«إنني أؤمن، إيماناً قاطعاً، بأن المنجزات الجارية اليوم في العلوم الإنسانية تكفي لتزويد الباحث المعاصر بالأفكار والمناهج والنظرات الثاقبة القادرة على إقصاء الأنماط العنصرية والأيديولوجية والإمبريالية، وهي الأنماط الثابتة التي أنشأها الاستشراق أثناء صعود نجمه وسطوعه على مر التاريخ».
إدوارد سعيد / الاستشراق
نسعى في هذا المقال إلى هدفين رئيسيين: إعادة قراءة الاستشراق (1978) ونقده، ومن ثمّ الإضاءة على ما نراه الأساس النظري للاستشراق، أي النسبوية.
مع ثورات الربيع العربي، وما شابها من ارتدادات ارتكاسية وخيبات ونجاحات، تعود القراءات الاستشراقية بقوة غير مسبوقة، وما وراءها من أحكام عنصرية صريحة وضمنية بحق الشعوب الثائرة، لذا نرى أنّ قراءة الاستشراق اليوم مهمة ملحّة وضرورية.
أجادل في هذا المقال بأن للاستشراق والاستشراق المعكوس، المفهومين اللذين سندرسهما ونشرحهما في متن المقال، أساس نظري واحد، هو النسبوية. المقصود بالنسبوية الإيمان بأن الناس في الشرق مختلفون عن الغرب بشكل كامل، وأن لا قيم مشتركة بين الشعوب والأقوام المختلفة. تأتي كلمة النسبوية من القول بنسبيّة القيم، أي القول بأن لكل شعب قيمه الخاصة، الخاضعة لظروفه وبيئته، والمختلفة عن قيم الشعوب الأخرى؛ وأن لا جامع مشترك أخلاقي بين الناس.
النسبوية، كما سأوضّح، فاسدة ومُفسدة أخلاقياً. النتيجة العملية والمباشرة للنسبوية هي تبرير قمع البشر وتسويغ أطروحات الفاشية واليمين المتطرف. خطورة النسبوية في عالمنا اليوم تكمن في انتشارها على كافة المستويات، الثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. في مقابل النسبوية، ندعو لإحياء قيم التنوير وتعميمها لتشمل جميع البشر. علينا أن نحيّي الإيمان بأن كل البشر لهم الحق في حياة كريمة حرة، وأن لكل فرد الحق في اختيار الحياة التي تناسبه. فقط بمثل هذا الإيمان نستطيع مواجهة صحوة اليمين والفاشية، وفقط بمثل هذا الإيمان نستطيع إحياء الأمل بعالم أفضل لأطفالنا.
في القسم الأول من المقال سنعرض لكتاب إدوارد سعيد (1935-2003) الاستشراق، لننتقل في القسم الثاني لعرض مفهوم «الاستشراق المعكوس»، كما نجده عند صادق جلال العظم (1934) وجيلبير الأشقر (1951). في القسم الثالث سنعرض لنقد العظم ومهدي عامل (1936-1987) لسعيد. سأحاول أن أقيّم هذا النقد بالدفاع عن سعيد فيما يتعلّق بالعلاقة بين الاستشراق النصّي والتوسّع الإمبريالي، وفيما يتعلّق بنقد سعيد لماركس. لكنني، بعد ذلك، سأعرض لما أراه المشكلة الرئيسية في عمل سعيد، ألا وهي التردد النظري بين الإيمان بالنسبوية وبين الإيمان بالقيم المشتركة.
أود القول منذ البداية أن تناولي لسعيد والعظم وعامل لا يهدف إلى الانحياز إلى أحدهم على حساب الآخر. لكل من هؤلاء الكتّاب إضافة مميزة في فهم ظاهرة الاستشراق وأساساتها النظرية. يهدف مقالي إلى إعادة قراءة النقد الموجّه لكتاب سعيد بشكل موضوعي، وإلى الإضاءة على إشكالية النسبوية الأخلاقية.
في القسم الرابع سنتكلّم عن أحد المواضيع الأخلاقية الأثيرة على قلب سعيد، والتي أثارها كتابه بنجاح مشهود، ألا وهو دور المثقّف في مواجهة السلطة.
القسم الأخير، وهو الأهم، سيطرح المشكلة الأخلاقية في النسبوية.
الاستشراق
سوف نعرض في هذا القسم لكتاب سعيد، الذي يقسم إلى ثلاثة فصول.
في الفصل الأول يعرض سعيد لنطاق الاستشراق: تعريفه ومفهومه. يبدأ الباب الأول «معرفة الشرقي» بالمعرفة التي يدّعيها كرومر وبلفور للشرق، والتي تخوّلهما رسم السياسات الخارجية البريطانية. هذه المعرفة تستند إلى تراث طويل. معرفة الشرقي هذه هي الاستشراق، والذي، بحسب سعيد، برّر الإمبريالية، بل ومهّد لها (سعيد، ص95-96). الاستشراق هو مجموعة الأفكار التي تدّعي لنفسها المعرفة العلمية، والتي تقول بوجود جوهر ثابت أبدي للشرق، يحاول الغربيون فهمه ودراسته؛ الشرقيون في الاستشراق أدنى من الغربيين على العموم.
يحدد سعيد بداية الاستشراق الحديث بحملة نابليون على مصر، لينتهي بأزمة الاستشراق مع حركات التحرّر في القرن العشرين التي سنعرض لها لاحقاً. هذا هو المجال التاريخي لدراسة سعيد.
في الباب الثاني، «الجغرافيا الخيالية وصورها»، يسأل سعيد عن العالَمَين الذين يفترض الاستشراق وجودهما: الشرق من جهة، الذي يضم اليابان والهند والصين والعالمين العربي والإسلامي، والغرب الأوربي والأميركي من جهة أخرى. يفترض الاستشراق أن الشرق يختلف عن الغرب، وأن لكل منهما جوهر واحد ثابت أزلي.
