في الأيام الماضية، فُتح نقاش حول المشاهد الفظيعة التي تصدر عن سوريا، وحول طريقة التعامل معها واستخدامها. كتب ياسين الحاج صالح مادة بعنوان «تحديق في وجه الفظيع»، وردّ محمد علي أتاسي بمادة بعنوان «الكرامة في حضور الفظاعة». وهذه محاولة لمناقشة استخدام الصور الصادمة في الإعلام، وما هو مطروق من قواعد في بعض الأدبيات والأعراف الصحفية العالمية، في محاولة للمساهمة في مناقشة قضية صورنا الفظيعة.

عند مراجعة أدبيات الأكاديميا الصحفية والأعراف التحريرية لكبريات الصحف الغربية نجد في أكثرها إشارة لعدم وجود قانون عام يخص المشاهد المؤذية، بل يجب أن يُقرر نشر صورة أو فيديو أم لا في كل حالة بشكل مستقل. بعض الوسائل الإعلامية تترك الأمر بيد غرفة التحرير، في حين أن بعضها الآخر، مثل أسوشييتد برس، يضع القرار النهائي في يد مسؤول المحتوى البصري وخبير في الأعراف الأخلاقية الصحفية ليقررا في شأن النشر بعد التشاور مع الهيئة التحريرية. قبل الوصول لقرار نهائي، يمر النقاش حول المحتوى البصري عبر عناوين أساسية، تُستخدم بمثابة نقاط تفتيش تتم الموازنة بينها وفق ملابسات كل حالة. تلخّص جمعية صحفيي مدريد هذه العناوين كالتالي: الأهمية الخبرية للمحتوى البصري؛ المصداقية؛ الخصوصيّة؛ وقيمة المادة البصرية كدليل مفيد لفضح انتهاكات حقوق الإنسان.

تُجمع الأدبيات الصحفية على ضرورة ألا تكون الصورة هي الخبر بشكل مجرّد، بل يجب أن تكون مادة مرافقة لشرح ظروف الخبر وملابساته وسياقه، ويجب أن تخدم المادة الصحفية وتمنحها العمق المطلوب والقدرة على الوصول والتأثير و«الصدم».

لكن أود هنا أن أقترح طريقة أخرى للنقاش، مبنية على تفكيك القضية إلى ثلاثة عناصر: الحدث (المكان، السياق الزمني، الظروف التي أدت لوقوع ما وقع، الجهة المُنفذة وأسلوبها وغاياتها وطريقة تقديم نفسها إن قدّمت نفسها أصلاً…)؛ الجهة الصحفية (المراسل على الأرض، غرفة التحرير التي تقرر عرض صور جارحة أم لا في سياق تغطيتها لحدث ما، وطريقة عرض هذه الصور إن عُرضت…)؛ والجمهور المتلقّي (مدى اهتمامه بالحدث، مقدار حساسيته تجاهه، الزوايا الإيديولوجيّة أو الأفكار المسبقة التي يُرجّح أن يحملها تجاه الحدث وتفاصيله…).

الحدث

تفرض طبيعة الحدث نفسها عند تحديد طريقة التغطية والزاوية المتخذة. لا تستوي تغطية كارثة طبيعية مع تغطية حادث سير أو حريق، ولا يتشابه أي منها مع عملية إرهابية، كما أن لحالة النزاع المسلح، خاصة إن رافقها انتهاك واسع لحقوق الإنسان، عالمها الخاص من المعايير. للمكان أيضاً أهميته، إذ لا تحتاج كارثة ما تحصل في دولة أوروبية أو في الولايات المتحدة للقدر نفسه من «الصدم» المثير لاهتمام المتابعين مثلما تحتاج تغطية أخبار الكوارث في آسيا أو أفريقيا أو الشرق الأوسط.

عتبة نشر المحتوى البصري المؤذي تنخفض كلما ازداد معناه كتصوير لانتهاك حقوق الإنسان، وأيضاً كلما كان مكانها وسياقها نائياً أكثر عن المركز العالمي.

