مثلما هناك دولتان: ظاهرة وباطنة، في «سورية الأسد»، وأمتان: أمة السوريين البيض من أصجاب الامتيازات السياسية والمادية، وأمة السود من المحرومين المحتقرين، ومعارضتان: معارضة الدولة الظاهرة ومعارضة الدولة الباطنة، ودينان: مذاهب الإسلام والمسيحية والإيزيدية…، ثم الديانة الأسدية، هناك أيضا تدمران: تدمر الظاهرة، المدينة الأثرية القديمة التي هي مقصد السواح من البلدان الغنية، ثم تدمر الباطنة، السجن الرهيب الذي قد يكون الأسوأ عالمياً.

كان من نصيبي، مثل كثيرين، أن أرى السجن، بل أن أخبر السجن ولا أراه، قبل أن أرى المدينة السياحية. هذا لأن الواحد منا لا يرى الوحش حين يكون في جوفه، لا يخرج منه ولا يرفع رأسه في داخله، ولا يجول في أرجائه. قضيت في تدمر الباطنة بالكاد عاماً واحداً، 1996، معظم زملائي، ومعظم نزلاء تلك المطحنة البشرية، أقاموا فيها فترة أطول، وخبروا أوضاعاً أقسى. وفقط بعد نحو عقد من خروجي من تدمر الباطنة زرت تدمر الظاهرة، وقت كان يجري تصوير فيلم رحلة في الذاكرة الفيلم متاح على اليوتيوب.(أخرجته هالا محمد) مع فرج بيرقدار وغسان جباعي الذين قضيا وقتاً أطول مني في تدمر الباطنة.

لن أتكلم هنا على شروط العيش في تدمر الباطنة. سبق لأصدقاء وزملاء أن تناولوا ذلك بصورة شافية، مصطفى خليفة وفرج بيرقدار وراتب شعبو وبراء السراج، وتناولت جوانب منه أنا نفسي في مواد نشرت في بالخلاص، يا شباب!.بالخلاص، يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية– ياسين الحاج صالح (دار الساقي، 2012). هذه المقالة تتكلم على «معنى» سجن تدمر، وتربط بين بنيته وعالم الممارسات التدمرية، وبين بنية النظام وعالم ممارساته.

1

تدمر مدينة بعيدة نسبياً عن العمران الحضري السوري، في الصحراء. هذا معطىً أول، مفاده عزل السجناء بعيداً عن المدن والأرياف العامرة، بعيداً عن أهاليهم. الواحد منا معتقل و«منفي» معاً في تدمر. كان الفرنسيون بنوا السجن كمنفى في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، ويبدو أنه كان مخصصاً بصورة أساسية للعسكريين، لكن سجن فيه سياسيون أيضاً، كان منهم مثلا نور الدين الأتاسي أيام حكم الشيشكلي في سنوات الخمسينات الباكرة (الرجل صار فيما بعد رئيساً لسورية في أواخر ستينات القرن العشرين، لكنه قضى الأعوام الـ22 الأخيرة من عمره في سجون حافظ الأسد). غير أن السجن استخدم على نطاق واسع لمعارضي النظام السياسيين في أواخر سبعينات القرن العشرين.

