطق تواجد السوريين في اسطنبول. لا تقدّم الجريدة نفسها على أنها جريدة «سوريّة»، لكن جميع إعلاناتها باللغة العربية، وإن جاءت بعض الإعلانات باللغتين العربية والتركية، وجلّها موجّهة تحديداً للجمهور السوري دون غيره من الجاليات العربية. يجد قارئ الجريدة إعلانات مصوّرة كثيرة لمطاعم سوريّة في مناطق مختلفة في اسطنبول، كما تكثر إعلانات معاهد لتعليم اللغة التركية، أو لتجهيز الطالب لامتحانات القبول الجامعي في تركيا. هناك أيضاً إعلانات لمكاتب تسهيل معاملات الإقامة، ومكاتب عقارية ومكاتب سفريات. في قسم الإعلانات المبوّبة، نجد إعلانات بيع وشراء سيارات مستعملة، تُستخدم فيها أسماء موديلات السيارات المُتعارف عليها في سوريا (مرسيدس “نملة”، مثلأ)، وإعلانات لـ«مساكن شبابية» (وهو الاسم المتعارف عليه بين سوريي اسطنبول للنُزُل pensions)، وأيضاً فرص عمل في ورشات بلاستيك أو نسيج أو مطاعم. بالإمكان اعتبار أسلوب الدعاية في هذه الجريدة، أو في شبكات التواصل الاجتماعي، مثالاً عن الطريقة التي يفتتح فيها السوري مشروعاً تجارياً أو صناعياً موجهاً إلى الجمهور السوري، ويبحث للعمل فيه عن عمّال سوريين.
الإعلانات المبوّبة في أحد أعداد جريدة الرؤيا الإعلانية.
لا يعني هذا الكلام أن عدد السوريين العاملين في أوساط العمل والإنتاج التركي قليل، بل القصد هنا هو الحالة الغالبة على مجتمع العمل السوري، وهي الحالة المتبلورة والأكثر ظهوراً.
نشوء هذا النوع من الدارات الاقتصادية أدى أيضاً إلى ترسيخ حالة «المجتمع الموازي» التي يعيشها السوريون في تركيا: فبإمكان السوري أن يقضي أياماً طويلة دون أن يضطر للتعامل مع أي مواطن تركي، خصوصاً في مناطق الجنوب وفي الأحياء التي سكن فيها السوريون بكثافة.
يسعى هذا النص للبحث في يوميات عمل السوريين في اسطنبول، وهو لا يبغي أن يكون تقريراً عاماً عنها بل فقط تقديماً لنماذج وأمثلة. تم اختيار قطاع محدد هو ورشات النسيج التي انشأها السوريون في اسطنبول، وفي المقاطع التالية وصف لبعض تلك المشاريع السورية التي أقيمت في منطقة زيتينبورنو (Zeytinburnu أي بالعربية غطا الزيتون) الاسطنبولية، وسبر لأحوال وقصص سوريين يعملون في هذا القطاع. وقع الاختيار على قطاع النسيج لأنه يوظف أعداداً كبيرة جداً من السوريين، ولأنه قطاع متبلور إلى حد بعيد، وبالإمكان تلمّس أساليب عمل بعينها، أو علاقات عمل وإنتاج محددة، وأيضاً لأنه، رغم أهميته الاقتصادية وكمية العاملين السوريين فيه، غير ظاهر لزائر اسطنبول الاعتيادي، على عكس المطاعم السورية أو المحلات التجارية التي تتوجّه بنشاطها إلى الجمهور السوري.
زيتينبورنو
زيتينبورنو هي إحدى بلديات اسطنبول الكبرى. تقع غرب الشق الأوروبي من المدينة، في موقع متوسط بين مركز اسطنبول ومطار أتاتورك الدولي، وبمحاذاة بقايا التحصينات الغربية للقسطنطينية التاريخية، كما يُطلّ جنوبها على بحر مرمرة. تبلغ مساحة بلدية زيتينبورنو 12كم2، وعدد سكانها أكثر من 300 ألف بقليل. زيتينبورنو حيّ اسطنبولي عمّالي، تتلاقى فيه مراكز العمل ومساكن العمّال. اعتُبرت زيتينبورنو لعقود مركزاً مهماً للصناعات الجلدية التركية، حيث تركّز فيها عدد كبير من المصانع وورشات الدباغة والخياطة الجلدية، لكن أغلب الصناعة الجلدية نُقلت إلى مناطق أخرى خلال العقود الأخيرة لأسباب تنظيمية وبيئية، لتبقى زيتينبورنو مركزاً مهماً للصناعات النسيجية، وكذلك منطقة تمركز عدد كبير من الورشات والمصانع الصغيرة، بالإضافة لعمل الشركات التجارية الوسيطة وتجار الجملة.
الغالبية العظمى من سكان زيتينبورنو الأتراك هم من أصول أناضولية، قدِموا إلى اسطنبول أواسط القرن الماضي بحثاً عن عمل في القطاعات الصناعية المهمة المتمركزة في هذه المنطقة والمناطق المحيطة بها. كما تقيم جاليات تركمانية وكازاخية كبيرة في البلدية، وتعمل بشكل أساسي في الصناعة النسيجية الصغيرة والمتوسطة.
بلدية زيتينبورنو هي إحدى نقاط تمركز الوافدين السوريين المهمة في اسطنبول، إذ تجتمع في هذه المنطقة عوامل عديدة تجعل من زيتينبورنو مركزاً مرغوباً للعمل والإقامة للسوريين الراغبين في تأسيس مشاريع صناعية وتجارية، أو العمل في قطاعات النسيج. زيتينبورنو كما سبق القول منطقة مختلطة تجارية-صناعية-سَكَنِية، وفيها نسبة كبيرة من العقارات الصالحة لاحتواء ورشات ومعامل صغيرة ومستودعات بأسعار معقولة بالمقارنة مع المناطق الصناعية الكبرى. عدا ذلك، تشكّل زيتينبورنو عقدة مواصلات مهمة في اسطنبول، حيث أنها نقطة تقاطع لوسائل النقل العام الرئيسية في اسطنبول، أي الترام والمترو والمتروبوس، ما يجعل المواصلات منها أو إليها ميسّرة إلى حدّ كبير، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اسطنبول مدينة مترامية الأطراف ومزدحمة.