في حالة العمليات الإرهابية وانتهاكات حقوق الإنسان، تأخذ الجهة المنفذة وطريقة تقديمها لنفسها أهمية جوهرية عند تقرير نشر صور مؤذية أم لا. هل تحاول الجهة المنفذة إخفاء ما ترتكبه أو تتبرأ منه؟ أم أنها، على العكس، تقوم به بشكل علني وتتعمد إيصال صورة ما بإمكانها أن ترتكب لأكبر قدر ممكن من الناس؟ في الحالة الأولى، للمادة البصرية أهمية كبرى كمستند إدانة لمجرم يحاول إخفاء جريمته أو التنصّل منها، فيما قد يتحوّل النشر في الحالة الثانية إلى مساهمة في بروباغندا إرهابية. من هنا، لا إمكانية للمقارنة بين صور الويلات التي تتركها البراميل المتفجرة التي يُلقيها طيران النظام ومشاهد الإعدامات التي تقوم بها داعش، ففي الأولى توثيق وفضح لجريمة ضد الإنسانية يرتكبها النظام السوري، وتتسبب بكارثة إنسانية كبرى وأعداد هائلة من القتلى والجرحى، فضلاً عن الدمار الواسع الذي تخلفه، هذا بينما ينفي رأس النظام في حواراته مع الإعلام الغربي استخدام جيشه لهكذا سلاح أصلاً. نشر الصور هنا دحض للتعمية والتشويش اللذين بمارسهما النظام. بالمقابل، تقوم داعش نفسها بنشر مشاهد قطع الرؤوس والأطراف كجزء من بناء صورتها المتوحشة لإرهاب أعدائها، ومن شأن نشرها دون تفكير بالتالي أن يكون مساهمة في دعاية داعش.

تعيش الأوساط الثقافية والإعلامية المكسيكية جدلاً مماثلاً حول ضرورة نشر الصور المؤذية، إذ يعيش المكسيك منذ عقود حرباً طاحنة بين الدولة وعصابات الجريمة المنظمة، خصوصاً كارتيلات المخدرات، وبين هذه الكارتيلات نفسها. وهناك تشابه كبير بين سلوك كارتيلات المخدرات وداعش، حيث لا تكتفي الكارتيلات بتصفية أعدائها، بل هي تعمل على أن تأخذ التصفية طابعاً استعراضياً ينفع لردع أعدائها وأسرهم في الرعب الذي تولّده، وتبتدع باستمرار طرق فظيعة للقتل والتمثيل بالجثث. وقد قامت إحدى وكالات الأنباء المكسيكية بتنظيم طاولة مستديرة حول الموضوع، استضافت فيها صحفيين وكتّاب وناشطين سياسيين، وتنوعت فيها الآراء وتناقضت. على سبيل المثال، يرى فرناندو بيجا، مسؤول المحتوى البصري في جريدة إل إيكونوميستا، إحدى أكبر صحف المكسيك، أنه لا يجب على الوسيلة الإعلامية أن تنشر صور الفظاعات التي ترتكبها كارتيلات المخدرات لأن هكذا صور لا تنفع كفضح لانتهاك حقوق الإنسان بقدر مساعدتها لكارتيلات المخدرات على استعراض قدرتها على إيقاع الأذى بخصومها. على الجهة الأخرى، يرى فرناندو بريتو، مدير المحتوى البصري في صحيفة إل ديباتي وجوب نشر هذه الصور، مشيراً إلى أن مدى انتشار هذا النوع من الجرائم قد جعلها جزء من الحياة اليومية، ولا معنى للتعامي عن هذا الواقع وتجاهله، بل يجب أن يُصوّر بكامل تشوّهه. تصدر إل ديباتي في سينالوا، حيث ينشط كارتيل ضخم هو أحد أقوى وأعنف كارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية، إذ يسيطر على جزء كبير من تجارة المخدرات إلى داخل الولايات المتحدة. من جهة ثالثة، يقف باكو إغناثيو تايبو، وهو روائي وناشط يساري بارز، في زاوية ثالثة، حيث لا يتوقف عند نشر الصور أم لا، بل يتساءل عن الهدف الذي يظهر في النص المرافق للصورة: هل تُستخدم الصورة كخبر متجرد بحد ذاته لتصوير الفظاعة فحسب؟ أم أنها تستخدم لمرافقة جهد إعلامي لتحشيد الرأي العام ليس فقط ضد المسؤولين المباشرين عن الجرائم، بل أيضاً ضد الدولة، المُقصّرة دوماً والمتورطة أحياناً كثيرة في هذا النوع من الجرائم؟

