في الثامن عشر من كانون الثاني الماضي، وُجد ألبرتو نيسمان مقتولاً في شقته في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس. كان نيسمان المدّعي العام المكلّف بالتحقيق في تفجير مؤسسة آميا اليهودية الأرجنتينية عام 1994. وكان بصدد تقديم تقرير يتهم فيه الحكومة الأرجنتينية بالتآمر لتبرئة إيران، المتهم الرئيس في التفجير، مقابل عقود اقتصادية ونفطية. فجّرت قضية نيسمان أزمة سياسية حادة في الأرجنتين، وأعادت المسألة اليهودية إلى واجهة السجال السياسي.
يبلغ عدد اليهود الأرجنتينيين حوالي 190ألف حسب إحصاءات الجمعيات اليهودية المحلية، في حين يرتفع العدد إلى حوالي ربع مليون إن تم الإحصاء حسب تعريف اليهودي وفق «قانون العودة» الإسرائيلي، في حين ترفع بعض الأوساط الثقافية الأرجنتينية عدد الأرجنتينيين ذوي الأصول اليهودية إلى أكثر من 700 ألف أرجنتيني. بغض النظر عن تفاوت الإحصائيات، لا شك في أن الأرجنتين موطن إحدى أكبر التجمعات اليهودية في العالم (المرتبة السابعة عالمياً)، وصاحبة أكبر جماعة يهودية في أميركا اللاتينية. كما أن لها مكانة كبيرة في تاريخ الهجرة اليهودية الحديثة والمعاصرة، وفي أدبيات الحركة الصهيونية. واليهود الأرجنتينيين يزاوجون، بشكل عام، بين المحافظة على خصوصيتهم كيهود والمساهمة الفاعلة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلد.
يسعى هذا النص لإلقاء نظرة عامة على تاريخ وتطوّر الهجرة اليهودية إلى الأرجنتين، مع التوقف عند نقاط أساسية في تاريخ اليهود الأرجنتينيين، وفي نص لاحق سيتم التطرّق لقضية تفجير آميا وتبعاته القضائية والدبلوماسية كمدخل لعرض الصراع الإيراني- الإسرائيلي في الأرجنتين، وفي أميركا اللاتينية عموماً.
بدايات وتكرّس الهجرة اليهودية إلى الأرجنتين
بدأت الهجرة اليهودية إلى الأرجنتين منذ القرن السابع عشر، حين كانت ما تزال مستعمرة اسبانيّة. وقد كان جلّ القادمين من السفارديين الهاربين من محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، بالإضافة إلى عدد قليل من الأسر القادمة من المغرب. كانت قوانين محاكم التفتيش سارية في المستعمرات الاسبانية أيضاً، إلا أن القبضة كانت أخف. رغم ذلك، لم يُشكّل اليهود القادمون إلى الأرجنتين جماعة خاصة بهم، كما لم يمارسوا طقوسهم الاجتماعية والدينية علناً، وسرعان ما استقروا ضمن المجتمع المديني في بوينوس آيرس ومنطقة ريو دي لا بلاتا، وعملوا في التجارة والنجارة، وتزاوجوا مع المستوطنين الاسبان، وكذلك مع السكان الأصليين، وإن بنسبة أقل.
لم يبدأ الظهور العلني لليهود في الأرجنتين حتى إسقاط محاكم التفتيش عام 1813، أي بعد اندلاع حرب الاستقلال ضد اسبانيا بثلاثة أعوام، في ذلك العقد أيضاً، بدأت هجرة اليهود الأشكيناز إلى الأرجنتين قادمين من مناطق سيطرة روسيا القيصرية ووسط أوروبا. لكن بقيت هجرة اليهود إلى الأرجنتين محدودة في الفترة اللاحقة، ومنحصرة في أصحاب الحرف والتجار، واستقر معظمهم في المدن.