كان من الوقائع الكبرى التي «عمّدت» السجن مذبحة تدمر في 27 حزيران 1980، حيث يقدر أن ما بين 500 و1000 من المعتقلين الإسلاميين قد قتلوا على يد عناصر سرايا الدفاع الذين كان يقودهم رفعت الأسد، شقيق حافظ، وعم بشار. وقعت المذبحة بعد يوم واحد مما كان يظن أنها محاولة اغتيال فاشلة لحافظ. أقول «كان يظن» لأنه حسب مذكرات فاروق الشرع التي نشرت قبل حين وجيزالرواية المفقودة– فاروق الشرع (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015). رُميت على حافظ قنبلتا تدريب بدائيتان، لا تقتلان، لكنهما تُسببان خدوشاً. كان حصول مجموعة الاغتيال على قنابل فعالة ممكناً، حسب الشرع، الذي يقول إن المجموعة فرّت، ولا يبدو أن أحداً منها اعتقل. ويتساءل وزير الخارجية السابق في مذكراته عما إذا كان الهدف هو القول لحافظ إننا نستطيع قتلك لو أردنا. الشرع يقول إن أحد حراس حافظ الذي رمى نفسه على أحدى القنبلتين كان «مخردقاً»، ولا يقول إنه مات. ويبدو أن الرجل لم يمت فعلاً. وما يمكن استخلاصه من ذلك أن حافظ ما كان ليُقتَل في أية حال، وأن محاولة الاغتيال قد تكون مفبركة كلياً، بغرض استخدامها لإطلاق يد البطش في المجتمع ككل وتأديبه، وقت لم يكن مقطوعاً به أن النظام منتصر في الصراع. مذبحة تدمر، بهذا المعنى، فعل تأسيسي مدبَّر المقدمات بغرض التأديب الاستعماري للسكان. محاولة الاغتيال المزعومة هي الذريعة المباشرة. وسجن تدمر ككل، إن صح هذا التقدير، يغدو معكسر تأديب عام للسوريين، الهدف منه إبادتهم سياسياً، مثلما دأبت إسرائيل أن تفعل بخصوص الفلسطينيين. قبل شهور من المذبحة، وفي مؤتمر لحزب البعث، كان رفعت الأسد، بطل المجزرة، قد تكلم على لجان للتطهير القومي تتولى، عبر تسخير السجناء، «تخضير الصحراء». نظرية التطهير هذه جرى تطبيقها فعلاً، لكن اختير تحمير الصحراء بالدم بديلاً عن تخضيرها! النص الكامل لكلمة رفعت الأسد أمام المؤتمر القطري السابع لحزب البعث على موقع اللجنة السوريّة لحقوق الإنسان.

وما يعزز من هذا التقدير أنه بعد عشرة أيام فقط من المذبحة، في السابع من تموز عام 1980، صدر القانون رقم 49 الذي يقضي بالإعدام على منتسبي الإخوان المسلمين، الأمر الذي يحتمل أنه كان مبيتاً بانتظار تهيئة مناسبة. قد نلاحظ أن الحكم بالإعدام، وقد نفذ على نطاق واسع في السنوات التالية، ليس مستحقاً على أفرراد قاموا بأفعال جرمية بعينها، بل على واقعة الانتساب، دون أن يكون المنتسب المفترض اقترف أي سوء بالضرورة. أي أن الإعدام استهداف لما تعتقده مجموعة بشرية ولما تكونه، وليس لما يحتمل أن أفرادا منها فعلوه، كأن تجرِّم شخصاً وتعده للإبادة لأنه فلسطيني أو يهودي، أو «نصيري» كما يقول السلفيون اليوم في وصف العلويين. والقانون 49 بالتالي تأسيس قانوني للإبادة، تصادق عليه الممارسة الواقعية طوال ثمانينات القرن العشرين وبعض تسعيناته. في مطلع صيف 1979 كانت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين قتلت عشرات تلاميذ الضباط العلويين في «مذبحة المدفعية» في حلب، وكان ذلك أول فعل إبادة منظمة في تاريخ سورية الحديث. وله ضلع لا ريب فيه في تعزيز نزعات النظام الأسدي الإبادية.

2

أعلنت مذبحة تدمر الولادة الدامية لتدمر الباطنة، وكانت تمريناً تأسيسياً كبيراً على رياضة الدم طوال عشرين عاماً قادمة. سجن تدمر هو معسكر الاعتقال الذي كان يجري تعذيب السجناء فيه يومياً على نحو عشوائي طوال عشرين عاماً. وهو المعسكر المغلق دون العالم الخارجي الذي كان يجري فيه إعدام العشرات كل أسبوع، 150 أسبوعياً في الثمانينات، حسب مصطفى طلاس، وزير الدفاع المزمن، الرجل الأجدر من أي منافسين بلقب الأبله السعيد. وليس معلوماً حتى اليوم أين دفن هؤلاء، وهم بالألوف، وربما يقارب عددهم 15 ألفاً.