الجهة الإعلامية

يُقدم مركز دارت للصحافة والكوارث في جامعة كولومبيا مجموعة نصائح للمصوّر الصحفي المُكلّف بتغطية كارثة ما. يرتكز قسم كبير منها على ألا يكون مصدر إزعاج للضحايا وذويهم خلال عمله (وليس ألا يعمل لكي لا يُزعجهم)، وألا يعتبر كونه صحفياً حصانة ضد أي ردود فعل غاضبة قد تحصل. كما يوضع الصحفي أمام مسؤولية الموازنة بين أهمية الصورة كمادة توثيقية للكارثة والدموية أو القسوة التي يمكن أن تحتويها، بحيث لا تطغى الثانية على الأولى، ولكن دون اتخاذ سلوك محافظ بشكل مفرط.

في الدليل الذي نشره المركز، يوضع أمام المراسل الصحفي محظوران وحيدان: عدم اقتحام الحيز الخاص للأشخاص، أي عدم اقتحام بيوت دون إذن أصحابها، في حين تعتبر أن كل ما يجري في الحيز العام قابل للتصوير؛ والمحظور الثاني هو التأثير في مشاهد الألم للحصول على صورة أقسى. بإمكان المراسل أن يصوّر انتشال جثة من تحت الأنقاض في سياقها الطبيعي، أو أن يصوّر إسعاف جريح، لكن لا يجوز أن يطلب من أحدهم أن يحمل جثة أو أجزاء منها لتصوير المشهد. الافتعال ممنوع!

في نفس الوثيقة، يُنصح المراسلون بعدم التوقف كثيراً عند ردود أفعال الموجودين، أكانوا من الضحايا أو ذويهم أو المارين مصادفة، فالصدمة التي يعانونها ستجعلهم يتصرفون ويصرّحون بشكل لا يتناسب مع طبيعتهم في الحياة الاعتيادية، وبالتالي لا يجوز الاعتماد على تصريحاتهم في بناء القصة الصحفية. يمكن أن تكون مادة مرافقة، خصوصاً إن لم يكن من الممكن تجنّب تصويرها أو توثيقها ضمن العمل على أخذ الصورة العامة، لكن لا يجب أن تكون هي الخبر، ولا يجوز اعتبار عبارات الألم والغضب تصريحاً صحفياً واعياً.

عدا ما يُنتجه المصورون الصحفيون، تُتابع كافة وسائل الإعلام الكبيرة ووكالات الأنباء المحتوى المنتج من قبل المستخدمين. ويُقصد هنا الصور ومقاطع الفيديو التي يُشاركها أفراد في شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات عن أحداث معينة. وكثيراً ما يتم استخدام هذا المحتوى إن تم التأكد من مصداقيته، وحين يتعذر الحصول على صور حصرية لمراسلين أو صحفيين.