أواسط القرن التاسع عشر، شهدت الأرجنتين موجات ضخمة من الهجرة الأوروبية إليها، ومن ضمن هذه الموجات وفدت أعداد كبيرة من اليهود. لم يكن الانقلاب في طابع الهجرة إلى الأرجنتين عددياً فحسب، بل تغيّر نوعياً أيضاً، إذ أنه لم يعد محصوراً بمبادرات فردية تستقر في المدن، بل حمل طابع الهجرة المنظمة نحو الأرياف لاستيطانها والعمل على استصلاحها. وقد كان هذا الانقلاب نتيجة قرارٍ حكومي أرجنتيني بمحاولة بناء نسيج اجتماعي مُنتج في بلدٍ مترامي الأطراف، وغني بالموارد الطبيعية، وذو كثافة سكانية صغيرة للغاية. عملت الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأثرة بسياسات التوطين المتّبعة في الولايات المتحدة وكندا، على تشجيع الهجرة إلى الريف الأرجنتيني عن طريق تمويل الرحلات البحرية المجانية وتشجيع إنشاء المزارع والتعاونيات الزراعية، ومنح الأرض بعقود استثمار أو تمليك للمزارعين الراغبين بالعمل فيها. وقد كانت سياسة التشجيع على الهجرة عنصرية في انتقائيتها، متأثرة بأفكار خوان باوتيستا ألبيرديخوان باوتيستا ألبيردي (1810-1884): رجل قانون وسياسي واقتصادي أرجنتيني ليبرالي.، المثقف والسياسي الليبرالي الذي ساهم في صياغة دستور عام 1853 في الأرجنتين. كن ألبيردي مسكوناً بهاجس ضعف الكثافة السكانية في الأرجنتين، كما أنه لم يُخف احتقاره للثقافات المحلية، أكانت ثقافة السكان الأصليين، أو تلك الهجينة بين الأصليين والوافدين أثناء الاستعمار الإسباني. اقترح ألبيردي في كتاباته أن على الأرجنتين أن تجتهد لاستقبال المهاجرين الأوروبيين من وسط وشمال أوروبا حصراً، ويفضّل لو كانوا ألماناً أو أنغلو-ساكسونيين، وأن تبتعد عن استقدام الآسيويين أو الأفارقة. يقول ألبيردي في نصٍ كتبه عن المسألة السكانية: «حتى لو انتظرنا مئة عام، لن يصير التشولوز أو الغاوتشوزالمزارعون ورعاة البقر المحليين. عمالاً إنكليزاً. لماذا لا نستقدم ألماناً وسويسريين وإنكليز لتوطينهم في أراضي الأرجنتين بدل تركها بيد هؤلاء الهنودهنود هنا بمعنى السكان الأصليين. الهمج؟ هل يعرف أحدٌ منكم فارساً محترماً يمكن أن يُفاخر بأي أصول هندية؟ بالله عليكم، هل يمكن أن يفضّل أي منكم تزويج ابنته أو أخته لإنفانثونلقب نبيل من الدرجة الدنيا، كان يُمنح في المستعمرات الاسبانية للاقطاعيين والملاّكين المحليين. آراهوكانيمنطقة في تشيلي. على تزويجها لمصلّح أحذية سويسري؟»
لم يحصل ألبيردي على مراده تماماً، حيث فضّلت الموجات الكبيرة من المهاجرين الألمان والأنكلو-ساكسونيين التوجّه نحو الولايات المتحدة وكندا، واستقبلت الأرجنتين موجات كبيرة من الاسبان والإيطاليين، وأيضاً من يهود وسط وشرق أوروبا، ولاحقاً من جنوب السلطنة العثمانية، لا سيما من سوريا ولبنان.
عام 1862 تأسس التجمع الإسرائيلي في بوينوس آيرس، وكان أول جمعية يهودية في الأرجنتين. كما أطلقت أول جريدة عبرية في الأرجنتين عام 1888، وكان اسمها الفونوغراف العبري. حتى ذلك الحين، كانت بوينوس آيرس مكان التمركز الرئيسي ليهود الأرجنتين، الذين كانوا يعملون في الحرف اليدوية والتجارة والصناعات الثانوية.
في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، تحديداً عام 1891، تأسست جمعية الاستيطان اليهودي على يد موريتز فون هيرتش، وهو رجل أعمال يهودي ألماني، وأحد كبار ممولي الحركة الصهيونية، وقد قامت فكرة الجمعية على تسهيل الهجرة الجماعية لليهود والعمل على توطينهم في مزارع تعاونية في الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين. عملت الجمعية على شراء الأراضي الزراعية وإنشاء مزارع تعاونية يهودية، وقد وصل عدد هذه المزارع إلى حوالي 200 مزرعة، معظمها في منطقة آنتريريوس الخصبة، وبعض هذه المزارع- مثل مويسيسفيل- تطوّر ليتحول لاحقاً إلى بلدات. وقد كان نظام هذه التعاونيات، أسوة بغيرها من المزارع غير اليهودية، قائماً على إعالة العاملين فيها وبناء شبكات استقبال للوافدين الجدد، بالإضافة لتمويل الوقف اليهودي من مقابر ودور عبادة ومدارس دينية ونشاطات اجتماعية لليهود باستخدام الريع الناتج عن النشاط الزراعي وتربية الماشية.