كمكان، لا يعرف السجناء هندسة المعسكر. قلما نخرج من مهاجعنا، وحيثما خرجنا من باب المهجع (إلى باحته) نكون منكسي الرؤوس بشدة، فإذا خرجنا إلى الإدارة نكون مُطمّشي العيون أيضاً فوق تنكيس الرؤوس. حتى داخل المهاجع رؤوسنا منكسة، وإذا ضُبط أحدنا مرفوع الرأس يتعرض لعقاب عشوائي لا يعرف له مقدار. هذا يعطي السجن خاصية متاهيّة، ويفاقم من ثقله على السجناء. لو تخيلنا أن سجيناً استطاع الخروج من الأبواب الحديدية للمهجع ثم من حوش المهجع، فإنه لن يستطيع أن يشق دربه إلى الخارج لأنه لا يعرف الطريق. لم يكن الحال كذلك في سجنين آخرين قضيت فيهما أوقاتاً أطول. والخاصية الهندسية الثانية لتدمر الباطنة أن للمهاجع شبابيك من سقوفها تسمى «شراقات»، ويراقب السجناء من فوقهم، الأمر الذي يضمر تطلعاً «بانوبتيكيا»، رؤية الناس كلهم من موقع رقابة متعالٍ يحيط بهم دون أن يروه، مما نسبه ميشيل فوكو إلى السلطة الانضباطية الحديثة. هاتان الخاصيتان المتاهية والبانوبتيكية تضعان السجناء في موقع ضائع منسحق. وهما فيما يبدو لي خاصيتان جوهريتان للدولة الأسدية: فبنيانها هي ذاتها متاهي، لا يجيد التحرك في قطاعات منه غير مالكي مفاتيح هذه القطاعات من سادة الدولة الباطنة. ومجموع أجهزة هذه الدولة المتصلة عمودياً بحافظ الأسد، دون اتصال نسقي منظم بينهما، يعطي حافظ موقعاً إشرافياً كلياً (بانوبتيكيا) حيال المجتمع السوري ككل. يراه من فوقه دون أن يكون مرئياً من قبله. إنه السجان العام في سورية المحالة إلى تدمر كبيرة، يراقب سكانها من فوقهم، يراهم ولا يرونه. وموقع «قصر الشعب»، المرتفع والمنعزل، يعطي إلماعة عن موقع السجان العام حيال سجنائه/محكوميه.

3

لتدمر الباطنة ثلاثة أركان. أولها الإرهاب، التعذيب والتجويع والإعدام والإذلال؛ وثانيها كونه حيز التقابل الطائفي الأكثر حدة وعدائية؛ ويحيل الركن الثالث إلى العلاقة بين الاعتقال والمال.

لا يتعلق العنف المنظم المستمر في سجن تدمر بممارسات عقابية تجري وفق نسق معين، بل بتعذيب انتقامي إذلالي من جهة، وعشوائي لا يجري على نظام ولا يمكن التنبؤ به من جهة ثانية. وهو ما تفاقمه صفته الاعتباطية: يمكن لأي سجان في أي وقت أن يقرر «تعليم» أي سجين. ليس هناك «أسباب» في عالم تدمر الباطنة. هناك قواعد تملى على النزلاء، ننال عقاباً قاسياً إن خرقناها، قاعدة تنكيس الرأس مثلاً، لكن حين لا نخرقها ننال عقاباً قاسياً أيضاً في أي وقت يراه مناسبا «عقل» تدمر. إحالتنا إلى ذلك المكان كانت تعني تعليق منطق وقواعد العالم العادي، أعني عالم السجون «العادية» التي هي ليست عادية بحال (توقيف عرفي مديد دون حقوق محددة، أحكام غير متناسبة، دون ضمان بالإفراج وقت إنهائها، وقبل كل ذلك تجربة الاعتقال والتعذيب الروتيني على يد أجهزة حراسة النظام)، وهذا في بلد كان يعيش أوضاعاً قانونية وسياسية غير عادية منذ 33 عاماً وقت إحالتي وزملاء آخرين إلى تدمر الباطنة. فإذا كانت الحياة في البلد غير عادية، وفي السجون الأخرى غير عادية بصورة مضاعفة، فإنها في تدمر غير عادية بصورة مثلثة، عالم جحيمي من انكشاف تام وإباحة تامة.