عند الانتقال في البحث عن الأعراف بخصوص سلوك غرفة التحرير، البعيدة عن مسرح الأحداث، فيما يخص الصور المؤذية، سنجد مفارقة في أن إرشادات السلامة النفسية أكثر تفصيلاً للمحرر من تلك التي تُعطى للمراسل على الأرض. لهذا الأخير الكثير من إرشادات السلامة الجسدية، ونصائح تخص فترات الراحة. يُعلل فيرغوس بيل، محرر الشبكات الاجتماعية والمحتوى المُنتج من المستخدمين في أسوشييتد برس، في حوار له مع موقع الشبكة الدولية للصحفيين ذلك بأن المراسل على الأرض يعيش خلال تغطيته للكارثة شلال أدرينالين يُساعده على استيعاب الصدمة والتعامل معها لاحقاً، في حين أن المحرر المسؤول عن متابعة المشاهد المؤلمة عبر الشاشة لا يمر بالمرحلة الأدرينالينية بنفس المقدار، ما يجعله أكثر عرضة للشدة النفسية. لتجنّب هذا الخطر، يقول بيل إلى أن الإجراء المتبع في أسوشيتد برس هو تبديل المحررين المسؤولين عن متابعة المحتوى المُنتج من المستخدمين باستمرار، ومراقبة حالتهم النفسية ومدى الإرهاق الذي يمكن أن يعانوه. يشير فيرغوس بيل إلى أن العلامة الأولى على الإرهاق النفسي من متابعة الصور المؤذية هو الإدمان عليها.

لقد فرض انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وسهولة نشر الصورة والفيديو على الإعلام تحدياً جديداً. يحتاج الإعلام لمتابعة كل ما يتم نشره من قبل المستخدمين في تغطيته لأحداث عنيفة ودامية، ويحتاج أيضاً للتعامل مع هذه المادة والاستفادة منها بحذر وأخلاقية. المادة الخام الموجودة على الانترنت شديدة الفظاعة، وكثيراً ما تكون مجرد مشاهد دموية دون أي سياق أو معالجة صحفية، وعلى الإعلام استخدامها في سياق مهني بدل تجاهلها، بل أن تجاهلها، أو محاولة محاربتها أو منعها (وهي محاولة مستحيلة في العالم الذي نعيشه اليوم) يمكن أن يقود لنتيجة معاكسة تماماً، وهو ما يُسمى بظاهرة ستريسند.ظاهرة ستريسند: زيادة الإقبال على محتوى ما على الانترنت عند محاولة منعه أو التعتيم عليه بسبب ازدياد الفضول والرغبة بمشاهدة ما يُراد منعه. يعود اسم الظاهرة إلى الممثلة الأميركية باربرا ستريسند، حيث حاولت عام 2003 منع نشر صور جوية لسواحل كاليفورنيا يظهر منزلها فيها لاعتبارها أن الصور تُظهر تفاصيل المنزل من الجو وتخترق خصوصيتها، وقد أدى انتشار الخبر عن محاولتها منع نشر الصور إلى إقبال كبير على البحث عن الصور لمشاهدة ماذا يظهر فيها

الجمهور

عند الحديث عن متلقي المادة الصحفية عن الكوارث والحروب ينبغي تقسيم النقاش إلى فرعين: ما هي حساسيات هذا الجمهور، وكيف يتقبل المشاهد المؤذية من جهة، ومن جهة ثانية ماذا تريد الوسيلة الإعلامية من «صدم» هذا الجمهور وطريقتها في التأثير في الرأي العام، وهذا في النهاية جزء جوهري من الوظيفة الإعلامية.

ثمة علاقة تبادلية بين حساسيات الجمهور وسلوك وسائل الإعلام: تتبدل الحساسيات إن تعرّض أصحابها لخطاب إعلامي أشد أو أقل قسوة، وأيضاً تعمل وسائل الإعلام على اتخاذ سلوكيات تتلاءم مع ذائقة جمهورها لأسباب تجارية مفهومة. لا شك أن الجمهور الغربي أضحى أقل تقبلاً للمشاهد المؤلمة من الآسيويين والأفارقة والشرق أوسطيين، ووسائل الإعلام الغربية أقل استخداماً للمحتوى المؤلم من نظيراتها خارج العالم الغربي، ليس فقط عند تغطيتها لما يجري في بلدانها، بل أيضاً عند تغطيتها للحروب والكوارث خارج المنظومة الغربية. هل يمكن تعليل ذلك بالعنف الثقافي؟ هل هذا الواقع الإعلامي نتيجة للواقع الدامي في مناطق مثل أفريقيا والشرق الأوسط مقارنة بأي دولة أوروبية؟ إلى أي حد يجب أن تُسيطر ذائقة الجمهور الغربي على طريقة تغطية أحداث شديدة العنف والدموية خارج العالم الذي يعرفونه؟ ألا يؤدي هذا الأمر إلى إيصال صورة منقوصة، لا تُعطي فداحة ما يحصل حقه، ولا تؤثر في الرأي العام الغربي نفسه؟ هذا نقاش طويل، يتداخل فيه السياسي بالفكري، والإيديولوجي بالمهني.