زيتينبورنو محاطة بمراكز تجارية مهمة في اسطنبول مثل مارتر وبيرم باشا وكوجاتيبي، كما أنها قريبة من مطار أتاتورك الدولي.
لا يمكن إحصاء عدد ورشات الخياطة الموجودة في زيتينبورنو، ولا سيما في المثلث المرسوم بين محلة مدحت باشا ومركز بلدية زيتونبورنو والقسم الجنوبي من محلة مارتر. إن لم تكن ورشات الخياطة سورية خالصة فإن قسماً مهماً من عمالها سوريون. تكفي جولة صغيرة في المنطقة لاستشعار حجم الوجود السوري، ولتمييز النشاط الصناعي والتجاري السوري فيها. لا يقتصر التواجد الاقتصادي السوري في زيتينبورنو على الورشات والمستودعات والمصانع الصغيرة، إذ نشأ قطاع اقتصادي موازيْ للنشاطات الصناعية المذكورة قائم على الخدمات لساكني المنطقة والعاملين فيها من السوريين. هناك أيضاً عدد كبير من المطاعم السورية، وكذلك المقاهي. كما يمكن ملاحظة النشاط العقاري الكبير للسوريين فيها، أكان ذلك بظهور مكاتب عقارية توجّه عملها بشكل رئيسي إلى السوريين أو التحوّل في أسلوب عمل المكاتب العقارية التي يُديرها أتراك في المنطقة.
ينقسم النشاط النسيجي السوري في المنطقة، وفي اسطنبول عموماً، إلى قسمين متمايزين تماماً، أكان في أسلوب عملهما، أو في الزبائن، أو في الأجور والعلاقة بين العامل وصاحب المصلحة: (1) ورشات سوريّة خالصة، صاحب العمل والعمّال فيها سوريون؛ و(2) ورشات يملكها أتراك ويشغّلون فيها عمّالاً سوريين. لا منافسة تُذكر على حيّز السوق بين الورشات السوريّة والتركية، فالنشاط النسيجي التركي يعمل أساساً لتغذية السوق المحلية التركية، وهو سوق بعيد إلى حد كبير عن مخططات وإمكانات أصحاب المصالح من السوريين (إلا فيما ندر) وذلك لعدم قدرة المُنتج السوري على منافسة المنتج المحلي التركي في الفترة الحالية، ولا على المديين القصير والمتوسط على الأقل. غالباً يتركز تصريف الإنتاج السوري في الأسواق الشعبية (البازارات) أو في متاجر يكون فيها السوريون زبائنها الأبرز. لا توجد منافسة تُذكر أيضاً في مجال الانتاج المُعدّ للتصدير، فالمنتَج التركي إما يُصدّر إلى دول لا يعمل معها الصناعي السوري أو التاجر السوري الوسيط عادةً، مثل جورجيا وروسيا ودول وسط آسيا؛ وحتى عندما يلتقي الإنتاج السوري والتركي في السوق نفسها، كما في الدول العربية، فإن طبيعة المنتج التركي من حيث الموديلات والنوعية والأسعار مختلفة عن المنتج السوري. ليس هناك منافسة على السوق، لكن ثمة «منافسة» على اليد العاملة السورية، خصوصاً اليد الخبيرة. بشكل عام، بإمكان الصناعي التركي دفع رواتب لا يستطيع الصناعي السوري أن يُجاريها، وهذا، كما سنرى، يشكّل معضلة بالنسبة لكثير من أصحاب الورشات السوريين.
إذاً، يتم تصريف إنتاج ورشات الخياطة والتطريز السورية في اسطنبول، بشكل أساسي، عن طريق التصدير: تصل بضاعة الورشات، إما بشكل مباشر أو عبر تاجر وسيط (يكون غالباً سورياً أو عراقياً) إلى يد تجار عرب. يتم تصدير الإنتاج إلى دول مثل ليبيا والجزائر والمغرب وبعض دول الخليج، لكن السوق العراقي، بشقَّيه العربي والكردي، هو الأبرز بالنسبة لورشات الخياطة السوريّة. طبيعة العمل هذه، أي الإنتاج من أجل التصدير، هي ما جعلت أصحاب الورشات يؤسّسون أعمالهم في اسطنبول بدل البقاء في مدن الجنوب التركي، حيث كلفة الإيجار والإنتاج أقل بما لا يُقاس. اسطنبول، في هذه الحالة، هي بمثابة معرض مفتوح أمام التاجر الباحث عن بضاعة نسيجية بأسعار منافِسة، وهي عقدة مواصلات إقليمية ودولية من الطراز الأول، وخدمات شحن البضائع والحوالات المالية خارج النظام البنكي مزدهرة فيها، ويمكن ملاحظة كثافة وحجم النشاط العراقي والليبي في مجالات الشحن والتحويل المالي عند المرور في مناطق تجارية مهمة مثل أكسراي (Aksaray أي القصر الأبيض). تنبغي الإشارة إلى أن هذا الأسلوب في العمل ليس جديداً بالنسبة لعدد كبير من أصحاب الورشات السوريين، فقد كانوا يعملون في هذا المجال منذ تواجدهم في سوريا، والكثيرون منهم أقدم على مغامرة القدوم إلى اسطنبول وتأسيس مشروع فيها لأنه يملك حقيبة من الزبائن المستوردِين العرب.
السمة العامة لأصحاب الورشات السوريين هي أنهم كانوا أصلاً «أصحاب مصلحة» في سوريا، مع وجود أصحاب رؤوس أموال حوّلوا استثماراتهم من قطاعات أخرى غير مُغرية للسوريين في تركيا إلى القطاع النسيجي، إما لوحدهم أو بمشاركة «صاحب مصلحة» آخر يعرف أسلوب العمل أكثر منهم. بطبيعة الحال، يشكّل الصناعيون الحلبيون النسبة الأكبر من أصحاب ورشات النسيج السورية في اسطنبول، لأن حلب مركز رئيسي تاريخياً للصناعة النسيجية السورية، ولأن النزوح الحلبي إلى تركيا كان أكثف من مناطق أخرى بحكم القرب الجغرافي.
أحجام وطاقات إنتاج ورشات الخياطة السورية متنوعة، إذ تبدأ من محلات تجارية صغيرة وأقبية لتصل إلى عنابر صناعية واسعة. هذا يؤدي أيضاً لتنوّع في العلاقة مع العمّال، أكان في أسلوب العمل ومُدَدِه، أو في الرواتب التي تُدفع، أو في التسهيلات التي يتم تقديمها للعامل مثل المأكل أو حق المبيت في الورشة.
