لم تضع الثورة السورية نظام الأسد وحده أمام امتحان البقاء، لكنها وضعت الوطن السوري برمته أمام هذا الامتحان، ذلك على الرغم من تكرار معظم أطراف الصراع في سوريا «باستثناء السلفية الجهادية العابرة للدول الوطنية» عزمهم الحفاظ على وحدة الدولة السورية. وأياً يكن الأمر، فإن الحرب الدائرة في سوريا – كما هي أي حرب –  يمكن أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين انتصاراً نهائياً على الطرف الآخر، وهو ما يبدو مستحيلاً اليوم، أو أنها ستنتهي بعملية تفاوضية ستؤول في الحالة السورية إلى تقسيم البلاد، أو إلى الاتفاق على شكل جديد لتنظيم كيفية تأسيس السلطة واقتسام الثروة فيها.

ما لم تنتهِ الحرب في سوريا بانتصار ساحق وناجزٍ للنظام السوري مدعوماً بحلفائه الإقليميين والدوليين، أو بإعادة تقسيم سوريا وربما سائر المشرق إلى دولٍ بحدود مختلفة وأنظمة حكم جديدة، فإن السوريين سيكونون على موعدٍ مع قواعد جديدة لتأسيس السلطة واقتسام الثروة. سيكونون على موعد مع دولة جديدة غير الجمهورية العربية السورية التي نعرفها، لأنه إذا كانت الدولة بالمعنى الحقوقي الدستوري هي «التجمع البشري الذي يقطن إقليماً معيناً ويسوده نظام سياسي واجتماعي وقانوني ما»، فإن ما سيكون بصدد التغيير هو النظام السياسي والاجتماعي والقانوني للدولة السورية.

سنكون على موعد مع دستور جديد لسوريا سيقوم حتماً على أسس جديدة، وهذه الأسس التي سيقوم عليها هي التي ستحدد المآل اللاحق لإقليم الدولة السورية والتجمع البشري الذي يقطنه، وهي التي ستحدد إذا ما كنا سنسير باتجاه تكرار تأسيس دولة لا مستقبل لها، أم أننا سنكون أمام دولة قابلة للاستقرار والنمو وتحسين شروط حياة سكانها.

في الدستور، وما هو «فوق دستوري»

الدستور هو التعبير المدون عن قواعد النظام الذي يعيش سكان الدولة على إقليمها وفقاً له، أي أنه مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها في الدولة. وهو بهذا المعنى ليس أمراً حديث العهد، بل إنه ربما يرجع إلى نشأة أول نظام حكم في التاريخ، ذلك أن فكرة الدولة نشأت وتطورت ببطء وكان يرافقها مجموعة قواعد تنظم السلطة وكيفية إدارتها. إلا أن هذه القواعد بقيت عرفية لقرون طويلة حتى بعد انتشار عملية التدوين، فهي كانت تدون بهدف الدراسة والتأريخ لا لتكون نصاً ملزماً واجب الإتباع.

على أن التحول التاريخي في مفهوم الدستور الذي أفضى إلى صياغته وتدوينه في وثيقة ملزمة للسلطات والأفراد في الدولة، جاء بالترابط مع تغير مفهوم الدولة نفسها، وانتقالها من الدولة السلطانية إلى الدولة الحديثة، إي من الدولة القائمة على حق السلطان المنتزع بالقوة المدعومة بحق إلهي مفترض، إلى الدولة القائمة على العقد الاجتماعي الذي يأتي حصيلة توازن القوى، وصراع المصالح والرؤى في الدولة.

