في الحديث الغالب عن أيام الثورة الأولى عاطفة لا تحتملها أوضاعنا الراهنة. أربع سنوات مريرة تنقضي وواقعنا اليوم يبدو شديد القسوة. مشهد الحرب بات طاغياً، وخريطة الاقتتال بالغة التعقيد. «حرب الكل ضد الكل» على حد وصف صديق إنجليزي أرسل لي شارحاً عجزه عن فهم هذه الخريطة وتقلباتها. الحق أن ردة فعله تمثل رأياً عاماً غالباً ليس لدى مراقبين في الغرب فقط، وإنما حتى بين سوريين أنهكهم التهجير وضيق الحال. ما بين وسائل إعلام غربية مهيمنة، وأدبيات المنظمات الدولية، يجد هؤلاء جميعاً أنفسهم محاصرين بسرديات عن «صراع دموي» لا نعرف كيف وصلنا إليه! وعن «نزاع مسلح»، يتم تجهيل المسؤوليات الأساسية فيه! وعن حتميات قدرية تنتظرنا في هذه البلاد، تجعل تحررنا من قبضة الفاشيات العسكرية الشمولية مجرد فخٍ لوقوعنا في شرك داعش وفاشيات دينية ناشئة. في كل هذه السرديات تشغل داعش الصدارة في الحديث عن «الأزمة» السورية، التي لا جذور ولا سياق لها!
على أن لسوريين وأصدقاء لهم ما زالوا متشبثين بالأمل وبعدالة هذه الثورة التي ما زالوا يصرون على تسميتها ثورة، سردياتٍ أخرى، تقول أن خلف خريطة اقتتال الفاشيات هذه ما يقول أن لا صواب تاريخياً عرفته بلادنا يماثل انخراطنا في هذه الثورات. ما زلنا نقبض بصلابة على هذه السرديات، على حكايات تقول كل شيء عن أحوالنا وعن زمن متدفق متغير حررته هذه الثورات من سلطة الأبد.
في مطلع صيف العام 2011، وفي خروج خائب من أحد جوامع حي الميدان دون تظاهر بسبب احتشاد الأمن في حينها، وفي بيت أحدهم، تلاقى مجموعة أصدقاء لم يمض على تعارفهم وقت طويل. (ع) أكبر المجتمعين سناً وأكثرهم نشاطاً، مثقف ماركسي الهوى لم يكن يجد أي حرج في الخروج من الجوامع للتظاهر يوم الجمعة. عندما تشكل الجيش الحر، سعى إلى التواصل مع كتائب في الريف الدمشقي، إيماناً منه بأن تفعيل النقاش في السياسة واجب مع هؤلاء. لكنه سرعان ما اعتُقل واستشهد في سجنه. على عكسه، كان (أ) ابن الأسرة الدمشقية المحافظة، متردداً في قبول عسكرة الثورة ناقداً لها، اعتقل منذ عامين وما زال مغيباً لليوم. (ن) ابن حي الميدان والذي كان يعمل في تجارة عائلته، اعتُقل ونُكل به، خرج عازماً على حمل السلاح، لكن اعتقال أخيه الصغير أجبره على ترك البلاد بضغط من أمه المكلومة. غضبه بعد خروجه من الاعتقال دفعه للاقتراب من نهج السلفية الجهادية، إلا أنه اليوم يُسخر جهوداً كبيرة لمحاججة رفاق له متأثرين بهذا النهج.
محمد ومالك من الريف الدمشقي، كانا لا يفوتان مظاهرة. محمد انخرط لاحقاً في العمل الإغاثي مع حصار الغوطة الشرقية، لكنه انصرف إلى العمل الإعلامي بعد مجزرة الكيماوي. فيما مالك، وهو حلاق، حمل السلاح مع مجموعة محلية من الجيش الحر، قبل أن ينضم إلى جيش الإسلام لاحقاً حيث يقاتل حتى اليوم. لم يعد محمد يتواصل معه كثيراً، فهو يعتبر أنه يعمل مع فصيل يفرض استبداداً جديداً باسم الدين. كلاهما محاصران.
[quotes]هذه السرديات تذكر أن الثورة هي كل هؤلاء أيضاً، سوريين من مختلف المناطق والمشارب، قضوا أو غيبوا، أو مازالوا مستمرين في العمل بفعالية متفاوتة في حقول متنوعة.[/quotes]
في ريف إدلب التقيت بعبد الله الذي شارك في المظاهرات السلمية أولاً في قريته، قبل أن يحمل السلاح أثناء المعارك ضد جيش النظام الذي حاول سحق الحراك هناك، عبدالله ألقى السلاح في مطلع صيف 2013، ومنذ ذلك الحين متفرغ للعمل المدني في الريف المحرر. ينتقد المسلحين بلا كلل، وحتى بعد أن اعتقلته داعش وأفرجت عنه، رفض العودة لحمل السلاح. فيما قضى أخوه منذ أشهر قليلة في وادي الضيف، بعد أن بايع النصرة وقاتل معهم، حيث كان من قبل متظاهراً سلمياً، قبل أن ينضم للجيش الحر. الدكتو (س) في ريف إدلب أيضاً، طبيب شاب اعتقل في بداية الحراك السلمي. حين التقيته كان متباهياً بانتسابه إلى حركة أحرار الشام. لاحقاً استاء من الحركة عندما لم تقف بحزم في وجه داعش في المعارك التي دارت على امتداد الريف الإدلبي والحلبي وصولاً إلى الرقة. أخوه، جندي منشق عن الجيش النظامي، بقي مع أحرار الشام بعد أن ذابت كتيبة الجيش الحر التي انتسب لها في محيط من فصائل إسلامية، قبل أن يُقتل في معارك مع قوات نظامية. الدكتور (س) ترك الحركة وهو متفرغ اليوم بالكامل للعمل الطبي.