يرى سعيد أن هذه التقسيمات الجغرافية/المعرفية تعسفية ووهمية. ما نعتبره «أرضنا» مقابل «أرضهم»، وما يوجد هناك في «أرضهم»، مَبنيّ غالباً على أوهام وافتراضات متعددة حول المكان الموجود خارج أرض الشخص (سعيد، ص117). بالطبع، هناك معرفة إيجابية عن التاريخ والجغرافيا؛ ولكن، إلى جانب هذه، هناك ما يتجاوزها، وهذه هي المعرفة الخيالية.
تعرّف الغرب على الشرق أيام اليونان، ابتداءً من كتابات هيرودوت، وصولاً إلى مسرحيات أسخولوس ويوربيدوس، ثم فتوحات الإسكندر. لاحقاً، أتى المسلمون وتغيّرت العلاقات. التوتّر بين أوربا المسيحية والمسلمين استمر حتى القرن التاسع عشر، عندما ضعفت الامبراطورية العثمانية وبدأ التوسّع الإمبريالي الغربي. مع نهاية القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي يحددها سعيد لبداية الاستشراق الحديث، موضوع دراسته، كان الغرب قد كوّن مجموعة مفاهيم ورؤى، خيالية بالمجمل، عن الشرق. من اليونان إلى عصر التنوير، هناك خيط متصل من الصور المرسومة للشرق، يبدو فيها الشرقي أدنى من الغربي، وجوهره واحد ثابت على مر التاريخ.
في الباب الثالث، «مشروعات»، يقدّم سعيد بعض المشروعات التي سبقت حملة نابليون، ثم يقدّم مشروع نابليون الاستعماري – الذي يراه بداية الاستشراق الحديث. لأول مرة تتحرك الدول الغربية لاحتلال إقليم شرقي مزوّدة بلفيف من العلماء .
الباب الثالث يعرض لما أسماه سعيد «الأزمة» في الدراسات الاستشراقية. ابتدأت الأزمة في عشرينات القرن العشرين بثورات التحرر في العالم الثالث. هنا أصبح الاستشراق أمام أزمة حقيقية: انتفض المحكومون وامتلكوا ناصية القرار، مما يكذّب ادعاءات الاستشراق العنصرية عن استسلام المحكومين الأزلي. لم يهتزّ الاستشراق نتيجة اصطدامه بالواقع، بل دافع عن أطروحاته العنصرية بطرق جديدة.
يشكّل الفصل الأول «العمود النظري» للكتاب. الفصول الباقية هي الدراسة «العملية» لنصوص مختلفة الأنواع و الاتجاهات يراها سعيد مرتبطة بالاستشراق بشكل أو بآخر. سؤالنا الرئيسي حول النسبوية يرتبط بالجانب النظري من الكتاب، لذا سيكون عرضنا للفصول الباقية مختصراً جداً.
ينتقل سعيد في الفصل الثاني إلى عرض لأبنية الاستشراق الرئيسية وتأسيسها في نهايات القرن الثامن عشر ومن ثم لاكتمالها في القرن التاسع عشر. يعرض سعيد لتغير بنية الاستشراق لأسباب متعددة تاريخية مرتبطة بحركة الغرب باتجاه الشرق وتوسعه (في الباب الأول)، ولأنواع مختلفة من الدراسات والنصوص الاستشراقية: من نصوص تأسيسية لرينان وساسي (في الباب الثاني)، إلى نصوص الرحّالة اللذين عاشوا في الشرق (في الباب الثالث)، وانتهاءً بنصوص الحُجّاج إلى الشرق (في الباب الرابع).في الباب الرابع من الفصل الثاني، والذي يتناول فيه سعيد نصوص الحُجّاج الغربيين في الشرق، سيجد محبّو غوستاف فلوبير في نقد سعيد لتجارب فلوبير في الشرق إضاءة على عبقرية فلوبير. هذه من أفضل صفحات الكتاب وأكثرها كشفاً عن تعقد عمل الروائي وعلاقته بزمنه وبيئته وإشكاليات العبقرية والفردية والثقافة.
في الفصل الثالث والأخير يعرض سعيد للاستشراق الآن. يبدأ مع تمييزه بين الاستشراق الكامن، والذي بقي محافظاً على صلب الأفكار العنصرية للاستشراق؛ وبين الاستشراق السافر، الذي غيّر من صفاته وأساليب الدراسة تبعاً لما هو سائد في فترات مختلفة في الغرب (في الباب الأول). يرى سعيد أن الاستشراق تحوّل في القرن العشرين بشكل مباشر إلى خدمة الإمبريالية وجيوش الاستعمار في الشرق (في الباب الثاني). يعرض سعيد بعد ذلك للاستشراق في أوجه، أي ما بعد الحرب العالمية الأولى (في الباب الثالث)، لينتهي بصورة الشرق في أميركا اليوم (الباب الرابع).
في خاتمة الكتاب، يطرح سعيد أسئلة محورية، من قبيل:
«ما معنى ثقافة أخرى؟ وهل فكرة وجود ثقافة (أو جنس بشري أو دين أو حضارة) متميزة فكرة مفيدة، أم تراها تختلط في جميع الأحوال إما بتهنئة الذات (عندما يناقش المرء ثقافته الخاصة) وإما بالعداء والتعدي (عندما يناقش المرء ثقافة ’الآخر‘)؟ وهل تُعتبر الاختلافات الدينية والثقافية والعنصرية أهم من الفئات الاقتصادية الاجتماعية أو الفئات السياسية التاريخية؟ كيف تكتسب الأفكار السلطة، وكيف تتمكن من أن تصبح أفكاراً ’سوية‘ وترقى إلى منزلة الحقائق ’الطبيعية‘؟ ما دور المثقف؟ هل ينحصر دوره في إثبات صحة الثقافة والدولة التي ينتمي إليها؟ ما مدى الأهمية التي يجب أن يوليها للوعي النقدي المستقل، أي للوعي النقدي المعارض؟» (سعيد، ص493).