كما أن الحق الإلهي الذي قامت عليه سلطة الملوك والأمراء والسلاطين والخلفاء طيلة قرون من عمر الحضارة البشرية ما هو إلا حق متخيل مفترض لتبرير وجود السلطة وتأسيس مشروعيتها، فإن العقد الاجتماعي ما هو إلا عقد متخيل لتبرير وجود السلطة وتأسيس مشروعيتها أيضاً. وكما تقوم الحكومة «السلطانية» على «حق السلطان» الذي محوره شخص الحاكم لا الأشخاص المحكومون، فإن الحكومة «الوطنية» يفترض أن تقوم على «عقد اجتماعي» محوره الأشخاص المحكومون لا شخص الحاكم. هؤلاء الأِشخاص المحكومون هم المواطنون الذين يشكلون بمجموعهم الأمة، الأمة التي يفترض «نظرياً» أنها تؤسس دولتها بإرادتها المستقلة وإرادة أفرادها الحرة وفقاً لدستور يلتزم مبادئ العقد الاجتماعي المؤسس للوطن، ويتضمن حقوق وواجبات المواطنين، وكيفية تأسيس وانتقال وإدارة السلطة في البلاد.

يسمو «حق السلطان» على القواعد الدستورية في الدولة السلطانية، وتسمو مبادئ «العقد الاجتماعي» على القواعد الدستورية في الدولة الوطنية الحديثة. وعلى أي حال فإن النقاش حول وجوب إقرار المبادئ التي تسمو على الدستور في وثيقة فوق دستورية، هو نقاش لما يحسم بعد، وهو نقاش فقهي وفلسفي أثير في فرنسا أصلاً حول القيمة القانونية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، إذ بينما ذهب تيار إلى اعتبار مبادئه ساميةً على الدستور، ذهب تيار آخر إلى اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الدستور نفسه.

كذلك أثير النقاش نفسه في سياق الثورات العربية في مصر، عندما ذهب تيار فيها إلى المطالبة بإقرار قواعد فوق دستورية صيانةً للوحدة الوطنية ومبادئ الجمهورية المصرية، في حين ذهب تيار آخر إلى رفض ذلك بحجة أنه طرح غير ديمقراطي. وعلى أي حال فإن هذا النقاش رهين بالايدولوجيا والرؤى السياسية، ورهين كذلك بالمصالح وتوازنات القوى في كل دولة من الدول.

سواء تم الإقرار بضرورة الإعلان عن قواعد فوق دستورية في الدولة الوطنية أم لا، فإن مغادرة التأصيل الفقهي النظري، والذهاب إلى الوقائع يؤكد أن في كل دولة ما هو فوق دستوري. أعني بذلك أن في كل دولة ما لا يمكن تعديله باستخدام الآليات الدستورية، من ذلك حدود الدولة وسيادتها والمبادئ الفلسفية التي يقوم نظام الحكم عليها أياً كانت طبيعة هذا النظام، وكذلك الديمقراطية نفسها في الدول الديمقراطية، والنظام الجمهوري في الدول الجمهورية، والملكية في الدول الملكية .. إلخ.

يلجأ سكان دولة، أو جزء من سكانها، إلى الاحتجاج والعصيان عندما لا تتيح الآليات الدستورية تحقيق مطالبهم السياسية، ومن ثم فإن الاحتجاج والعصيان وسيلة لتعديل مبادئ فوق دستورية لا يتيح الدستور نفسه تغييرها، أي أنها وسيلة لإحداث تغيير يطال مبادئ العقد الاجتماعي المؤسس. وعندما يستعصي عليهم إنجاز هذا التغيير بالاحتجاج والعصيان السلمي، فإنهم إما أن يستسلموا لتوازن القوى القائم ويواصلوا خضوعهم للمبادئ التي باتوا يرون أنها لا تلبي مصالحهم، أو أنهم سيواصلون احتجاجهم الذي ينقلب ثورةً على الأوضاع القائمة، ثورةً قد تسلك طرقاً سلميةً قي أوضاع معينة، وقد تتجه إلى الصراع المسلح في أوضاع غيرها.

يمكن أن تفشل الثورات سلميةً كانت أم مسلحةً، كما أنها يمكن أن تنجح أو تفضي إلى مآلات جديدة لم تكن في حسبان أي من أطراف الصراع، وهو ما يعني أن ما هو «فوق دستوري» في الدولة يكون قد بات على أبواب الأفول، وأننا سنكون على موعد مع ولادة دولة أو دول جديدة، ولعل هذا ما يحدث في سوريا واقعاً في هذه السنوات.

