أقام الفيلسوف النمساوي الأصل توماس كوهن كتابه بنية الثورات العلمية، على فكرة رئيسة وشهيرة تقرر أن النظريات العلمية القائمة في مرحلة تاريخية ما، تتوقف عن القدرة على فهم وتحليل وتفسير الظواهر الجديدة، بحيث يصبح النموذج الإرشادي (الباراديم) الذي ترتكز إليه تلك النظريات «عقبة ايبستمولوجية» أمام التطور العلمي، مايدفع بنظرية علمية جديدة لتقطع مع ذلك النموذج التفسيري ونظرياته، وبناء طريقة مختلفة جذرياً لفهم الظواهر والمشكلات العلمية.

استناداً إلى هذه الفكرة وبناء على مرتكزاتها النظرية، يقوم كتاب صموئيل هنتغتون الذائع الصيت صدام الحضارات على إزاحة تلك الفكرة من حيز العلم الذي شغل كوهن إلى حيز السياسة الذي اشتغل عليه هنتنغتون، وذلك لكي يعلن، على طريقة سلفه، أن النماذج القديمة المرشدة للسياسة العالمية، والتي سادت حتى نهاية الحرب الباردة، لم تعد قادرة على الاستمرار في فهم وإفهام الواقع السياسي العالمي بعدها. ولكي يقول أيضاً أن النموذج السياسي الجديد الذي يطرحه؛ وهو نموذج قائم على الحضارات، هو النموذج الصالح لقراءة السياسة والعمل السياسي في عالم ما بعد الحرب الباردة، بحيث إن النماذج القديمة للتحليل السياسي فقدت صلاحيتها في النظام العالمي الجديد. فإذا «كنا نريد أن نفكر جدياً بشأن العالم ونعمل فيه بفعالية، فمن الضروري أن يكون لدينا خريطة حقيقية موضحة ونظرية ما ومفهوم ونموذج. بدون هذه البنى الفكرية لن يكون سوى ‘ارتباك‘و‘طنطنة‘و‘فوضى‘ كما يقول وليم جيمس».صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، تقديم د. صلاح قنصوه، ط2، 1999، كتاب نسخة الكترونية، ص 49.

يعدد هنتنغتون أربعة نماذج فقدت صلاحيتها في قراءة السياسة والمتغيرات السياسية في العالم المعاصر، يمكن اختصارها على النحو التالي:

1- نموذج العالم الواحد المنسجم، وهو ما يعدّه فكرة رومانسية أفرزها التفاؤل بعد انتهاء الحرب الباردة، ونجد في الكلام هنا نقداً مضمراً لأطروحة فوكوياما المتفائلة والمطمئنّة حول نهاية التاريخ.

2- نموذج العالمين، وهو نموذج يستند مرة إلى تقسيم ثقافي (شرق/غرب)، ومرة إلى تقسيم اقتصادي (شمال غني/جنوب فقير)، لكنه تقسيم غير قابل للتحديد السياسي أو العلمي.

3- نموذج عالم الدول القومية الـ 184 المعترف بها في العالم، وهو نموذج يفسده صعود الجماعات الاثنية والمحلية في كثير من الدول لتصبح واجهة الدولة، وبالتالي عدم نضج العديد من الدول لتتحدد في إطار الدولة القومية.

4- ثم نموذج العالم الفوضى، عالم الانقسامات المرتكزة إلى ما دون وما فوق الدولة، وهو ما يلاحظه في صعود المؤسسات الدولية العابرة للقارات والمتجاوزة للسيادة الوطنية من جهة أولى، وصعود الجماعات الجهادية والمتطرفة التي لا تعترف بالدول القائمة من جهة ثانية. لكن هذا النموذج لا يمكن البناء عليه أيضاً لافتقاده الوضوح والكليّة، وقصوره عن أن يكون نموذجاً هادياً في السياسة الأمريكية والدولية.

ثم يطرح هنتغتون النموذج الأفضل برأيه لقراءة الصراعات السياسية حول العالم ووضع المخططات الضرورية للتعامل معها على أساس النموذج المجرد الهادي للسياسة. وهذا النموذج، كما أسلفنا، هو النموذج الحضاري الذي يقوم على تقسيم العالم إلى عدة حضارات رئيسة، تكون الثقافة فيها (الدين بشكل أساسي) هي الأساس البنيوي للتحليل، وفي هذا العالم المقسم إلى حضارات، تشكّل خطوط التقسيم الثقافية بين تلك الحضارات مفاصل الصراعات الأبرز والأخطر بين الجماعات والدول المختلفة الثقافة.

«إن النظر إلى العالم باعتباره سبع حضارات أو ثمانية يجعلنا نتجنب الكثير من الصعاب، ولا يضحي بالحقيقة لحساب الاقتصاد الشديد كما هي الحال في نموذج عالم واحد أو عالمين، إلا أنه لا يضحي بالاقتصاد الشديد من أجل الحقيقة كما هي الحال في نموذج الدولة أو نموذج الفوضى».المصدر ذاته ص 59.

يعتقد هنتنغتون أن النماذج الواضحة أو الضمنية ضرورية لكي نكون قادرين على:

1- الترتيب والتعميم بشأن الواقع.

2- فهم العلاقات السببية بين الظواهر.

3- توقع وتنبؤ – إن كنا محظوظين– التطورات المستقبلية.

4- التمييز بين المهم وغير المهم.

5- رؤية أي الطرق نسلك لتحقيق أهدافنا.

كما إن تناول الأمر على أساس الحضارات  ينطوي على:

– أن قوى الاندماج في العالم حقيقية، وهي بالتحديد ما يولد قوى مضادة من التوكيد الثقافي والوعي الحضاري.

– أن العالم اثنان بمعنى ما، ولكن التمييز الرئيس هو بين الغرب باعتباره الحضارة السائدة حتى اليوم، وكل الآخرين الذين لا يوجد بينهم سوى القليل المشترك إن وجد. وباختصار فإن العالم مقسم إلى عالمين: عالم غربي واحد، وكثرة غير غربية.