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها. يقول سعيد إن إجاباته عن هذه الأسئلة مضمرة في الكتاب. في القسم التالي سنعمل على محاولة فهم أجوبته ونقدها بشكل أوضح.
قبل الدخول في هذه الأسئلة، سنعرض لمفهوم الاستشراق المعكوس، ثم نعود إلى طرح بعض الأسئلة حول الأساس النظري للمفهومين.
الاستشراق المعكوس
في معرض ردّه على كتاب سعيد، لاحظ صادق جلال العظم في ذهنية التحريم (1997) أن هناك نوعاً من الاستشراق المعكوس ينتشر بين المثقفين العرب والإسلاميين. يقوم الاستشراق المعكوس على تبنّي فكر الاستشراق نفسه مع قلب حكم القيمة. المقصود بفكر الاستشراق بشكل رئيسي هو القول بوجود جوهر ثابت للشرق، مختلف بشكل كامل عن الغرب. أما كلمة المعكوس، والتي تعني قلب حكم القيمة، فتضيف أن الشرق أغنى فكرياً وأخلاقياً وأرقى من الغرب، في حين يقول الاستشراق بأن الغرب هو المتفوق على الشرق.
في نقد العظم لسعيد نجد عرضاً واسعاً لمفهوم الاستشراق المعكوس، كما نراه عند طائفة من الكتّاب العرب والإسلاميين في نهاية عقد السبعينات وبداية الثمانينات. من هؤلاء الكتّاب يبرز أدونيس ووجيه كوثراني ورضوان السيد، والكتّاب «الشباب» حينها، إلياس خوري وحازم صاغية، وآخرون. سوف أدعو هذا بالاستشراق المعكوس الإسلامي، تمييزاً له عن نوع آخر من الاستشراق المعكوس سنعرضه الآن.
في مقالة حديثة (2008) يعرض جلبير الأشقر لانتشار الاستشراق المعكوس في فرنسا منذ نهاية السبعينيات. نجد هنا أن هؤلاء المثقّفين الفرنسيين يردّدون مقولات الاستشراق المعكوس عن وجود جوهر ثابت للشرق، وعن عدم صلاحية الحكم على الشرق بمعايير «غربية» كحقوق الإنسان وتحرير المرأة وسيادة القانون، وعن عدم صلاحية فهم الشرق بأساليب العلوم الاجتماعية الحديثة «الغربية». يُضاف إلى ذلك أن الردّة الإسلامية في المشرق التي انطلقت مع الثورة الإيرانية هي المعبّر الحقيقي عن هذا الشرق، وهي حركة تقدمية وليست ارتكاسة رجعية. الاسم الأشهر الذي يطرحه الأشقر هو المفكر الفرنسي ميشيل فوكو. سندعو هذا بالاستشراق المعكوس الغربي.
أود الآن تلخيص الفكرة الرئيسية في الاستشراق والاستشراق المعكوس، كما طُرحت من زوايا ثلاث مختلفة، عند سعيد والعظم والأشقر:
هناك عالمان مختلفان تماماً: الأول هو الشرق والثاني هو الغرب. لا يشترك العالمان بشيء. القيم السائدة في الغرب، والتي تقوم على احترام حقوق الإنسان وتحرير المرأة واحترام الأقليات الدينية والعرقية والانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة، لا تصلح في الشرق. في المقابل، الشرق (التركيز هنا على الإسلام) له قيمه الخاصة، والتي بموجبها يعود لإسلام أول نقي طاهر، يحيا من خلاله وتقوم أفكاره ومعتقداته واقتصاده وعلاقاته الداخلية والخارجية عليه. أكثر من ذلك، لا يمكن فهم الشرق من خلال منجزات العلوم الاجتماعية الحديثة: لا إمكانية لتحليل وفهم ما يحدث في الشرق باستخدام مفاهيم «غربية»، كالصراع الطبقي المستمد من الماركسية، أو علم النفس الفرويدي، أو مناهج الأنثروبولوجيا الحديثة.
تشترك القراءات الاستشراقية بهذا الإيمان الغيبي بأن هناك جوهراً للشرق وآخر للغرب، أما حكم القيمة فيختلف بين هذه القراءات: الاستشراق يقول بتفوق الغرب على الشرق؛ الاستشراق المعكوس الإسلامي يقول بتفوق الشرق على الغرب؛ الاستشراق المعكوس الغربي يقول بصلاحية المفهوم الجوهراني الثابت للشرق وأحقيته وضرورة ديمومته، بعيداً عن التدخلات «الإمبريالية»، الممثّلة بمحاولة تغيير الشرق أو محاولة فهمه بأساليب العلوم الاجتماعية الحديثة .
لفهم دور النسبوية كأساس نظري للاستشراق والاستشراق المعكوس، سنعمل في القسم التالي على تقييم الانتقادات الرئيسية التي وجّهها كاتبان عربيان لكتاب سعيد، وهما السوري صادق جلال العظم واللبناني مهدي عامل.
نقد الأنماط الثابتة: إشكاليّات نظرية
بالرغم من اتفاق سعيد والعظم وعامل على رفض الأنماط الثابتة للبشر ومفهوم الجوهر الثابت، إلا أن هناك اختلافات في فهمهم لكيفية نقد الأنماط الثابتة والجواهر الأبدية. تتركّز الفوارق في جوانب ثلاث: أولاً، يرى العظم وعامل أن تحليلات سعيد تقلب الأمور رأساً على عقب: فهو يعطي الأولوية للفكر والوعي على الفعل والممارسة. ثانياً، ومما سبق، ينتقد العظم وعامل تحليلات سعيد لوجهات نظر ماركس. ثالثاً، وهو الأهم برأيي، يقع سعيد في فخ النسبوية والتي تشكّل عودة إلى الأنماط الثابتة.