الدستور، وما هو «فوق دستوري» في السياق السوري

عاش السوريون بوصفهم رعايا للسلطان العثماني حتى عام 1918، وخلال بضعة أعوام تم تقسيم بلاد الشام والعراق على ما هي عليه اليوم وفق مصالح الدول الغربية، وانتقل أولئك الذين قررت الأمم المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لهم أن يكونوا «سوريين» دون غيرهم، إلى العيش تحت حكم دولة «وطنية» ناشئة خاضعة للانتداب.

كان يقطنُ إقليمَ الدولة السورية كما نعرفها اليوم مزيج ما أتباع دياناتٍ مختلفة وأبناء طوائف وعشائر وإثنيات متعددة، وأغلبها لها امتدادات خارج حدود البلاد. وقد انتقل هؤلاء جميعاً حاملين هوياتهم التاريخية المختلفة والمتصارعة حد الإلغاء أحياناً من دولة سلطانية لا مواطنة فيها، إلى دولة وطنية يفترض أن تقوم على المساواة والمواطنة، انتقلوا جماعات وأفراداً تعوزهم الهوية الوطنية ليس بمعناها الجامع فحسب، بل كانت تعوزهم الهوية الوطنية بمعناها المميز لهم عمن سواهم أيضاً.

كانت البلاد قد وضعت تحت الحكم العسكري المباشر للجيش الفرنسي، وكانت سلطات الانتداب قد قسمت البلاد إلى مقاطعات على أسس مناطقية وطائفية، ونظمتها بدستور إتحادي أقره المندوب السامي الفرنسي هنري غورو عام 1922، وبعد سلسلة من الاضطرابات والثورات الجهوية والمحلية التي تُوِجَّت بالثورة السورية الكبرى عام 1925، وافقت سلطات الانتداب عام 1928 تحت وطأة الحراك الشعبي والثورات المتلاحقة على انتخاب جمعية تأسيسية ترأسها هاشم الأتاسي وضمت ثمانية وستين عضواً يمثلون مقاطعتي دمشق وحلب دون الدروز والعلويين، ووضعت دستوراً ألغى النظام الاتحادي، وأقر بدلاً عنه نظاماً لدولة مركزيةٍ رفضته السلطات الفرنسية آن ذاك باعتباره يحد من سلطاتها المقررة في صك الانتداب، وهو ما فتح الباب على مواجهات وصدامات أفضت إلى تعطيله وتعديله عدة مرات من قبل سلطات الانتداب. على أي حال فإن هذا الصراع الخاص بالجانب المتعلق بحقوق الدولة المنتدبة استمر طيلة وجود القوات الفرنسية على الأراضي السورية، واستمر معه دستور 1930 دستوراً وحيداً للبلاد مع تعديلات متعددة طيلة مرحلة الانتداب الفرنسي، وبعد الاستقلال حتى انقلاب حسني الزعيم عام 1949.

واقع الحال أن هذا الدستور اعترف بخصوصيات طوائف ومكونات الشعب السوري، وهو ما يشي بإدراك النخب التي صاغته لحقيقة أن ثمة عطباً في الهوية السورية، وأن ثمة صدوعاً ينبغي رأبها. لكن هذه النخب اعتمدت لحل هذه المسألة ضرورة تمثيل هذه الأقليات في المجلس النيابي، وهنا بالضبط تكمن خديعة «الوحدة الوطنية» الكبرى التي استخدمتها النخب التي صاغت الدستور وتوافقت عليه، بل ولعلها الخديعة التي استمرت وتستمر حتى يومنا هذا في الثقافة السياسية السورية.

