يقف على الرصيف المقابل يراقب لمة الأطفال عند سيارة «المكتب الدعوي» لتنظيم الدولة الإسلامية عند «دوار النعيم». من السيارة تصدح أناشيد أشبال الخلافة التي تمجد التنظيم والخليفة… يراقب اللمة التي تريد الحصول على علبتي البسكويت والعصير، ومعها يجري توزيع «مطوية» طبع عليها آيات وأحاديث وكلمات، لا يفهم جُل هؤلاء الأطفال معناها.

تذكر سعد معسكرات طلائع البعث، والأناشيد التي تمجد القائد الخالد، وزيارات المسؤولين لتلك المعسكرات.

لحق بالسيارة التي تصدح بالأناشيد إلى «حارة البدو». حاول بهذه المتابعة أن يُكوِّن فكرة عما يريدون من الأطفال وهو المعلم الذي قضي 20 عاماً من التعليم في ذاك الريف البعيد، يعلم أطفال الصف الأول كحب وشغف وهواية، وليس كوظيفة.

حاملاً المايكروفون في يده، يقرفص ذو الشعر الطويل المنسدل حتى كتفيه واللحية الكثة أمام طفلة لا تتعدى سنواتها الخمس وتتمسك ببنطال أخيها الأكبر، معطية ظهرها له وهو يحاول عدم إخافتها، ولكنه كلما زاد قرباً منها علا بكاؤها وتمسكها بأخيها برعب واضح.

أراد سعد أن يقول له: ابتعد عنها، فهي تخافك! لكنه أحجم خوفاً من ردة فعل هذا المسخ والوحوش المرافقين له. يخيفون الكبار فما حال الصغار!

وضع المسخ الذي يحاول إظهار خفة دم ويرسم ابتسامة على وجهه كيساً بيد الطفلة التي ألقته أكثر من مرة ليعود أخوها ويحمله. سيطر على سعد فضول كبير لمعرفة ما بداخل الكيس. تحركت السيارة، وتحرك الجمع مسابقاً لها إلى شارع آخر وتجمع آخر وأطفال آخرين.

اقترب سعد من الطفل وأخته الذي حافظ على الغنيمة بكلتا يديه، وبسلطة لحية سعد، وهي فرض على كل ذكر يعيش في ظل دولة الخلافة، سمح له الولد بالنظر داخل الكيس. حجابان شرعيان ودمية على شكل فتاة اُلبست عباءة سوداء فوق فستانها القصير ومطموسة ملامح الوجه، وعلبتي بسكويت وعلبتي عصير.

في طريقه لمقابلة مسؤول ديوان التربية والتعليم في ولاية الرقة، أبو حمزة الأنصاري، في محاولة من سعد للاعتذار عن المهمة التي أوكلوها له، وهي الإشراف على 20 مدرسة في الريف البعيد، يناقش سعد نفسه حول كيفية الاعتذار وسببه، فالبنود الـ21 التي تم توزيعها على مدراء المدارس والمشرفين لا يمكن تطبيقها عليه.

أنتم مرتدون، هكذا بدأ أبو حمزة حديثه. كان «المسواك» لا يفارق فمه، ومع ذلك كلماته كالرشاش. تكلم بمحاضرة غير مترابطة عن الجهاد، وعن أن تعليم أطفال المسلمين الجهاد ومعانيه خير ألف مرة من حشو أدمغتهم بمنهاج علماني يريد تخريب عقولهم، تكلم أيضاً عن الحجاب وغلاء أسعار المحروقات، وعن صيدنايا وصورة بشار الأسد على الجلاء المدرسي، وعن «ردة» المعلمين والمدرسين لتدريسهم منهاج الكفر من أجل الراتب… إنكم تبيعون دينكم وتوالون نظام الطاغوت من أجل صفحات ملونة نتاج فكر الكفار، والقليل من المال.

حاول سعد أكثر من مرة طلب الحديث، ولكن محدثه كان يسترسل ويسترسل، وفي لحظة توقف، اعتقد سعد أن محدثه ترك له مجال الحديث. بدأ مرتبكاً: «يا شيخي، تقرير الأمم المتحدة بتاريخ 6/1/2015 يقول إن هناك 670 ألف طفل سوري حرموا من التعليم بعد قرار الدولة الإسلامية الخاص بالمدارس في المناطق التي تسيطر عليها». أراد أن يكمل فكرته، ولكن عند سماع أبو حمزة الأنصاري اسم الأمم المتحدة بدا لسعد أن مساً قد أصاب الشيخ الذي ضرب بكل قوته كفيه على الطاولة، وهب واقفاً بشكله الذي لا يوحي بانتمائه إلا لسكان الكهوف والمغاور،  باستثناء الحزام الناسف الذي يزنر به خصره. أزبد وأرغى على الأمم المتحدة الفاجرة، وما أعلمها بأحوال المسلمين في دولة الخلافة! وأنهم قطعوا رؤوس كل الصحفيين والناشطين حتى لا يكونوا عملاء لهؤلاء، وينشروا أخبارا كاذبة عن أحوال دولة الخلافة الراشدة. وما أدرى الأمم المتحدة بأحوال أبناء المسلمين! نحن أدرى بهم، بدنياهم ودينهم!

في إشارة إلى انتهاء المقابلة أضاف الشيخ: اذهب، ولا تنس أن تأخذ التعليمات الجديدة والتعاميم!

جلس في ذاك الباص العتيق الذي قُسم الى قسمين من داخله بواسطة ستارة سوداء، خصص القسم الخلفي للنساء والأمامي للرجال. توجه سعد إلى عمق الريف البعيد، نابشاً من عمق ذكرياته طلابه وتلامذته، وما سيحل بهم. وهو على الطريق فتح المغلف الذي يحوي التعليمات التي زودوه بها:

تعميم عبر ديوان التعليم في 8/1/2015: يمنع على الطلاب والطالبات الجامعيين الذهاب إلى جامعاتهم في الولايات الأخرى لتقديم الامتحان الفصلي الأول. /الفتوى: إن من يذهب إلى هناك موال للكفرة، ويتعلم مناهج ضالة ويتواصل مع مجتمع فاسق.

تعميم عبر ديوان التعليم في 9/1/2015: لا يتم ذكر اسم الجمهوريه العربية السورية، ويتم تعويضها بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وكذلك حذف كل الصور، وخاصة صورة العلم والأناشيد والقصائد التي تدعو إلى حب الوطن. /الفتوى: شرك وتجديف.

تعميم عبر ديوان التعليم في 7/1/2015: إغلاق كافة المدارس في الولاية والإبقاء على 12 مدرسة في مركز الولاية للذكور ومدرستين للإناث، مع تغيير أسماء هذه المدارس، وتم اختيار اسمين، وسيتم إبلاغكم بالأسماء الجديدة لاحقاً:

تعديل اسم مدرسة حطين في نهاية شارع المنصور بجانب السور، ليصبح اسمها: مدرسة عبدالله بن مسعود.

تعديل اسم مدرسة أبو العلاء المعري نهاية شارع محطة القطار، ليصبح اسمها: مدرسة أبو مصعب الزرقاوي.

تعميم عبر ديوان التعليم في 19/1/2015: إلى حين الانتهاء من طباعة المنهاج الخاص بالدولة الإسلامية يطلب إليكم:

حذف مادة التربية الاجتماعية بكتبها الثلاثة، الجغرافية والتاريخ والقومية.

حذف مادتي الكيمياء والفلسفة لعدم اعتماد المادتين على الله، وتستبدلان بالمواد التالية، العقيدة والفقه والحديث والسيرة.

تعديل مادة العلوم بما يتوافق مع الشرائع السماوية.

حذف كتب الرسم والفنية والموسيقا والرياضة والتربية الإسلامية والتربية المسيحية «بالنسبة لأهل الذمة»، واللغة الإنكليزية والفرنسية.

تعميم عبر ديوان التعليم في 19/1/2015: اجتماع كافة مدراء المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية والمعاهد والجامعات والموجهين التربويين والاختصاصيين من أجل الاطلاع على المنهاج الإسلامي الجديد.

تعميم عبر ديوان التعليم في 21/1/2015: إلى كل العاملين بسلك التربية من مديرين وموجهين ومعلمين ومعلمات، الأصيل منهم والوكيل، وأمناء السر وأمناء المخابر والحاسوب والعقود والمستخدمين والحراس، يطلب إليكم التوجه إلى أماكن الاستتابة من الردة التي تعيشون فيها لتدريسكم منهاج الكفر، وذلك في مدة 15 يوماً اعتباراً من يوم الخميس القادم، وتم تعيين جامع أبو بكر للاستتابة بالنسبة للذكور، ومدرسة «هيلانة القصير» سابقاً («أم المؤمنين» حالياً)، وكل تخلف يعتبر صاحبه مصراً على ردته، وسيطبق عليه حد الردة.

أستاذ، أستاذ، أستاذ سعد! جاءه صوت سائق الباص منتشلاً إياه من تفكيره بالردة. أستاذ، لقد وصلنا.

في اليوم التالي أبلغ جميع المعلمين الذين يتبعون لإشرافه بمحتوى التعاميم التي لم يتجرأ أحد على مناقشتها، وخصوصاً أنها كلها ممهورة بتوقيع «ذو القرنين» الذي يوقع كل التعاميم الخاصة بالتعليم، وهو كما كثر من أمراء وقياديي الدولة لا يعرف له اسم أو شكل أو دور، سوى حادثته الشهيرة بقرية تل حميس التي أعدم بها هو شخصياً أربعة مدرسين ذبحاً بسكينه في أحد الصفوف في مدرستهم بتهمة الردة بتدريس منهاج الكفر.

بدأ المعلمون والمدرسون يتوافدون إلى مراكز الاستتابة زرافات وفرادى، «تراهم سكارى وماهم بسكارى»!

يتأبط كل منهم مجموعة أوراق  يتدارسونها فيما بينهم خشية النقص فيها، وتتضمن الاستمارة سيرة ذاتية على نسختين، مع صورة شخصية على كل نسخة، ومكان لبصمة صاحب العلاقة، ومكان بصمة الكفيل من الزملاء الذي سيكفله في حال أخل بشروط الاستتابة، ولأن الأستاذ سعد «مشاغب» تعذب كثيراً حتى رضي أحد زملائه بكفالته.

كالأبله يقف سعد أمام الكاميرا وضوئها الساطع الذي يعمي العيون، غير مصدق أن أبو حكمت هو أمير التعليم في الريف الشمالي من قرية «صكيرو» التابعة لناحية عين عيسى، الرجل الذي لا يحمل أي مؤهل دراسي، وأن معاونيه هما أبو الوليد العكال من قرية «قنيطرة» التابعة لناحية سلوك التي بايع كل أهلها التنظيم، وخالد العمر من قرية «الصخرة» التي بايع أهلها أيضا كلهم التنظيم؛ القريتان قدمت كل منهما أكثر من عشرة من خيرة شبابها على مذبح التنظيم. أمام هؤلاء الثلاثة كان على سعد أن يعلن توبته مسجلة بالصوت والصورة.

كان خلف الكاميرا كرتونة كبيرة مكتوب عليها: «أنا المدعو فلان بن فلان وفلانة، أقر بأني أتبرأ إلى الله تعالى من المنظومة التعليمية النصيرية، ومن المنهاج التكفيري ومن انتسابي إلى نقابة المعلمين، وأن لا أتواصل مع هذه المنظومة، ولا أقبض منها أي بدل عن رواتبي، وفي حال خالفت شروط هذه التوبة اعتبر مرتداً ردة كبرى، وأنا غير مجبر على ذلك والله على ما أقول شهيد».

كان أبو حكمت كلما دخل أحد المعلمين لتسجيل توبته يبادره «أعرفكم، أنتم هنا ولكن قلوبكم عند النظام منشان الراتب»، فيرد أحد مرافقيه مستهزئاً من المستتاب «وهل شققت قلبه شيخي»!

يخضع كل مستتاب أو مستتابة إلى دورة شرعية لمدة 15 يوماً.

بعد أن أنهى دورته الشرعية، طلب من سعد أن يلتحق بمعسكر «الفاروق لأشبال الخلافة» في قرية رطلة، 12 كيلومتراً جنوب شرق المدينة، وهو المعسكر الخاص بأبناء المهاجرين، ليعلمهم اللغة العربية. في المعسكر نفسه يتربى أبناء المهاجرين على استخدام السلاح والقتال.

في ليلة «ما بيها ضو قمر» عبر سعد الحدود إلى تركيا، تاركاً وراءه خلافة الرعب.

في الأربعين من عمره، يعمل سعد الآن جامعاً للورق والكرتون من حاويات القمامة في مدينة غازي عينتاب بتركيا.