الغاوتشو اليهودي
الغاوتشو هو المرادف للـ«كاوبوي» في جنوب أميركا. هو اسم النموذج النمطي لراعي الماشية في المناطق السهليّة والهضبية الداخلية في وسط وجنوب أميركا اللاتينية (الأرجنتين، الأوروغواي، الباراغواي، جنوب شرق بوليفيا، وجنوب البرازيل).
الغاوتشو راعي ماشية أساساً، ويمارس الزراعة بشكل ثانوي. فرض هذا الواقع نفسه على ثقافة الغاوتشو، في اللباس (الذي تُستخدم فيه الجلود بكثافة)، والمطبخ (أنماط برّية لشيّ وطهي اللحوم). وقد فرض الرعي أيضاً أسلوباً في الحياة قائم على الترحال الموسمي بحثاً عن المراعي، ومنح للغاوتشو شخصية الفارس الماهر، ذو الشخصية الاستقلالية والكاره للتنظيم والسلطة، والمحارب الشرس ذو العلاقة الوثيقة بالطبيعة ووحوشها، ونمط الحياة هذا أفرز، بدوره، نمط موسيقى وشعر وأدب كثير التغنّي بأسلوب حياة الغاوتشو وشجاعته وفروسيته.
كان للغاوتشوز دور رئيسي في حروب الاستقلال ضد الاستعمار الاسباني خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، ولهذا السبب تبوأت شخصية الغاوتشو مكانةً عظيمة في السردية المؤسسة للأرجنتين والأوروغواي بشكل خاص، ورغم أن تطوّر الزراعة واستنباط أساليب جديدة لتربية الماشية فرض على الغاوتشو نمط حياة أكثر «زراعية» واستقراراً، ما أدى لتناقص الظاهرة حتى اختفائها مع بداية القرن العشرين، إلا أن فولكلور الغاوتشو في الغناء والشعر والمطبخ بقي راسخاً في ثقافة دول جنوب ووسط أميركا اللاتينية.
رغم أن الهجرة اليهودية إلى الريف الأرجنتيني وإنشاء المزارع والتعاونيات اليهودية بدأت في العقود الأخيرة من عمر ظاهرة الغاوتشوز كأسلوب حياة إلا أن الوافدين الجدد امتصوا الفولكلور، وتأثروا به وأثروا عليه، مستنبطين أنماطاً جديدة من موسيقى وغناء الغاوتشو، وأدخلوا تعديلات وإضافات على المطبخ الريفي السهلي. بدأ حينها استخدام مصطلح «الغاوتشوز اليهود» للحديث عن المزارعين ومربّي الماشية اليهود، إلا أن تبلور المصطلح وانتشاره أتى بفضل كتاب بنفس الاسم، كتبه ألبرتو غيرتشنوف، وهو يهودي أرجنتيني ذو أصول ليتوانية، قدم طفلاً برفقة أسرته إلى الأرجنتين نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر، وألف الكتاب في العقد الأول من القرن العشرين، ليُنشر عام 1910 ضمن احتفاليات الذكرى المئوية لاستقلال الأرجنتين عن الاستعمار الاسباني. يحتوي الكتاب على قصص وأشعار وخواطر تصف وفود المهاجرين اليهود إلى الأرجنتين، وتصوّر اندماجهم ضمن المجتمع المحلي وتفاعلهم معه، كما تمجّد الإسهامات اليهودية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يُعتبر كتاب الغاوتشو اليهودي أحد أهم شواهد أدب الهجرة اليهودية، خصوصاً في الأميركيتين، وقد تم إنتاج فيلم مقتبس عن الكتاب عام 1974 من إخراج خوان خوسيه جوشيد.
