باريس مبتهجة، فالحشد كبير. إنه يوم الأحد، الحادي عشر من شهر كانون الثاني؛ مئات آلاف المتظاهرين في الشوارع، أما السلطة المتضامنة مع حرية تعبير «شارلي ابدو» فقد حجزت مكانها في الصف الأول.

في ذلك اليوم، لم يكن بمستطاع عاصمة الموضة أن تقاوم الحنين إلى زمن المركزية الأوروبية. وهو الزمن الذي أنهاه جنرال متجهم، أعلن في «خطاب الأمل» (12 دقيقة) عن خطته لانتشال القارة العجوز من الخراب الذي ألحقته بها «حربها» العالمية الثانية، وهو وزير الخارجية الأميركي الأسبق، الحاصل على نوبل، جورج مارشال.

الإحالة إلى زمن الخراب الأوروبي، الفاشي والنازي، ومعه الانتشال الأميركي والنوستالجيا، قام بها أحد مراسلي القناة الفرنسية الأولى حين ذكر، خلال تغطيته لمليونية باريس، أن بلده لم يشهد تظاهرة بهذا الحجم منذ الانتصار على النازية.

ما قاله المراسل ينطوي على حقيقة أن التاريخ يعيد نفسه فعلاً، مرة على شكل «منظمة شباب هتلر» ومرة على شكل «منظمة شباب محمد» فرضاً.

[quotes]شكّلت «الحرب على الإرهاب» لحظة إعلانها، وفي السياق التاريخي الذي أعلنت خلاله، وفي كيفية خوضها، فضلاً عن مآلاتها، الملامح للأولى لزمن الشمولية العالمي الجديد.[/quotes]

من جهتها، وبنبرة توحي بضروروتين متناقضتين؛ الحرب والسلام، تكتفي عجوز باريسية بالتصريح لأحد مراسلي قنوات التلفزة قائلة: «طفح كيلنا!».

إحالة المراسل مع كيل العجوز الذي طفح يوحيان باقتراب موعد الولادة الناجزة للشمولية العالمية الجديدة، بعد أن تشكلت جنينياً مطلع العقد الأخير من القرن الماضي.

وكانت ملامحها الأولى قد بدأت بالظهور قبل نحو أربعة عشر عاماً، حين شهدت الإنسانية حدثاً قيامياً تمثل في تمكن تسعة عشر شخصاً من قتل ألوف الأشخاص، وتدمير رموز بشرية كبرى، متجسّدة بأبنية، في مدينتي نيويورك ومنهاتن الأميركيتين، وباستخدام أدوات غير عسكرية. وهو الحدث الذي لم يجد من يتدبره سوى جورج بوش الابن الذي يبقَ، كما كان يقول، على اتصال دائم تقريباً مع الله.

شكّلت «الحرب على الإرهاب» لحظة إعلانها، وفي السياق التاريخي الذي أعلنت خلاله، وفي كيفية خوضها، فضلاً عن مآلاتها، الملامح للأولى لزمن الشمولية العالمي الجديد. وكان محقاً من وصف الأمر، حينها، بأنه فرض لـ «قانون طوارئ عالمي»، مع ما يستدعيه من أحكام عرفية «ثأرية»، بعدما صدر الإشهار التالي: من ليس معنا فهو ضدنا؛ إذ تستبعد الشمولية السياسة لأنها تدافع عن قيم، والمسيرات الكبرى من هواياتها المفضلة.

بهذا المعنى، وضمن هذا السياق، مثّلت تظاهرة باريس اللحظة التي توفر لاستراتيجية «الحرب على الإرهاب» الإمكانية للانتقال من خيار سلطوي محض لمنظومة الهيمنة العالمية، إلى استراتيجية شمولية مدعومة «جماهيرياً». إذ بلقاء الحشد مع السلطة للدفاع عن القيم، يتحوّل أي صراع قائم أو محتمل إلى صراع هويات، وتمايزات ثقافية، ما يعني حرب وجود تنتفي معها السياسة، فالمتظاهرون الذين أرادوا التعبير عن تضامنهم  مع قيمة حرية التعبير، على طريقة «شارلي ابدو»، هم أنفسهم من يدفعون باتجاه العمل على «نقاء» ثقافي يستدعي، حكماً، صراعاً مع الآخر، أفراداً ورموزاً وجماعات، وسيكون الصراع أشد حين تشترك الجماعات الثقافية بكيان الدولة القومية، الذي لم يعد يطابق هويته … المتخيلة طبعاً.

[quotes]الشمولية الجديدة ليست شمولية نظام بل شمولية منظومة، الأمر الذي دلّ عليه مشاركة ذاك الخليط العجيب من الساسة، وبعضهم ممن لا يحترم في بلاده «حق الحياة» حتى. [/quotes]

لم يجد مسلمون، بالولادة، ممن رغبوا في الانضمام إلى التظاهرة مكاناً لهم، إذ أقصاهم، بطريقة غير مباشرة، متظاهرون فرنسيون أصرّوا على رفع الصور التي نشرتها «شارلي ابدو» والمعتبرة مسيئة لرموز كبرى لدى المسلمين.

وبعدها بأيام، شهدت فرنسا تحقيقات أجرتها الشرطة مع طفل يبلغ عمره 8 سنوات، قال مسؤولو مدرسته أنه «مدح الهجوم على شارلي ابدو»، جرى ذلك بعدما سنّت الحكومة الفرنسية قوانين تجرّم إعلان التعاطف مع أعمال الإرهاب، والتي أدانت، خلال أيام، أشخاصاً في تولوز وتولون وستراسبوغ.

الشمولية الجديدة ليست شمولية نظام بل شمولية منظومة، الأمر الذي دلّ عليه مشاركة ذاك الخليط العجيب من الساسة، وبعضهم ممن لا يحترم في بلاده «حق الحياة» حتى.

مثلت المسيرات الكبرى، التي يقودها زعماء أو تجري تحت أعينهم، معلماً أساسيّاً من معالم الأنظمة الشمولية بصفتها، أولاً، هزيمة القيم الليبرالية، قيم الفردية والمواطنة، وانتصاراً للحشد على الفرد، مع ما يستتبعه ذلك من قدرة النظام وحده، المدعوم بالحشود، على رسم الخط الفاصل بين الخير والشر. بمعنى قدرته على الدفاع عن «القيم الثقافية» التي تختلف عن الحقوق، إذ تحيل إلى تمايزات مقدسة، لا سبيل إلى  مراجعتها، أو نقد النظام الاجتماعي الذي أُنتجت وتطوّرت في سياقه، بصفتها روح الجماعة.

وبعدما أدت الإسلاموفوبيا دورها في إيجاد قناة لتصريف العنف الكامن في مجتمعات ما بعد الحداثة، والذي يتواصل منسوب ارتفاعه على إيقاع وضع اقتصادي آخذ في التدهور من جهة، وأزمة  كبرى يكابدها نموذج الدولة القومية، فرنسا تحديداً، من جهة أخرى. فإن تظاهرات اليوم تذكر بالتظاهرات الكبرى التي شهدتها مدنٌ عالمية عدة عشية الحرب على العراق، غير أن عنصراً جديداً قد دخل في منطق الصراع منذ ذلك الحين: وحدها الحشود التي تهتف للحرب مرئية من قبل منظومة السلطة المهمينة.

المفارقة، التي تتكفل بالتأكيد على أن التاريخ يعيد نفسه كمهزلة، هو أن فرنسا، التي رفضت الحرب آنذاك، هي من وقع عليها الاختيار لتشهد الولادة المكتملة للشمولية الجديدة ولتتزعم، عبر التظاهرة، الدعوة غير المعلنة إلى العنف، إذ لا يحق لعاصمة الموضة أن تتأخر عن اللحاق بموضة السياسة الجديدة، وهي اليوم «الحرب على الإرهاب».

وهو أمرٌ تجسّد في التحالف الدولي للحرب على «داعش» الذي كشف، هو الآخر، عن جانب جديد من «عقل» الشمولية الجديدة. ففي وقت قيل فيه الكثير عن غياب استراتيجية لعمل التحالف، لم يُقَل شيءٌ عن اعتماد الديمقراطيات الغربية الليبيرالية الثأر كاستراتيجية.