ليس غريباً أن تعمل وسائل الإعلام على صدم الجمهور بمشاهد بالغة القسوة حين تودّ التأثير في الرأي العام والسياسات في دولها. هل كان يمكن أن يعي الأميركيون هزيمتهم في فييتنام، وأن يتكوّن رأي عام ضاغط باتجاه الانسحاب من هناك، دون المشاهد القاسية التي نقلها الإعلام الأميركي نفسه عن الفظائع التي ارتُكبت في فييتنام، ليس فقط ضد الفييتناميين بل أيضاً مشاهد مقتل جنودهم؟ في الثامن من الشهر الجاري، مرّت 43 سنة على التقاط المشهد الأيقوني لمناهضة الحرب الفيينامية، وهي صورة طفلة اسمها كيم بوك، تفر مرتاعة، عارية تماماً، وقد احترقت أجزاء واسعة من جلدها بالنابالم بعد قصف قريتها. نالت هذه الصورة، التي التقطها نيك أوت، جائزة بوليتزر عام 1973، وهي أهم جائزة عالمية تُمنح للتغطيات الصحفية.

لو بقينا فقط في إطار الصور التي نالت جائزة بوليتزر فإننا سنجد أمثلة أخرى على تغطيات مصوّرة أخرى صادمة وقاسية. عامي 1994 و1995 ذهبت الجائزة لتغطيات صحفية للمجاعات في أفريقيا. في 1994  نال كيفين كارتر الجائزة عن إحدى أقسى الصور في تاريخ الصحافة المصوّرة، حيث يظهر طفل على وشك الموت جوعاً في السودان، وخلفه نسر قمّام يتربّص به، وكأنه ينتظر وفاته. كانت الصورة وقصتها صادمة لدرجة أن المصوّر لم يتحمّل هولها، وانتحر بعدها بفترة قصيرة، رغم أن تحقيقات صحفية لاحقة أثبتت أن الولد لم يمت حينها بل تم إنقاذه. أما في عام 1995  فقد ذهبت الجائزة لوكالة أسوشيتد برس لتغطيتها الحرب الأهلية الرواندية، والمجاعات التي رافقتها. أرشيف الوكالة في ذلك العام مليء بصور أشلاء، أو مشاهد قتل بالسواطير، أو جثث أطفال ماتوا جوعاً على أطراف الطرق الترابية. ولو عدنا إلى أثر تلك التغطيات في ذلك الوقت لوجدنا أنها أدّت إلى تحركات اجتماعية في الغرب للمطالبة برفع الموارد المخصصة للإغاثة في أفريقيا بنسبة كبيرة، وأدت أيضاً لتغيّر في سلوك المجتمع الدولي أمام هول ما نُقل عن الهولوكوست الرواندي.

أمر مشابه حصل خلال الأزمة الإنسانية التي عانت منها هايتي بعد مرور مجموعة أعاصير بها عامي 2008 و2009. ليس من الممكن تخيّل أن كمية التبرعات والمساعدات التي خرجت من الدول الغربية باتجاه هايتي كانت ستكون بنفس الحجم لو لم يُصدم الرأي العام الغربي بالمشاهد الفظيعة التي نُقلت من هناك.

أمامنا أيضاً مثال قريب في الزمن والمكان: هل كان يمكن لفضيحة الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الأميركية في سجن أبو غريب في العراق أن تكون بهذا الحجم لو تم الاكتفاء بالكتابة دون الإرفاق بالصور الفظيعة؟ ربما يكون هذا هو المثال الأكثر شبهاً بحالتنا: مساجين يعانون أسوأ أشكال الانتهاكات، بما فيها الاعتداء الجنسي، ويتم تصويرها من قبل الجنود الأميركيين أنفسهم، وهم يلهون ويتسلّون بما يقترفونه.