– أن الدول القومية –هي– وسوف تظل أهم اللاعبين في الشؤون الدولية، ولكن مصالحها وصراعاتها وارتباطاتها تتشكل بدرجة متزايدة بعوامل ثقافية وحضارية.

– أن العالم فعلاً في حالة فوضى، حافل بالصراعات القبلية والجنسية، ولكن الصراعات التي تشكل الخطر الأعظم على الاستقرار هي تلك التي بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة.
وهكذا فإن نموذجاً يقوم على الحضارة، يقدم لنا خريطة مبسطة، ولكن دون إخلال، لفهم ما يدور في العالم.ذاته، ص 60، 61.

كان كوهن قد وصل إلى نتيجة في كتابه وهي إنه لا تفاضل بين البنى والنماذج العلمية في التاريخ، وذلك في إشارة إلى نسبية تلك النماذج بالقياس إلى «الحقيقة»، حيث إن لكل نموذج علمي حقائقه وتفاسيره المقبولة التي تجيب عن الأسئلة المطروحة فيه من الداخل، فنظام بطليموس لا يختلف عن نظام كوبرنيكوس أو نظام نيوتن بالنسبة لمعاصريه، من حيث إنه يجيب على الأسئلة التي طرحها على نفسه، في عصره.

على العكس من ذلك، يجعل هنتغتون لنموذجه القائم على التقسيم الحضاري أفضلية مطلقة على غيره من النماذج. وبنوع من الوقوف عند المركزية الحضارية للغرب يريد أن يثبت تفوق جوهري لا تاريخي للنموذج الغربي على سواه. لكن تلك النزعة الواضحة على نحو متواتر في كتابه، هي أكثر ما أثار ردود فعل عربية وغير عربية ضده بتقديرنا، مثلما أدت إلى إغفال جوانب عديدة ايجابية في طرحه المجمل ضمن الكتاب.

التحديث والتغريب، تفوّق الغرب

نشير بداية إلى أن معالجة هنتنغتون لعلاقة الحداثة بالغرب تفتقر إلى الوضوح المنهجي، بل إن تلك المعالجة تقوم على خلط مناهجي يضعف الاتساق المنطقي للأفكار ويقسر النتائج قسراً على مقدمات لا تشبهها من قريب أو بعيد، ولا تتفق معها مطلقاً إن أوصلناها إلى نهايتها المنطقية. فلكي يفسر حداثة الغرب بالقياس للعالم غير الغربي، يطلق العنان للتحليلات القائمة على الجغرافيا والديموغرافيا والزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد بعامة، لكنه لا يلبث أن يقفز قفزاً إلى التحليل الثقافي، الذي يردها إلى الثقافة والدين واللغة والتاريخ والموروث التقليدي، فيدمج البنية بالتاريخ، والسوسيولوجيا بالأنثروبولوجيا، ليخرج بتراكيب قسرية «خلطبيطة مناهجية» تتجه مباشرة للأحكام الإيديولوجية المبسترة، بدلاً من اتجاهها للفهم والتفسير المعرفي والعلمي لحدود الظاهرة ومعناها الابستمولوجي ضمن سياق النص. فلكي يثبت تفوق الغرب على العالم غير الغربي، يقوم برد هذا التفوق إلى عوامل متعددة، «يصادف» أن تكون جميعها ثقافية! يعددها هو، ونكثفها نحن، على النحو التالي:

– التراث الكلاسيكي: ويتضمن الفلسفة اليونانية والعقلانية والقانون الروماني واللاتينية والمسيحية.

– الكاثوليكية والبروتستانتية: أي المسيحية الغربية، وذلك تمييزاً لها عن الأرثوذكسية الشرقية (أي الروسية والسلافية).

– اللغات الأوروبية: وهي الموروثة عن اللاتينية والمميزة لثقافة الغرب، حيث يختلف الغرب بتقديره عن معظم الثقافات الأخرى في تعدد لغاته.

– الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية: حيث يتميز الغرب تاريخياً، حسب وصفه، بثنائية السلطتين وانفصالهما، بينما يجد أنه في الإسلام، الله هو القيصر، في الصين واليابان، قيصر هو الله، في الأرثوذوكسية، الله هو الشريك الأصغر لقيصر، بينما كان للفصل والصدامات المتكررة بين الكنيسة والدولة في الغرب طابعاً خاصاً لم يحدث في أي حضارة أخرى، وساهم إلى حد كبير في تطوير الحرية في الغرب.

– حكم القانون:حيث ورث الغرب عن الرومان مفهوم مركزية القانون بالنسبة للوجود المتحضر، خلافاً لمعظم الحضارات الأخرى التي كان القانون فيها أقل أهمية في تشكيل الفكر والسلوك.

– التعددية الاجتماعية: حيث كان المجتمع الغربي بتقديره، من الناحية التاريخية، متعدداً إلى حد كبير، وتلك التعددية الأوروبية كانت تتناقض تماماً مع فقر المجتمع المدني وضعف الارستقراطية، وقوة الإمبراطوريات البيروقراطية في كل من روسيا والصين والأراضي العثمانية وغيرها من المجتمعات غير الأوروبية.

– الهيئات النيابية: حيث خلقت التعددية الاجتماعية، منذ وقت مبكر، طبقات سياسية متميزة وبرلمانات ومؤسسات، وقد وفرت هذه الهيئات أشكالاً من التمثيل تطورت مع التحديث إلى مؤسسات للديمقراطية الحديثة.

– الفردانية: وهي السمة الرئيسة المميزة للغرب خلافاً للحضارات الأخرى التي تسودها الجماعية، وروح الفردانية هي المؤسسة لتراث الحقوق والحريات السائدة في المجتمعات الغربية المتحضرة.انظر، المصدر ذاته من ص 114حتى ص 120.

