منشور في Vice News España.
رغم أن الحرب الأهلية الاسبانية انتهت رسمياً عام 1939، إلا أن مجموعات جمهوريّة عديدة استمرت بالقتال في الجبال والمناطق الوعرة سنوات عديدة بعد نهاية الحرب، في محاولة مستميتة لإبقاء المقاومة المسلّحة ضد ديكتاتورية الجنرال فرانكو على قيد الحياة، إلا أن بؤر المقاومة هذه بدأت بالانطفاء تدريجياً بسبب ضعف الإمكانيات أمام قوة عسكرية متفوقة بشكل ساحق. عام 1950، كان قد بدا واضحاً أن الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لن تقدم أي دعم ضد نظام فرانكو. وفي ذلك العام، كان عمر برفيكتو دي ديوس 19 عاماً، وكان قد قضى عامين محارباً ضمن إحدى مجموعات المقاومة الشيوعية في مسقط رأسه في غاليثيا، شمال غرب اسبانيا. قرر برفيكتو أن زمن القتال دون جدوى قد انتهى، وبدأ رحلة الهرب باتجاه فرنسا برفقة والدته واثنين من رفاقه.
توجهت مجموعة الهاربين الأربعة نحو مدريد، حيث كان يُفترض أن ينتظرهم دليل ليساعدهم في بقية الرحلة باتجاه فرنسا، وخصوصاً قطع الحدود. وقبل الوصول إلى مدريد، اصطدمت المجموعة بدورية تابعة للحرس المدني قرب بلدة تشاهيريرو، شمال شرق مدريد، وحصل اشتباك مسلح عند محاولة المجموعة مقاومة إلقاء القبض عليهم. قُتل برفيكتو خلال الاشتباك وألقي القبض على بقية المجموعة. منذ ذلك الوقت، رقدت جثة برفيكتو في حفرة بجانب مقبرة تشاهيريرو حتى الأحد الماضي ( 7حزيران الجاري)، حين تسلّم كاميلو، شقيق برفيكتو، جثة شقيقه من جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية الاسبانية، لتُدفن في مدافن العائلة بعد 64 عاماً من دفنها في حفرة مجهولة.
حالة برفيكتو هي واحدة من 158حالة عملت جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية الاسبانية على معالجتها منذ أن تأسست عام 2000 من أجل العمل على مساعدة أهالي مفقودي وقتلى الحرب الأهلية الاسبانية وديكتاتورية فرانكو على استرجاع جثامين أقربائهم من المقابر الجماعية والحفر العشوائية، ليُصار إلى دفنها بشكل لائق. تقّدر الجمعية أن هناك أكثر من 114 ألف جثة مدفونة في 2000 مقبرة جماعية ومدفن عشوائي في عموم الجغرافيا الاسبانية، وتفصّل تقديراتها عن طريق خرائط وقواعد بيانات قامت ببنائها بنفسها، أو باستخدام قواعد البيانات الإدارية للحكومة الاسبانية.
حتى عام 2011، تلقت الجمعية دعماً حكومياً تراوح بين 45 و 60 ألف يورو سنوياً لتمويل البحث عن مكان دفن المفقودين وتسليم جثثهم لذويّهم، وكان هذا المبلغ كافياً لتغطية نحو 20٪ من كلفة العمل فقط، حيث كانت تحصل على المبلغ الباقي من التبرعات، ومن عمل مئات المتطوّعين دون مقابل مادي. لكن الدعم الحكومي انقطع عند وصول الحزب الشعبي اليميني إلى الحكم قبل أربعة أعوام، ما اضطر الجمعية لوقف عملها الميداني وقصر نشاطاتها على التوثيق والأرشفة. لم تتمكن الجمعية من العمل على فتح مدافن عشوائية منذ ذلك الحين إلا بفضل تبرعين متباعدين، قيمة كل منهما 6000 يورو، تلقّتهما من إحدى نقابات عمال الكهرباء النرويجيّة. حالة برفيكتو هي إحدى هذه الحالات القليلة التي استطاعت الجمعية أن تحلها خلال هذه الفترة باستخدام التبرعات النرويجية، وبمساعدة مجانية من طبيب شرعي يعمل في معهد الطب الشرعي البرتغالي، وفريق الأنثروبولوجيا الجنائية الأرجنتيني.لمزيد من المعلومات حول تاريخ فريق الأنثروبولوجيا الجنائية الأرجنتيني الاطلاع على «ذاكرة الجماجم» (المترجم).