يدير «ياسر» جميع الأسماء الواردة في المادة مستعارة. ورشة صناعة ألبسة تقع في الطابق الرابع من بناء قريب من خط الترام، وهو بناء تشغل طوابقه الستة ورشات خياطة وتطريز سوريّة. تشغل ورشة ياسر طابقاً كاملاً من البناء، وتتكوّن من قاعة واسعة مساحتها تتجاوز 90م2، تُطلّ على الشارع في جهتين من جهاتها الأربع، وتصطف على جانبها الأيمن من جهة الداخل إلى الشقة الآلات الكبيرة وطاولتين واسعتين معدتين بمساطر وخطوط قياس، فيما تشغل دزّينة من آلات الخياطة الكهربائية الصغيرة نصف جانبها الأيسر، ويحيط بالنصف الآخر ستار يُخفي مكان عمل النساء. عدا القاعة الكبيرة، يجد زائر الورشة مكتباً يشغله صاحب الورشة، وغرفة أخرى تُستخدم كمستودع، وغرفة صغيرة بثلاث أرائك مُعدّة لراحة العُمال ونومهم، وأخيراً مطبخ صغير.
تعود أصول ياسر إلى مدينة حلب، حيث كان يملك ورشة خياطة ورثها عن والده، وله شقيقان يملكان ورشات خياطة، أحدهما في اسطنبول أيضاً، والآخر في عفرين (ريف حلب الكردي). نزح ياسر عن حلب أوائل عام 2012، وقدم إلى اسطنبول بصحبة اثنين من العاملين في ورشته الحلبية لتأسيس ورشة في اسطنبول. ليست هذه الشقة أول ورشة اسطنبولية فتحها ياسر، إذ إنه استأجر قبلها عنبراً في زيتينبورنو نفسها، إلا أن الخلافات مع صاحب العنبر جعلته يضطر لتغيير مكان ورشته، مع كل ما يعني ذلك من تكاليف ومتاعب. يشكو ياسر شيوع أسلوب ابتزازي لدى قسم كبير من أصحاب العقارات التي يستأجرها السوريون لإقامة ورشاتهم، إذ يتفق صاحب العقار مع المستأجر على بدل إيجار شهري معيّن، ليطالب بعد أشهر قليلة برفعه دون مبررات، أو باستنباط حجج واهية مثل الضجيج أو الضرر الذي يمكن أن يُصيب دهان العقار أو نجارته. يجيب ياسر بابتسامة ساخرة عن السؤال حول العقود الموقّعة وإمكانية الشكوى على هذا النوع من الممارسات، ليوضّح بعدها أن أصحاب العقارات يستغلون العجز عن الشكوى أصلاً، ذلك لأن ورشات الخياطة هذه، باستثناءات معدودة، لا تحظى بالأوراق والثبوتيات المطلوبة، ولا سجلّ تجاري أو صناعي لديها.
يرى ياسر أن عمل السوريين النسيجي في اسطنبول ما زال في بداياته، وأن المنافسة شديدة والكلفة المادية عالية جداً، ولا يُخفي أنه يشكّ بإمكانية صمود غالبية الورشات السورية إذا لم تجد لنفسها أسواقاً جديدة لتصريف منتجاتها أو آفاقاً جديدة للعمل. لا يعتقد ياسر بوجود إمكانية للخوض في السوق المحلي التركي، إذ تستحيل منافسة الصناعة التركية بجودتها وأسعارها، ويُشير إلى أن القطاع النسيجي السوري، على أهميته، ومهما بلغت درجة فعاليته واحترافيته، عاجز بأسلوب عمله «البسيط» الذي اعتاد عليه في سوريا على منافسة القطاع النسيجي التركي والمزدهر، وذي الأسعار المنافسة. التفوّق التركي في البنية التحتية وكمية الإنتاج وانخفاض كلفته ليس بمعضلة جديدة على القطاع النسيجي السوري، فقد سبق وتضرّرت صناعة الألبسة السورية بشدّة في العقد الماضي، وخصوصاً مع اتفاقيات التبادل التجاري التي أبرمها النظام السوري مع الحكومة التركية حين كانت العلاقات الثنائية في أوجها أواخر الـ2000ات.
يُشير ياسر أيضاً إلى أن العراقيل القانونية والإدارية تصعّب من مهمة إيجاد حيّز من السوق التركي، «المهمة المستحيلة» يُسميها ياسر ضاحكاً، نسبةً إلى الفيلم الأميركي الشهير. يحتاج الصناعي السوري الراغب بقَوننة عمله في تركيا إلى إقامة عمل في تركيا، ولهذه الإقامة تكاليف عالية، عدا عن تعقيداتها، كما أنه يحتاج إلى وجود شريك تركي في ملكية المشروع لاستصدار ترخيص لمنشأة صناعية، كما ينبغي عليه توظيف حدّ أدنى من اليد العاملة التركية كي تتلقى، ولو «افتراضياً»، الحد الأدنى للرواتب في تركيا، أي 1202 ليرة تركية (حوالي $522) حسب التحديثات التي أصدرتها الحكومة التركية لعام 2015؛ هذا بالإضافة للضرائب والضمان الاجتماعي الإلزامي لكل عامل. هذا يعني كمية تكاليف لا يمكن التصدّي لها مع أسعار البضائع الحالية، أياً تكن كمية الإنتاج. ولا تخص هذه المعضلة الورشات السورية وحدها، بل التركية أيضاً. العمال الأتراك في الورشات التركية الذين يتلقون رواتب «قانونية» ويدفعون ضرائبهم وضماناتهم الاجتماعية بشكل قانوني نسبتهم صغيرة، ويكاد يستحيل («يكاد» هنا ليست إلا هروباً من الجزم المطلق) إيجاد عامل سوري في ورشة تركية بعقد وراتب قانونيَّين وضرائب وضمان اجتماعي نظاميات. الفرق يكمن في أن ترخيص ورشة تركية أرخص وأقل تعقيداً من الناحية البيرقراطية من إنشاء ورشة يدخل مواطن غير تركي في ملكيتها. لا يعتقد ياسر أن ميزات فتح السوق التركية أمام البضاعة السورية تكفي للتصدي لكل هذه الصعوبات، ويرى أن الواقعية تقتضي أخذ توجّه محافظ في هذا المجال: طالما السلطات التركية لا تمنع عمل الورشات السورية بهذا الشكل ولا تلاحقها، فلا داعيْ لمحاولة تغيير الوضع.