ورغم السببية المرفوعة في تدمر الباطنة كان مستغرباً أن أحلنا إليه مطلع 1996 من قبل «عمال» السجن، كان ظاهراً أننا لسنا إسلاميين، وكانت انقضت سنوات على جلب أي شيوعيين إلى المعتقل. استخلصوا سريعاً أنه لو لم نكن «أولاد قحبة» لما أرسلنا إليهم. هناك عقل قدير في مكان ما قرر تحويلنا إلى عالم الباطن ذاك، وهذه سببية كافية من وجهة نظر «العمال».

وليس المقصد من التعذيب والإعدام والترويع في تدمر الباطنة هو تحطيم المسجونين، أفراداً ومنظمات، أو حتى بيئات اجتماعية ينحدرون منها، بقدر ما هو تربية المجتمع السوري ككل تربية ملائمة، وغرس الذاكرة والمنعكسات الشرطية المناسبة في أذهان السوريين بما يبقي عيونهم مكسورة أمام النظام. التشريفة، أي حفلة التعذيب التي نستقبل بها، ثم عيشنا هناك منكسي الرؤوس والأصوات، نتكلم همساً، ومحلوقي الشعور والشوارب، ومطمشين وقت النوم والخروج إلى ما يتجاوز حوش المهجع، كل ذلك استعارات مثلى للحياة المثلى التي تصبو إليها الدولة الأسدية من عموم محكوميها. تدمر هي الدرس الذي لا ينسى، الذي يراد له ألا ينسى ولا يتقادم، الذي لقنته الدولة الأسدية للسوريين. لكنه أيضاً الدرس الذي لا يُذكر علانية أبداً ولا يجري تداول عام بشأنه، بفعل خوف شالٍّ، يدفع السكان إلى الانكفاء على عوالمهم الضيقة وعدم الثقة بـ«الغرباء».

وكان المستهدف على نحو خاص وقتها هم الإسلاميون، الخصم الأقوى الذي يملك عقيدة وانضباطاً ووزناً اجتماعياً، وعمل على كسر احتكار الدولة الأسدية للعنف. لقد حُبس يساريون في ذلك السجن، وكنت منهم، وقضى بعضنا سنوات فيه، تحت شروط مروّعة. لكن لم يقض أي يساريين كل سنوات سجنهم فيه، ولا قتل أي واحد منا تحت التعذيب في تدمر الباطنة (قتل يساريون تحت التعذيب في المقرات الأمنية). وهذا يطل على الصفة التمييزية الجوهرية للنظام ككل، ويلقي بعض ضوء على حالنا اليوم. تواتر غير مرة أن دواعش كان يعذبون ضحاياهم، ويقولون لهم: هذا ربع ما رأيناه في سجن صيدنايا!عن شهر اعتقال لدى داعش– أحمد ابراهيم (الجمهورية، 14 كانون الثاني 2015). الأخير هو السجن الذي حل محل سجن تدمر الذي قيل إنه أغلق في عام 2002. وقد عمِّد هو الآخر بالدم في مذبحة أوقعت عشراتٍ عام 2008، إثر تمرد سجناء إسلاميين فيه. كان بطل المذبحة الجديدة هو ماهر الأسد شقيق بشار ونظير رفعت بطل مذبحة تدمر. لكن السجناء هذه المرة كانوا سلفيين وسلفيين جهاديين، أي مجموعات أعصى تدبراً وأمنع على السياسة من الإخوان. وهذا هو اتجاه التطور الذي أتاحته نحو أربعة عقود من الدولة الأسدية للسوريين.