القرن العشرون
مع بداية القرن العشرين، أخذت الهجرة اليهودية من أوروبا إلى الأرجنتين بالتسارع، فما بين العامين 1906 و1912 قُدّر عدد اليهود الوافدين إلى الأرجنتين بحوالي 13000 مهاجر سنوياً، معظمهم من أوروبا الشرقيّة. فيما أتت موجة الهجرة اليهودية الثانية خلال القرن ابتداءً من عام 1928، أي مع صعود النازية في ألمانيا، ودامت كلّ عقد الثلاثينات وجزءاً من الأربعينات. تميّزت العقود الأولى من القرن العشرين، أيضاً، بازدياد نمط الهجرة المدينية لليهود. كانت شبكة التعاونيات الزراعية اليهودية قد تبلورت في معظم مناطق الريف الأرجنتيني، وجزء من الجيل الثاني من أبنائها بدأ بالانتقال إلى المدينة وترك العمل الزراعي لصالح التعليم العالي والتجارة والصناعة، كما ازدادت أعداد اليهود الوافدين للاستقرار في المدن دون المرور بمرحلة التوطين الريفي، ولم يكن هذا التحوّل محصوراً باليهود وحدهم بين الوافدين إلى الأرجنتين، بل شمل كل الوافدين إليها من أوروبا والشرق الأوسط. عام 1920، قدّرت الحكومة الأرجنتينية أن نصف سكان العاصمة بوينوس آيرس لم يولدوا في الأرجنتين، وفي عقدي الثلاثينات والأربعينات شهدت الأرجنتين نهضة صناعية كبرى، وقد كان القطاع الصناعي الأرجنتيني قطاع مهاجرين بامتياز، أكان بامتلاك المعامل أو العمل فيها.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت الجماعة اليهودية الأرجنتينية من أكثر جماعات المهاجرين تنظيماً. وكما كان للمهاجرين الاسبان أو الإيطاليين أو غيرهم جمعيات ومؤسسات اجتماعية وثقافية ومجالس أعمال تنظم لهم شؤون جماعتهم، وتسهّل لهم الارتباط بأوطانهم الأم، وتعمل كشبكة استقبال وتسهيل شؤون للقادمين الجدد، فقد كان لليهود الأرجنتينيين أيضاً جمعيتهم المركزية، آميا AMIA، وهي الحروف الأولى بالاسبانية لمنظمة التعاون الإسرائيلية الأرجنتينية. الإسرائيلية هنا لا تقصد دولة إسرائيل، بل الطائفة اليهودية، والتي سُميت «إسرائيلية» في كثير من الدول.، العاملة على العناية بالشؤون الدينية والاجتماعية والتعليمية، وخلق شبكات تعاون بين التجمعات اليهودية المنتشرة في الأرجنتين. تأسست آميا عام 1894 كجمعية للعناية بشؤون الوقف اليهودي من مدافن ودور عبادة، وتوسع نشاطها مع ازدياد حجم ونفوذ الجماعة اليهودية الأرجنتينية لتتحوّل خلال العقود التالية لمحور رئيسي تتمفصل حوله مؤسسات راعية للشؤون الثقافية والتعليمية والاجتماعية لليهود الأرجنتيني، وهي اليوم إحدى أضخم هيئات المجتمع المدني في الأرجنتين ومن أكثرها نفوذاً.
بالتوازي مع العلاقة الوطيدة، وباتجاهين، بين الجاليات الكبرى المقيمة في الأرجنتين، الاسبانية والبرتغالية والسورية-اللبنانية، مع دول الأصل، فقد كان للجماعة اليهودية الأرجنتينية ارتباطاً وثيقاً بالحركة الصهيونية، فقد ساهمت الحركة الصهيونية في هجرة اليهود الأوروبيين إلى الأرجنتين نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ودعمت شبكات العمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائمة في مجتمع اليهود الأرجنتينيين. اعتبر يهود الأرجنتين قيام دولة إسرائيل انتصاراً كبيراً للقضية اليهودية، وتفاعلوا مع الحدث بكثافة، ضاغطين على الحكومة الأرجنتينية لتعترف بدولة إسرائيل وتقيم علاقات دبلوماسية معها بأسرع وقت ممكن، وهذا ما حصل فعلاً في شباط 1949.