سأناقش هذه الانتقادات بالترتيب. أرى أن الانتقاد الثالث فقط هو المصيب، في حين أن الأول والثاني ناتجان عن سوء قراءة وتقدير لنص سعيد.
يرى العظم أن سعيد يبالغ في دور الخطاب والبنى الثقافية على حساب الواقع الفعلي والاقتصادي، بطريقتين، الأولى في إشكالية بداية الاستشراق، والثانية في علاقة الاستشراق كمذهب فكري بمؤسسة الاستشراق والتوسع الإمبريالي. أولاً، ينتقد العظم ملاحظات سعيد حول بدايات الاستشراق التي تعود إلى الكتابات الإغريقية، من إسخيلوس ويوريبيدوس وهيرودوت. يقترح العظم أن بداية الاستشراق يجب تسجيلها مع صعود البرجوازية والتوسع الغربي في الشرق؛ وأن سعيد، بتجاهله لهذا وعودته إلى الإغريق، يسقط في الجوهر الثابت مرة أخرى. ثانياً، ينتقد العظم تأكيد سعيد على أن الاستشراق النصي كان سابقاً على الإمبريالية، بل وممهّداً لها: سعيد يقلب الأولويات، ويعطي للنص والفكر القدرة على تغيير الواقع؛ في حين أن العكس هو الصحيح: للواقع والممارسة أولوية على الفكر والوعي وإنتاج النصوص.
إذا نظرنا إلى نص سعيد، نجد أن العظم يبالغ في النقطتين. كلا الإشارتين تأتيان بشكل سريع في سياق تمهيده للبحث في الاستشراق الحديث. حين ينتقل سعيد إلى هذا الاستشراق، يؤكد أن المستشرقين والغزاة تحرّكوا صوب الشرق وبأيديهم نصوص استشراقية: كان الغزاة مسلّحين بنصوص تدّعي معرفة الشرق، ومع توالي انتصاراتهم تعزّزت النظرة العنصرية بسيطرة فعلية على الأرض. بهذا المعنى، لا يوجد أي كلام في نص سعيد عن أن الاستشراق النصّي مسبّب للغزو، أو أن هناك أولوية للوعي والنص على الممارسة والفعل، كما يدّعي العظم. أكثر من ذلك، لا يوجد في نص سعيد أي مناقشة لمسببات الغزو والتوسع الإمبريالي على الإطلاق. أضف أن العظم نفسه لا يستطيع أن ينكر أن النصوص السابقة على الغزو قد قُرئت ودُرست وأثّرت في الاستشراق الحديث وبالغزاة أنفسهم. لا يريد سعيد أن يقول بأكثر من هذا، وهي نقطة هامة في فهم الاستشراق، ولكنها لا تحمل ما قرأه العظم في طياتها.
بكل الأحوال، هناك غموض في نص سعيد في موضوع البدايات هذا. على المرء أن يشرح أكثر علاقة الاستشراق الحديث بما سبقه من النصوص والأحداث. لا يوجد مثل هذا الشرح في نص سعيد. سنترك هذه الإشكالية هنا ونلتفت الآن إلى النقد الثاني الموجّه لسعيد: وضعه لماركس في سلّة المستشرقين.
يبدو لي أن دفاع العظم عن ماركس محق من حيث المبدأ، إلا أنه لا يتفهّم الاحتجاج الأخلاقي في نص سعيد.
نقد سعيد لماركس يتمحور حول رؤية ماركس للحكم الانكليزي في الهند. يقول ماركس إن هذا الحكم، وإن كان لاإنسانياً ومليئاً بالعذاب، إلا أنه خطوة على طريق تحرير الهند على المدى الطويل، بإيقاظها من سباتها وتمهيداً لبناء الهند الحديثة. يرى سعيد أن هذا الموقف استشراقي بامتياز: يعمد ماركس إلى تجاهل العذاب الإنساني في آسيا، بجرّة قلم، لمصلحة فكره الخاص.
يقوم العظم بالدفاع عن ماركس في سياق وضع ملاحظة ماركس عن الهند في سياق أعمّ.
يرى العظم أن ملاحظة ماركس هذه لا علاقة لها بالاستشراق، بل تأتي في سياق فكر ماركس المتّسق، والذي ينظر إلى حركة التاريخ في سياق أوسع يشمل الصراع الطبقي ويركّز على حركات التدمير والإحياء. على سبيل المثال، في البيان الشيوعي (1848) يعطي ماركس لقوى البرجوازية الصاعدة دوراً هاماً في تدمير أوربا الإقطاعية والتمهيد لأوربا البروليتارية. بهذا المعنى، لم يقع ماركس في فخ الاستشراق. مهدي عامل يقدّم قراءة مماثلة.
أرى أن رؤية العظم أصحّّ من رؤية سعيد في تأويل ماركس، وأن ملاحظة ماركس عن الحكم الإنكليزي في الهند يجب وضعها في السياق الأعم المشار إليه؛ ولكن رؤية العظم عاجزة إلى حد كبير عن فهم الاحتجاج الأخلاقي الذي وجّهه سعيد لماركس. هذا الاحتجاج الأخلاقي يشكّل جوهر كتابات سعيد. في الواقع، يبدو أن رؤية العظم، ولأنها صحيحة، تُدين ماركس بشكل أعمق بكثير مما فكّر به سعيد نفسه! دعونا نشرح لماذا.