إلا أن هيومان رايتس ووتش تكلمت في تقرير بعنوان «بأية طريقة»، صدر في الشهر الأخير من عام 2011، عن أن السجن أعيد استخدامه للمعتقلين السياسين، وقدرت عدد نزلائه وقتها بنحو 2500. ووفاء لغرائزها الدموية، عمدت الدولة الأسدية إلى تعميم تدمر الباطنة على سورية كلها حين بدا أن السوريين نسيوا الدرس الذي جرى تلقينه لهم طوال عشرين عاماً. وإنما بفضل تعميم تدمر الباطنة من جهة، وظاهرة الإنشقاقات في عامي الثورة الأولين من جهة ثانية، أمكن أن نرى لأول مرة بقدر من الوضوح البنية المزدوجة لسورية الأسد. الحرب الأسدية هي ظهور الباطن الوحشي الذي كان محجوباً، بينما الانشقاقات هي تقشر الظاهر الذي كان يقوم بالحجب، دون أن يؤثر على الدولة الباطنة في شيء.

 عناصر داعش يقومون بتفخيخ السجن.
عناصر داعش يقومون بتفخيخ السجن.

 

4

الخاصية الثانية لتدمر الباطنة هي كونه مساحة التقابل الطائفي الأكثر عرياً وفظاظة في البلد. معظم السجناء إسلاميون، سنيون طبعاً. وقد يكون كل من قتلوا في السجن منهم، ومن جرى تخصيصهم دوماً بالتعذيب الأشد وحشية. بالمقابل، كل قيادات السجن تنحدر من أرومة علوية، فيما يبدو عموم السجانين مختلطي المنابت، لكن مع أرجحية علوية على ما كنا نقدّر، نحن المعتقلون، استناداً إلى اللهجات. وهو، أعني النقاء الطائفي للقيادات واختلاط نسبي لعموم السجانين، يشكل من جديد تناسخا لبنية الدولتين على مستوى تدمر الباطنة ككل. للدولة الباطنة صفة طائفية غالبة هي التي كانت المنبع الديناميكي للطائفية في المجتمع السوري، ولاقترانها بالعنف والكراهية ونزعات الإبادة. وبقدر ما إن معسكر الاعتقال هذا هو في الواقع المعمل الذي يصنع فيه ويعمم «أصنص» السلطة، أعني خلاصتها المكثفة، مزيج العنف والقتل والإذلال والخوف، فيجب أن تبقى إدارة هذا المعمل السري البالغ الحيوية في أيدي أهل الثقة من أمثال فيصل غانم وبركات العش وغازي الجهني.

أود أن أنوه أن هذا الكلام على قيادات من منبت أهلي بعينه وسجانيين أكثرهم من المنبت ذاته تقديراً مشتركاً لنا نحن، سجناء يساريين، كنا ننحدر من جماعات أهلية متعددة، وبيننا رفاق علويون. كان أسهل علينا بكثير الكلام على هذا الشأن وقتها ونحن في السجن، مما هو الآن. من جهة كان الواقع يفرض نفسه ولا بد من الإقرار به. ومن جهة ثانية كانت صفتنا اليسارية والعلمانية المشتركة ضمانة لفصل هذا الإقرار عن نزعات انتقام طائفية، فتجعله ميسوراً، بل تجعل منه الخطوة الأولى نحو تجنب الانتقام. في «اجتماع» لنا بعد أسابيع قليلة من إحالتنا إلى تدمر، وكنا لا نزال تحت صدمة نقلنا إلى سجنها المخيف، بدا لنا، منحدرين من منابت علوية وسنية على الأقل، أن هناك أربع خطوات لتجنب مستقبل من الثأر: جمع الحقائق وبناء الملف الكامل للاعتقال والتعذيب والسجن والقتل؛ الإفراج عن جميع المعتقلين والموقوفين وطيّ صفحة الاعتقال وملف الثمانينات ككل؛ التعويض وجبر الأضرار والاعتذار الرسمي من الضحايا ومن ذويهم؛ وبناء الأوضاع القانونية والسياسية التي تثبِّت طيَّ الصفحة وتكسر دائرة الانتقام.

مرت 15 عاماً كاملة منذ ذلك «المؤتمر» الصغير لخمسة أو ستة أشخاص في مهجع «صدر جديد»، ولم يجر أدنى تقدم على أي من المستويات الأربعة. بالعكس، منذ بني النظام السلالي في عام 2000 انفتح باب التطور نحو مذابح جديدة.

