وفرت انقسامات المعارضة هامش مناورة واسعاً للدولة الأسدية، بصورة يمكن أن تلقي ضوءاً على المصاعب التي واجهتها الثورة السورية حتى قبل بدء انهيار الإطار الوطني للصراع السوري في النصف الثاني من عام 2012. يستفيد المعسكر الأسدي من خصومة بعض معارضيه لبعضهم، من أجل إضعاف كلهم، وضرب قضيتهم الجامعة المفترضة.
لا نتكلم على التباين بين علمانيين وإسلاميين فقط، وإنما على الطيف العلماني أيضاً، حيث كانت الانقسامات معنِّدة بدرجة يستعصي فهمها على المراقب الخارجي، ولا تتوفر أداوت نظرية ومواد تاريخية للإحاطة بها حتى للمتابعين الداخليين. وبينما ستحاول هذه المقالة توفير إطار تحليلي للتفكير في انقسامات الطيف العلماني، يلزم القول أن ضعف المنحى الاستيعابي في فكر وسياسة الإسلاميين أسهم بدوره في توسيع هامش مناورة النظام. أعني الانفتاح النفسي والفكري على المجتمع السوري في تنوعه، والاستعداد الفكري والسياسي للتفاعل الإيجابي مع مجموعات وتيارات أخرى، بما فيها اللادينيين من منابت إسلامية، ومن هم من أديان وجماعات مذهبية أخرى، مما هو قائم فعلياً في مجتمعنا، ومما لا تقوم قائمة لوطنية سورية جامعة على غير أرضيته.
في الفكر الإسلامي المعاصر استعداد ضعيف للاستيعاب، وميل تكويني قوي إلى التشدد والاستبعاد، متوافق مع إدارة الظهر للواقع الاجتماعي المركب والمتغير من جهة، ومع التمركز حول المعتقد الديني الصحيح الملزم من جهة ثانية، وهذا في مجتمع متعدد الأديان والمذاهب. في هذا كان الإسلاميون سنداً للنظام بقدر يفوق انقسامات المعارضة العلمانية.
في المحصلة، تنتفع الدولة الأسدية من تطرف توجهات الإسلاميين السياسية من جهة، ومن انقسامات العلمانيين من جهة ثانية، كي لا يكون لها من بديل غير نفسها.
على أن هذه المقالة ستقتصر على جذور انقسامات المعارضة العلمانية.
دولتان، ظاهرة وباطنة
ليس ما يميز طيف المعارضة العلمانية السورية تعدد تياراتها وتباين توجهاتها الفكرية والسياسية، بل الطابع المزمن والمُعنِّد لانقساماتها من جهة، وشحنة الكراهية والتوتر لبعض تياراتها حيال بعض آخر، بدرجة تفوق بمراحل شحنة مخاصمة النظام التي يفترض أنها توحد الجميع بوصفهم معارضين. هذا هو ما يرجح أن لانقسام المعارضين السوريين محددات بنيوية غير ظاهرة، تخالف ما يسوقونه لشرحه وتسويغه من تزكية للنفس ونيل من الغير. هذه المحددات هي ما سنتقصاها هنا.
ماذا يعارض المعارضون؟ للوهلة الأولى تبدو الإجابة بديهية: يعارضون «النظام» الذي لا يكاد يوجد من بينهم ممن لا يصفه بالمستبد الفاسد في أقل تقدير. لكن عند التدقيق تتغيّم هذه البداهة الكاذبة، ويغدو إحراز قدر من الوضوح مرهوناً بنقدها وتجاوزها.
منذ وقت مبكر من الزمن الأسدي، انتظمت الأمور العامة في سورية على شكل ثنائية بنيوية على مستوى الدولة (دولة ظاهرة ودولة باطنة)، وعلى مستوى السلطة (سلطة سياسية وسلطة دينية). ومنذ الآن نقول إن هذا الازدواج على مستويين هو منبع ازدواج المعارضة السورية نفسها.
على مستوى الدولة، لدينا ثنائية الدولة الظاهرة والدولة الباطنة التي ساعدت الثورة السورية في إظهارها بجلاء. الدولة الظاهرة هي مؤسسات الدولة العامة من حكومة وإدارة وتعليم وجيش عام و«قطاع عام» اقتصادي، أما الدولة الباطنة فهي المركب السياسي الأمني الذي يحكم البلد فعلياً وبيده سلطة القرار. الدولة الظاهرة سورية عامة، لكنها بلا سلطة فعلية، وتشكل قناعاً بنيوياً للدولة الباطنة، وهذه الأخيرة أسرية وطائفية بصورة حاسمة. ورغم أن الأمر لم يكن خافياً كثيراً قبل الثورة، إلا أن ما طال الدولة الظاهرة من انشقاقات أصابت الجيش والحكومة والإدارة والقضاء والإعلام والتعليم أثناء الثورة، دون أن يمس موطن القرار والنفوذ الفعلي في الدولة الباطنة، رفع النقاب عن وجه هذه الثنائية.