زبائن ياسر الرئيسيون عراقيون، وجزء كبير كان يتعامل معهم منذ أن كان في حلب. يشير إلى أن الأوضاع العراقية في الشهور الأخيرة قد أضرّت بعمله إلى حد بعيد، إذ فقد الزبائن الذين كانوا يستجرّون منه البضائع إلى المناطق التي سيطرت عليها داعش في العراق، كما أن كلفة النقل ارتفعت. لهذا السبب، اضطر ياسر لتخفيض أسعار منتجاته بعض الشيء للحفاظ على زبائنه العراقيين، ما أدى أيضاً لتخفيض كلفة الإنتاج قدر الإمكان عن طريق خفض عدد العمال في الورشة، وكذلك خفض رواتب العمال الباقين.
يُشغّل ياسر 9 عمّال ثابتين في ورشته، اثنان منهما جاءا معه من حلب، كما يمكن أن يرتفع عدد العمال حتى 15 مؤقتاً حين يتلقى طلبيات كبيرة أو مستعجلة.
بين الاثنين والجمعة، يبدأ العمل في الورشة 8 صباحاً وينتهي 7 مساءً، فيما ينتهي العمل يوم السبت الساعة 3 عصراً. يتجنّب ياسر التفصيل في الأجور التي يتقاضاها العمال في ورشته، إذ يكتفي بالإشارة إلى أنه يدفع لهم ما يستطيع وحسب «أسعار السوق»، مستدركاً، بفخر واضح، أنه لم يتأخر في دفع مستحقات العاملين لديه ولو شهراً واحداً منذ أن افتتح ورشته، رغم مرور شهور عديدة من الخسارات عليه، وذلك على عكس أصحاب ورشات آخرين، ليس فقط سوريين بل أتراك أيضاً. يُشير أيضاً إلى أنه يسمح للعمال الشباب بالنوم في الورشة دون أن يتقاضى منهم أجراً، على عكس أصحاب ورشات آخرين، مجدداً.
يروي أحد العاملين في الورشة أن ياسر اتفق قبل أشهر مع أحد أصحاب المطاعم القريبة على أن يتناول العمال وجبة غداء يومية مكوّنة من طبق شوربة وطبق «بمرقة ولحمة» حسب تعبير العامل، وطبق رز وخبز مقابل خمس ليرات تركية على العامل، وبعد أسابيع عديدة قرر العمّال الطلب من ياسر أن يُلغي هذا الاتفاق، وأنهم مستعدون للطهي بأنفسهم في مطبخ الورشة لقاء أن يعطيهم المبلغ الذي كان يدفعه لصاحب المطعم ليتوازعوه فيما بينهم بعد اقتطاع قيمة المواد الغذائية الأولية.
* * * * *
على عكس «ياسر»، عبّر «أحمد»، صاحب ورشة تطريز قريبة من ورشة ياسر، عن تبرّمه اعتباراً من السؤال الثاني حول العاملين لديه وأجورهم وحقوقهم. أجاب أحمد عن السؤال حول الأجور بأن أجور «الصنّاع»، أي العمّال الأصغر سناً والأقل خبرة، تتراوح بين 600-450 ليرة تركية (حوالي 195-260$)، و«المعلمية»، أي العمّال المَهَرة، ولا سيما أولئك الخبراء في استخدام الآلات الكبيرة، يتلقّون رواتب كلٌّ حسب خبرته وأقدميته. يُبدي أحمد استياءه من السؤال حول ساعات العمل، وحول تعويضات ساعات العمل الإضافية، ليتحوّل استياؤه إلى انفجار عند السؤال (المستفِزّ بتعمّد، يجب الإقرار)، حول إن كان يعتقد أنه يمكن العيش بكرامة بـ450 ليرة في اسطنبول، هذا دون الالتفات لاحتمالات المرض أو أي طارئ آخر. اعتبر أحمد الأسئلة من هذا النوع «مخملية»، وسخر منها قائلاً: «لعلّك تريدني أن أسجّلهم في السيكورتا (الضمان الاجتماعي) أيضاً؟».
أما «سامر»، وهو صاحب ورشة خياطة صغيرة بالمقارنة مع ورشتي «ياسر» و«أحمد»، فيكتفي عند حديثه عن العمال بالشكوى من ترك العمال المَهَرَة عملهم عند صاحب الورشة السوري للبحث عن عمل عند الأتراك، حيث يحصلون عادةً على رواتب أعلى نسبياً. لم يُبديْ أغلب أصحاب الورشات الذين تم الحوار معهم رأياً حول هذه المسألة، إلا أن «أمين»، قريب سامر، والذي كان في زيارته عند المقابلة، عبّر عن أنه «يشمت» في كل عامل سوري يسمع أنه يلقى معاملة سيئة من صاحب العمل التركي، أو أنه يخسر مالاً لامتناع أو لتأخر صاحب العمل التركي عن دفع المستحقات. «لماذا يذهب إلى العمل عند التركي ويترك السوري؟ ألسنا سوريين؟ مصلحتنا واحدة»، يضيف شارحاً شماتته. رغم استيائه من خسارة عامل ماهر كان يتكفّل، عملياً، بإدارة كل العمل في الورشة، يُسارع ماهر إلى توضيح اعتراضه على كلام قريبه، ويقول أنه لا يشمت بأحد، ويُنهي النقاش حول الموضوع بالقول «الرزق من عند الله».
عدا علاقات القرابة والزمالة والجيرة والمنافسة، وبعض هذه العلاقات مستجدّ في اسطنبول، فيما أغلبها يعود إلى فترة العمل في سوريا، لا يوجد تنسيق أو تشاور عام بين أصحاب الورشات حول أمور العمل. «نعرف السوق، ويعرف بعضنا البعض، ونحاول قدر الإمكان ألا نسبب الضرر أحدنا للآخر خارج المنافسة المشروعة ضمن شروط السوق. أنا لا أسرق زبون غيري، ولا أكسر سعر أحد عَمداً. عندي أسعاري وزبائني وسمعتي، ومن يأتي إلي فأهلاً وسهلاً، ومن يذهب إلى غيري فأهلاً وسهلاً أيضاً»، يشرح أحمد العلاقة بين أصحاب المصالح.