توقفت الهجرة اليهودية إلى الأرجنتين فعلياً منذ إنشاء إسرائيل، ولكن اليهود الأرجنتينيين، المنسجمين مع المجتمع الأرجنتيني، والمساهمين بقوة في حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لم يُقبلوا على الهجرة باتجاه «أرض الميعاد» خلال القرن العشرين، وإن عملوا على بناء علاقات عضوية وثيقة مع دولة إسرائيل، وتنظيم الزيارات المتبادلة والمنح التعليمية والثقافية. وقد وصل عدد حاملي الجنسيتين، الأرجنتينية والإسرائيلية، مع نهاية القرن العشرين إلى أكثر من ثمانين ألفاً، حسبما تصرّح المؤسسات اليهودية الأرجنتينية.
حصلت موجة هجرة كبيرة واحدة من الأرجنتين إلى إسرائيل خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالأرجنتين بين عامي 1999 و2002، فقد أدى انهيار الاقتصاد إلى أزمة بطالة ونقد، وأُغلقت آلاف المصانع والشركات التجارية، ما شجّع آلاف اليهود الأرجنتينيين على الهجرة إلى إسرائيل، مستفيدين من التسهيلات المالية والسكنية والمهنية التي يضمنها «قانون العودة» الإسرائيلي، وقد بات اليهود الأرجنتينيون كتلة وازنة ضمن مجتمع المستوطنين في الضفة الغربية.
السفارة الإسرائيلية في بوينوس آيرس
كما سبق الذكر، احتفى يهود الأرجنتينيون بقيام إسرائيل، وضغطوا باتجاه اعتراف الأرجنتين بإسرائيل وإنشاء علاقات دبلوماسية كاملة، وتحقق لهم ذلك بدايات عام 1949. حينها، اعتبرت النخبة اليهودية الأرجنتينية الوصول المرتقب لياكوف تسور، أول سفير إسرائيلي في الأرجنتين، حدثاً يجب أن يُخلّد، وأن تقام له الاحتفاليات، كما شرعوا بالعمل على إنشاء سفارة إسرائيلية لتكون مركزاً سياسياً واجتماعياً لهم بقدر كونها مركز تمثيل دبلوماسي لدولتهم القوميّة. لأجل ذلك، قاموا بشراء بناء أنيق في الريتيرو، أحد أفخم أحياء بوينوس آيرس، وقاموا بتجهيزه وتوسيعه وتزويده بالتحف الفنية والأثاث الباذخ. ومن طرائف تلك الحقبة أن إلياس تيوبال، وهو رجل أعمال يهودي فاعل في الجو الاقتصادي والاجتماعي في العاصمة بوينوس آيرس، كان يُشجّع أقرانه على التبرع لمشروع السفارة بالقول أن على اليهود أن يؤسسوا سفارة لإسرائيل أفخم من السفارة اللبنانية. كان لبنان حينها البلد الشرق أوسطي الوحيد الذي فتح سفارة في بوينوس آيرس، وكانت هذه السفارة مركزاً اجتماعياً مهماً للجالية اللبنانية، الفاعلة بدورها، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، في الأرجنتين.
تحوّلت السفارة الإسرائيلية في بوينوس آيرس فعلاً إلى مركز اجتماعي مهم لليهود الأرجنتينيين، وكانت تقام فيها فعاليات اجتماعية ودينية كثيرة، بالإضافة لعلاقتها العضوية مع كل المنظمات والجمعيات اليهودية الأخرى.
في السابع عشر من آذار 1992، انفجرت سيارة شحن مفخخة بجانب مبنى السفارة الإسرائيلية، مودياً بحياة 29 شخصاً وجرح حوالي300 آخرين، كما أدى إلى تدمير المبنى بشكل شبه كامل. اتهمت المُخابرات الإيرانية بتدبير التفجير في سياق سعيها لضرب المصالح الإسرائيلية في الخارج، وكعقوبة للأرجنتين على تراجعها عن صفقة تكنولوجية مع إيران استجابة للضغوط الأميركية.
أقيمت حديقة مكان المبنى سُمّيت باسم السفارة، وتُرك جانب من الجدار المحاذي للمبنى المجاور كتذكار، وتم نقل السفارة إلى الطابق العاشر في أحد أبراج المنطقة التجارية في بوينوس آيرس.