أثناء أعمال التنقيب في تشاهيريرو بحثاً عن جثة برفيكتو دي ديوس- الصورة: memoriahistorica.org
«تمكّننا، بفضل هذه المساعدات، من إجراء فحوصات الحمض النووي، حيث يكلّفنا كل فحص أكثر من 600 يورو» يروي ماركوس أنطونيو غونثالث، عضو جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية، وأحد موظفيها الأربعة الذين يعملون في المخبر المركزي الذي أسسته الجمعية في بونفيررادا (ليون)، ويكمل غونثالث شرحه لـ فايس نيوز: «يعتبر الأرجنتينيون أسلوب العمل في اسبانيا مدهشاً، فهناك يبدأ القضاء بالتحقيق منذ لحظة اكتشاف مكان المدفن العشوائي، ويتم التصرّف بما يخص التحقيق وإجراء التجارب المخبرية للتعرف على الجثة كما لو أنها ضحية جريمة قتل حديثة».
في اسبانيا، فشلت كل محاولات تكليف القضاء الرسمي بمتابعة قضية المفقودين والمقابر العشوائية والمدافن الجماعية لمزيد من المعلومات حول السياق القانوني لقضايا الذاكرة التاريخية الاطلاع على «لجنة الحقيقة في اسبانيا» (المترجم).، وآخر تلك المحاولات بدأها القاضي بالتسار غارثون عام 2008. تتعرض كل القضايا المرفوعة بما يخص انتهاكات عهد فرانكو للأرشفة دون النظر فيها، بحجة أنها جرائم مشمولة بقانون العفو الذي صدر عام 1977، حين بدأ التحويل الديمقراطي بعد وفاة الجنرال فرانكو بعامين. يشمل قانون العفو هذا كل الجرائم المتعلقة بالقمع والتغييب والاغتيال المُرتكبة قبل السابع عشر من كانون الأول 1976. يُثير هذا القانون الكثير من الانتقادات، إذ تعتبره جهات سياسية ومنظمات مجتمع مدني عديدة انتهاكاً لحقوق ضحايا ديكتاتورية فرانكو، في حين يُدافع الحزب الشعبي عنه بقوة. في ردّ على سؤال برلماني تلقّته حكومة الحزب الشعبي حول الموضوع، اعتبرت الحكومة الاسبانية القانون «أداةً أساسية للتصالح الوطني». في حالات أخرى، رفض القضاء الاسباني النظر في القضايا التي رفعها أهالي المفقودين بحجة أنها تُشير إلى جنايات قد ماتت بالتقادم.
عام 2007، أقرّت الحكومة الاسبانية، وكان الاشتراكي خوسيه لويس رودريغث ثاباتيرو على رأسها آنذاك، قانوناً عُرف باسم «قانون الذاكرة التاريخية»، ورغم أن هذا القانون قضى برفع ما تبقّى من رموز تنتمي لعهد فرانكو من الشوارع والساحات العامة (تماثيل، نصب تذكارية، جداريات..) وتقديم العون والدعم لأهالي ضحايا فرانكو، إلا أنه -عكس ما كانت منظمات المجتمع المدني تطالب به- لم يتضمن بروتوكول عمل فيما يخص العمل على فتح المقابر الجماعية والمدافن العشوائية، ولم يخصص ميزانية حكومية لتمويل فتح المقابر والتجارب والتحاليل المخبرية اللازمة للتعرف على بقايا الجثامين. بقي ثقل الجهد والكلفة المادية على عاتق جمعيات مثل جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية، التي تستفيد من عمل عدد كبير من المتطوعين، وتتموّل من اشتراكات أعضائها وتبرعات من شخصيات ومؤسسات، وأيضاً من الجوائز التي تتلقاها تقديراً لعملها، مثل جائزة جمعية أرشيف كتيبة لينكولن الأميركية.
[quotes]تقّدر جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية الاسبانية أن هناك أكثر من 114 ألف جثة مدفونة في 2000 مقبرة جماعية ومدفن عشوائي في عموم الجغرافيا الاسبانية[/quotes]
كاميلو دي ديوس، شقيق برفيكتو، كان من أوائل الذين لجؤوا للجمعية بُعيد تأسيسها عام 2000. يقول غونثالث، عضو الجمعية: «روى لنا أنه كان معتقلاً عام 1950، وأنه علم بمقتل شقيقه في سجنه بفضل رسالة تلقاها من والدته، التي اعتُقلت عند حصول الاشتباك الذي قُتل فيه برفيكتو». منذ ذلك الحين، عملت الجمعية على مساعدة العائلة في إيجاد المكان الذي دُفن فيه ابنها، وبعد عدّة محاولات فاشلة، وجد أليخاندرو رودريغث، الخبير التاريخي العامل مع الجمعية، ملف قضية برفيكتو دي ديوس في الأرشيف العسكري في فيررول مدينة ساحلية تقع في غاليثيا، شمال غرب اسبانيا، وتطل على المحيط الأطلسي، وهي أحد المراكز التاريخية المهمة للبحرية الاسبانية. هي أيضاً مسقط رأس الجنرال فرانكو (المترجم).، ما أتاح لهم كشف ملابسات مقتل برفيكتو ومراجعة الكشف الطبي للجثة ومعرفة المكان الذي دُفنت فيه: قطعة أرض زراعية ملاصقة لمقبرة تشاهيريرو، استولت عليها قوات فرانكو ودفنت برفيكتو فيها.