تقوم فلسفة التاريخ الموجّهة، التي آمن بها ماركس، على التبشير بمرحلة قادمة تعيش فيها الإنسانية في سعادة ووئام، وتنتهي فيها الصراعات. من كانط إلى هيغل وماركس وأوجست كونت كان هذا المذهب سائداً في القرن التاسع عشر. النتيجة العملية لمثل هذا المذهب أدّت إلى تعذيب وقتل ملايين البشر على يد لينين وتروتسكي وستالين وماو، وديكتاتوريين آخرين أقل قيمة في العالم الثالث. للوصول إلى الفردوس، علينا أن نقطع المراحل بسرعة، ولا يجب الوقوف على تفاصيل صغيرة من قبيل تعذيب الناس في الهند، تبعاً لماركس؛ أو لمآسي الثورة الثقافية في الصين، بحسب الماويين؛ أو لمعسكرات الاعتقال الستالينية، بحسب سارتر وبرناردشو وزياد الرحباني. ملايين البشر وعذاباتهم لا تجعل أصحابنا المؤمنين بفلسفة التاريخ يرتجفون ولو قليلاً عند كتابة مطوّلاتهم الفلسفية المتفذلكة. الإيمان بفلسفة التاريخ الموجّهة هو الطريق المؤدي مباشرةً إلى تجاهل عذابات البشر الفعليين في الحاضر وتبرير هذا العذاب باسم مستقبل زاهر وردي متخيّل.
ماركس، والمؤمنون بفلسفة التاريخ هذه من مناصريه أو خصومه، ليسوا ضحية للاستشراق (العظم محق هنا) بل هم أسوأ بكثير: الاحتقار لحياة البشر يعّمم لديهم ليشمل الغرب والشرق والشمال والجنوب، دون حدود ودون حواجز كان لبعض الليبراليين انتقاد حادّ لفلسفة التاريخ، إزايا برلين وكارل بوبر هما الأمثلة الأشهر. برتراند راسل أشار مراراً إلى الرعب الذي تبثه فكرة فلسفة التاريخ في نفسه. يقول راسل إنه عند لقائه مع لينين وتروتسكي شعر بخوف لا مثيل له من أفكار كهذه. يستحق موضوع فلسفة التاريخ الماركسية وتلقّيها عند العرب دراسة أوسع على أية حال.
في هذه النقطة، نجد أن تحليل مهدي عامل الذي يُدين النزعة الأخلاقية في كتاب سعيد لمصلحة فلسفة التاريخ الديالكتيكية (مهدي عامل، ص 35-41) يمثّل نموذجاً للضعف الأخلاقي عند الماركسيين الذي تكلمنا عنه أعلاه.
في النهاية، أرى أن ما يبقى من ماركس هو قدرته على رؤية دور الاقتصاد وملكية وسائل الإنتاج في إنتاج البنى السياسية والثقافية في المجتمع، وفضح الادعاء بوجود حرية وهمية في غياب استقلال اقتصادي. ولكن ماركس بالغ في أهمية اكتشافه لدور الاقتصاد، ورَبَطَه بميتافيزيقيا فلسفة التاريخ السائدة في عصره، وتحديداً من أستاذه هيغل.
لنترك ماركس وفلسفة التاريخ جانباً الآن، ونعود إلى كتاب سعيد.
النقطة الثالثة في نقد العظم لسعيد هي التالية: نص سعيد مليء بعبارات غامضة وتشابيه شعرية، وأضيف بعد إعادة قراءة الكتاب التكرار المملّ وعدم الاتساق في توزيع وترتيب وعرض الأفكار والفصول. لهذا النقد أهمية استثنائية، لأنها تتصل بالمنهج. يجب أن أضيف هنا أن صادق جلال العظم أستاذ في الوضوح والدقة؛ للرجل قدرة مُبهِجة على شرح الموضوعات العويصة بسلاسة وفتنة يُحسَد عليها. هذه فضيلة يفتقدها إدوارد سعيد .
من إشكالية الوضوح ننتقل إلى إشكالية المنهج، وهي الإشكالية التي يعاني منها كتاب الاستشراق. يحفل الكتاب بإشارات وفقرات غريبة تعادي العلم والروح العلمية وإمكانية المعرفة الموضوعية والوصول إلى الحقيقة. بالرغم من أن الكتاب، كما يكرر سعيد مراراً، يهدف بشكل رئيسي إلى كشف ما يدّعيه الاستشراق من معرفة علمية، إلا أنه يغرق في بعض الأحيان في دعاوى فلسفية ومعرفية تنظيرية تجعله بحق، كما رأى بوضوح العظم وعامل، داعية للنسبوية.
فلنقتبس كلمات سعيد نفسه التي يقتبسها العظم أيضاً:
«تكمن المشكلة الحقيقية في ما إذا كان بالإمكان وجود تصور صادق عن أي شيء، مهما كان، أم أن جميع التصورات، بلا استثناء، وبحكم كونها تصورات، مدفونة أولاً في لغة صاحب التصور ومن ثم في ثقافته ومؤسساته وأجوائه السياسية. فإذا كان البديل الثاني هو الصحيح (وأعتقد شخصياً بأنه هو الصحيح) علينا عندئذ أن نكون مستعدين للقبول بالواقع القائل إن كل تصور يختلط حكماً بأشياء كثيرة غير ’الحقيقة‘ … مع العلم بأن ’الحقيقة‘ نفسها هي تصور ليس إلا».
المشكلة في نص سعيد إذن هي التالية: لم يحسم سعيد موقفه بين وجهتي نظر مختلفتين ومتناقضتين. الأولى تقول بأن الغرب كوّن تصوراً عنصرياً عن الشرق، وأن هذا التصوّر يمكن إصلاحة وتعديله عن طريق التحلّي بالروح النقدية تجاه الاستشراق، وبالمزيد من المعرفة العلمية الموضوعي الحقيقية؛ أما الرؤية الثانية فتقول بأنه لا يوجد أي تصور حقيقي لأي شيء على الإطلاق. يتبنى سعيد وجهة النظر الثانية في الاقتباس السابق، مما يجعل فكر الاستشراق مقبولاً وطبيعياً، كما يوضّح العظم: إن كان كل تصور غير حقيقي وانعكاس لثقافة المرء، فسيكون الاستشراق هو فقط الانعكاس لثقافة الغرب، ولا يوجد أي إمكانية لتصحيح مثل هذه التصورات، طالما أن كل التصورات نسبية.