لا تقتصر التغطيات المصوّرة للفظائع على العالم الثالث فقط. بالتأكيد أن النسبة الأكبر من الصور الفظيعة تأتي من أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، لكن هذا أيضاً يتعلق بمقدار العنف اليومي والمستمر الموجود في هذه المناطق. الواقع الدموي والعنيف يفرض نفسه. وسائل الإعلام الغربية، لا سيما الأميركية، لا تمتنع عن استخدام صور فظيعة لمواطنين غربيين حين ترى أنها تخدم سياق الرسالة الإعلامية التي تود إيصالها. لو عدنا إلى أرشيف الصور التي نالت جوائز بوليتزر، باعتبارها تنال استحساناً كبيراً من الوسط الأكاديمي الإعلامي، لوجدنا أكثر من مثال على صور فظيعة ناتجة عن حرائق. عام 1976، نال ستانلي فورمان الجائزة عن صورة التقطها أثناء حريق في بوسطن، يظهر فيها طفلان متطايرين في الهواء بعد أن تم رميهما من النافذة، أما في عام 1989 فقد ذهبت الجائزة إلى رون أولشوانغر عن صورة يظهر فيها رجل إطفاء وهو يحاول إجراء التنفس الاصطناعي لطفل عاري ومحترق تم انتشاله من بناء غارق في اللهيب. هذه الصور أتت في سياق تغطيات صحفية كانت تحاول الضغط باتجاه تحسين البُنى التحتية لمقاومة الحرائق في الولايات المتحدة، لا سيما في الأبنية القديمة والأحياء الفقيرة.

عام 1986، نال توم غراليش البوليتزر عن صور التقطها للمتشردين في فيلادلفيا. لو أخذنا الخصوصية فقط بعين الاعتبار، دون السياق وظروف الحالة، ولو نظرنا فقط للصور، لبدا لنا أن أغلبها ينتهك خصوصية المشردين، ويظهرهم في أوضاع غير كريمة. لكن التغطية الكاملة، مع شرح الملابسات والظروف، تدفع باتجاه آخر وتوجه رسالة سامية بأن الانتهاك الأكبر والأضخم هو اضطرار عدد هائل من الناس أن يعيشوا في الشوارع في الدولة صاحبة الاقتصاد الأقوى عالمياً!

صور الجنود الأميركيين استُخدمت بكثرة أيضاً من قبل وسائل الإعلام المناهضة لبعض العمليات الخارجية للجيش الأميركي. عام 1994، نال بول واتسن البوليتزر عن صورة يظهر فيها جندي أميركي مسحولاً وعارياً في شوارع مقديشو. كان قسم كبير من الإعلام الأميركي حينها مناهضاً للعملية العسكرية في الصومال. استخدمت صور أخرى كثيرة للجنود الأميركيين القتلى في العراق، لدرجة أن إدارة بوش حاولت فرض قيود على مشاهد جثث الجنود الأميركيين وتوابيتهم، ولم يكن هذا السلوك نابعاً عن حرصه على كرامتهم، بل بسبب أثر هذه الصور على التقبل الشعبي لغزو العراق واحتلاله، وعلى شعبية إدارته ككل. وكما بدا واضحاً في وقت لاحق، حين وصلت درجات شعبية إدارة بوش إلى أدنى المستويات في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، والدور الكبير والجوهري لحرب العراق في هذا التدهور، لم تحقق محاولات تقييد العمل الإعلامي هذه إلا نموذجاً آخر لظاهرة ستريسند.

الأمثلة الأخيرة أميركية أيضاً. لو عدنا لأرشيف التغطية الصحفية لإعصار كاترينا وأثره المدمر على المناطق الملاصقة لخليج المكسيك لوجدنا استخداماً واسعاً لصور يبدو فيها أن خصوصية الظاهرين فيها منتهكة، كأن يظهروا عراة، أو نائمين في الطرقات، أو متشاجرين على الطعام. وأتت هذه الصور أيضاً في سياق سخط على عدم فعالية نظام الحماية من الكوارث الطبيعية في الجنوب الأميركي، وعلى سوء أوضاع البنى التحتية في مدن مثل نيو أورليانز.