العمّال
تم التطرّق في المقاطع السابقة إلى التمييز بين العمال المَهَرَة وغير المَهَرَة. يُقصد بالعمال المهرة أولئك الذين كانوا يعملون في الخياطة أصلاً قبل نزوحهم، ولا سيما أولئك الخبراء في تشغيل الآلات الكبيرة في الورشات. لا تتوقف هذه التفرقة عند مهارة العمال في أداء عملهم أو وظيفتهم ضمن الورشة، بل ينسحب هذا الفرق أيضاً إلى العلاقة مع صاحب الورشة، والأجر الذي يتلقاه العامل، وحتى علاقة العامل بعمله.
لكن، قبل الدخول في التفصيلات حول تنوّع عمال النسيج السوريين، ينبغي أن يُشار أيضاً إلى أن نسبة عمل النساء السوريات في قطاع النسيج في اسطنبول أعلى بكثير من نسبة حضورهنّ في أي قطاع آخر. هناك ورشات سورية «مختلطة»، أي هناك قسم خاص لعمل النساء، إما في قاعة مختلفة أو على الطرف الآخر من عازل مثل الستائر أو الألواح الخشبية. كما أن هناك ورشات نسائية بالكامل، وهناك أيضاً نساء يتّفقن مع صاحب ورشة على إرسال المادة الخام إليهنّ في البيوت، ليتسلّمها جاهزة بعد فترة متّفق عليها. الأسلوب الأخير يقتصر على بعض التعديلات أو الإضافات الصغيرة التي لا تحتاج لآلات متخصصة أو ضخمة، ويمكن إتمامها يدوياً أو باستخدام آلة خياطة منزلية. ساعات عمل النساء في الورشات أقل من ساعات عمل الرجال، و بالتالي رواتبهنّ أقل. للأسف، لم يُبديْ أصحاب الورشات الذين تم الحوار معهم حماساً عند طلب اللقاء بالنساء العاملات لأسباب اجتماعية، كما أنّ النساء اللواتي أمكن إيصال طلب الحوار معهنّ فضّلن من جهتهنّ عدم الحديث.
يتلقى العمال المَهَرَة أجوراً قد تصل إلى ضعف أجرة العامل غير الماهر، فيما تصل أجرة خبير الماكينات الكبيرة إلى ثلاثة أضعاف. ليس إيجاد النوع الأخير بالأمر السهل في اسطنبول، أقلّه بالمقارنة مع السهولة البالغة التي يمكن فيها إيجاد عامل غير ماهر أو غير متخصص. يمكن تلمّس ذلك من عدد الإعلانات عن حاجة الورشات لهم في الانترنت أو في الجرائد الدعائية السورية في اسطنبول.
«أبو رامي» أحد هؤلاء العمال الماهرين، وهو يمتلك خبرة طويلة في تشغيل إحدى آلات التطريز الكبيرة. نزح «أبو رامي» من حلب إلى الريحانية مع أقرباء له أواخر عام 2012، ووصل إلى اسطنبول بعد أقل من شهرين بعد اتصال من أحد معارفه الذي افتتح ورشة في اسطنبول. يجيب أبو رامي ضاحكاً: «بلا فضايح!» عند السؤال عن عمره، لكن شكله وأعمار أبنائه الاثنين الذين يعملون معه يشيران إلى أنه قريب من الخمسين. يتقاضى أبو رامي 1250 ليرة تركية (حوالي $545) عن عمله، عدا ما يُدفع له كأجر إضافي في حال عَمِلَ ليلاً أو يوم الأحد، وهو دخل عاليْ بالنسبة لما يُدفع عادة في الورشات، لكنه طبيعي بالنسبة لأبو رامي، فهو ليس فقط «معلم ماكينة» ذا خبرة طويلة ومهارة عالية، بل أيضاً يدير العمل اليومي وينسق إنتاج العمال الآخرين في الورشة ككل. بالإضافة إليه، أبو رامي لديه اثنان من أبنائه، وهم كانوا خياطين في حلب أيضاً، يعملان في الورشة نفسها على آلات الخياطة العادية، ما يحقق للعائلة مدخولاً جيداً يسمح لها باستئجار شقة جيدة في منطقة أڤجلار (Avcılar أي الصيّادون) القريبة نسبياً من زيتينبورنو (إذا أخذنا مساحة اسطنبول المترامية الأطراف بعين الاعتبار). يعتبر أبو رامي أن وضعه «جيد جداً»، وإن روى بغصّة أن ابنه الأصغر، والذي نجح في الثانوية العامة عام 2012 يرفض «تعلّم المصلحة» ولا أيّ عمل آخر، وأن لا همّ لديه إلا محاولة السفر تهريباً إلى أوربا، فيما يُثني على ابنيه الكبيرين الذين يساعدانه على تلبية حاجات الأسرة دون أي طلبات شخصية «رغم أنهما في عمر الزواج».
عدا ما سبق ذكره من تمايزات، تنعكس الاختلافات بين أنماط العاملين في ورشات النسيج أيضاً على نوع مساكنهم. بإمكان العمال «المْعَلّمين» مثل أبو رامي، ولا سيما إن كان لديهم في الأسرة أفراد آخرون يعملون، أن يستأجروا شققاً سكنية في مناطق مثل أفجيلار وإيسينيورت وغيرها، حيث يمكن إيجاد شقق تكفي لإيواء أسرة اعتباراً من 500 أو 600 ليرة تركية، وكان بالإمكان إيجاد شقق أرخص حتى قبل أشهر، أو قبل عام. وبإمكان الأصغر سنّاً من الخياطين المحترفين أن يجتمعوا لاستئجار شقة، ولو كان عددهم كبيراً لن يكون ثقل الإيجار عالياً على دخلهم.