بالمقابل، إن كان هناك حقيقة، وإن كانت العلوم الاجتماعية الحديثة قادرة على الوصول إلى الحقيقة، كما يخبرنا سعيد نفسه في الاقتباس الذي افتتحنا به هذا المقال، سيكون الاستشراق غير مطابِق للواقع وعنصري وغير علمي، ونستطيع مواجهته بالمزيد من العلم والمعرفة الحقيقية.
يتردد سعيد بين هذين الموقفين في كتاب الاستشراق، ويبدو لي أنه لم يملك العدة النظرية اللازمة لحسم موقفه أثناء كتابة الاستشراق. اقترح فواز طرابلسي أن سعيد طوّر فكره لاحقاً لمصلحة الرؤية الثانية، وأن كتاب الاستشراق يتبنّى الرؤية الأولى. ربما كان هذا صحيحاً، ولكن ليس هذا المكان المناسب لدراسة تطور فكر سعيد. ما يعنينا هنا هو الإضاءة بشكل أعمق على النتائج الأخلاقية والسياسية والفكرية لوجهتي النظر السابقتين.
القسم التالي سيختم استعراضنا للاستشراق والاستشراق المعكوس بملاحظات حول دور المثقف في مواجهة السلطة، أما القسم الأخير فيناقش النسبوية ونتائجها الأخلاقية.
دور المثقف في مواجهة السلطة
كتاب الاستشراق، كما كرّر سعيد مراراً، يسعى إلى هدف أساسي: كشف بنية الاستشراق التي تعتمد على القول بوجود جوهر واحد ثابت للشرق الإسلامي، في الفترة الممتدة من نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم. كان للكتاب ضجّة كبيرة مستحقة: من روائيين وفنانين وعلماء وسياسيين، تمتد قائمة طويلة من الغربيين اللذين رضوا بالحكم العنصري على الشرق الإسلامي. لهذا الكشف قيمة كبرى في الغرب، تجعل من سعيد أحد أعمدة الفكر النقدي التحرري الغربي.
تأتي أهمية عمل سعيد من كونه مثقفاً غربياً، كتب وعاش وأنتج في الغرب، باحثاً في موضوعات غربية، تهم قارئاً غربياً، في سياق غربي. يتمحور عمله بشكل أساسي حول رؤية الغرب للإسلام، ومن هنا نراه مثقفاً غربياً. أخلاقية عمل سعيد، كأعمال تشومسكي السياسية الناقدة للولايات المتحدة، وأعمال فوكو والعشرات من الغربيين المنشقين، تكمن بشكل رئيسي في قدرتها على كشف الزيف المتقنّع بادعاءات علمية في الثقافة السائدة في الغرب. هذه الأعمال تعبّر عن حس أخلاقي عاليْ وعن إيمان عميق بضرورة رفع الظلم وتحدي الأشكال الجديدة للإمبريالية، من داخل المجتمعات الغربية. هذه هي القيمة الأخلاقية الفعلية للمثقفين المنشقين في عالمنا اليوم: مواجهة السلطة وفضح الادّعاءات العنصرية المقنّعة.
على أن هناك فوارق عميقة بين هؤلاء الكتّاب: يبدو سعيد مرتبكاً بين الإيمان بقيم مشتركة وبين نسبوية تنفي إمكانية وجود مثل هذه القيم. فوكو، كما يبدو، داعية لنسبوية أخلاقية ومعرفية، وبالتالي يقع في فخ استشراق إسلامي معكوس. تشومسكي يدافع عن قيم مشتركة بعدة نظرية كاملة وواضحة راجع مقالي في الجمهورية: «مشكلات المعرفة والحرية: تشومسكي قارئاً راسل»..
نرى إذن أن دور المثقف يكمن في كشف البنى الثقافية والأيديولوجية التي تتوسّلها السلطات السياسية والاجتماعية والدينية المختلفة لقمع الناس. من هنا، لعمل صادق جلال العظم أهميته: الاستشراق المعكوس الإسلامي رِدّة رجعية يجب مواجهتها بشجاعة. في الوقت نفسه، لا يجوز الانحياز إلى قوى تدّعي العلمانية وتقمع الإسلاميين. الديكتاتوريات العربية والإسلام السياسي، بشكله الحالي، وجهان لعملة واحدة. المثقف الناطق باسم إحدى هاتين القوتين متورّط بشكل مباشر في تبرير قمع البشر وتغييب الحريات. بعض المثقفين العرب انطلقوا من هذا الموقع الأخلاقي في الدفاع عن الحريات، في معركتهم المزدوجة ضد الديكتاتوريات والإسلام السياسي.
بكلمات أخرى، الدور الأساس للمثقف هو كشف ما يختبئ خلف اللغة المُخاتِلة للسياسيين والمثقفين والكهنوت، والتي تُستخدم لتبرير القمع. المعنى الأخلاقي الحقيقي لهذا الكشف ينحصر غالباً في البيئة التي ينتمي إليها المرء. على المثقف الغربي أن ينتقد السلطات في الغرب؛ على المثقف الشرقي أن ينتقد السلطات في الشرق؛ وعلى كليهما أن يكشفا تواطؤ وتعاون السلطات في الشرق والغرب على المواطن العادي.