5

تتصل الخاصية الثالثة لمعسكر الاعتقال التدمري بما يمكن تسميته الاقتصاد السياسي للاعتقال السياسي في سورية الأسد. كانت الزيارات ممنوعة في سجن تدمر، لكن يبدو أنه كان يمكن تدبر الأمر أحياناً بمشقة وكلفة باهظة. اشتهرت في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين قصة مدير السجن، فيصل الغانم، الذي كانت أمه تقوم بدور سكرتيرة مالية له، تقصدها نساء المعتقلين ليطلبن زيارة الزوج أو الأب أو الابن المغيب، و«يهدينها» مصاغهن الذهبي من أجل الزيارة أو الحصول على معلومة عن مصيره. كان تشدد نظام السجن وقسوته يرفع من الثمن المطلوب من أجل خرق بروتوكوله. وهذا الوجه الخفي من أوجه عالم السجون الأسدي يعطي إطلالة مميزة عن عالم الحكم الأسدي ككل. كل قاعدة يمكن خرقها مقابل الحصول على مال. وعلى هذا النحو، سيطور النظام ميلاً قوياً إلى أن تكون قاعدته الذهبية هي أن لا قاعدة مطردة يمكن أن تضمن للعامة التنبؤ، أو تحمي لهم حقاً وتوفر لهم أمناً. القواعد الأفضل هي التي تيسر وقوع «المخالفات» كي يُغرّم المخالفون أو طالبو الاستثناء المال. القواعد لا توضع كي تُراعى، بل كي تُخالَف. تدمر الباطنة حالة قصوى عن هذا الوضع: القاعدة هنا هي فصل الواقع الآخر وأهله عن المقيمين في الواقع العادي، ويباع بالذهب انتهاك هذه القاعدة الذهبية.

أعيد إنتاج ممارسات الاعتقال على نطاق واسع بعد الثورة وتدمرة سورية (تعميم سجن تدمر على البلد)، ودفعت أموال بالملايين من أجل الإفراج عن معتقلين، أو من أجل مجرد معرفة معلومة عن مصيرهم. هذا نهج تكرس منذ ثمانينات القرن العشرين، وهو يلقي ضوءاً على وقائع الاعتقال السياسي في سورية مغايراً لمقاربتها من زاوية الاعتبارات الأمنية المعدومة الوجاهة قليلاً أو كثيراً، أو من زاوية انتهاكات حقق الإنسان على نحو منظم أو أكثر تنظيماً. يتعلق الأمر هنا بفعل إنتاجي، ترتبط فيه إنتاجية أجهزة الأمن من المعتقلين بالثروات التي يحصلها كبار الدولة الأسدية ومحاسيبهم، أقوياء النظام جميعاً بنسبة قوتهم، على حساب عموم السوريين. فبما أن هناك عدداً كبيراً من المعتقلين بما يكفي لإثارة رعب الجميع من خطر الاعتقال، فإن المجتمع ككل يطور استعداداً لافتداء نفسه بالمال (رشوات نقدية كبيرة أو «هدايا» عينية ثمينة، قطع أرض أو محصولها، عمل مجاني…). وعلى هذا النحو تشتغل مؤسسة الاعتقال السياسي تالياً كآلة نزح  للمال من جيوب السكان، وضمن نظام جباية جائر، مؤسس على القوة. في المحصلة كانت الدولة الأسدية حاضنة تكون فئة اجتماعية منحطة، تكونت عن طريق الممارسات الاحتلالية لهذه الدولة: تضع المسدس في رؤوس الناس فتشلحهم أموالهم، أو التشبيح من أجل التشليح. ولهذا بالذات تحوز هذه الفئة كموناً فاشياً عالياً. للمزيد حول هذا الموضوع الاطلاع على نصّ محاضرة للكاتب بعنوان «مغيّبون: تجارب السوريين في التغييب السياسي خلال جيلين» (هامش، البيت الثقافي السوري في اسطنبول؛ كانون الأول 2014).

6

التدمران معاً وقعتا في يد داعش خلال وقت قصير ودون مقاومة فيما يبدو من قبل قوات الدولة الأسدية. لكن تدمر الباطنة كانت مكاناً مهجوراً، خالياً، وكل ما كان في باطنه أخذه المنسحبون معهم. انشغل العالم الأول الدولي، وأمة السوريين البيض أو العالم الأول الداخلي، في الداخل، بمصير تدمر الظاهرة، السياحية. وقوربت قضية سجن تدمر من قبل وسائل الإعلام وفق منطق الذاكرة القصيرة والاستهلاك النهم للمعلومات، ثم نسيانها بالنهم نفسه إن جاز التعبير. لم يُقَل شيء عن بنية هذا السجن ومعناه ووظيفته السياسية، في صلتهما ببنية سورية الأسد ومعناها ووظيفتها. وافتعل البعض، ومنهم سوريون كثيرون، تقابلاً بين البشر الذي يفترض أن حياته عزيزة، والحجر (آثار تدمر) الأقل أهمية. لكن هذه ثنائية اختزالية وضارة جداً. ليست آثار تدمر أو غيرها حجراً، إنها من سجلات التاريخ وتراثه المادي القيّم التي يرفع وجودها من اعتبار البشرية الحاضنة له، فيسهم في حماية حياة الناس فيه. عمل النظام الأسدي دوما على مقاربة الآثار مقاربة سياسوية رخيصة، تكاد تجعل الآثار من إنجازات «الحركة التصحيحية» وفقاً للخطاب الغث السائد، لا مقاربة تاريخية  ديناميكية تربط بين ماضي البلد وحاضره، تجعل من العناية بالسجل الموروث وبالذاكرة المادية للبلد أحد أوجه الاعتناء بحياة السكان والإعلاء من شأنهم، ووجهاً من وجوه تطور البلد ككل. كان هذا الاستملاك الخاص للذاكرة المادية ينزع ملكيتها من يد السوريين ويكمل انتزاع ملكية حاضرهم، ويتوسل مفاهيم مثل «الحضارة» لتعزير سيطرة الأسديين عليهم. كانت «الحضارة» في الزمن الأسدي صفة لأوابد أو لأشياء، ولم تكن في أي وقت صفة لعلاقات وحقوق وتفكير وممارسات. كانت عنصراً من عناصر سلطان حافظ الأسد وسلالته، وليست علاقة السوريين بأنفسهم ويتاريخهم، ولا هي شيء يتعرفون على ذاتهم الفاعلة المبدعة فيه.

لكن لا ذنب للأوابد الأثرية في ذلك. هذا ذنب سياسة وطغمة، يواجه بسياسة جديدة وبطيّ صفحة الحكم الطغموي، وليس بالخفض من قيمة «الحجر».

وليس هناك غير ما يفجع في وقوع المدينة في يد داعش. من المحتمل جداً أن يجري التعامل مع الأوابد الأثرية بعدائية وإهمال، كأشياء ميتة، إن لم يجر تحطيمها وتدميرها. وهذا إذ يدمر ماضي سورية المادي، فإنه مساهمة كبيرة في تدمير مستقبلها أيضاً. دون آثار تدمر الجليلة وغيرها، سورية أفقر وحياة السوريين ستكون أرخص، هذا حتى دون قول شيء عن أن حياة سكان المدينة اعتمدت في جانب مهم منها على الصناعة السياحية المرتبطة بـ.. الحجر. وليس معلوماً أبداً أن احتقار الحجر سار مع احترام البشر، والعكس صحيح: ليس هناك من يحترم البشر دون أن يحترم أحجارهم. يستوي في ذلك الأسديون والدواعش. من يحترمون البشر يحترمون الحجر وكل ما صنع البشر.

وإذا صحت المعلومات عن تفخيخ داعش لمنطقة الآثار لأغراض عسكرية، فليس في اتخاذ «الحجر» رهينة على هذا النحو ما يقول إن البشر أعزّ من أن يكونوا رهينة للدواعش، بل بالضبط إن داعش تستبطن المنطق السينيكي الدولي والأسدي الذي لم يبال بحياة السوريين يوماً، وانشغل بمصير الآثار. كان سكان تدمر المدينة ملحقون بتدمر الظاهرة، الأثرية، مغمورون مثل كل السوريين ولا اعتبار لهم. كان منهم كثيرون يعيشون من الآثار؟، لكن هل يرونها؟ هل يمتلكونها؟ هذا مشكوك فيه جداً. هم ومدينتهم والآثار فيها ملك للدولة الأسدية.