وكما في حالة عقارات الورشات، يُعاني العمال السوريون بدورهم في موضوع السكن والعلاقة مع أصحاب الشقق والمكاتب العقارية. الوضع هنا أبعد من مجرد أن كثرة الطلب أدت إلى ارتفاع السعر. فالمكاتب العقارية، خصوصاً تلك التي تعمل بشكل كثيف مع السوريين، تعلم أن العامل، إن استطاع، سيدفع المزيد مقابل الاستئجار بالقرب من مكان عمله بدل تضييع ساعة أو ساعتين يومياً في المواصلات، وهو وقت مهدور يُضاف إلى ساعات العمل الطويلة، ما يُقلل من الوقت المخصص للحياة الأسرية. وقد أدى هذا الأمر لارتفاع أسعار الإيجارات السكنية في زيتينبورنو إلى معدلات خيالية بالنسبة لطبيعة المنطقة وخدماتها، فبعض الشقق يصل إيجارها إلى ضعف ما يمكن أن يُدفع في شقة مماثلة في مناطق أرقى وأفضل تنظيماً وخدمة، وإن كانت أبعد عن زيتينبورنو…
لا شك أن لـ«أصحاب الصنعة» مشاكلهم وصعوباتهم الحياتية والعملية الكثيرة، فالوضع البدائي للقطاع النسيجي السوري في اسطنبول يجعلهم يعيشون حالة عدم استقرار لا تسمح لهم ببناء مخططات أبعد من بضعة أشهر، كما أن الانسجام المجتمعي، ولا سيما للنساء والأطفال، ليس بالأمر السهل، أكان على صعيد اللغة والتواصل مع المجتمع التركي، أو في مسألة تعليم الصغار. هناك مدارس سورية عديدة في زيتينبورنو وغيرها من المناطق ذات التواجد السوري الكثيف، كما أن المدارس التركية تقبل تسجيل التلاميذ السوريين، وإن مع شرط اللغة التركية بطبيعة الحال. لكن الأمور تزداد صعوبة مع طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية، لتصل إلى مصاف المعضلة بكل ما للكلمة من معنى في حالة الطلاب الجامعيين، أو مَن هم في سنّ الدخول إلى الجامعة. مع ذلك، تبقى المشاكل العملية لـ«أصحاب الصنعة» جزءاً من وسطهم المهني ككل، وباقي المشاكل هي ذاتها التي تعاني منها أي أسرة سورية نازحة إلى تركيا، أياً يكن مصدر دخلها.
لكن حالة العُمّال غير المهرة هي قصة أخرى، وهي الأكثر مأساوية.
في الغالب الأعم، لم يدخل العمّال غير المهرة مهنة الخياطة عن رغبة أو تصميم، بل لأنها الخيار الأسهل والأسرع، والوحيد في أحيان كثيرة، وهو الذي توفّر لهم عند وصولهم إلى اسطنبول. هم الأصغر عمراً، والأكثر عدداً، والأقل أجراً، والأسرع طرداً من العمل حين لا يتعلمون بالسرعة الكافية، أو حين لا يكون هناك حجم عمل يقتضي وجودهم في الورشة. يعمل قسم كبير من هؤلاء العمال «مياومة» (كل يوم بيومه): يداوم على الورشة حين يُطلب منه ذلك، ويقبض حسب يوم العمل، وحين لا يكون هناك حجم عمل يدعو للاتصال به فهو دون عمل ودخل.
قَدِمَ جزء من هؤلاء العمّال غير المهرة إلى اسطنبول مع عوائلهم، يعيش كل منهم مع عائلته ويُساهم بدخله في المصروف العائلي. يستحيل أن يكفي دخل أحد هؤلاء العمال لإعاشة عائلة، حتى ولو ضمن الحدود الدنيا، بل بالكاد يكفي لإعاشة فرد واحد مهما تكن درجة تقشّفه. القسم الآخر قَدِم إلى اسطنبول لمفرده، إما بحثاً عن فرص عمل أوسع من تلك الموجودة في مدن الجنوب التركي، أو لأسباب أخرى جعلت اسطنبول مقراً دون غيرها. بعضهم لم يتلقَّ تعليماً يُذكر، وهناك قسم آخر، كبير جداً، هم طلاب جامعات. الفروقات كثيرة والتنوعات لا تُحصى، لكن، عدا بؤس الحالة، هناك قاسم مشترك بين السواد الأعظم من هذا النوع من العمال: السفر تهريباً إلى أوربا هو الحلم. ليس هناك رغبة بالاستقرار في تركيا، ولا هناك شعور بأن فيها ما يُغري بالبقاء ضمن ظروف العمل المتوفرة.
عدا المقيمين مع أسرهم، يعيش غالبية العمال غير المهرة في المهاجع، وقسم بسيط آخر ينام في مكان العمل نفسه في حال سمح صاحب العمل بذلك. بعض المهاجع عبارة عن قاعات كبيرة بُنيت أساساً لكي تكون مستودعات أو ما شابه ذلك، أو أقبية، أو حتى شقق عادية، مليئة بالأسرّة المعدنية من طابقين، وهناك حمام أو حمامان، وغالباً لا مطبخ بل مجرد غاز سَفَري. لا مجال لأي نوع من المساحة الشخصية أو الانزواء في المهاجع، فالحياة فيها أشبه بالمبيت في معسكرات الخدمة الإلزامية أو في مهاجع السجون.
تتراوح أجرة السرير في هذا النوع من المهاجع بين 80 ليرة و125 ليرة (35-54$)، أي ما يُشكّل ربع دخل العامل في كثير من الحالات. تقوم بعض الجمعيات الخيرية التركية باستئجار عقارات رخيصة، قد تكون مستودعات أو أقبية أو حتى محلات تجارية منزوية، وتجهّزها كمهاجع لينام العمال السوريون فيها بالمجان، أو لقاء أجر رمزي غير إلزامي قد يتراوح بين 20-50 ليرة تركية (8-21$).
في حالة العمّال الذين كانوا طلبة جامعيين قبل اضطرارهم للنزوح، تُلاحَظ مأساوية إضافية. ليس هذا لفضل الطالب الجامعي على غيره، بل لأن درجة الفصام بين الحياة السابقة، أو الحياة المرجوّة، وبين الواقع الحالي واصلة إلى أشدّها.
«أيمن» شاب من برزة، يبلغ من العمر الآن 22 عاماً. كان أيمن طالب تصميم ميكانيكي في كلية الهندسة في جامعة دمشق حين اعتُقل في نيسان 2012. قبع في السجن ثمانية أشهر قبل أن يُفرج عنه في صفقة التبادل الشهيرة مع الإيرانيين. بعد خروجه من السجن بقليل، قررت عائلة أيمن إرساله إلى مصر ليستقر هناك مع أقرباء له، وليحاول استئناف دراسته الجامعية. لكن استيلاء الجيش المصري على الحكم بعد أسابيع قليلة من وصول أيمن إلى مصر عقّد الأوضاع، وجعله يقرر محاولة ركوب البحر باتجاه أوروبا.