لا يمثل استذكار هذه القصص، وهي غيضُ من فيض، رغبة في إحياء الحنين. هذه السرديات تذكر أن الثورة هي كل هؤلاء أيضاً، سوريين من مختلف المناطق والمشارب، قضوا أو غيبوا، أو مازالوا مستمرين في العمل بفعالية متفاوتة في حقول متنوعة. في تطلعهم للخلاص من الطاغية اختلفوا في الرؤى والوسائل، لكنهم تحرروا من قبضة الزمن الجامد للاستبداد، يتفاعلون ويحاولون التأثير في ما حولهم، لا ينجحون على الدوام، بل يفشلون عموماً حتى اللحظة في إنجاز مشروع جامع للتغيير، لكنهم يتغيرون هم أنفسهم باستمرار. حمل بعضهم السلاح وتركه، وآخرون سيحملونه لاحقاً. ترك بعضهم الجيش الحر لينضم لحركات إسلامية يشتد ساعدها اليوم في عالم يزداد وحشة للسوريين، بعضهم ابتعد عن هذه الحركات مجدداً أو سيفعل بعد حين. التغيير أصاب السوريين، وخاصة من آمنوا به. هل يمكن إنكار هذا؟ السرديات التي تختصر استحضار ذكرى الثورة بالحرب فقط تفعل هذا.
في تعليقه على ذكرى ثورة يناير في مصر، يعترف آصف بيات بقوة الثورة المضادة وهيمنة سردياتها اليوم، لكنه يذكرنا بأن أي نظام استبدادي جديد عليه «أن يحكم مجموعة من المواطنين قد مروا بتحولٍ كبير. فقد مرت قطاعات كبيرة من سكان الحضر والريف الفقير والطبقة المتوسطة المعدمة، والشباب المهمش، والنساء، بلحظات نادرة من الحرية، حتى وإن لم تدم طويلًا، وانخرطت في مساحات غير مقيدة من الوعي الذاتي، والجيشان الجماعي. وكنتيجة لذلك صار بعض من أكثر هرميات السلطة رسوخًا مهددًا». في مصر كما سوريا، لا زلنا إذن نعاند اليأس، نفعل ذلك أولاً بأن نقارع سرديات تسقط الثورة وكأنها لم تكن! يقول ياسين الحاج صالح «سوريا أنسب مكان لفهم العالم اليوم»، هذا تكثيف بليغ للرد على أصحاب سرديات تختزل سوريا بداعش، أو بثنائيات مُتضادة «عسكر»-«تطرف إسلامي». يريد هؤلاء مثلاً فهم داعش بنسبها فقط لسمات متأصلة بمجتمعاتنا، التي تبدو لهم في الأساس مبهمة وتقوم على خصائص ثابتة. يردد بعضنا للأسف هذه السرديات، ويعيد انتاجها، فنبحث عن أصول داعش في النص الديني فقط. ونهمل بأن داعش هي أيضاً نتاج وحشية الحداثة، وعالم غابت عنه باضطراد العدالة الاجتماعية، يتحكم فيه المركز بالأطراف عبر علاقات اقتصادية غير متكافئة وتحالفات شجعت وتشجع حكم هذه الأطراف من قبل نخب مستبدة، جمهورية أو ملكية، عسكرية أو دينية. قسوة مخاضنا في سوريا هي أيضاً انعكاس لقسوة العالم الذي نعيش فيه ومدخلاً لفهم سقوطه الأخلاقي الرهيب. ولهذا أيضاً لا يمكن الاستسلام لسرديات تُغيِّب الثورة وتختصر فهم بلدنا بمقاربة الحرب فقط، وكأن لا شيء قبلها أو بعدها.
مع انقضاء العام الرابع للثورة السورية، هناك مواجهة أخرى مفتوحة مفروضة على السوريين المؤمنين بضرورة الثورة. إنها سرديات الثورة في مواجهة سرديات الثورة المضادة، وفي مواجهة سرديات تعتمد الحرب فقط توصيفاً وحيداً لاختزال حكايتنا كلها. إنها معركة توثيق وكتابة وتدوين لحماية ذاكرتنا، للتذكير بعدالة قضية الحرية في سوريا. من المبكر جداً إعلان الهزيمة في هذا المواجهة، إن فعلنا ذلك ستكون هذه خيانة كبيرة لمن رحلوا وهم يهتفون للحرية، وللثورة أيضاً.