لكن ماذا عن تدمر الباطنة بعد سيطرة داعش؟ ما يمكن استخلاصه من تاريخ داعش القصير لكن العاصف هو أنها تشبه سجن تدمر: مزيج من مذبحة ومن طائفية جهيرة، ومن التعامل مع المجال الطبيعي والتاريخي والاجتماعي كغنيمة، منهج التشبيح والتشليح ذاته، لكن باسم الله. ولا يبدو إله داعش المكفهر غير حافظ أسد كبير، حقود وبالغ الوحشية، يبهجه ذبح أعداء داعش، ولا يخص بثوابه ونعيمه غير القتلة المكفهرين مثله.

 سجن تدمر بعد التفجير.
سجن تدمر بعد التفجير.

7

تملكني الحزن حين دمرت داعش سجن تدمر قبل نهاية أيار 2015، حزن شخصي كأنما دمروا بيتي. هذا ربما لأني حرمت من فرصة لزيارة السجن يوماً مع شركاء آخرين من نزلائه السابقين، نقصد أماكننا الشخصية فيه (هنا تلقينا دولاب التشريفة، هنا كنت أنام، هنا كنت أقف كـ«ليليٍ»،…)، ونستكشف ما لا نعرف من زواياه، ويرشدنا الأحسن خبرة بيننا إلى ساحات التعذيب الأقسى ومواقع المشانق، ونخرج منه على أقدامنا. وقد نتمشى على سطوح المهاجع وننظر من «الشراقات» السقفية إلى الباطن الذي كنا فيه. بدخول كهذا في السحن وخروج منه نسترجع ما بقي منا في ذلك المصنع البشع، ونستعيد تكاملنا، ونحبس الحبس خلفنا، لتكون سورية مساحة للتحرر. كان من شأن ذلك أن يمثل لنا، ولكل واحد منا، وبصورة ما للسوريين جميعاً، طيّ صفحة وإعلان تحرر شخصي وعام.

تدمير سجن تدمر على يد داعش هو مساهمة كبرى في تدمير فرص التحرر السوري، وإعلان للشراكة الجوهرية العميقة بين الأسديين والدواعش في العداء للذاكرة ومعاداة التحرر.

لكن أكثر من ذلك، سجن تدمر هو بيتي أنا الذي هو أيضاً بيت كثيرين آخرين، وبيت جميع الناس. ذلك المكان الذي عرف أفظع الوحشية والموت والعذاب، قدسته عذابات أولئك الذين أعدموا وقتلو وماتوا، الذين صرخوا واستغاثوا، دون أن يسمع صرخاتهم واستغاثتهم أحد. تلك المتاهة المُرعبة هي أقدس بقعة في سورية، مزار مقدس يحج إليه.

غريزة داعش التي تشبه غريزة الأسديين هدتها إلى أن تدمر هي ذلك البيت الحرام الذي كان يمكن أن يكون أقدس رموز زمن جديد، لعالم جديد، لإنسان متحرر جديد، في هذا البلد الملعون.

أتطلع إلى أن يبنى يوماً ما يمثّل ذلك السجن، في المكان نفسه، ومن المواد نفسها، وبالهندسة نفسها. ليس السجن نفسه، لكن شيئا يذكر به ويستعير كثيراً من عناصره. وأن نجمع فيه ما كتب عن السجن وغيره، بالعربية وغيرها، وما صور عن السجون، سجوننا وسجون غيرنا. أن يكون متحفاً عالمياً للسجون وتجارب السجن، وأن نشيد فيه نصب يكرم عذابات الضحايا ويسترجع أسماءهم وصورهم كلها.

في هذا ما يمكن أن يجعل ن تدمر رمزاً لسياسة جديدة، سياسة حرية وتحرر.

اليوم، يبدو هذا بعيداً. لكن لا سبب يدعو إلى خسارة حلم. لا نكسب واقعاً حين نخسر حلماً.