هذا التحليل الثقافي الذي أراد هنتنغتون من وراءه إثبات أصالة الغرب وتميزه التاريخي عن «الكثرة غير الغربية» جاء مسبوقاً بشرح مطول عن العوامل الجغرافية الزراعية وأثرها في النظام الاجتماعي السياسي، وذلك أيضاً بالقياس إلى العوامل الصناعية التي تترك أثراً مختلفاً حتى على الثقافة ذاتها، ولكن تحليله الاقتصادي الذي بدى أقرب للتحليل الماركسي والتاريخي، يغيب تماماً عن النتيجة السياسية/الثقافية التي وصل إليها، ويُجيَّر ديماغوجياً لصالح التحليل الثقافوي الذي يزعم أصالة الفردانية والقانون، وفرادة اللغة والمسيحية الغربية، وجوهرانية الحداثة في الغرب، تلك العوامل التي ميزته دائماً؛ حسب نتائج هنتنغتون، عن العالم غير الغربي.

بالقياس إلى التحليل الثقافي ذاته، نجد إنه عوض أن ينطلق الكاتب وكتابه من عالمية القيم الإنسانية التي تضيف كل حضارة صاعدة عليها شيئاً جديداً ومفيداً للإنسانية جمعاء، وذلك في الخط المتدرج لوعي الحرية؛ على ما يسميه هيغل. ينطلق من فرادة وغربيّة تلك القيم وتنافسها مع غيرها من قيم الآخرين، غير الغربيين. وغالباً ما نرى أن تلك النظرة الاحتكارية، والمغرقة بالمركزية الغربية، هي نظرة مُفعِّلة؛ إن لم نقل مُؤسِّسة، لسياسة صراع الحضارات. وبينما يكون تنوع الثقافات وتأكيدها الذاتي لذاتها، نوع من الغنى الذي يؤكد التعدد في صلب الواحدية البشرية، يصبح هذا التنوع مبارزة حضارية لإلغاء الجميع في مقابل الواحد، أو نوع من الصهر القسري للتعدد في الواحدية، وذلك ما يحرف مسار الكتاب نحو قيم الاضطغان والخوف من نجاح الحضارات الأخرى، حيث تصبح قوة أي حضارة أو ثقافة، هي في سلب قوة غيرها، لا في تأكيد قوتها الايجابي، ونجاحها هو في منع تلك الحضارات من النجاح. بالمجمل نجد تلك القيم قيماً منحطّة، بالمعنيين الثقافي والسياسي، ومآلها هو تزكية الصراعات الحضارية بتنسيبها ثقافياً، بعد تأبيد التباين الثقافي بين الأمم.

هناك خلط واضح لكنه «يُعمي» لدى هنتنغتون بين الثقافة والسياسة، فالقانون والديمقراطية والمأسسة وحقوق الإنسان والفردية.. الخ، التي يمكن تسميتها اليوم ب «الثقافة الغربية» هي بالأصل مكتسبات سياسية، وكانت ضمن حيز السياسة قبل أن تصبح ثقافة عامة وعالمية. كما أن تلك المميزات الثقافية لم تهبط إلى الغرب من السماء، بل جاءت نتيجة لعمليات تصفية وتشحيل وانتقاء وارتقاء تاريخية عبر تطور الغرب وتقدمه، ودُفعت لأجلها آلاف الحروب والدماء، حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم. فقد يُعرَّف الغرب بثقافته لكن العكس ليس صحيحاً، أي أن الثقافة لا تُعرَّف بالغرب، إلا بالنسبة لمريض بالمركزية والتمركز الذاتي حول الذات الحضارية. ومن نتائج هذا الخلط، أنه يجعل من الثقافات في العالم كجزر أبدية لا يمكن تغييرها. وحتى لو افترضنا صحة هذا الطرح، فإن التغيير ليس مطلوباً في الثقافات تجاه أن تصبح ثقافات غربية، بل هو حق وواجب على تلك الثقافات، لتتغير رأسياً ضد الخامل فيها، وباتجاه مصلحتها ومصلحة شعوبها، فالتغيير أصلاً هو عملية سياسية تُبنى فوق الثقافة، وتعيد إنتاجها.

الإسلام وصراع الحضارات

يحتل الإسلام موقعاً مركزياً في قلب صراع الحضارات، ففي السياسة الكونية الجديدة؛ وهي سياسة قائمة على الحضارات، تحلّ دول المركز في الحضارات الرئيسة محل القوى الكبرى في الحرب الباردة، وتصبح تلك الدول هي أقطاب الجذب والطرد بالنسبة للدول الأخرى. وتتضح هذه التغيرات بجلاء في الحضارات الغربية والأرثوذوكسية والصينية. ولكن بالنسبة للإسلام، فعلى اعتباره يفتقر إلى دولة مركز، تجده يقوم بتوسيع وعيه المشترك، إلا أنه لم يحقق بعد سوى بنية سياسية ناقصة، وتلك إحدى مشكلاته الحضارية الراهنة.

يعتقد هنتنغتون أن النمو الاقتصادي للصين، هو التحدي الحضاري للغرب من جهة آسيا، بينما النمو السكاني لعالم المسلمين «الذين ينجبون أفواجاً من المتطرفين، مجندين جدد للأصولية والإرهاب والتمرد والهجرة»المصدر ذاته، ص 170.، هو التحدي الإسلامي للحضارة الغربية والرافض لها. أي أن الاستراتيجية الأمريكية، بين السطور، لابد أن تقوم على ملاقاة هذين التطورين في القرن الحادي والعشرين. تكبيل الصين اقتصادياً، وتكبيل الدول الاسلامية بصراعاتها، التي تخفف من عدد السكان ومن الانشغال بالغرب.

وكقارئ جيد لتاريخ الصراعات في العالم، يشير هنتنغتون بنحو لمَّاح إلى أن ذلك الجمع بين الحجم والتعبئة الاجتماعية في الدول الإسلامية له ثلاث نتائج سياسية مهمة:

أولاً- الشباب هم أبطال الاحتجاج وعدم الاستقرار والإصلاح والثورة. وتاريخياً، فإن وجود مجموعات عمرية شبابية كبيرة يتصادف دائماً مع تلك الحركات. وكما يقال فإن الإصلاح البروتستانتي مثال على إحدى الحركات الشبابية البارزة في التاريخ.ذاته، ص 193.