ترسخت ثنائية الدولتين عبر السنين والعقود، ومن محطاتها الأساسية «الحرب الأسدية الأولى» 1979-1982، ثم توريث الحكم عام 2000، وصولا إلى «الحرب الأسدية الثانية» المستمرة منذ ما يقترب من 4 سنوات.
ومثلما هناك ازدواج في الدولة هناك ازدواج في المعارضة: معارضة للدولة الظاهرة ومعارضة للدولة الباطنة، مع حدود غائمة بين التوجهين. يتيح هذا الازدواج خلط الأوراق وتلبيس المواقف والمواقع، من وراء ما يبدو من وحدة القضية والتوجه. بين المعارضين مثلاً من تتفوق معارضتهم للدولة الظاهرة على معارضتهم للدولة الباطنة، إن لم يكن بعضهم على ولاء لها. قبل الثورة مثلاً كان ينضوي تحت العنوان العام لـ«المعارضة» مجموعات تنسب نفسها إلى «المجتمع المدني» أو حقوق المرأة، أو العمل في مجال الثقافة، وبعد الثورة وقفت إلى جانب النظام. وساند معارضون آخرون ما يسمونه «الجيش العربي السوري»، في ضرب من الاستتار وراء الصفة العامة الشكلية للجيش، التي لا تخفي حقيقة أنه يخوض اليوم معركة الدولة الخاصة أو الباطنة.
بالمقابل، هناك من تتوجه معارضتهم إلى الدولة الباطنة، مقر السلطة الفعلي، وإن قلما يكون لهم كلام واضح بشأن الدولة الظاهرة. يفترض عموماً أن هذه لا تطرح مشكلة خاصة، أو أنها، بالعكس، هي «الدولة» العامة التي يريد السوريون استبقاءها وإعادة بنائها. درج بين المعارضين السوريين أيام «ربيع مشق» تمييز بين الدولة والسلطة، وينحازون للأولى ضد الثانية. ليس هذا التمييز مرهفاً كفاية، ويفتقر إلى الحس الجدلي (هل يبقى شيء من عمومية «دولة» تنخرها «السلطة» نحو نصف قرن؟)، لكنه يحيل بصورة ما إلى ثنائية الدولتين.
وبقدر ما إن الدولة الباطنة طائفية وعائلية، يمكن لإفرادها وحدها بالاعتراض أن يحيل إلى انحيازات طائفية معاكسة، لا تعترض على هذه الازدواج البنيوي الذي يقوض الدولة العامة، بل على المنابت الطائفية لشاغلي مواقع الحكم الفعلية.
ولذلك فإنه إذا كانت معارضة الدولة الظاهرة هي في حقيقتها موالاة، فإن معارضة الدولة الباطنة ليست بالضرورة المعارضة الحقيقية أو الجذرية. فقد تكون معارضة طائفية بكل بساطة. لا جذرية ممكنة فيما نرى، دون تجاوز شرط الدولتين بمجمله (ومعه شرط السلطتين الذي سنتكلم عنه بعد قليل).
وليست الدولتان سلبيتين حيال انقسامات المعارضة. تعمل الفاعلة منهما، الدولة الباطنة، على حصر المعارضة بالدولة الظاهرة. يُفسَح هامش واسع، مثلاً، لنقد الحكومة، وكان يقال علنا لمديري صحف ومواقع إنترنت مثلاً إنه مباح لهم نقد «الجميع»، من رئيس الوزراء فما دون. هذا يترك خارج النقد رئيس الدولة وأسرته، وبالطبع الأجهزة الأمنية التي هي من تملى مساحة المسموح به هذه، أي كل ما هو مهم فعلاً. الدولة الباطنة واعية جداً لحقيقة تميزها عن الدولة الظاهرة، ولا تنتظر أن يعي معارضون ذلك أو لا يعوه. وهي تبني سياستها على وعيها هذا، فتشجع نقد الدولة الظاهرة، وتمتص طاقات قطاع من العاملين في الشأن العام عبر هذا الهامش. معلوم أن الحكومة في سورية منذ بداية الزمن الأسدي منزوعة السياسة، وهي لا تكاد تزيد في شيء عن كونها بلدية كبيرة (نستثني من ذلك وزارات الدفاع والخارجية والإعلام، وهي تتبع الدولة الباطنة مباشرة على كل حال). ولطالما كان الأجسر في نقد الحكومة هم الأقرب إلى المخابرات، وأسفر بعضهم عن وجه فاشي بعد انفجار الثورة.