لقد تمت صياغة هذا الدستور من قبل النخب المدينية السورية البرجوازية التي يبدو أن مصلحتها التاريخية ورؤيتها السياسية كانت تنصب في دولة سورية مركزية وموحدة، ولاحقاً وافقت سلطات الانتداب على ضم جبل الدروز ودولة العلويين إلى الدولة المركزية وفق الدستور نفسه دون لحظ أن ممثلين عنهم لم يشاركوا في صياغة هذا الدستور. وبصرف النظر عن هذا العيب الخطير في أول دستور يصوغه السوريون، فإن ثقافة الهوامش والمكونات السورية ومصالحها لم يكن لها أي حضور في الدستور السوري، بل تم استدعاء أفراد من نخب وزعامات هذه المكونات والهوامش ليشاركوا في السلطة. لم يحضر العلويون في النظام الدستوري السوري الأول بوصفهم أفراداً سوريين لهم كامل حقوق المواطنة بما فيها الحقوق الدينية والثقافية، بل حضر ممثلون عنهم في الحكم، كذلك كان حال الدروز والأكراد وسائر مكونات الشعب السوري، وأيضاً المسلمون السنة الذين تم استرضائهم بوصفهم «أكثرية» بالنص على حصر حق الرئاسة بالمسلمين.

لكم هو فارق كبير بين أن تحضر هوية الأكراد ولغتهم وثقافتهم ومطالبهم ومصالحهم في النصوص الدستورية، وبين أن يحضر أفراد أكراد في المجلس النيابي أو لجنة صياغة الدستور. كذلك كان حال عموم السوريين الذين لم تدافع نخبهم السياسية عن حقهم في المواطنة المتساوية، بقدر ما دافعت عن نصيبها في الحكم.

على أي حال فإن تلك المرحلة ليست صالحة لتبين سلوك وخطاب النخب السورية إزاء المسألة الوطنية، لأنه تمت صياغة دستورها ومجمل خطابها وشعاراتها في ظروف الصراع مع الانتداب لنيل الاستقلال، وتحت ضغط رؤية الفرنسيين للشرق بوصفه أرضاً فيها أقليات ينبغي حمايتها من عسف الأكثرية. كما أن الإنصاف يقتضي القول بأن ذاك الدستور لم يكن يحتوي على ما يناقض مبادئ فصل السلطات والسيادة والمساواة على نحو خطير، إذ باستثناء حصر منصب الرئاسة بالمسلمين «دون أن نعرف عن أي مسلمين يجري الحديث بالضبط»، فإن هذا الدستور أقر أغلب ما يفترض أن تكفله الدساتير الديمقراطية من حريات للأفراد.

لم يصمد هذا الدستور طويلاً بعد استقلال سورية، وتم تعطيل العمل به بانقلاب حسني الزعيم عام 1949، ثم دخلت البلاد في مرحلة من الاضطرابات والانقلابات العسكرية وصولاً إلى انقلاب البعث عام 1963، وترافقت تلك المرحلة مع صعود الأيدولوجيات اليسارية بشقيها القومي العربي والأممي، وصعود حركة الأخوان المسلمين في المقلب الآخر، حيث سيطرت هذه السرديات الأيدولوجية على مجمل الحياة السياسية في البلاد.

مرَّ على البلاد في تلك المرحلة المضطربة ثلاثة دساتير من بينها دستور فرضه أديب الشيشكلي في انقلابه الثاني عام 1952 ولم يدم العمل به طويلاً، ودستور مؤقت للجمهورية العربية المتحدة خلال مرحلة الوحدة. على أن الأهم كان دستور عام 1950 الذي صاغته جمعية تأسيسية منتخبة ونظم الحياة السياسية على نحو متقطع في أغلب تلك الفترة، وهو الدستور الذي طالب كثيرون مؤخراً بإعادة العمل به في مرحلة الانتقال الديمقراطي المفترضة في البلاد.