ثانياً- الكثرة السكانية تحتاج إلى موارد أكثر، ومن هنا فإن الناس الذين ينتمون إلى مجتمعات تتزايد أعدادها بكثافة و/أو بسرعة يميلون إلى الاندفاع نحو الخارج، يحتلون أرضاً، يبسطون ضغوطهم على المجتمعات الأخرى الأقل نمواً من الناحية الديمغرافية. وهكذا يكون النمو السكاني الإسلامي عاملاً مساعداً ومهماً في الصراعات على طول حدود العالم الإسلامي بين المسلمين والشعوب الأخرى.المصدر ذاته، ص 196.

ثالثاً- الضغط السكاني المصحوب بالركود الاقتصادي يؤدي إلى هجرة المسلمين إلى المجتمعات الغربية ومجتمعات أخرى غير إسلامية، ويجعل من الهجرة قضية في تلك المجتمعات. إن تجاوز الكثافة السكانية في شعب ثقافة ما، والزيادة البطيئة أو الكساد في شعب ثقافة أخرى، يولد ضغوطاً على عمليات التكيف الاقتصادية و/أو السياسية في كلا المجتمعين.ذاته، ص 197.

في عالم ما بعد الحرب الباردة أيضاً، أصبحت القوة الكونية أسلوباً قديماً، وأصبح المجتمع الكوني حلماً بعيد المنال، حيث لا توجد أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، لها مصالح أمنية كونية مهمة. ولكن لأسباب أمنية خاصة بالتقسيم الحضاري، فقد تحاول دول المركز أن تدمج فيها شعوب الحضارات الأخرى، أو أن تسيطر عليها، كما تحاول تلك الشعوب بدورها أن تقاوم أو أن تهرب من تلك السيطرة (الصين ضد سكان التبت والأويغر، وروسيا ضد التتار والشيشان ومسلمي آسيا الوسطى). ولذلك فإن العالم، بتقدير هنتنغتون، سيتم تنظيمه على أساس الحضارات أو لن ينظم أبداً. وفي هذا العالم، دول المركز في الحضارات هي مصادر النظام، وذلك في داخل الحضارات ثم بين الحضارات وبعضها عن طريق التفاوض مع دول المركز في كل منها. العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة ولدور دولة المركز في فرض النظام، وذلك يعني أن السلام لا يمكن أن يتحقق أو يتم الحفاظ عليه في أي منطقة إلا بقيادة الدولة المسيطرة في تلك المنطقة.

«عندما تفتقر الحضارات لدول مركز، تصبح مشكلات إرساء النظام داخل الحضارات، أو التفاوض عليه فيما بينها أكثر صعوبة. وغياب دولة مركز إسلامية قادرة على الاتصال بشعب البوسنة بشكل شرعي وسلطوي، كما فعلت روسيا مع الصرب، وألمانيا مع الكروات، هو الذي دفع الولايات المتحدة للقيام بهذا الدور. أما عدم فاعليتها في ذلك فسببه غياب الاهتمام الأمريكي الاستراتيجي بالحدود التي كانت في يوغسلافيا السابقة وعدم وجود أي علاقة ثقافية بين الولايات المتحدة والبوسنة، وذلك بالإضافة إلى المعارضة الأوروبية لإقامة دولة مسلمة في أوروبا. كما أن غياب دولة مركز في كل من افريقيا والعالم العربي، عقَّد إلى درجة كبيرة مساعي حل مشكلة الحرب الأهلية في السودان، من جانب آخر، فإن العوامل الرئيسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات توجد حيث توجد دول المركز»انظر، المصدر ذاته، من ص 253 حتى ص255.. ونلاحظ أن غياب دولة مركز اليوم، ومحاولة إيران لتحصيل الاعتراف الدولي بها كقوة مركزية في الإقليم، لكي تقوم بهذا الدور، يعقّد الحرب في سوريا ويمدّها إلى أجل غير معروف.

يتحدث هنتنغتون عن قضية مركزية في العالم الإسلامي، وهي أن بنية الولاء السياسي بين العرب وبين المسلمين لم تكن تتجه للدولة القومية كما هو الحال في الغرب الحديث، بل إلى الأمة الإسلامية. ولكن الانتقال من الوعي الإسلامي إلى التماسك الإسلامي ظلّ ينطوي على تناقضين:

أولاً، الإسلام مقسم بين مراكز قوى متنافسة، يحاول كل منها أن يفيد من توحده الإسلامي بالأمة لكي يحقق بذلك تماسكاً إسلامياً تحت قيادته ذاته، ص 287.. وثانياً، يفترض مفهوم الأمة عدم شرعية الدولة القومية، ومن ثم فإن الأمة يمكن أن تتوحد فقط من خلال أعمال دولة مركز واحدة قوية، أو أكثر من دولة، وهذا غير متوفر حالياً. كما أن مفهوم الإسلام كمجتمع ديني –سياسي واحد، يعني أن دول المركز كانت توجد في الماضي فقط عندما تتحد القيادتان الدينية والسياسية –الخلافة والسلطنة– في مؤسسة حكم واحدة المصدر ذاته، ص 288.. ذلك ما هو غائب منذ نهاية الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك بداية القرن العشرين، وقد تركت تلك النهاية الإسلام دون دولة مركز. أما محاولات أردوغان للعودة عن التوجه الأوروبي السابق لتركيا، ونقله نحو التوجه الإسلامي، ثم التقارب الأخير مع السعودية، فليست إلا خطوات جدية باتجاه ملئ الفراغ الحاصل، نتيجة غياب دولة إسلامية «سنيّة» قوية ومركزية، وملاقاة المشروع الإيراني المتسارع للعب هذا الدور.

الإسلام والغرب

لا يفتأ هنتنغتون يقع في فخ النظرة والنموذج الاستشراقي الذي يفترض، بل يفرض، الاستشراق المعكوس في صلبه، أي البناء على الهويات الثقافية الجوهرية الثابتة. لتبقى العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مجرد قشور رقيقة غير مُحدِدة لتلك الجواهر. فبعد نقاش مطول لعلاقة الإسلام بالغرب يخلص إلى النتيجة التالية:

«المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته وهاجسه ضآلة قوته. والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأمريكية ولا وزارة الدفاع. المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة شعبها مقتنع بعالمية ثقافته ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزاماً بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب».ذاته، ص 352.

بطريقة تبدو قصدية، يتجاهل هنتنغتون؛ في تفسيره العلاقة العدائية بين الاسلام بالغرب، كل الصدى المهم للمسألة الإسرائيلية، التي تعد العمود الفقري للسياسات العربية والإسلامية منذ نشوء إسرائيل منتصف القرن العشرين، فانحياز الولايات المتحدة؛ وقبلها فرنسا وبريطانيا، المطلق لإسرائيل ضد العرب، والدعم المطلق لكيان محتل في أرض غريبة، أوجد القضية الفلسطينية بكل تبعاتها السيئة على السياسة والتطورات السياسية العربية خلال نصف قرن، وربما لم تكن مجموعة الدول العربية الإسلامية، التي خرجت من تحت الاحتلال الغربي، لتضمر كل ذاك العداء نحو الغرب لولا وجود إسرائيل على الخارطة العربية، بل إن الحكومات العربية كانت متجهة أكثر للتماهي مع التقدم الغربي والثقافة الغربية في المراحل الأولى للاستقلال والخروج من حكم الاستعمار. ويمكن القول إن الأمر يعود إلى مراحل أقدم، سابقة للاستعمار الأوروبي، فمعروفة إرساليات محمد علي للدول الغربية للأخذ بأسباب التقدم الغربي والتماهي بها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وأثر ذلك فيما سمي «بعصر النهضة العربية»، الذي أنجب مفكرين عرب ومسلمين من أمثال محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين والطهطاوي والكواكبي والأفغاني.. وغيرهم.

كما تجدر الإشارة إلى مفارقة هامة حصلت، وهي أن قيام الديكتاتوريات العربية؛ ولاسيما منذ السبعينيات، الذي عزز ذاته بالاتكاء على القضية الفلسطينية والادعاء الكاذب بمعاداة الغرب وخدمة تحرير فلسطين، أخذ صداه في المجتمعات العربية رغم وهمه وكذبه. فمع أن تلك الديكتاتوريات كانت أهم حلفاء الغرب في العمق، إلا أن خطابها في الظاهر بقي معادياً للغرب ولإسرائيل على الدوام. وبالمقابل بنت الشعوب العربية والإسلامية ثقافتها بالفعل على المظلومية الحقة الناتجة عن قضية فلسطين، وكان عداؤها للغرب وإسرائيل أكثر حقيقية من عداء الأنظمة الشكلي لها. ولذلك فإن الكلام عن عداء ثقافي إسلامي للغرب لم يكن ليكون صحيحاً، في الأعم الأغلب، لولا وقوف الغرب الدائم مع إسرائيل، ودعمه للديكتاتوريات التي كرست هذا العداء، لتحصيل شرعية مُفتَقدة من قبل شعوبها.

لفهم المسألة على نحو آخر، لابد من إقامة تمييز وفصل ضروري، بين الغرب السياسي، المحكوم بالمصالح، والمعمي بالبراغماتية والأداتية. وبين الغرب المدني والثقافي والمجتمعي، المنتج والمُصدّر والمدافع، عن ثقافة حقوق الإنسان. حيث إن إرادة الغرب السياسي تسعى مصلحياً لإبقاء شعوبنا تحت حكم الديكتاتوريات، وهذه الأخيرة تمنع تلك الشعوب من التطور، وتحرمها من اطلاق طاقاتها الكامنة، التي توفرها الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية. لكن تعلق الغرب السياسي بالديكتاتوريات العربية يقوم؛ كما هو معروف، على ما توفره تلك الديكتاتوريات لخدمة المصالح الغربية وتسهيل سيطرته على الثروات ومقدرات البلاد. حيث تؤمن له مصلحتين رئيستين: اقتصادية وأمنية، البترول وحماية أمن إسرائيل، ولذلك كله نجد أن الغرب السياسي يخشى بالفعل من حرية شعوبنا، كون الحرية والديمقراطية والخلاص من الديكتاتورية، ستعجّل من فقدان السيطرة الغربية المفترضة على العالم، لما تحمله في داخلها من إمكانات بشرية وطاقات خلاقة بالمعاني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وذلك يعطي معنىً سياسياً واضحاً لتأكيدات هنتنغتون وتحذيراته الموجهة «للغرب السياسي» وصانعي السياسة في الولايات المتحدة، من أن الحضارتين المهددتين للغرب في القرن الواحد والعشرين هما الصينية والإسلامية.

يعقد هنتنغتون مقارنة معقولة في الشكل، لكنها خاطئة كلياً في المضمون، بين حركة الاصلاح البروتستانتي أواخر القرن السادس عشر، والصحوة الإسلامية أواخر القرن العشرين، وبالتحديد منذ سبعينياته، «التي شملت كل مجتمع في العالم تقريباً»هنتنغتون، ص 183. حيث قامت كلا الحركتين، بالمعنى الشكلي، ضد فساد وكساد المؤسسات الدينية والقضائية والتربوية والسياسية وغيرها، لكن الجانب المُغفَل في تلك المقارنة، هو أن الإصلاح البروتستانتي كان محاولة متواترة النجاح والفشل، لجعل الدين المسيحي أكثر قبولاً للحداثة و«روح الرأسمالية» كما بيَّن كتاب ماكس فيبر الشهير الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية. وإن استعرنا لغة ابن رشد يمكن القول إن الإصلاح الديني البروتستانتي كان محاولة لتطويع النص مع العقل والواقع، بينما نجد أن الصحوة الإسلامية المفترضة، والتي يؤكد هنتنغتون قيامها على شعار «الإسلام هو الحل» تريد العكس، أي محاولة لتطويع العقل والواقع مع النص الديني والشريعة الإسلامية. فمع أن أسبابها العميقة تكمن بالتأكيد في فساد الحاضر والرغبة بتغييره، إلا أن ما تطمح إليه هو إخراج الإسلام من الحداثة، وتطويع الحداثة لتصبح إسلامية، ولي عنق الواقع والعقل ليتفقا مع الدين، أو مع ما يفترض أنه الدين من وجهة نظر أقطاب تلك الدعوة، أمثال سيد قطب وحسن البنا والقرضاوي وحسن الترابي.. وصولاً إلى أسامة بن لادن والبغدادي. فبدل أن تقوم الصحوة الإسلامية المفترضة على التخفيف من عبء الدين وسحب البساط من تحت الفقهاء والمشرعين والشيوخ والأولياء، لصالح العلاقة الفردية بين العباد وربهم؛ مثلما فعلت البروتستانتية، فإنها تجعل الدين هو المادة الأساسية التي يقوم عليها اجتماع واقتصاد وسياسة وتربية البشر، وكل ما يخص شؤونهم الدنيوية بالمطلق.انظر، كلام هنتغتون حول الإصلاح البروتستانتي والصحوة الإسلامية، ص 180 وما بعدها.

ما نريد توضيحه هنا هو أن الإصلاح الديني، والصحوة الإسلامية الحقيقية التي كان من الممكن مقارنتها بالإصلاح البروتستانتي، هي تلك التي قامت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي سميت «نهضة عربية»، وأن ما يسميه صحوة إسلامية في نهاية القرن العشرين ليس أكثر من ردّة إسلامية يائسة على انغلاق فضاءات السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهو انغلاق شارك في صنعه الغرب السياسي بتحالفه مع الديكتاتوريات العربية وإسرائيل، ضد مصلحة الشعوب العربية والإسلامية.

إن استبداد الأنظمة العربية وفشلها في بناء الدولة الوطنية والديمقراطية، بالإضافة إلى التركيز الغربي على المصلحة الاقتصادية في السياسة، دون المصالح التنموية الشاملة، أدى إلى فتح الطريق أمام أسلمة المجتمعات، ونجاح الإسلام السياسي في أن يصبح الناطق غير الرسمي باسمها، والمعبر عن مواجعها، والقيام بسد الفراغ الناشئ عن الفقر السياسي والمدني والاقتصادي للمجتمعات العربية.

ومن هنا فإن علاقة الإسلام بالغرب هي علاقة مصنوعة سياسياً بالكامل، ويمكن تغييرها بالسياسة أيضاً، أما الأساس الثقافي لكل من الحضارتين فهو أساس مرن قابل للشد من الأقصى للأقصى، وليس ثابت أبدي غير قابل للتغيير، السياسة هي ما يغيره. ولكن جعل الواقع ثابتاً، وتأسيس واقعية سياسية على زعم ثباته، كما فعل هنتنغتون وكما تفعل إدارة أوباما اليوم، هو عين التزوير السياسي للثقافة، والتزوير «الواقعي» للتاريخ.

يبدو كلام هنتنغتون إذاً مقنع جداً وواقعي جداً، وهو مقنع أكثر لأرباب السياسة الأمريكية وصانعيها، فعندما يركز على أهمية وجود الخلافات الثقافية الحضارية القائمة في العالم، ويضرب أمثلة كثيرة في كتابه انظر، هنتنغتون، المصدر ذاته، ص 212 وما بعدها. عن فشل التعاون متعدد الثقافات بين الدول، على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية، مقابل نجاح تلك الأحلاف والمنظمات والمؤسسات الدولية القائمة على الثقافة المتقاربة أو الواحدة. تجده يدعّم كلامه بالاستناد إلى علم النفس هذه المرة، وبالقول إن الشر مكون أصيل في الطبيعة البشرية، لكن ما يفوته هو أن التركيز السياسي على تلك الجوانب الشريرة والمُباعدة بين البشر، هو استحضار لها وتنبؤ بها يسعى لتحقيق ذاته على الدوام. وإذا كانت الاختلافات من طبيعة البشر، فإن السياسة أيضاً هي ما يحولها من طابع الغنى والتنوع الثقافي الحميد بذاته، إلى طابع الخصام والعداوة واجتثاث المختلف (ذلك هو أصل الطائفية)، وعندما تقوم سياسة الدولة العظمى في العالم بناء على مبادئ الخلاف لا التلاقي، فهي تصنع؛ بواقعيتها الفجة المبنية على تلك الأسس، الطائفية الحضارية والخلاف الحضاري بين الأمم والثقافات وتقوم بتثبيته وتأبيده، ومن ثمة تتعامل معه بوصفه تحدٍّ جديد، تظن أنه يطيل من عمرها ويعزز من مكانتها في العالم.

الرد العربي

في الوقت الذي نرى فيه أن هنتنغتون قد حمَّل مجمل مقولاته السياسية على الثقافة، نرى أن الرد العربي بعمومه قد حمّل مجمل طروحاته الثقافية النقدية للكتاب على الأخلاق. ونقدِّر أن أحد الأسباب الهامة الكامنة خلف هذا التباين، يعود لغياب العلاقة المؤسساتية، بين صُنّاع الثقافة وصُنّاع السياسة في بلادنا. أي غياب مراكز البحث والدراسات الفكرية والاستراتيجية، وانقطاع صلاتها –إن وجدت– مع  راسمي السياسات العربية؛ التي تعود عادة لشخص الحاكم بأمره، وما ينطق به عن الهوى.

هذا الوضع المختلف تماماً عما يحدث في الغرب، يجعل من مفكرينا ومثقفينا ينقدون الطروحات الغربية؛ المُمأسسة والمليئة بالسياسة، بالقياس إلى الحقيقة، المجردة والمطلقة، فتصبح أحكامهم الفكرية والفلسفية؛ رغم صحتها بعض الأحيان، هي أحكام أخلاقية تجاه طروحات سياسية «واقعية» بعيدة عن مجال الأخلاق.

وإذا أخذنا في اعتبارنا أن الإيديولوجيا التي يطرحها الأقوى عادة، تصبح هي الحقيقة السائدة، سنجد أن «الحقيقة» التي يطرحها مفكرونا تصبح خيالية، وبعيدة كل البعد عن سير الواقع السياسي في العالم.

هذه المقدمة هي نتيجة بمعنى ما، لتفحص آراء اثنين من كبار المفكرين العرب، الذين ردّوا بكلام مكتوب؛ لكن بعجالة، على طرح هنتنغتون. وهما ادوارد سعيد ومحمد عابد الجابري، بالإضافة لقراءة مقالات متنوعة؛ وليست شاملة، انبرت للكتابة في الموضوع، من مثقفين وكتاب أقل شهرة وانتشاراً وتأثيراً، وبقيت في المجمل ضمن الحيز النقدي المُشار إليه أعلاه.

في كتابه خيانة المثقفين يردُّ إدوارد سعيد على طرح هنتنغتون ضمن مادة عنوانها يحيل إلى مضمونها، «صدام الجهل» ويعتبر فيها إن براهين هنتنغتون على صدام الحضارات «تعتمد على فكرة غامضة لشيء يسميه هنتنغتون ب(الهوية الثقافية)».ادوارد سعيد، خيانة المثقفين – النصوص الأخيرة، ترجمة أسعد الحسين، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، طباعة 2011، ص 156.

ويضيف إنه «في الحقيقة (هنتنغتون منظر وإيديولوجي) شخص يريد أن يجعل (الحضارات) و(الهوية) على ما هي ليست عليه: كينونات مغلقة بإحكام ومسدودة تماماً تطهرت من آلاف التيارات والتيارات المضادة التي تحيي وتنشط التاريخ الإنساني، وأنها خلال قرون لم تتمكن فقط من احتواء الحروب الدينية والغزوات الامبريالية وإنما كونت وحدة من الهجين المتبادل والتشارك. يتم تجاهل هذا التاريخ الأقل وضوحاً في عجالة تركيز الضوء على المصلحة المحدودة السطحية بشكل مضحك التي تثبت حقيقتها (صدام الحضارات). حين نشر كتابه الذي يحمل نفس العنوان عام 1996، حاول هنتنغتون أن يعطي برهانه دقة أكثر وكثير من الهوامش؛ لكن كل ما فعله هو إرباك نفسه، وأثبت أنه كاتب أخرق ومفكر سمج».المصدر ذاته ص 157، 158.

ومن هنا يصل إلى نتيجة، حصيلتها أن تلك «هي المشكلة مع الأوصاف المميزة التجهيلية للإسلام والغرب: إنها تضلل وتشوش الدماغ، وتحاول أن تمنطق حقيقة منافية للأخلاق لا يمكن وضعها على الرف أو تطويقها بسهولة».المصدر ذاته، ص 159.

لكن تحليلات «الكاتب الأخرق والمفكر السمج» وتركيزه على «المصلحة المحدودة السطحية بشكل مضحك» تشغل الرأي العام الثقافي والسياسي في الغرب عموماً لأكثر من عقد، وتصبح إحدى المبادئ النظرية والإيديولوجية الصانعة لسياسة الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، فهل «صدام الجهل» هو جهل للصدام؟! أم أنه تجهيل للقارئ العربي بأهمية أن يصبح صدام الحضارات هو النموذج الحاكم للسياسة الأمريكية تجاه العالم، والعالم العربي والإسلامي بشكل خاص! وهل الاكتفاء بالأحكام الساخرة والأيديولوجية يعوض عن التحليل العميق والبحث الدقيق كما يقول ابن خلدون؟!

الجابري، وهو مفكر سيد وسائد وصاحب تأثير كبير في الثقافة العربية، لا يتعامل مع طرح هنتنغتون بأفضل مما تعامل به سعيد، حيث يقرر في مقالات متتابعة نشرها ضمن كتابه قضايا في الفكر المعاصر إن كتاب هنتغتون «يطرح فكرة غير معقولة في ذاتها، فضلاً عن كونها من قبيل الرجم بالغيب»محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطعبة الأولى بيروت، حزيران/يونيو 1977، ص86. وإن «صدام الحضارات من الناحية العلمية مجرد وهم.. فكرة غير معقولة، إذ يجب أن تكون الحضارات عبارة عن صحون، أو سيارات أو ما أشبه هذا وذاك، حتى يمكن تصورها تتصادم.. ولكن الفكرة، من ناحية الاستراتيجية السياسية والعسكرية والثقافية تنطوي فعلاً على تحمل قضية. وبما أننا نحن العرب والمسلمين على رأس المستهدفين فيها فمن الواجب المساهمة في فضحها.. فضلاً عن وجوب تعميم الوعي بمضمونها وأهدافها».المصدر ذاته، ص 86.

لكن محاولات الجابري لتعميم الوعي بمضمون تلك الفكرة «غير المعقولة»، وفضح أهدافها، لم تدفعه لفهم وإفهام منطق صدام الحضارات الذي يطرحه هنتنغتون كنموذج جديد للسياسة العالمية، ونقده من الداخل، بل إلى رفض فكرة صدام الحضارات من أصلها، واعتبارها نوع من المؤامرة الجديدة للغرب ضد العرب والمسلمين، تم تكليف هنتنغتون بصياغتها النظرية. ولذلك تراه ينقل تصورات خاطئة عن فحوى الموضوع الهنتنغتوني، لا تؤدي للوعي والفضح، بل إلى التعمية والإدانة والرفض ليس إلا. فيقول مثلاً: «لو أن الكاتب كان يفكر في قضايا عصره من أجل فهمها والتماس حلول تخدم صالح الإنسانية ككل، مع افتراض أنه مقتنع فعلاً بأن ‘صدام الحضارات‘ يتهدد الأمن العالمي في المستقبل، كان المفروض أن ينتهي هذا الكاتب إلى نتيجة يدعو فيها جميع الجهات، جميع الدول والأمم، إلى الوعي بهذا الخطر ويطالبها بل ويقترح عليها اتخاذ التدابير الضرورية الكفيلة بتلافي هذا الخطر الماحق. لكن صاحب المقالة سلك مسلكاً آخر معاكساً تماماً، فتعامل منذ البداية مع ‘الفرضية‘ لا كمجرد فرضية تعبر عن احتمال وقوع أمر ما، بل كحقيقة تاريخية حكمت تطور التاريخ في الماضي وستحكمه في المستقبل. وهكذا راح يعيد بناء ‘التاريخ كله‘ بالصورة التي تجعل منه ‘صدام حضارات‘ الماضي في ذلك والحاضر سواء، باذلاً كل جهده لحشد الأمثلة والوقائع التي تؤيد هذه ‘الحقيقة التاريخية‘ المزعومة: يختار أمثلته من هنا وهناك ويؤلها تأويلاً يبتعد بها عن إطارها ويلبسها دلالات لا تحتملها».ذاته، ص125.

الواقع أن هنتنغتون كان مقتنعاً فعلاً بأن النموذج الحضاري هو النموذج الأفضل لقراءة وتخطيط السياسة العالمية والأمريكية تحديداً، وقد أكد في أكثر من مؤتمر دولي أقيم حول الموضوع (ومنها مؤتمرٌ بحضور الجابري نفسه في جامعة برنستون)، أن النموذج الذي يطرحه سيبقى صحيحاً طالما لم يقدم أحد في العالم نموذجاً بديلاً أفضل، ولم يتقدم بالفعل أي بديل جدّي، سوى بديل هزيل يخفف من وقع مصطلح الصدام الحضاري، ويجعله «حوار الحضارات». كما إنه، وعلى العكس مما قاله الجابري أعلاه، فإن كتاب هنتنغتون ينطوي بالفعل على عدة اقتراحات «لاتخاذ التدابير الضرورية الكفيلة بتلافي هذا الخطر الماحق»، لكن اقتراحاته تخص حضارته الغربية، لا الإنسانية جمعاء، ومنها أنه يدعو في نهاية كتابه بشكل واضح إلى تخلي الغرب عن فكرة عالمية ثقافته، والاكتفاء بحدود غربية تلك الثقافة، حيث يقول هنتنغتون«في عالم الصدام الحضاري والاثني الناشئ، يعاني اعتقاد الغرب في عالمية ثقافته من ثلاث مشكلات: فهو اعتقاد زائف، ولا أخلاقي، وخطر. أما عن كونه زائفاً فتلك هي الفرضية المركزية لهذا الكتاب… وأما عن كونه اعتقاد لا أخلاقي فذلك بسبب ما يجب عمله لكي يتحقق ذلك… فالاستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية. كما إن أي محاولة لعمل ذلك ستكون ضد القيم الغربية الخاصة بتقرير المصير والديمقراطية… إن عالمية الغرب خطر على العالم لأنها قد تؤدي إلى حرب بين دول المركز في حضارات مختلفة، وهي خطر على الغرب لأنها قد تؤدي إلى هزيمته».انظر، هنتنغتون، المصدر ذاته، من ص503، إلى ص505.

بالعودة إلى الجابري الذي يقلب كلام هنتنغتون رأساً على عقب، ويقوّله ما لم يقله، سنجد أن استخفافه بطرح هنتنغتون، واعتبار كلامه مجرد «فرضية» يعاملها صاحبها على أنها حقيقة تاريخية صالحة للماضي والمستقبل، هو أولاً تغييب للفارق بين كلمة «فرضية» وكلمة «نموذج»، وهو فارق لا يمتلكه القارئ العادي أو غير المختص. وثانياً، إن ذلك الاستخفاف بات هو ذاته «نموذجاً إرشادياً» للمثقفين والكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي والسياسي عندنا، ومن هنا نرى كيف يتحول دفاع مفكرينا عمّا يرونه حقيقة أو «الحقيقة»، إلى فعل أيديولوجي يُغيّب «الحقائق» التي يطرحها الفكر الغربي عموماً في مسائل محددة، وبالمقابل يتضح كيف تصبح الأفكار المؤدلجة، أو الموضوعة في سياق وظيفي، التي يقدمها الفكر الغربي، إلى حقائق واقعية تفرض نفسها على العمل والتفكير الثقافي ثم السياسي في العالم.

خاتمة..

عند النظر إلى التحولات الحاصلة في السياسة العالمية، ورؤية الأزمات الإقليمية المترتبة على ما آلت إليه ثورات الربيع العربي، والثورة السورية بوجه خاص. والنظر إلى أسلوب الولايات المتحدة في التعامل مع الخطرين الكبيرين القادمين من الصين والعالم الإسلامي كلُّ بطريقة مختلفة عن الآخر، سندرك أولاً طبيعة التخلي الأمريكي عن الدور المباشر في سوريا بإسناده إلى دولة مركز إقليمية قوية مثل إيران مقابل إزاحة خطرها النووي؛ وهو الخطر الوحيد الذي يهدد المصالح الأمريكية. وسندرك ثانياً أن التوريط الأمريكي لإيران في طموحاتها الإقليمية هو تغذية للصراع السني/الشيعي الذي سيشغل العالم الإسلامي ببعضه، ويصرفه عن الانشغال الحضاري بالغرب. وحتى في حال نجاح المد الإقليمي لإيران ستكون الولايات المتحدة هي الرابح، عبر الاعتماد على دولة قوية في الإقليم، منزوعة الأنياب النووية مقارنة بإسرائيل «الغربية»، وقابلة للتفاوض، وتضبط ما حولها. وبالتالي سنخلص إلى عدة نتائج تتلاقى بشكل كبير مع الطروحات المركزية في كتاب هنتنغتون صدام الحضارات.