اللاسامية والاضطرابات السياسية التي تعرّض لها يهود الأرجنتين
بدأت أعراض إشكاليات الهجرة اليهودية بالظهور منذ اللحظات الأولى لتنامي موجات هجرة يهود أوروبا، فالأرجنتين، لأسباب تاريخية وديموغرافية، هي أكثر بلدان أميركا اللاتينية تأثراً بالثقافة السياسية الأوروبية، والأكثر تفاعلاً مع الأحداث في أوروبا، كما أن جهاز الدولة الأرجنتيني احتوى دوماً على قطاعات يمينية متطرّفة وفاشية، خصوصاً في الأمن والمخابرات، واتخذت مواقفَ معادية للحركات اليسارية ولليهود، وتعاملت مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وسهّلت لجوء مسؤولين نازيين هاربين بعد هزيمة النازية.
حصلت أولى الأزمات عام 1889، حين رفض مدير دائرة الهجرة في الأرجنتين الموافقة على نزول ركاب الباخرة «ويستر»، إحدى البواخر التي كانت جمعية الاستيطان اليهودية قد استأجرتها لنقل اليهود الأوروبيين إلى الأرجنتين. وقد أدى هذا القرار لأزمة دامت عدة أيام، وحصل استقطاب سياسي وإعلامي كبير بين المتفقين على قرار مدير الهجرة بمنع وصول المزيد من اليهود ومعارضين له، ونشطت المؤسسات والمنظمات اليهودية بكثافة ضد مدير الهجرة وقراره، وحُلّت الأزمة بالتفاف قانوني أجبر دائرة الهجرة على رفع حظر الدخول حين قامت جمعية الاستيطان اليهودية بتسجيل ركاب السفينة كمالكين لمساحات من الأراضي التي كانت قد اشترتها لإنشاء المزارع، وبالتالي نالوا حق الدخول للأرجنتين بوصفهم ملاّكين لمصالح اقتصادية فيها.
تكررت حوادث وأزمات من هذا النوع في العقود اللاحقة، أكان في الموانئ أو في البعثات الدبلوماسية الأرجنتينية في أوروبا، والتي كانت تعرقل منح تأشيرات دخول لليهود في بعض الأحيان، وكانت هذه الأزمات تُحل بالضغط السياسي أو الاقتصادي، أو بإدخال المهاجرين بصورة غير شرعية واحتوائهم ضمن شبكات الأمان اليهودية العاملة في الأرجنتين، ثم فرض وجودهم كأمر واقع.
حصلت أولى موجات العنف ضد اليهود الأرجنتينيين عام 1919، حين اعتبرت قوى الأمن الأرجنتيني أن اليهود الروس عملوا ضمن «مؤامرة شيوعية» لتنفيذ سلسلة إضرابات عمالية وأحداث شغب في الأرجنتين، وشنّت حملة اعتقالات كبيرة وحرّضت جماعات يمينية وفاشية مرتبطة بها على مهاجمة المصالح اليهودية مثل المتاجر ودور العبادة والمدارس والمقابر. واضطر عدد كبير من اليهود الروس لنقل مكان إقامتهم أو التواري أو الهجرة خارج الأرجنتين.
مع صعود النازية في أوروبا، اتخذت الأرجنتين سياسة تنظيم هجرة لا سامية بشكل مستتر، ففي حين قدّمت نفسها كملجأ للهاربين من الحرب في أوروبا عملت الدولة الأرجنتينية على عرقلة وصول اليهود إليها، وأمرت بعثاتها الدبلوماسية في أوروبا برفض أكبر عدد ممكن من طلبات الهجرة التي يُقدّمها يهود. رغم ذلك، كانت الأرجنتين أحد أكبر ملاجئ اليهود الهاربين من النازية، حيث دخل عدد كبير من اليهود بشكل غير شرعي بفضل جهود جمعية الاستيطان والمنظمات اليهودية الأخرى، وبتواطؤ مع موظفين ومسؤولين ضمن السلك الدبلوماسي الأرجنتيني في كثير من الأحيان، وتمت تسوية أوضاعهم القانونية لاحقاً.
