خمسة، هو عدد أعضاء الطاقم السينمائي لداعش، الذين أعدوا مقطع الفيديو المتضمن عملية إعدام الطيار الأردني، معاذ الكساسبة.
ولدوا جميعاً في البرتغال، قبل أن ينتقلوا للعيش في بريطانيا. وقبل أن يكونوا ما هم عليه؛ «جهاديون» تحت مظلة داعش، هم كباقي أفراد جيلهم، أبناء عصر الصورة، والإثارة، والحركة، والعنف، والحياة المبنية على قيم الثروة والنفوذ.
حمل الشبان الخمسة مع ما يعتبرونه، وسينظر إليه، معنى وجودهم، أي العمل الإجرامي تحت مسمى «الجهاد»، سحر الصورة السائد في العالم، والذي تتخذ هوليوود موقعاً مركزياً وأساسياً في إنتاجه، إن لم يكن المركزي والأساسي.
ليست هوليوود المقصودة هنا تلك المدينة الأميركية الواقعة في ولاية كاليفورنيا، التي تنتج فناً مسلياً وممتعاً، بل هوليوود كرمز لعالمنا؛ هوليوود الشهرة والثراء والنفوذ والهيمنة، وبصفتها، أيضاً، وقبل كل ذلك، نوعاً من الخطاب السحري ـ اللامعقول، الذي يعطّل الإدراكات المنطقية كونه يصدر عن مخيلة إبداعية، والذي «يقصف» العالم، معطياً إياه صورة ما عن نفسه.
وهوليوود أيضاً هي مضخة العنف البصري الذي لا يتوقف، منذ رامبو الذي تولى أمر الدفاع عن حربٍ كحرب بلاده في فيتنام، إلى أفلام القتلة المتسلسلين، التي نبدو جميعاً، من خلالها، «قتلة بالفطرة».
[quotes]يبدو داعش وكأنه رد سحري، يتجسد في العنف العدمي، على هيمنة هوليوود بما تمثله من قيم على الأصعدة الرمزية والسياسية والاقتصادية والإعلامية.[/quotes]
يتهيأ لأفراد من القاع الاجتماعي، غير معترف بهم كبشر، أن بإمكانهم الانخراط في صراع ضد هوليوود وعالمها وقيمه. يوفر داعش لمثل هؤلاء إمكانية هذا الصراع، عبر الخطاب السحري المطلق، كون التنظيم لا يتنازل عن أن يكون تجسيداً لحكم الله (أو الله نفسه) في هذه الدنيا، ولضمان جنته في الآخرة، أي، باختصار، خطاب السحر الذي اتفقت البشرية، في لحظة ما من تاريخها وصفت بالتنوير، على نزعه عن وجه العالم بهدف «تقدمها».
تعبّر محاكاة هوليوود، عن أية جهة صدرت، وفي أي سياق تمت، عن رغبة في تحقيق كل ما تمثله من قيم، والأهم، تعميم «خطاب سحري» حيال العالم وأوضاعه.
بهذا المعنى، يبدو داعش وكأنه رد سحري، يتجسد في العنف العدمي، على هيمنة هوليوود بما تمثله من قيم على الأصعدة الرمزية والسياسية والاقتصادية والإعلامية.
وهي الهيمنة التي تترجم، سياسيّاً، بإحكام عالم الشمال سيطرته على عالم الجنوب، وتترجم، أحياناً، بعنف أعمى يمارسه الأوّل ضد الأخير، من دون أن يكون منضبطاً بأيّة غايات سياسية نبيلة، إلا أنه عنف السلطة الممارس بسيوف العصر وسكاكينه ونيرانه: الطائرات والصواريخ الذكية والبوارج الحربية، وهو لهذا عنف شرعي، بمعنى أن طاقة الاعتراض عليه ومساءلته ونقده شبه معدومة، أو لا تأثير لها على الأقل. وتسهم وحشية داعش في إسباغ الشرعية على ذلك العنف إلى الدرجة التي يبدو معها أن من يمارسه هو المنقذ والمخلص، تماماً كأبطال هوليوود.