والمهم أن التباس الدولة هذا يوفر أساساً لالتباس المعارضة وغطاءاً لصراعات بالغة الضراوة في أوساطها، من وراء مظهر الوحدة الخادع. لقد بقيت النقاشات حول انقسامات المعارضة العلمانية محكومة بالتفضيلات الذاتية والانحيازات الإيديولوجية، ورغم ثباتها العجيب لم يجر النظر في الأصول البنيوية لهذه الانقسامات المتوترة في الدولة والمجتمع السوري. هذا لأن المعارضة السورية لا تنتج معرفة منذ عقود، وتكاد ترتد منذ مطلع القرن الحالي إلى آلة لإنتاج وإعادة إنتاج الخصومة ضمن أوساطها الخاصة، لا أكثر.
سلطتان، سياسية ودينية
المنبع البنيوي الآخر لانقسام المعارضة السورية يتمثل فيما يترتب على وضع الدين العام في سورية، وهو الإسلام السني، من ازدواج في السيادة، وتقسيم طائفي للعمومية. يستأثر الإسلام السني بسلطة تعريف الإسلام (مثلما تستأثر الدولة الباطنة بسلطة تعريف الوطنية)، ويجري تعليمه في المدارس لكل غير المسيحيين، ومنه تستمد الأحوال الشخصية لغير المسيحيين والدروز، والطقوس الإسلامية التي تنقل في وسائل الإعلام العامة سنية، ودين رئيس الجمهورية المفترض وممارساته الدينية العلنية إسلامية سنية. وهو بهذا يحوز بعداً سيادياً يتمثل تحديداً في هيمنته على غير مسلمين سنيين (وعلى مسلمين سنيين لم يطلب قولهم في شأن شموله لهم).
في المحصلة السنيون هم الطائفة الدينية العامة، مثلما تتشكل الطائفة السياسية العامة من العلويين الذين يحوزون نفاذاً امتيازياً إلى مراتب السلطة الفعلية، ويجري الاعتماد عليهم تفضيلياً في ركائزها الأمنية والعسكرية، ويعتمد عليهم النظام في إعاد إنتاج نفسه.
مفهوم الطائفة العامة متناقض جداً كما هو ظاهر، لكن هذا لا ينال من واقعيته. يتماهى سنيون بالإسلام بيسر أكبر من غيرهم، مثلما يتماهى علويون بالنظام بيسر أكبر من غيرهم أيضاً. ويتقدم تشكل المجموعتين كطوائف عبر هذه التماهيات التفاضلية. هذه عمليات تاريخية، متحولة ونسبية بطبيعة الحال، ولا تستغرق المجموعتين تماماً، لكنها تميزهما بقدر كبير عن غيرهما.
مظهر السلطة الواحدة، المزدوجة فعلياً، هو هنا أيضاً مصدر تغذية لمظهر المعارضة الواحدة، غير الواحدة في الواقع. ربما نعارض السلطة الدينية العامة دون أن نعارض السلطة السياسة العامة، بل قد يكون معارضي الأولى على أشد الولاء للأخيرة. وبالمقابل، هناك معارضون للسلطة السياسية العامة، لا يعارضون السلطة الدينية العامة، ولا يقولون عنها شيئاً، ولا يعترضون على ثنائية السيادة.
التيار الثقافوي العلماني، مثلاً، هو معارض في واقع الأمر للسلطة الدينية العامة، وللإسلاميين طبعا، وهو أقل معارضة، أو غير معارض، بل وحتى موال، للسلطة السياسية العامة. وبالعكس، التيار الثقافوي الإسلامي، يعارض السلطة السياسة العامة، وإما أنه لا يعارض السلطة الدينية، أو هو يعارض تبعيتها للسلطة السياسية، وليس عمومية سلطتها الدينية، أو مشاركتها في بعض أوجه السيادة.