إذا كان دستور 1950 قد ألغى النص على ضرورة تمثيل طوائف ومكونات الشعب في المجلس النيابي، فإنه لم يعمل على إرساء أسس وطنية لمعالجة مسألة هذه المكونات التي كانت هوياتها لم تزل أكثر تماسكاً بما لا يقاس من الهوية الوطنية السورية، وإنما اتجه إلى تأكيد عروبة سورية والتزامها «مُثلَ الإسلام». وفي الوقت الذي ساوى فيه بين السوريين والسوريات في حق الترشح والانتخاب، فإنه نص على أن يقسم النواب المنتخبون على «العمل على وحدة الأقطار العربية»، كذلك على رئيس الجمهورية أن يفعل في يمينه الدستورية.

لقد أقام دستور عام 1950 أسس المواطنة السورية على افتراض عروبة وإسلام سوريا وشعبها دون تحصين دستوري لهذا الافتراض. ماذا عن أولئك السوريين الذين لا تعنيهم وحدة الأقطار العربية في شيء؟ ماذا عن الأكراد الذين سيقسم ممثلوهم في المجلس النيابي على العمل على الوحدة العربية، دون أي ذكر لحقوقهم القومية والتاريخية والثقافية؟ وأيضاً وأيضاً، أية مُثل إسلامية تلك التي تحدث الدستور إياه عنها؟ وأية رؤية للإسلام تلك التي تتبناها الدولة السورية؟

 فضلاً عن هشاشة أسس الاجتماع السياسي السوري التي أقرتها الدساتير السورية المتعاقبة، لم تتجه السرديات الأيديولوجية التي هيمنت على الحياة السياسية والثقافية السورية إلى صياغة مواطنة سورية متماسكة قبل العمل على ربط «الدولة الوطنية السورية» بمشاريع خارجية، ولم تكن سوريا «سوريةً» لدى الأيديولوجيات التي تنازع ويتنازع دعاتها على السلطة، بل كانت جزءاً من أمة أكبر عربية أو إسلامية، وكانت أيضاً منصةً للحرب على الامبريالية والصهيونية، أما حياة السوريين وحقوقهم فكانت خارج المسألة كلها.

يمكن القول إن «لعنة» الايدولوجيا حلت على سوريا قبل «نعمة» الدولة الوطنية، وكان مآلها أن تنتهي إلى نظام حكم شمولي أعقب محاولة وحدة فاشلة مع مصر، وإلى أسس متهافتة لاجتماع سياسي سوري قامت لعقودعلى افتراض أن السوريين شعب واحدٌ هويته عربية مسلمة، أما طوائفه ومكوناته فقد تعايشت بضمانة قوة السلطة ومركزيتها، وبضمانة حصص «غير معلنةٍ» لممثلين عن هذه المكونات في السلطة، كل ذلك بالتوازي مع حظر تناول هذه المكونات وأوضاعها في النقاش السياسي العام بذريعة حماية الوحدة الوطنية.

هكذا جاءت دولة البعث التي لا جدوى من الحديث عن أي دستور أو عقد اجتماعي في ظلها في نهاية المطاف، حيث جُرِّدَ السوريون بالتدريج من أي ملمح من ملامح المواطنة، وتضمنت الدساتير المقترحة والمقرة كلها بما في ذلك الدستور الأخير الذي أقره نظام الأسد عام 2012 نصوصاً فارغة من أي مضمون حول حرية المواطنين وحقوقهم، فيما كانت الديكتاتورية العسكرية ثم المافيوية تستولي على البلاد وحياة سكانها.