نقترح في هذا المقال أن الأساس النظري لتبرير القمع ينطلق من نسبوية أخلاقية في معظم الأحيان. القول بأن العرب والمسلمين مختلفون عن الغربيين، وأن قيم الحرية والانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة لا تعنيهم لأنها قيم «غربية»، يُترجَم مباشرةً بدعم واضح وصريح للديكتاتوريات القائمة، سواء كانت عروبية أو إسلاموية؛ أو لأشكال مختلفة من التطرف الديني أو القومي بأسوأ أشكاله ومظاهره. نجد هذا في الاستشراق المعكوس الإسلامي والغربي: هناك فرحة وجذل في الاحتفاء بجمود الإسلاميين. هذا الأمر يجعل حتى من تطوّر الإسلاميين مستحيلاً.
النسبوية، والتي هي موضوع هذا المقال، تطرح علينا مجموعة أسئلة هي ذاتها التي طرحها سعيد في نهاية كتابه دون أن يجيب عنها؛ أسئلة لها أهمية فائقة في قدرتنا على فهم أنفسنا اليوم: ما هو المقصود بثقافة عربية؟ هل لها جوهر ثابت؟ ما الذي نتشارك به مع الغرب، مع أميركا اللاتينية، مع الصين، مع أفريقيا؟ هل يوجد مجموعة قيم بشرية مشتركة؟ هل نستطيع دراسة المجتمعات المختلفة باستخدام نفس أدوات التحليل؟
القسم التالي والأخير سيجيب عن بعض هذه الأسئلة.
المشكلة الأخلاقية: تعميم التنوير أم التخلي عنه؟
النسبوية هي الأساس النظري للاستشراق والاستشراق المعكوس بشقَّيه. يقوم كلاهما على فكرة أن الشرق مختلف جوهرياً عن الغرب. النتائج الأخلاقية للنسبوية تتجلّى في العنصرية من جهة، وبالقبول بجمود نهائي للمجتمعات المختلفة: جمود يتجلّى في فكرة الجوهر.
النسبوية تعني عدم الإيمان بقيم بشرية مشتركة. الإيمان بجواهر خالدة للشعوب والأقوام والأديان يؤدي تلقائياً إلى النسبوية: طالما أن البشر يخضعون لبيئتهم بشكل مباشر، وطالما أن لكل بيئة أو مجتمع بُنية ثقافية وجوهر واحد خالد أبدي، إذن لا قيم مشتركة بين المجموعات البشرية المختلفة، وليس من طريقة واحدة لفهم البشر ومجتمعاتهم المختلفة والمتعددة.
مقابل هذه النظرة، هناك إيمان عند البعض بأن البشر، في العمق، متشابهون ومتماثلون. نسعى جميعاً إلى تأمين قوت أولادنا، ونحلم بحياة كريمة لا خوف فيها من العَوَز والإذلال والقمع؛ لكل فرد الحق باختيار الحياة التي تناسبه، على صعيد المهنة ومكان السكن والإيمان الديني والشريك الجنسي. معظم هذه القيم قُدّمت في عصر التنوير والثورة الفرنسية، وأُضيف عليها لاحقاً التحرير الاقتصادي مع صعود اليسار والماركسية في القرنين التاسع عشر والعشرين .
لكن النسبوية منتشرة بشكل كبير في عالمنا اليوم، لأسباب متعددة. من تلك الأسباب المراجعات الأوربية لقيم التنوير والتي تخلّت عن القيم العالمية المشتركة تحت ضغط عاملين اثنين: فظائع الحربين العالميتين؛ والظلم الواقع على دول العالم الثالث نتيجة الاستعمار المباشر وغير المباشر. ما يعنينا هنا هو العامل الثاني.
فلنسجّل بدايةً أن التنوير الأوربي كان يعاني من خلل فادح منذ بداياته، حيث كان معظم المتنوّرين يشكّون في أن تنطبق قيم التنوير على الشعوب المستعمَرة. تمتلئ كتابات التنوير الفرنسي والليبراليين الإنكليز بأحكام عنصرية ترى أن بعض الشعوب والأعراق غير قادرة على حكم نفسها بنفسها، وأن قيم الحرية والديمقراطية لا تصلح لهذه الشعوب. لاحقاً، تبنّى النسبويون الأوربيون، لخجلهم من الماضي الاستعماري، النظرة نفسها بالقيمة المقلوبة: قد لا تكون هذه الشعوب راغبة بالأصل بالحرية، وربما لا تتوافق «قيمهم» مع تحرير المرأة وإلغاء الرق والمساوة في الفرص. الموقف الأول هو الموقف الاستشراقي؛ الموقف الثاني هو الاستشراق المعكوس الغربي.
بالمقابل، نجد أن الشعوب المستعمَرة التي عانت من فظائع فرضتها الحضارة الغربية عليها، تراوح موقفها بين الانكماش على الذات ورفض قيم التنوير بشكل كامل وبين المطالبة بضرورة تعميم التنوير ليشمل البشر أجمعين. الموقف الأول يمثّل الاستشراق المعكوس الإسلامي؛ الموقف الثاني يمثّله النهضويون العرب والإسلاميون الأوائل، على اختلاف توجّهاتهم، كطه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد والشيخ علي عبد الرازق وآخرون.
بالطبع، ندعو هنا إلى الموقف القائل بضرورة تعميم التنوير ليشمل كافة البشر. لا يعني هذا أن التنوير مكتمل ومنتهيْ وأن كل ما علينا هو قبوله. بالإضافة إلى العنصرية، يعاني التنوير الأوربي من توتّر بين القبول بالليبرالية الاقتصادية وبين التحرير الاقتصادي للناس الذي دعا إليه اليسار؛ كما يُعاني، وبالأخص في نسخته الفرنسية، من علمانية تحتقر الدين بكافة أشكاله. علينا، كما على الغربيين، أن نجد حلولاً لهذه الإشكاليات. ولكن، ومهما كانت الصعوبات، لا يجوز التخلّي عن الفكر التحرري الأصيل الذي طبع عصر التنوير: الإيمان بالعقل والعلم في مواجهة الخرافات والأساطير والتفكير السحري؛ الإيمان بأحقية الأفراد في اختيار الحياة التي تناسبهم؛ رفض القدرية التي تقول بوجود مراتب ثابتة للبشر: حكّام أزليين ومحكومين أزليين؛ إعطاء دور للمواطن العادي في إدارة الشؤون العامة والسياسية. ونضيف، القيم التي أتت بعد التنوير، تحرير المرأة وإلغاء الرق. هذه القيم، على ما أرى، قيم عالمية مشتركة، يجب الدفاع عنها في كافة الظروف، وفي كل مكان وزمان.
في عالمنا اليوم، ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، نعاني جميعاً من إحباط فكري وعملي عالمي. من جهة، تنتشر الفاشية ويعود اليمين على نطاق واسع؛ من جهة أخرى، يُطلب منا القبول بالليبرالية الاقتصادية كما هي، وبما تجلبه من ظلم اقتصادي يدفع ثمنه أولاً شعوب العالم الثالث، وثانياً الطبقات الأفقر في الغرب. يبدو لي أن انتشار النسبوية يعود، في أحد جوانبه، إلى السقوط المدوّي للاتحاد السوفييتي، وبالتالي لأي مشروع تحرري عالمي. ما تبقّى اليوم تبعية للغرب، أو للإمبريالية الروسية أو الصينية في الشرق، دون أي بعد أخلاقي.
النسبوية، في جوهرها، تخلّيْ عن الأحلام الكبيرة وعن الرغبة بإصلاح وتغيير هذا العالم. هي ليست، كما يدّعي المؤمنون بها، قوة تحرر من الإمبريالية. لا تستطيع النسبوية، لقبولها بنسبية القيم، الدفاع عن البشر في وجه القمع الذي يتعرّضون له. على العكس من ذلك، تعبّد النسبوية الطريق لكافة أشكال الفاشية اليمينية، من تفوّق العرق الأبيض إلى ’القاعدة‘ وداعش. في غياب منطق أخلاقي يرى كل البشر كأفراد لهم كرامة محفوظة بغض النظر عن الفوارق بينهم، سنتحوّل إلى شعوب متحاربة لا تتحاور ولا تتفاهم، ولا حتّى بالحدّ الادنى.
تُتيح النسبوية لنا أن نتجاهل عذابات وآلام كل من يختلف عنا، بل وأن نبرّرها. أنا لم أزر يوماً كوريا الشمالية، ولم ألتقيْ بأي كوري شمالي، ولكنني أجزم بأن الديكتاتور الكوري الصغير مجرم وبأن الكوريين يستحقون أفضل بكثير من نظام القمع الهمجي هذا؛ لم أعش في الستينيات ولم أزر فيتنام يوماً، إلا أنني أجزم بأن الحرب الأميركية كانت اعتداءً على شعب آمن وخلّفت ملايين القتلى والجرحى والمعذّبين؛ لم أزر العراق يوماً، إلا أنني أؤمن بأن في حلبجة ضحايا وجزّارين: الضحية هم الأكراد والجزّار هو صدام ومعاونوه؛ لا أكاد أعرف جغرافيا أميركا اللاتينية، إلا أنني أعرف أن بينوشيه قتل الآلاف بدم بارد وبمباركة غربية؛ بالرغم من عدائي للصهيونية، إلا أنني أقشعر من هول معسكرات الاعتقال النازية وفظائع الهولوكوست. جميع هذه الأحكام الأخلاقية قائمة على إيمان عميق بالمساواة بين جميع البشر، بغض النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطبقي. النسبوي، بالمقابل، إن كان متّسقاً وصادقاً مع نفسه، لن يجد أي سبب لإدانة مثل هذه الفظاعات.
الإيمان بقيم عالمية تحررية مشتركة يجعلنا نتعاطف دوماً مع الإنسان العادي في محنته اليومية: مواجهة السلطات التي تقمعه، سواء كانت ديكتاتورية عارية صرف، كما هو الحال في السعودية والسودان والبحرين وسوريا وغيرها؛ أو كانت مقنّعة بديمقراطيات مشوّهة، تحافظ على الحد الأدنى من حقوق الإنسان، باستثناء الحرية الاقتصادية، ولكنها تعيث فساداً على المستوى العالمي، كما هو حال الدول الإمبريالية الغربية. في غياب مثل هذا الإيمان، تسود النسبوية، ومن ورائها الاستشراق والاستشراق المعكوس.
ما أود قوله إذن هو التالي: المطلوب تعميم التنوير والبناء عليه وليس التخلي عنه. عالم اليوم بحاجة إلى إحياء حركة عالمية تتيح لنا مواجهة الإمبريالية وصنائعها في العالم الثالث؛ وبحاجة أيضاً إلى رؤية تستبدل الليبرالية الاقتصادية بشكلها الأكثر عنفاً المنتشر اليوم بحركة يسار عالمية ديمقراطية تحررية؛ وبحاجة إلى تعاطف يجمع بين المسلمين والغربيين، تعاطف يجمع بين ضحايا الإرهاب في المدرسة الباكستانية وضحايا هجمات 11 أيلول، بين ضحايا الاحتلال الأميركي للعراق وضحايا صدّام، بين ضحايا كيماوي الغوطة وضحايا القمع في البحرين؛ وبحاجة إلى تقريب الشرق من الغرب، والشمال من الجنوب، على أساس رفع الظلم وإعادة الكرامة لكل فرد بشري في كل مكان.
العالم اليوم بحاجة إلى التخلص من الاستشراق والاستشراق المعكوس، ومن أساسهما النظري: النسبوية .
فقط الإيمان بأن البشر، كل البشر، متشابهون في العمق في سعيهم لحياة كريمة حرة سيجعلنا نتخطّى هذا العصر المُظلم نحو عالم اكثر عدلاً وكرامةً.