توجه ناشطو جمعية استرجاع الذاكرة التاريخية إلى تشاهيريرو قبل عدة أشهر، ونقّبوا في الأرض الملاصقة لمقبرة البلدة إلى أن وجدوا بقايا عظمية أُرسلت لإجراء التحليلات التي أثبتت لاحقاً أنها بقايا جثمان برفيكتو. أثار وجود وعمل أعضاء الجمعية فضول الأهالي، الذين تجمهروا لمشاهدة عمليات التنقيب، وروى العديد من كبار السن بينهم أنهم كانوا على علمٍ بأن ثمة مقاتلاً جمهورياً قد دفن في ذلك المكان، دون أن يعرفوا هويته أو ملابسات قتله. خيسوس هيرناندث شاب يبلغ من العمر 26 عاماً، وكان شاهداً على التنقيب، وقد فاز في الانتخابات البلدية الأخيرة بمقعد في المجلس بلدية كريسبوس، الي تنتمي لها تشاهيريرو. يقول هيرنانديث المنتمي للحزب الشعبي الحاكم في اتصال هاتفي مع فايس نيوز: «سمعت من عائلتي أن جدي أصيب بطلق ناري في الاشتباك الذي قُتل برفيكتو خلاله»، ويكمل «لقد شاهد أهل المنطقة عمليات التنقيب بحزن، وهذا ما يجمعنا بعائلة برفيكتو دي ديوس، لأن ابنهم قضى سنوات طويلة مدفوناً بالقرب منا». على عكس الموقف الرسمي لحزبه، لا يرى هيرناندث أن التنقيب عن المدافن العشوائية والجماعية يؤدي لفتح جروحات الماضي، ويرى أنه من واجب السلطات الرسمية أن تعمل بكل جد على حل قضية المفقودين.
الحفل التأبيني وتسليم كاميلو دي ديوس بقايا جثمان شقيقه برفيكتو- الصورة: laregion.es
يبلغ كاميلو دي ديوس من العمر 82 عاماً، ويروي أنه عاش مشاعرَ مختلطة عند استلامه بقايا جثمان شقيقه: «رأيته أمامي ولم يتبق منه إلا بضعة قطع عظيمة، لكنني سعيد لأنني استطعت أن أفي بوعدي لأمي». كان عمر كاميلو 16 عاماً حين علم، قبيل عيد الميلاد عام 1950، بمقتل أخيه عن طريق رسالة أرسلتها له أمه من سجنها إلى سجنه.
قبع كاميلو في السجن 11عاماً بعد إلقاء القبض عليه أثناء اشتباك في قرب مدينة أورينسي، حيث كان هناك «في مهمة سياسية وعسكرية»، حسب تعبيره، وأفرج عنه بعد مراجعة قضيته وتغيير الأحكام ضده باعتباره كان قاصراً عند إلقاء القبض عليه، في حين دام سجن والدته، كارمن، 13عاماً، وخرجت من السجن بعد قرار بإعفائها من بقية الثلاثين عاماً التي حُكمت بها. عادت الأم وابنها إلى موطنهما في ساندياس، في الريف الغاليثي، ويتذكر كاميلو أنهما اضطرا لإعادة شراء قطعة الأرض التي كانوا يمتلكونها، لأن قوات فرانكو كانت قد استولت عليها وحوّلتها إلى مقر لحزب الكتائب الفاشي بدايةً، ثم مركز اعتقال لاحقاً. لم يتخلّ أي منهما -الأم وابنها- عن انتمائهما ونشاطهما للحزب الشيوعي الاسباني، المحظور آنذاك.
«لقد قُتل كثيرون أثناء الحرب الأهلية، وخلال ديكتاتورية فرانكو، لكن قتلانا تم رميهم في حفر عشوائية في الحقول وعلى أطراف الطرق وكأنهم كلاب»، يقول كاميلو.
لم تتوقف كارمن عن مساعيها للوصول إلى مكان دفن ابنها القتيل ونقل جثته لدفنها بشكل لائق حتى وفاتها عام 1999، لكن ابنها استطاع أن يفي بوعده ويحقق لها مرادها بإغلاق جرح استمر ينزف طيلة 64 عاماً.