وهنا أيضاً لا تتقابل هذه الثنائية مع ثنائية معارضة جذرية ومعارضة معتدلة. لا جذرية ممكنة، مرة أخرى، دون تجاوز هذا الازدواج في السلطة (ومعه ازدواج الدولتين)، وبما ينفتح على إعادة تأسيس جذرية للدولة في سورية. لكن ازدواج السلطة مثل ازدواج الدولة منبع لازدواج المعارضة والتباس مواقعها ومواقفها.
«أُمَّتان»
ليس هناك تطابق حتمي بين معارضي الدولة الظاهرة ومعارضي السلطة الدينية العامة أو وضع الطائفة العامة الدينية، أو بين معارضة الدول الباطنة وبين معارضة السلطة السياسية العامة أو وضع الطائفة العامة السياسية. لدينا، بالأحرى، جدول يمكن تصور جميع المواقف الممكنة فيه. الحدان الأقصيان هما موالاة الدولتين والسلطتين، ثم معارضة الدولتين والسلطتين، وبينهما مروحة من مزائج موالاة واحدة أو اثنتين أو ثلاثة من الأربعة ومعارضة ثلاثة أو اثنتين أو واحدة منها: معارضة الدولة الظاهرة/ موالاة الدولة الباطنة/ موالاة السلطة السياسة العامة/ موالاة السلطة الدينية العامة؛ موالاة الدولة الظاهرة/ معارضة الدولة الباطنة/ موالاة السلطة السياسة العامة/ موالاة السلطة الدينية العامة؛ موالاة الدولة الظاهرة/ موالاة الدولة الباطنة/ معارضة السلطة السياسة العامة/ موالاة السلطة الدينية العامة؛ موالاة الدولة الظاهرة/ معارضة الدولة الباطنة/ موالاة السلطة السياسة العامة/ معارضة السلطة الدينية العامة؛ معارضة الدولة الظاهرة/ موالاة الدولة الباطنة/ موالاة السلطة السياسة العامة/ موالاة السلطة الدينية العامة…، وهكذا وصولا إلى معارضة كلية للدولتين والسلطتين.
ليست بعض المواقف ممكنة، مثلاً الجمع بين معارضة الدولتين وموالاة السلطتين، لكن الحقل المكون من دولتين وسلطتين، ومن موقفين موال ومعارض، يشمل المجتمع السوري، ويشكل أرخبيلاً متفاوت الكثافة تتوزع عليه المواقع والمواقف.
هذا الوضع البنيوي المعقد، المديد، وغير المدروس، مصدر لالتباسات ومخاتلات لا تحصى. وأهم من أنه ينعكس تنازعا ضمن «المعارضة»، فإنه يقول شيئاً مهماً جداً: إن حقل السياسة في سورية أوسع بما لا يقاس من حقل السلطة السياسية بالمعنى الضيق للعبارة، وهو يحيل على الأقل إلى قوتين أخريين: الطوائف والطائفية، والدين/ الأديان. أو لنقل إن حقل السياسة متشكل من تفاعل ثلاثة قوى: الدولة، الدين، الطائفة؛ الدولة كمنطق عام وأجهزة حكم، والدين كقراءات وتعاليم محددة، تنحدر أصولها إلينا من أزمنة قديمة، والطوائف كعصبيات معطاة ومصنوعة في آن معاً، ولها امتدادات إقليمية ودولية.
فاقم تكون النظام الأسدي ورهانه على البقاء الأبدي هذه الأوضاع، وزاد المشكلات المعقدة تعقيداً، وصولاً إلى الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه قبل الثورة حيال أمتين، تعيشان قرب بعضهما، لكن لا تتبادلان غير كلام سطحي، ولا تجمع بينهما أواصر قربى معنوية وفكرية وسياسية. يتشابك هنا واقع طبقي بواقع طائفي، وتحمي مساحة تشابكهما إيديولوجيات تثبت الانقسام (حداثية وإسلامية)، وتحرسها قوة مسلحة تطرد الجمهور العام من السياسة، وتصون التعازل الاجتماعي وتعيد إنتاجه. وهو ما أدى عبر السنين والعقود إلى تحجر المواقع والمواقف والنفوس. اليوم، تبدو الطوائف إثنيات أو أقواماً أكثر مما هي تمايزات ثقافية تصلبت قليلاً بفعل امتيازات أو حرمانات سياسة ومعنوية.
اليوم، الأمتان تتبادلان الموت.