يقدم مقطع فيديو إعدام الطيار الأردني معطىً جديداً، وثميناً ربما، يمكن على أساسه تعميق المعرفة بماهية داعش، ما قد يسهم في التحرر من نظرة سائدة، تنهض على شعور مستفز، لا ترى في داعش سوى تنظيم إرهابي إسلامي متطرف. فداعش، على ما بدا حتى اليوم، أكثر من ذلك، وأكبر من أن تحسم أمر معرفته بصفته مجموعة من اللقطاء المجرمين القادمين من زمن آخر، افتراضي، يجري تصويره كزمن مغرق في ظلاميته و«تخلّفه»، «سينمائيو داعش» يؤكدون ذلك، وكذلك الدهشة المتكررة الممزوجة باللايقين حيال «فنون الموت» الداعشية.
وفي وقت لا يكف فيه التنظيم عن ترجمة انفصاله عن الواقع، عبر عدمية تتجسّد صورتها المثلى في القتل، أو الموت، بمعنييه المادي والرمزي، ما يشكل إدانة متواصلة ولانهائية للعصر وللحياة كقيمة، فإنه، في المقابل، يبدي هوساً شبقياً في الانتساب إليه، وفي امتلاكها. ليس فحسب عبر قتاله الشرس للسيطرة على المزيد من الأراضي، بل وأيضاً عبر توظيفه وسيلة العصر الأكثر انتشاراً وانحطاطاً في آن واحد؛ الإبهار البصري على الطريقة الهوليودية.
[quotes]داعش أكبر من أن تحسم أمر معرفته بصفته مجموعة من اللقطاء المجرمين القادمين من زمن آخر، افتراضي، يجري تصويره كزمن مغرق في ظلاميته و«تخلّفه»، «سينمائيو داعش» يؤكدون ذلك. [/quotes]
والحال، يكشف التنظيم عن وجه خفي تحجبه أقنعة الرؤوس والوجوه التي يرتديها مقاتلوه عادة، علماً أنه الوجه الذي «يؤنسن» التنظيم، بمعنى وضعه في السياق التاريخي لعالم القرية الكونية، الأمر الذي يردّ على إخراجه من العصر، كمقدمة ضرورية لاعتماد العنف سبيلاً وحيداً للقضاء عليه، وهو ما فشل العالم في تحقيقه حتى اليوم، وسيفشل دوماً.
كلما أسرف داعش في القطيعة مع الواقع، بدا ذلك تعبيراً عن قطيعة متمادية مع ما يفترض أنه اللاهوت الذي تنهض عليه أيديولوجيا التنظيم المعلنة. وليس شيءٌ بلا قيمة أكثر من السجالات التي دارت بعد بث مقطع فيديو إعدام الكساسبة، التي ذهبت للبحث في تأويلات وتفسيرات، أو «تحليل وتحريم»، لإعدام الشاب الأردني وفق فتاوى إسلامية؛ فما يجري الآن، من صراع على السلطة والثروة، وأشكال العنف الموظفة فيه، والذي يشكّل أساساً لصراع آخر يجري على مستوى الرموز والقيم، يتعيّن تأويله وتدّبره بديناميكياتِ الآن.
بقدر ما يمكن لإجماع عالمي ضد التنظيم أن يلتئم، بقدر ما ينبغي النظر إلى داعش كمعضلة إنسانية، لا تنتسب إلى دين أو حضارة بحد ذاتها، فداعش هو صورة لكراهية العالم لنفسه ولقيمه السائدة. وليس سوى مضيعة للوقت، واستخفاف بالأرواح، البحث عن آباء له في أزمنة خلت، فداعش، الذي يحاكي هوليوود، هو ابن العصر، ابنه الرهيب.