بين عامي 1955 و1956، عانى يهود الأرجنتين من موجة عنف أخرى ضدهم بسبب تنامي نشاط أحزاب وحركات فاشية، معادية للشيوعية، ومعادية لليهود. أبرز هذه الحركات كانت حركة تاكوارا القومية، وهي حركة تنتمي إلى القطاع الأكثر يمينية ضمن البيرونيّة، وتتصف بأنها حركة قومية-كاثوليكية، فاشية، معادية لليهود، معادية لليسار، ومعادية للديمقراطية التمثيلية. استهدفت هذه الحركة مصالحاً يهودية كثيرة خلال هذا العقد، وتضاعفت الهجمات مطلع عقد الستينات كردّ فعلٍ على خطف الموساد لأدولف إيخمان، الضابط النازي البارز الذي كان قد لجأ بشكل سرّي إلى الأرجنتين، واقتياده إلى إسرائيل حيث حوكم وأُعدم. ردّ اليهود الأرجنتينيون على هذه الاعتداءات بإضرابات واسعة واحتجاجات سياسية، خصوصاً بعد الاعتداء على غراثييلا سيروتا، وهي شابة يهودية خُطفت من قبل عناصر تاكوارا وعُذبت بشدة، ورُسم الصليب المعقوف على جبهتها باستخدام سكين؛ واغتيال راؤول ألتيرمان، وهو يافع يهودي كان ناشطاً في إحدى الحركات الشيوعية اغتيل أمام بيته، وتلقت أسرته بعدها رسالة من قاتليه تُشير إلى أنه قُتل لأنه «كلب يهودي وشيوعي».
اتهمت الجمعيات اليهودية ومعادو هذه الحركة الفاشية الجامعة العربية بدعم وتمويل حركة تاكوارا، حيث اتهموا حسين تريكي، ممثل الجامعة العربية في الأرجنتين في الستينات، بتوفير الدعم المالي والعلاقات مع منظمات فاشية خارج الأرجنتين في سياق محاولة الربط بين القضية العربية ضد إسرائيل وعداء هذه الحركات لليهود. وكدليل على هذا الاتهام، يشير أصحابه إلى نشاط تعريفي بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية أقامه حسين تريكي باسم الجامعة العربية في إحدى مسارح بوينوس آيرس، حضره عدد كبير من عناصر وأنصار حركة تاكوارا القومية، وهتفوا فيه ضد اليهود، ورُفع فيه شعار «عبد الناصر وبيرون، قلب واحد!».
اندثرت حركة تاكوارا القومية منتصف عقد الستينات نتيجة الملاحقة الأمنية عقب الضجة التي أثارتها عملياتها، وأيضاً نتيجة خلافات وصراعات داخل الحركة نفسها، وقد انخفضت وتيرة الاعتداءات ضد اليهود عقب انقراض تاكوارا، إلا أنها استمرت على يد منظمات فاشية أخرى، وعادت للتصاعد قبيل الانقلاب العسكري عام 1976، لا سيما ضد اليهود الناشطين في الحركات النقابية واليسارية.
بعد الانقلاب العسكري عام 1976، وعملية «إعادة التنظيم الوطنية» التي أطلقها المجلس العسكري الحاكمللمزيد حول الحكم العسكري في الأرجنتين وتبعاته الاطلاع على «ذاكرة الجماجم».، تلقى يهود الأرجنتين قمعاً تمييزياً مضاعفاً، فمن ناحيةٍ عمل الحكم العسكري على تحجيم نفوذهم السياسي ومحاولة إبعادهم عن دوائر القرار، خصوصاً داخل الجيش، كما تزايدت وتيرة الاعتداءات على المصالح اليهودية، وراجت عمليات خطف اليهود الميسورين وأبنائهم مقابل فدية من قبل أوساط العسكر الأرجنتينيين بتواطؤ وتسامح كبيرين من قبل السلطات الأرجنتينية. من ناحية أخرى تعرّضت أعداد كبيرة من اليهود الناشطين في الحركات الطلابية والنقابية والأحزاب اليسارية للاعتقال والتغييب القسري. تنشط جمعية عائلات المفقودين اليهود، والتي تأسست عام 1998، في نفس مجال عمل أمهات ساحة مايوللمزيد حول حركة أمهات المفقودين القسريين في الأرجنتين الاطلاع على «أمهات ساحة مايو». وغيرها من المنظمات العاملة على الحفاظ على الذاكرة التاريخية لحقبة الحكم العسكري، إلا أنها تعمل على المرافعة عن فكرة أن ضحايا الديكتاتورية العسكرية اليهود تلقوا قدراً أكبر من القمع التمييزي لكونهم يهوداً. تشير وثائق الجمعية إلى أن نسبة اليهود بين أعداد المفقودين تتجاوز 13%، رغم أن اليهود كانوا يشكلون حوالي 0.5% من السكان لحظة انقلاب عام 1976.