أخيراً، يُشاهد خرق كبير لإحدى المحظورات الصحفية الغربية في التغطية المصورة للتفجير الإرهابي في بوسطن في نيسان 2013. رغم أن الجدل حول إن كان من الملائم نشر صور صادمة ناتجة عن عمليات إرهابية، والذي تم التطرق إليه أعلاه، شبه محسوم لصالح الامتناع في الصحافة الأوروبية والأميركية، خرجت غالبية الصحف الكبرى الأميركية بصور تظهر فيها أشلاء ودماء على الأرض في مكان التفجير، وقد رُشحت التغطية المصوّرة لجريدة بوسطن غلوب لجائزة بوليتزر عام 2014، كما انتشرت صورة جيف باومان، وهو شاب كان مشاركاً في ماراتون بوسطن حين حصول التفجير، أثناء إسعافه، وتظهر ساقاه وقد تهشمتا بالكامل.

ختاماً للمقارنة بين سلوك الصحافة الغربية ونظيرتها في مناطق أخرى، تجدر الإشارة إلى أن الصحافة الغربية لا تحتاج لنفس المقدار من الصدم حين تُغطي أنباءً كبرى تحصل في العالم الغربي بالمقارنة مع أي مكان في العالم. فبفعل المركزية الغربية في الإعلام، سيكون خبر إحباط محاولة تفجير في أي عاصمة غربية أكثر ظهوراً بمراحل من خبر قصف مدينة سورية ومقتل العشرات خلال دقائق. ليس الفرق فقط في الحساسية، بل أيضاً في سهولة الظهور والحاجة للصدم للوصول إلى الرأي العام والتأثير فيه.

بطبيعة الحال، لا يُقصد من هذا العرض الدفاع عن أي شكل من أشكال تصوير الفظائع دون تمييز أو معالجة مهنية وموازنة أخلاقية مسبقة. لا شك أن هناك حاجة ماسة لأخلاقيات صحفية تحاول التوفيق بين عدم انتهاك كرامة الناس والتشهير بهم من جهة، وضرورة إخبار العالم بما يجري دون الوقوع في ابتزاز «احترام حساسية جمهور غير معتاد»، والاكتفاء بمادة مبسترة أو رمزية لا تنفع لتصوير هول وفداحة ما يجري من جهة أخرى. إن الانتهاك الأكبر لكرامة الضحايا هو في كونهم ضحايا لهذا الإجرام المستمر، والمُرخّص له بصمت العالم وتجاهله، وهذه هي النقطة الأساسية التي يجب أن يعمل الإعلام على إظهارها بكل تجلياتها وبشاعتها، دون أن يعني ذلك، بطبيعة الحال، التشهير بالضحايا. هناك مساحة واسعة من العمل تقع بين الاستعراض والمقاربة المحافظة. السؤال حول ما يجب فعله في حال تعارضت تغطية الانتهاك بكامل فداحته وخصوصية الضحية مهم ومعقد، لكن رأيي الشخصي ينحاز إلى ضرورة فضح الانتهاك، فهو الانتهاك الأكبر، ليس فقط للضحية بشكل شخصي، بل للإنسانية جمعاء. ترى، كم مرة سنجد أنفسنا أمام تعارض جذري لا مفر منه؟ مرات معدودة جداً، على الأرجح.

إن طريقة العرض والنشر، والنصوص المرافقة للصور ومقاطع الفيديو، هي التي تحدد، برأيي، إن كانت التغطية كريمة أم لا، هي التي تضع الفارق بين مهرجان نيكروفيليا دموي ليس إلا استغراقاً في التلذذ المرضي بالدم والأشلاء وبين فضح انتهاكات تحصل بحق البشر وإدانة الفاعلين ووضع العالم أمام مسؤوليته. الفارق كبير جداً، بل أن هذا الفارق هو التعريف الأسمى للإعلام.