لم يصل أيمن إلى الشاطئ المصري أصلاً، إذ اعتُقل في الشقة التي وضعه فيها المهرّبون بانتظار الرحلة، وبعد ثلاثة أسابيع من الاعتقال رُحّل إلى تركيا.
وجد أيمن نفسه وحيداً في اسطنبول وبلا مال. كان بعض أقربائه قد نزحوا إلى اسطنبول، وبمساعدة أحد هؤلاء الأقرباء استطاع إيجاد عمل عند صاحب ورشة خياطة تركي في منطقة أفجيلار. طوال أربعة شهور، عمل أحمد 11 ساعة يومياً، مع يوم عطلة واحد في الأسبوع، لقاء 600 ليرة تركية (260$) قبل أن يترك العمل بعد نزوح عائلته إلى اسطنبول ليبدأ العمل مع والده في الصيانة الكهربائية.
بعد محاولة غير ناجحة للحصول على قَبول جامعي في تركيا، قررت عائلة أيمن توظيف ما تبقى لديها من مال، بالإضافة لما استدانته من أقارب ومعارف، لإخراج ابنهم من تركيا، ووصل ابنهم إلى السويد تهريباً منذ ستة أشهر، حيث يُقيم اليوم ويعمل على تعلم اللغة السويدية كي يقدّم الامتحانات اللازمة لاستئناف دراسته بأسرع وقت ممكن.
لقصة أيمن، على مأساويتها، نهاية «سعيدة» في العُرف السائد لدى الشباب السوريين. هي نهاية يرجوها «أبو قصي» لقصته.
«أبو قصي» من ريف دمشق، عمره 25 عاماً، كان طالب هندسة في جامعة دمشق حين أوقف دراسته عام 2012 بسبب الظروف السيئة. استشهد شقيقاه في قصف حرستا، وعاش متنقلاً في مناطق مختلفة من دمشق قبل أن يتجه إلى إدلب ثم تركيا. وصل إلى اسطنبول في شباط 2014 بحثاً عن فرصة للهجرة، لكن المبلغ المتوفر في حوزته، والذي تناقص خلال مراحل الرحلة المعقدة، لم يَكفِهِ للخروج نحو أوربا، ما جعله يبدأ بالعمل في ورشة خياطة. يعمل «أبو قصي» كمُيَاوِم، يقبض 30 ليرة تركية (13$) لقاء 10 ساعات عمل في الأيام التي يطلب منه صاحب الورشة المجيء فيها. يعيش «أبو قصي» في شقة استأجرها ثلاثة أصدقاء قدماء يعيشون في اسطنبول، ولا يتقاضون منه أجراً.
لا يفكر «أبو قصي» إلا بالهجرة إلى أوروبا. يقضي الشطر الأكبر من وقته، حين لا يعمل، في تتبّع طرق الهجرة وظروف اللجوء في كل بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي. لديه خبرة كبيرة في هذا المجال، ويعرف كل المهرّبين وسماسرتهم، ويسمح لوجهه، العابس دوماً، أن يبتسم فقط حين يقول بسخرية مريرة إنه لم يُنه دبلوم الهندسة، لكن أصبحت لديه دكتوراه شرف في التهريب!
ثمة حالات يبلغ فيها التعقيد أبعاداً تراجيدية، مثل حالة «ندى». ندى صبية حلبية بالكاد يبلغ عمرها 20 عاماً، وتعمل في ورشة طباعة حرارية على القماش في القسم الآسيوي من اسطنبول، يملك المطبعة مواطن تركي من ماردين يتكلّم العربية. تُبدي ندى عجلة في التعبير عن تأييدها لنظام بشار الأسد في أول لحظة من المحادثة الهاتفية، ولا تُخفي احتقارها للثورة ولكل المعارضين. تروي أن والدها قُتل في حلب على يد ’الجيش الحر‘، وأنها كانت «ابنة عز» جعلتها الثورة مجرد «صانعة» في ورشة. وبين التعابير العدوانية تجاه مُحادثها، الذي علمت مسبقاً بموقفه السياسي -ومع ذلك وافقت على الحديث معه عن عملها- تروي أنها وصلت إلى اسطنبول برفقة أمها للالتحاق بخالتها التي كانت قد سبقتهم مع عائلتها، وأنها بدأت العمل بالمياومة في الورشة قبل عشرة أشهر، وكانت تحصل على 30 ليرة تركية في اليوم، ويوم العمل مكوّن من 9 ساعات، لكن «شطارتها» جعلت صاحب الورشة يغيّر الاتفاق معها إلى أجر شهري قدره 700 ليرة تركية (304$)، وتروي ندى بفخر أن صاحب الورشة قد رفع أجرها إلى 800 ليرة تركية لأنها الآن تُعلّم عاملتين تركيتين جديدتين في الورشة. لا مخططات مستقبلية لندى، تُجيب فقط بـ«لا أعرف… لا أعرف» عن أي سؤال يخص طموحاتها أو رغباتها.
في السياسة، «البلد»، الثورة، واللامكان
بشكل عام، يمكن القول إن فئة العمّال غير المَهَرَة هي الأكثر «تسيّساً» فيما يخص الوضع السوري والثورة. ويُقصد بالتسيّس هنا، مجازاً، الاستشعار براهنية الثورة في ذهن وتفكير وسلوك الفرد. ليس القصد بهذا الكلام القول أن أصحاب الورشات أو العمال المحترفين لا رأي لهم بالثورة أو بالأوضاع السورية على الإطلاق، ولا يعني هذا التقييم حكماً على مشاعر أو انتماءات أي فرد أو قطاع أبداً. لكلّ منهم، في النهاية، قصة فيها مقدار من التراجيديا؛ منهم من يستطيع التعامل مع هذه القصة، ويبني معها علاقة «صحّية»، إذا صحّ التعبير، فيما يعجز آخرون عن الخروج من نواة هذه التراجيديا، حتى لو حاولوا بقوّة.
هنا، أيضاً، يختلف العمال غير المهرة عن سواهم… أعداد كبيرة من العمال غير المهرة، ولا سيما الجامعيين منهم، قَدِموا إلى تركيا إما بعد تجربة اعتقال أو هرباً من الاعتقال أو التصفية، أو هرباً من الخدمة الإلزامية أو بعد الانشقاق عن جيش النظام، ولعدد لا بأس به منهم، مثل «عبد الحميد»، تجربة مشاركة في القتال مع ’الجيش الحرّ‘. عبد الحميد من ريف حمص، عمره 22 عاماً، لم يكن قد بدأ دراسته الجامعية بعد حين اعتُقل على حاجز في الطريق إلى دمشق، وخرج بعد شهرين من التعذيب مليئاً بالغضب بقدر امتلاء جسمه بآثار التعذيب. انخرط عبد الحميد في إحدى فصائل ’الجيش الحر‘ وقاتل في القصير، لكن انقلابات داخلية ضمن الفصيل، بالإضافة لضغط عائلي كبير وإحساس بالخيبة من أسلوب إدارة القادة العسكريين للمعارك، جعلته يترك البندقية ويقرر الخروج إلى تركيا بحثاً عن فرصة للسفر إلى أوروبا. يصف عبد الحميد حياته في اسطنبول بأنها «سجن»، ساعات طويلة في الورشة، ثم ساعات طويلة أخرى على الإنترنت لمتابعة أخبار سوريا.
يوافق عبد الحميد على وصفه بأنه شخص «متوتّر»، ويبدو ذلك واضحاً في كل جوانب هذا الشاب الطويل والنحيل: طريقة تدخينه، كلامه السريع، كمية الشتائم التي يستخدمها في كلامه… الحياة والعمل في اسطنبول هي «تقطيع وقت» بالنسبة له حتى وصول فرصة ملائمة للانتقال إلى أوربا. يصف عبد الحميد تقلّب مشاعره تجاه سوريا بمزيج من الغضب والألم، إذ إنه، بعد حيرة لعدّة ثوانيْ، يقول بتصميم أنه بات يكره هذا البلد، ويكره نفسه لأنه وُلد سورياً! يقول: «أمضيت سنتين ونصف أو ثلاثاً وأنا أحلم بأن أسمع بخبر سقوط بشار الأسد، والآن لم يعد يعنيني على الإطلاق… مبروك عليه رئاسة ’خرابة‘، أنا ذاهب إلى أوربا»، ويصمت قليلاً قبل أن يقول ضاحكاً: «وهالعالم كلها مثلي!».
رغم هذه التعبيرات، يعترف عبد الحميد بأنه لا يعلم إذاً لماذا يتابع أخبار سوريا بهذه الكثافة، ولا لماذا لا يجد زائر صفحته على الفيسبوك إلا كلاماً وأخباراً عن الثورة.
مثال عبد الحميد هو حالة قصوى في مجال الوضع النفسي المتأزم، لكنها مثال نموذجي حقاً فيما يخص النمط العام لعلاقة هؤلاء الشبان بعملهم، وعلاقتهم باسطنبول أو تركيا ككل. هي محطة، بل «مصيدة» حسب منطق البعض منهم. لا يريدون بناء علاقة مع المدينة، ولا يبحثون عن بناء علاقات اجتماعية فيها خارج نطاق زملاء العمل أو السكن. هي انتظار الحصول على المبلغ اللازم لركوب البحر أو عبور الحدود البرية، أو انتظار معجزة في حالة الذين ليس لديهم قريب أو صديق مغترب في الخليج يمكن أن يساهم مالياً في جمع المبلغ اللازم للسفر تهريباً.
لقد خرج هؤلاء الشبان من سوريا فعلاً، وقصص وظروف وأسباب خروج غالبيتهم مأساوية بكل ما للكلمة من معنى، لكنهم ليسوا في تركيا نفسياً أكثر من الحد الأدنى اللازم للحياة: شراء الطعام، المواصلات، الموبايل، أفضل الخيارات للسكن وأرخصها. ولا تعنيهم أمور مثل استخراج بطاقة إقامة، لأن المنطق السائد حول الموضوع يقول إنها يمكن أن تلحق أضراراً في فرص الحصول على لجوء في أوروبا، وليسوا بوارد تعلّم اللغة التركية، ليس فقط لانعدام الوقت أو المقدرة المالية على دفع رسوم التسجيل في معهد، ولكن أيضاً لعدم الاهتمام بالتعاطي مع مجتمع مؤقت. قسم كبير منهم ما زال نفسياً في سوريا، ويُقصد هنا الحنين والتراجيديا سوية، وتفكير أغلبهم منشغل بأخبار التهريب والمهربين إلى أوروبا، وقصص النجاح التي يحققها أولئك الذين نجحوا في الوصول إلى أوربا.
اسطنبول، بالنسبة لهم، هي اللامكان.
أياً يكن رأي وموقف صاحب الورشة حول سوريا والثورة، وأياً تكن علاقته مع بلده أو أحلامه المستقبلية بخصوصه، وهذا الكلام ينطبق على العمال المحترفين أيضاً، يبقى أنهم منخرطون في مشروع عمل وكسب يريدون له أن يتطوّر أو يدوم، ومهما كان تعلّقهم بسوريا كبيراً، أو تتبعهم لأخبارها كثيفاً، فإن العمل بالنسبة لهم، على عكس غالبية العمال غير المهرة، ليس شيئاً ميكانيكياً. بإمكان المراقب أن يرى في مجموعات أصحاب الورشات والعمال المحترفين «جالية» تتكون وتتبلور، وتبني علاقاتها الداخلية وأسلوب تعاطيها مع البلد الذي تقيم فيه.
لو حاولنا القيام بتمرين تخيّلي للسنوات المقبلة فربما بإمكاننا أن نتصوّر أن من ينجح في الصمود منهم، ومن يتمكن من ترسيخ وجوده الاقتصادي في اسطنبول، أو في عموم تركيا، فإنه سيبقى هنا، وسيتحوّل الحال الطارئ والاستثنائي السوري في تركيا إلى وضع «جالية»، مثلهم مثل الجاليات الأخرى المقيمة في تركيا. بالإمكان القول اليوم إن نسبة عالية من السوريين المقيمين في تركيا، خصوصاً أولئك الذين أسّسوا مصالحهم أو وجدوا عملاً جيداً، لن تعود للإقامة إلى سوريا حتى لو عاد «الاستقرار» بشكل سحري اليوم، لأنهم مضوا بعيداً في بناء حياة جديدة، وستكبر هذه النسب مع مرور الشهور والأعوام.