المعارضة والتحول السلطاني
انقسامات المعارضة، على ضوء هذه المناقشة، مؤشر على أوضاع نحتاج إلى معرفتها، أكثر مما هي موضوع مهم بحد ذاته. وضع الأمتين، وثنائية السيادة والدولة، من سمات ما أسميه الدولة السلطانية المحدثة القائمة على التبعية والأبد والفتنة. تحولت سورية من جمهورية إلى ملكية يعلوها سلطان كلي القدرة، وهذا تحول بالغ الضخامة، ومع ذلك لم يُدرس من قبل المثقفين، ولم يؤخذ به علم جدي من قبل المعارضين السياسيين. وضع المعارضة السورية المنقسم والمنفعل مرتبط جداً بهذا التحول غير المُستَوعَب على مستوى الدولة والسياسة. قبل الزمن الأسدي كانت انقسامات المعارضين تتبع خطوطاً سياسية وإيديولوجية، وليست متحجرة على ارتيابات وشكوك عميقة، لا تكف عن التغذي من منابع انفعالية محجوبة. هذا مرتبط بصورة جوهرية بالتنظيمات السلطانية وثنائية الدولة والسلطة والسيادة المحللة فوق.
الدولة السلطانية إما تسحق المعارضين، أو تقسمهم وتستتبع قسماً منهم مع إبقائهم «معارضين»، وهي لا تكف عن بذل الجهود الكبيرة لهذا الغرض، أو تجعل منهم صعاليك غير مؤثرين، معزولين عن أية قوى اجتماعية حية. وتنويعة من هذه السياسات مورست تجاه المجموعات المعارضة منذ بواكير الحكم السلطاني قبل 45 عاماً.
لا يتعلق الأمر هنا بنظام قمعي أو دكتاتوري، يقمع معارضيه، ولا بنظام شمولي يسحقهم، بل نظام يقوم على التقسيم والاستتباع والصعلكة، وسحق معارضيه الجذريين. الحكم السلطاني لم يعمل على سحق المعارضة الجذرية الجديدة، بل على تحطيم بيئاتها الاجتماعية وجعل الحياة ذاتها مستحيلة فيها. أما المعارضون التقليديون فلم يكد ينشغل الحكم السلطاني بهم، إلا بقدر ما تحولوا إلى ثائرين. وجودهم العاطل ضروري كواجهة تعددية، وانقساماتهم مفيدة جدا لتوسيع هامش مناورته.
بوصفها امتلاكاً للدولة والبلد والسكان، ليس هناك معارضة للسلطانية. هناك ثورة عليها فقط. القطيعة الجذرية مع السلطانية تقتضي، كوجهة عامة، العمل على تحطيم المركز السلطاني، وتجاوز الأصول البنيوية للانقسام السياسي والاجتماعي في البلد: ثنائيتا الدولتين والسلطتين. استقامة الحياة الوطنية توجب التخلص من شرط الدولة الباطنة التي لا تنضبط بقانون، ومن السلطة الدينية العامة المشاركة في السيادة. والتعافي العام يقتضي وحدة الدولة، وخضوع مركز القرار السياسي والأجهزة الأمنية لقوانين عامة معلومة، وأن تكون تحت رقابة المجتمع. وبالمثل، لا بد من الانتهاء من السلطة الدينية العامة، وعلمنة التعليم والأحوال الشخصية، وإزالة المادة الدستورية التي تقرر ديناً للدولة أو لرئيس الدولة. هذا ما يمكن أن يكون رؤية جذرية لقوى شعبية تحررية.
موتان مرغوبان، وحياة
اليوم، المعارضة التقليدية تحتضر غير مأسوف عليها، أياً يكن مآل صراعنا الراهن. لقد عجزت عن معالجة خصوماتها، وعن المساهمة في حل التناقضات الاجتماعية والسياسية المرتبطة بوضع الدولتين والسلطتين، وعجزت كلياً عن إنتاج معرفة بواقع الحال السلطاني. وهي من وراء انقساماتها موحدة جداً في سياسويتها، في تمركز منظوراتها حول السلطة والسياسة من فوق حصراً، لا حول المجتمع وحاجات الناس والسياسة من تحت. الصفة السياسوية المفرطة للمعارضة التقليدية مرتبطة بقوة بالفشل في إنتاج المعرفة.
ورغم تعريفها لذاتها بمعارضة النظام، فإن حياتها من حياة السلطنة الأسدية، وموت السلطنة المرغوب هو موت هذه المعارضة، المرغوب بدوره.
تأخذ بالتشكل اليوم منظمات اجتماعية تحررية جديدة، تغالب القنوط، وتعمل على صنع مجتمعات سورية بديلة. هذه التجارب تصنع الأمل والثقة، ومنها يتخلق مجتمع السوريين الجديد.