مع عودة الديمقراطية إلى الأرجنتين، نشطت جمعيات وشخصيات يهودية عديدة ضمن الجهود المناهضة لطي صفحة الحكم العسكري دون محاسبة المسؤولين، معتبرين، كما سلف الذكر، أن ضحايا الديكتاتورية من اليهود كانوا ضحايا بشكل مزدوج.
تفجيرات التسعينات
عاشت الجماعة اليهودية الأرجنتينية أسوأ فصول تاريخها في النصف الأول من تسعينات القرن العشرين، حيث تعرّضت لأكبر عمليتي استهداف لليهود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. العملية الأولى، كما أشير في مقطع سابق، استهدفت السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين في آذار 1992، وأدت لمقتل 29 شخصاً. واتهمت المخابرات الإيرانية بتنفيذها.
في الثامن عشر من تموز 1994، أي بعد تفجير السفارة بعامين ونيف، انفجرت شاحنة مفخخة أخرى أمام مقر آميا، أكبر المؤسسات اليهودية في الأرجنتين. أودى التفجير بحياة 85 شخصاً، كما تسبب بجرح مئات الأشخاص وخلّف دماراً كبيراً في المنطقة. يُعتبر تفجير آميا أكبر عملية إرهابية ضد اليهود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفجرت أزمة سياسية ودبلوماسية ما زال صداها قائماً حتى اليوم. أشارت التكهنات الأولية حول هوية المنفذين إلى ثلاثة احتمالات، أولها المخابرات الإيرانية باستخدام عناصر من حزب الله اللبناني؛ وثانيها المخابرات السوريّة؛ وثالثها مؤامرة مدبرة داخل أجهزة الأمن الأرجنتينية، الفاسدة والفوضوية.
سارت التحقيقات والعملية القضائية بخصوص تفجير آميا بشكل فوضوي ومتعثر وسط الأزمة الاقتصادية والسياسية التي لازمت الأرجنتين نهاية التسعينات والنصف الأول من العقد الماضي، وسط ضغط كبير من الجمعيات اليهودية داخلياً، وضغوطات أميركية وإسرائيلية مستمرة على الصعيد الدبلوماسي. عام 2006، تسلّم المدعي العام ألبرتو نيسمان، وهو يهودي أرجنتيني، ملف التحقيق، ما اعتبرته الأوساط اليهودية الأرجنتينية انتصاراً لها، وفور تسلمه الملف سارع نيسمان لاتهام إيران رسمياً، وصدرت مذكرة أرجنتينية للانتربول لجلب عدد من المسؤولين الإيرانيين، ما تسبب بأزمة دبلوماسية حادة بين الأرجنتين وإيران.
مطلع العام الحالي، وُجد نيسمان مقتولاً في شقته قبل يوم واحد من مثوله أمام البرلمان الأرجنتيني لتقديم تقريرٍ يتهم فيه كريستينا كيتشنر، الرئيسة الأرجنتينية الحالية، بمحاولة إغلاق القضية ورفع الاتهام الرسمي لإيران مقابل صفقات اقتصادية وسياسية غامضة مع إيران. تسببت هذه الحادثة بإحدى أكبر الأزمات السياسية في الأرجنتين خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً وأن الأرجنتين مقبلة على انتخابات رئاسية هذا العام، وعادت المسألة اليهودية في الأرجنتين إلى الصف الأول من السجال السياسي، والذي وصل في الشهور التي تلت مقتل نيسمان إلى مستوىً عالٍ جداً من الاستقطاب الحاد. تعتبر أوساط إعلامية وسياسية عديدة أن قضية نيسمان ستُصيب الكيتشنرية الأرجنتينية في مقتل، وستعطل مساعي كريستينا كيتشنر لمحاولة استكمال عهدها وعهد زوجها بعد الانتخابات الرئاسية هذا العام، والتي لا تستطيع الترشّح فيها وفق الدستور الأرجنتيني.
في مادة لاحقة، سيتم التفصيل في قضايا تفجيرات التسعينات، مع وقوف عند امتداداتها السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية.