لاقى كتاب الروائي الفرنسي ميشيل هولبيك الأخير خضوع إقبالاً كبيراً منذ إصداره في نهاية سنة 2014 الفائتة. في مقابلة أجرتها ماري لومونييه مع فتحي بن سلامة، ونُشرت في «الأوبسرفاتور» الشهر الماضي (والمُترجمة أدناه)، يقترح بن سلامة، المحلل النفسي، قراءة نفسية ملفتة للكتاب ومايمثله في عصرنا الحالي. علاوة على القراءة النفسية، من الملفت التقاء كتاب ومحللين من منابت مختلفة (أوليفيه روا المشتغل بالظاهرة الجهادية وسلوفاي جيجيك الماركسي وفتحي بن سلامة المحلل النفسي) على رسم ملامح الساعي للجهاد كشاب مخيب من القيم السائدة ومن اللامعنى المعمم في زمننا، ومتّجه نحو قضية اكثر حرارة وأكثر اثارة للحماسة.
*****
فتحي بن سلامة محلل نفسي وأستاذ علم الأمراض النفسية في جامعة باريس السابعة «ديدرو» حيث يدير وحدة بحث الدراسات التحليلية النفسية. كتب العديد من الكتب المميزة، من أفضلها مبيعاً كتاب التحليل النفسي والإسلام (فلاماريون 2002)، وقد نشر مؤخراً حرب الذاتيات (ليني 2014)
الأوبسرفاتور: مع كتابه خضوع، يتصدى هولبيك للهوامات الكبيرة التي تعتمل في الوعي الغربي، ويقدم متخيلاً وصول حزب إسلامي إلى سدة السلطة في فرنسا. أعلينا أن نرى في ذلك استفزازاً جديداً من جانب الروائي؟
فتحي بن سلامة: بما أن الإسلام أصبح، بسبب الإسلاموية السياسية، الممسحة التي يمسح بها المختلون والحمقى من كل الأصقاع فائض هواماتهم وتقدمهم باتجاه فعل الإماتة، فإن هولبيك ينتهز الفرصة بدوره. من المؤكد أنه سيكون كتاباً ذا صدى، ويمكننا أن نرى فيه استفزازاً، ولكن ليس بذي أهمية أن نعتبره كذلك ونُحتبس للمرة الألف في منطق الإدانة. علينا برأيي أن نتخذ الكتاب كعرَض للعصر. كان جورج باتاي يقول: «الأدب في حل من المسؤولية بما يكفي ليتلقى تعبير كل ضروب الجنون». إن تعليق المحاكمة الاخلاقية هو القوة الكامنة المؤسسة للتحليل النفسي.
الأوبسرفاتور: ماهو هذا العَرض ؟
بن سلامة: هو الخضوع، الذي يمنح اسمه لعنوان الكتاب، والعبور نحو خضوع أكثر تجذراً، أي الخضوع للإسلام. لأن اعتناق النخب والنظام السياسي المتخيل للإسلام ماهو إلا المبلغ الأخير لتبعية مسبقة للنظام الغربي بليبراليته القصوى المنفلتة، ذلك المزيج من الرأسمالية المنفلتة ومن الاستهلاكية والتقانة العلموية. تلك التي كان هولبيك مُدينها الغائم في رواياته. فالخضوع للإسلام ليس في منتهى المطاف سوى الخضوع الأخير لأولئك الخاضعين قبلاً، أولئك المستسلمين والمرتخين. هو يصنع من ذلك تخيلاً يضم كل المكونات التي نعرفها من «الأدب النكد الحزين» الذي ينتجه، مضيفاً إليه في هذه الحالة بعداً إسلامياً. «الكئيب/النكد» (Morne بالفرنسية) هي كلمة تتكرر غالباً بقلمه، هذا أسلوبه، أي الرجل نفسه، وهدف دلالاته: تصوير عالم غربي متهاو متداع آيل نحو المصيبة.
الأوبسرفاتور: بطريقة غير متوقعة، يصف الراوي اعتناق الإسلام ب «دون ندم». كيف تؤوّل ذلك؟
بن سلامة: المصيبة مشتهاة، أي استيلاء «الأخوة الإسلامية» على السلطة بموافقة الأحزاب الجمهورية الرئيسة وذلك لسد الطريق على الجبهة الوطنية. المصيبة ليست الكارثة، ولكنها تغير يقلب كل شيء، في حين أنه في ظاهر الأمور لا شيء تغير. هذه الثيمة الرئيسة في كتابة المصيبة لموريس بلانشو: اقرأوا المصيبة في معناها التأثيلي الأول: «الوقوع من الجرم السماوي»، أي نهاية عالم يحتضر، الموت يصبح هو الخلاص، هكذا هو الأمر بالنسبة للراوي. فرانسوا هو شخص عليل، يرشح بالملل والخمود ولا معنى الحياة والرغبة بالموت واليأس الجنسي، كل ذلك ضمن «يأس هادئ» حسب تعبير كييركغارد، شيْ يتجاوز «التعب من الذات»، إلى «القرف من الذات». الخضوع أو الاستسلام للإسلام يأتي كخلاص من القلق والارتباك أمام حرية دون حدود، اللايقين واختلاط الأمور التي تولدها الليبرالية التي تفكك البنى الاجتماعية والعائلية و البطريركية وتقضي على الجنسانية . الجنسانية مشكلة حادة ومثقلة عند هولبيك. في كتابه، تُحل المشكلة بالإسلام الذي يكتسب بفعل ذلك جاذبية خاصة، ليس لأن المرء في الإسلام، بالنسبة للكاتب، يختار الشريك الجنسي وحسب بل فضلاً عن ذلك يحوز على نساء بأعمار مختلفة بفضل نظام تعدد الزوجات. هذا ما يوقف الضياع الجنسي، والذي هو أحد أسباب معاناة الشخصية الرئيسة في الرواية.
الأوبسرفاتور: أي أن هولبيك قد يكون يصور لنا الإسلام كإحدى حلول الضيق الغربي؟
بن سلامة: نحن هنا امام نيتشوية راسبة من فكر «الانحطاط». فاعتناق الإسلام بالنهاية هو دعوة للذهاب إلى منتهى الأمور في الاستسلام والخضوع، للخروج من رمادية الاكتئاب ومن متن الانتحار الذي يهدد معظم الشخصيات الهولبيكية، في خضوع المرء، الذي هو نفي لحريته، يخرج من الاضطراب ومن قلق أن يدمر نفسه، لأنه لا يعود مضطراً لصنع خياراته أو لأن يبحث عن معنىً ما لحياته، فقد أصبح لديه قضية عليا. هي عناصر نجدها في خطاب الشبان المنخرطين في الجهاد. فالتزامهم يتعلق بدفاع ما ضد اللامعنى الذي يهدد كينونتهم، الجهاد يمنحهم انطلاقة جديدة، ويمنحهم كذلك إمكانية أن يصبحوا «ملتهبين». الإسلاموية هي الطوباوية الأخيرة للقرن العشرين التي تمنح خيار الرغبة الملتهبة من أجل قضية. إنها تلتقط كل المحتضرين اليائسين الذين لا يستسلمون لفكرة الموت من أجل لا شيء بل من أجل شيء يحيلهم ملتهبين، بما أنه علينا أن نموت، فلنذهب إلى حتفنا بألعاب نارية، هذا مايقوله أولئك الشبان لأنفسهم. بمعنى ما، يتكشف هولبيك عن جهادي كئيب. روايته تتلاعب بالإسلام كعلاج لمرض الغرب المتهاوي. هذا السيناريو غير المعقول البتة يقدم نوع أدبي جديد: الجهاد الأدبي.
الأوبسرفاتور: أيمكننا إذا ان نطلق صفة الإسلاموفوبي على هولبيك؟
بن سلامة: يمكن لذلك أن يكون مكمن قوته، هو يجهض المقولتين المتضادتين رهاب الإسلام «إسلاموفوبيا»/ حب الإسلام «إسلاموفيليا». إنه كتاب على درجة عالية من الانحرافية، يجترح مقولة «الفوبيافيلية» (الرهاب/الحب). من المؤكد أن الرواية تقدم إلى المشهد مكونات الإسلاموفوبيا مع فكرة الاجتياح والرقابة على تربية الناشئة و إحالة النساء إلى وظيفة منزلية حصرية إلخ. ولكن في الوقت نفسه، الكتاب ليس هجوماً على الإسلام قد يؤدي إلى إصدار فتوى، إنه أخبث من ذلك بكثير. تتم موازنة الإسلاموفوبيا بفكرة الإسلام المعتدل، المعاد تدويره. فصورة الرئيس المسلم لا توافق بورتريه الإسلامي، هي ليست الكارثة إذا. بل أفضل من ذلك يُقدّم الإسلام كوجه محبّذ بالنسبة للراوي الذي يأسف لانتهاء النظام البطريركي ويأسف للمساواة بين الرجل والمرأة في الغرب. يقول في كتابه أن الأخوة الإسلامية تشبه حزب «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية»، والنخبة الجامعية ترغب التأسلم، بما أن رئيس جامعة باريسية معروفة أصبح إسلامياً، هو معتنق للإسلام ويلعب دور داعية حاذق. باختصار، الإسلاموفوبيا وحب الإسلام يتعانقان ويحققان معاً هذا التخيل المزدوج. إنه تماماً في روح أعمال هولبيك وشخصياته أن يصل الشيء ونقيضه حتى العطالة التامة. تخضع كتابته لدفوق من الانطوائية السوداوية المستمرة. كان قد صرح في عام 2011 أن الإسلام هو «الدين الأكثر حمقاً»، وهاهو الآن يضعه في سدة السلطة. تقلبه ومراوحته تقوده دوماً إلى اشتهاء ما يمقته، في مفارقة لا تنتهي، حتى إنجاز هذا الأدب الكئيب الذي يأخذ رمزاً له السوشي، ذلك التزاوج بين السمك النيئ والرز الأبيض.
الأوبسرفاتور: وماذا يخبرنا كل ذلك عن الصحة النفسية لفرنسا؟
بن سلامة: خضوع تظهر المزاج، المبالغ فيه طبعاً، لأوربا منزوع عنها الأمثلة، لفرنسا مكتئبة، «مريضة متوهمة» في استعادة لكلمات الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد بول كروغمان. تقوم دور النشر الفرنسية بأكبر اصداراتها مع كتاب فاليري تريرفيلر التي تعرض وضاعة القضاء الفرنسي، ايريك زيمور الذي يعلن عن انتحار فرنسي، جوقة من دعاة الانحطاط والتي سينضم إليها، دون شك، ميشيل هولبيك مع هوامه عن الاجتياح الإسلامي، ماذا يتبقى كحيز للخطابات الأخرى؟ لا يمكننا أن نفعل أفضل من ذلك للإنباء بقدوم الأسوأ، كل ذلك لا ينبئ بالجيد. جلّ ما أخشاه ألا يكون كل ذلك سوى الإشارات الأولى المنبئة بانتفاضات وتمردات غير مسبوقة ستحصل في أوربا، وأن المسلمين سيكونون كبش الفداء. انتفاضة أي شيء ضد أي شيء لأن البنى الأيديولوجية تشظّت.