يبدو مستحيلاً التفتيش في النصوص الدستورية السورية عن ملامح مبادئ العقد الاجتماعي الذي كان السوريون يعيشون في ظله قبيل اندلاع الثورة السورية، ذلك أن الدستور السوري الذي يفترض أنه كان يحكم حياتهم السياسية لم يكن هو الذي يحكمها فعلاً، ولم تكن المبادئ العليا التي تحكمه على المستوى النظري، هي المبادئ التي تنظم الاجتماع السياسي للسوريين يقترح ياسين الحاج صالح وصف «الدولة الظاهرة والدولة الباطنة» للتعبير عن وجود دولتين في سوريا «دولة ظاهرة، عامة ولا طائفية، لكن لا سلطة حقيقية لها؛ ودولة باطنة، خاصة وطائفية، وحائزة على سلطة القرار فيما يخص المصائر البشرية والعلاقات بين السكان وتحريك الموارد العامة، فضلاً عن العلاقات الإقليمية والدولية»– السلطان الحديث: المنابع السياسية والاجتماعية للطائفية في سوريا، ياسين الحاج صالح، الجمهورية – وعليه يكون الدستور السوري هو دستور الدولة الظاهرة، أما دستور الدولة الباطنة فهو غير معلن في أي وثيقة على غرار الدول السلطانية القديمة، وما يسمو عليه ويهيمن على آلياته هو حق سلالة الأسد في الحكم..

سَمَا حق البعثيين في الحكم على كل نص دستوري في سوريا منذ عام 1963، ولاحقاً ومنذ أحكم حافظ الأسد قبضته على البلاد بعد مذابح حماة عام 1982 وما تلاها من سحق لكل حراك مدني وسياسي، سَمَا حق سلالة الأسد في الحكم على كل نص دستوري وقانوني في البلاد حتى صار اسمها سوريا الأسد، وأمكن توريث حكمها للطاغية الابن، وأمكن له ولطغمته سحق جميع مناوئيهم خارج كل قانون ودستور، وبمختلف وسائل العنف بما فيها المدفعية الثقيلة والمدرعات والطائرات.

ليس نظام الأسد الذي ثارت عليه شرائح واسعة من السوريين إلا نظاماً سلطانياً بلباس جمهوري ممزق، وإذا كان مأمولاً أن السوريين يعبرون اليوم مخاض الانتقال من الدولة السلطانية إلى دولة العقد الاجتماعي، فإن هذا المسار ليس محتماً ولا طريقاً باتجاه واحد تسلكه جميع الشعوب، بل إن موازين القوى ومجريات الحرب قد تفضي إلى قيام دولة سلطانية جديدة في سوريا، أو إلى مصائر أخرى لا نعرفها من بينها تقسيم البلاد إلى دولٍ ستسلك كلٌ منها مساراً لا مجال للتكهن به الآن.

في بقاء الدولة السورية

لم ينجح السوريون الثائرون على نظام الأسد في إجباره بالوسائل السلمية على التخلي عن الدولة السلطانية، والبدء بالتحول نحو دولة العقد الاجتماعي أغلب التظاهرات خلال الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة السورية طالبت بإطلاق الحريات العامة وإيقاف أعمال القمع والاعتقال، وبمحاسبة الفاسدين الكبار وإعادة الأموال المنهوبة للشعب، أي بمبادئ جديدة للاجتماع السياسي السوري تتيح لعموم السكان امتلاك الفضاء العام، والمشاركة في صياغة الحياة السياسية.. وعندما تمت مواجهتهم بعنفٍ استباح كراماتهم ودماءهم، ذهبوا إلى خيار حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وانتزاع حقوقهم، وجاءت ثورتهم المسلحة التي أنهت حكم الأسد في بعض الأرياف والمدن السورية، مشابهة للمجتمع السوري واجتماعه السياسي «غير الوطني».

لا يسعى جميع خصوم الأسد في سوريا اليوم إلى بناء دولة وطنية سورية بديلاً عن «دولة سوريا الأسد»، لكن بينهم سياسيين ومثقفين ومسلحين يعلنون دائماً عزمهم الحفاظ على الدولة السورية الموحدة، والعمل على بناء دولة المواطنة بديلاً عن دولة الاستبداد والقمع. إلا أنه ليس ثمة مراجعات جدية ونقد منهجي لأسس الاجتماع السياسي التي عاش وفقها السوريون بُعيد تأسيس دولتهم قبل نحو خمسة وتسعين عاماً، والتي أفضت في النهاية إلى عودتهم للعيش في ظل دولة سلطانية بعد أقل من نصف قرن على الخروج من عباءة السلطنة العثمانية.

إذا كان ثمة من يريد بناء دولة أو دول «سلطانية حديثة» على أنقاض سوريا الأسد، فإن الطريق إلى ذلك هو مواصلة الحرب حتى فرض هذه الدولة أو الدول قهراً على سكان الإقليم السوري، وهو ما يواصل فعله تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد وغيرهما بإصرارٍ من خلال أعمال القتل والتعذيب والتهجير والتطهير العرقي. وإذا كان ثمة من يريد دولة عقد اجتماعي وطنية قابلة للحياة، فإن السبيل إلى ذلك هو الوصول في نهاية الصراع إلى مبادئ اجتماع سياسي سوري وطني تسمو على كل دستور وقانون، وبقدر ما ستكون الأوضاع وموازين القوى في نهاية الحرب محدداً رئيسياً لهذه المبادئ، فإن تكامل هذه المبادئ ونضوجها سيسهم أيضاً في إنهاء القتال، والانتقال إلى مواصلة الصراع بأدوات السياسة لا بأدوات الحرب.

يتطلب بناء دولة وطنية إقراراً عاماً وإعلاناً واضحاً لا لبس فيه عن حقوق متساوية لجميع المواطنين، يشمل ذلك الحقوق الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، وهو ما يعني عملياً ألا يتم فرض قيودٍ أساسها الانتماء الديني أو الإثني أو الأيديولوجي على حقوق الأفراد في العمل والنشاط السياسي والتعبير عن الرأي وممارسة الشعائر الدينية. وواقع الحال أن إقراراً عاماً وإعلاناً واضحاً كهذا لم يحصل طيلة حياة الدولة السورية، وأصبح الوصول إلى صيغة تتضمن إعلاناً كهذاً أمراً عسيراً جداً بعد أن فتكت الحرب بالنسيج الوطني السوري، ولجأ أغلب السوريين إلى جماعاتهم الأهلية ينشدون الحماية من خلالها، وحمل كثيرون منهم السلاح في تشكيلات عمادها هذه الجماعات.

ينبغي الإقرار بأن النسيج الوطني السوري بات مفتتاً إلى حد أصبح معه من الصعب إخضاع جماعاته الأهلية لسلطة مركزيةٍ على المستويات التشريعية والتنظيمية والاقتصادية، دون ممارسة عنفٍ واسعٍ يُخضع هذه الجماعات بالقوة والإكراه، وهو ما يتطلب استخدام تشكيلات عسكرية منضبطة ومدججة بالسلاح تحكم سيطرتها على جميع الأراضي السورية، وهذا فضلاً عن استحالته الواقعية حتى اللحظة، فإنه يعني أننا سنكون بصدد بناء دولة فاشيِّةٍ يحكمها سلاح الجيش، وخطاب ورؤية القائمين عليه.

لا مجال لإنجاز العبور نحو دولة العقد الاجتماعي السورية الوطنية، دون تحطيم مرتكزات الدولة السلطانية الأسدية وإلحاق الهزيمة بها كشرطٍ لازمٍ وغير كافٍ، وكذلك إلحاق الهزيمة بالتنظيمات المسلحة التي تسعى إلى فرض أنماط اجتماع سياسي «غير وطنية» على سكان الإقليم السوري، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية وأشباهه. وإذا كانت نتائج الحرب ليس رهينةً فقط بإرادة وقدرة السوريين، وإنما بنتائج صراع المصالح الدولي والإقليمي أيضاً، فإنه يقع على عاتق الحقوقيين والسياسيين والمثقفين السوريين الذين يعلنون انحيازهم لخيار العبور نحو الدولة الوطنية أن يشرعوا في البحث المنهجي عن صيغة «فوق دستورية» تكفل نجاح هذا العبور، فيما يواصل عموم السوريين خوض معاركهم من أجل الحياة.