آلت الأمور في سورية إلى أن تحمل السلاح وتتواجه  في حروب تتوازى وتتقاطع وتتقلب، ولا تلوح لها نهاية قريبة، مجموعاتٌ مقاتلة منحدرة من ثلاث جماعات يغلب عليها طابع ريفي، هي العلويون، سنيو الأرياف العرب، والكرد. ستقول هذه المقالة إن هذه الجماعات تشكلت بالحرب وتولدت عنها، بدءاً من أوضاع أكثر اختلاطاً ضمن كل واحدة منها وبينها وبين غيرها من الجماعات؛ إنها جماعات الحرب أكثر مما الحرب حرب هذه الجماعات.

علويو الحرب

لم تكن هناك مدن يغلب العلويون بين سكانها. كان العلويون عموماً سكان جبال فقراء ومهمشين، يقيم أكثرهم في قرى وبلدات صغيرة. وبعد أن كانت سُكنى علويين في المدن تتنامى منذ أيام الانتداب الفرنسي، فقد اتسعت في الجيلين الأخيرين، التاليين للحكم البعثي، ظاهرة إقامة علويينَ في أكثر المدن السورية، وبخاصة مدن الساحل التي ربما يشكلون أكثرية فيها اليوم، اللاذقية وطرطوس وجبلة، وكذلك حمص ودمشق، وفي مدن أخرى بنسب أقل. لكن من تمدنوا ظلوا مشدودين بقوة إلى منابتهم القروية. للأمر صلة بالضعف الاقتصادي للمدن السورية عموماً وتواضع الصناعة فيها من جهة، وبإجراءات إدارية وبيروقراطية في سورية لا تسهل انتقال قيود الأحوال الشخصية للأفراد (الزواج وتسجيل الأبناء) والعسكرية (ما يتصل بالتجنيد العام والسحب إلى الخدمة العسكرية الإلزامية وتأجيلها…) إلى مناطق سكناهم، فتُبقي الناس مشدودين إلى مواطنهم الأصلية. ولعله يعزز من بقاء الارتباط بالريف قوياً في حالة نسبة مهمة من العلويين أن مناطقهم مصايف مناسبة، جبلية وبحرية، يفضلها المرء لقضاء الصيف على المدن، وإن كان من أهل السلطة والمال يبني قصراً في قريته لصيفياته، ثم لتقاعده. ولعل شيئاً من القلق حيال مدن أكثرية سكانها من السنيين يبطن بقاء الارتباط بالقرية قوياً، قلق خرج إلى السطح علناً مرتين: وقت مات حافظ الأسد حيث عادت أسر وطلاب جامعيون إلى قراهم في حركة بدت غريزية دون مسبب ظاهر، ووقت الثورة السورية حيث حصل شيء مشابه على مستوى العوائل (وليس المقاتلين والحاكمين، عموم «أهل الدولة»).

يتميز التمدن العلوي  خلال الجيلين الماضيين (عن التمدن الكردي وعن تمدن سنيي الريف وعموم الريفيين السوريين الآخرين) بأن قوة الجذب الأساسية هنا نحو المدينة هي سلطة الدولة، أجهزة القوة بخاصة من مخابرات وجيش، ثم أجهزة الأخرى.

وما شهدناه من انشقاقات منذ بداية الثورة حتى انهيار الإطار الوطني للصراع السوري في النصف الثاني من عام 2012، أدى إلى صفاء طائفي أكبر في قوات النظام المحاربة للثورة، مع ما هو معلوم من أرجحية علوية كبيرة سلفاً في الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظائف الأمنية. العلويون المعارضون للنظام أو المستقلون، وهم أكثر اختلاطاً بغيرهم بطبيعة الحال، وجدوا أنفسهم منكفئين على أنفسهم أو مضطرين إلى الخروج من البلد، ومن هم أقل استقلالية ومعارضة تزحزحوا إلى مواقع أقرب إلى النظام. في المحصلة كان مسار الصراع خلال 52 شهراً مسار تريُّف وتطيُّف لجبهة النظام المحاربة، بقدر ما كان مسار تريف وتطيف عام؛ مسار ارتباط مع رعاة إقليميين ودوليين أيضاً، كما سأقول لاحقاً.

إعادة الهيكلة هذه لحساب النواة الأهلية الخاصة، الأقوى ارتباطاً بالقرية والبلدة والمنبت الريفي الأصلي، والأشد قطيعة مع البيئات السورية الأخرى، تتمثل على نحو خاص في ظاهرة الشبيحة. ساهم الشبيحة في قمع الثورة منذ البداية، وتحولوا إلى قوة منظمة قبل نهاية 2012 برعاية وتدريب إيرانيين. ولا يفلح في حجب دلالة هذه الظاهرة أنه يغلب أصلاً الطابع الأهلي على أجهزة النظام الأمنية والعسكرية ذات الوظائف الأمنية. فظاهرة الشبيحة تشير إلى الاتجاه الذي تجري فيه إعادة الهيكلة في شروط الثورة والحرب: بروز «النفس الغضبية»، الأقرب إلى المنبت والأصل، والمتمرسة أكثر من غيرها بالسلاح من قبل، على حساب «النفس العاقلة» التي تتواصل مع غير، وتتوسل الكلام في تواصلها. وهي من وجه آخر تشير إلى المزيد من بروز الأهلي الصافي على حساب الدولتي المختلط، الريفي أيضاً على حساب المديني. يتكشف الحكم الأسدي عن هذا الوجه الأهلي والأصلي كلما ووجه بتحدٍ اجتماعي كبير، هذا بينما يعرض وجهاً أقل أهلية وأصلية في أوقات الاسترخاء. لا يكاد الأمر يحتاج إلى شرح: النواة الحربية للنظام أصلية وأهلية وريفية.

سنيو الجهاد

من الشائع القول لأغراض متناقضة إن السنيين السوريين ليسوا طائفة. يُراد بهذا أحيانا القول أنهم «الأمة»، وهذا باطل كل البطلان، لكنهم ليسوا طائفة بالفعل لاعتبارات متعددة، منها أن التباعد بين سنيي المدن «الأصلاء» وبين غير المدينيين من السنيين، سواء كانوا فلاحين أو بدواً أو بين بين، أوسع في الغالب مما هو بينهم وبين من يشاطرونهم المدن. السنيون في سورية كانوا يصفون أنفسهم حتى وقت قريب بأنهم مسلمون. وهذه ليست واقعة لسانية شكلية، إنها مؤشر على حضور شاغلِ التمايز عن مسيحيين ويهود، وضموره حيال الجماعات الإسلامية المحلية الأخرى من علويين ودروز واسماعيليين وشيعة. قد يمكن القول إن السنية، أعني صعود تعريف الذات كسنيين، ظهرت في الزمن البعثي، والأسدي بخاصة، أي هي نتاج حقل سياسي ديني حاد الاستقطاب، جرى فيه استثمار واسع في التمايزات الاعتقادية، ومن قبل طاقم السلطة وأجهزة إعادة إنتاجها. بمعنى آخر، السنية نتاج تطييف الحقل السياسي السوري في الزمن البعثي والأسدي.

كانت المدن السورية تقليدياً مدناً سنية ومسيحية أرثوذكسية أساساً. لكن لعل أكثر سكان الأرياف أيضا سنيون، وإن لم تكن معلومة نسبتهم من السكان ككل أو من عموم السنيين. إلا أن مدرك السنة أو الأكثرية السنية يخفي واقع أن سنة الأرياف هؤلاء هم جماعات (وليس جماعة مفردة متجانسة أو قريبة من التجانس، أو لها ممثلون معلومون)، وهذه الجماعات متدهورة، أكثر تدهوراً من غيرها من الجماعات الريفية. فهي، أولاً، تعرضت لرقابة سياسية أشد من غيرها من طرف النظام، مرة لاشتباهٍ بإسلاميتها، ومرة، بخصوص سكان الجزيرة، اشتباهاً بولائها للبعث العراقي، وفي الحالين تسويغاً للتشدد في معاملتها ومعاملة السكان ككل. وهي، ثانياً، تفتقر إلى شبكة محسوبية فعالة تتوسط بينها وبين مراكز السلطة المحلية والمركزية، وهو ما لا يقارن بشبكة المحسوبية الشامية (رجال دين وتجار أساساً)، ولا يقارن بشبكة المحسوبية العلوية (ضباط ورجال سلطة أساساً)، الأعلى كثافة بين نظيراتها في سورية. وهم عانوا مثل غيرعم من الريفيين من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في عهد بشار، وهي سياسات حابت المدن على حساب الأرياف، والمدن الكبرى أكثر من المدن الأصغر، ومراكز المدن أكثر من أطرافها.

السنة الريفيون السوريون تمدنوا مثل غيرهم، وتسكن نسبة منهم المدن منذ جيل أو جيلين وأكثر. ومثل غيرهم ظلوا مرتبطين بقراهم وبلداتهم بقدر لا بأس به، وللأسباب ذاتها: ضعف المدينة اقتصادياً وسياسياً، وانبناء نظام الأحوال الشخصية والتجنيد على شدّ الناس إلى منابتهم. ثم أيضاً الوهن السياسي الأشد للمدينة السورية بفعل ما تعرض له السوريون من إفقار سياسي جائر طوال أكثر من نصف قرن. من يريد السياسة لن يجدها في المدينة التي قد تكون، بالأحرى، باباً لسجن عاجل (ولعله لذلك يجدها في الدين، في الطائفة والجماعة الخاصة، وفي الحرب).

لكن بينما شكل النظام الأسدي محور تماهٍ علوي واسع، تتقاطع فيه اعتبارات المصحلة العقلانية (الوظيفة، المحسوبية)، مع اعتبارات العِزْوة والسند الرمزي، ومع اعتبارات القلق الوجودي والسياسي الأقلّي، وبينما سنرى أن القضية الكردية (في إطار سوري أو في إطار كردستان الكبرى) هي محور التماهي العام للكرد السوريين، لم يكن لسنيي الأرياف محور تماهٍ مشترك. كانوا مجزئين جداً، فلا قوة مقتدرة تشدهم إليها، ولا قضية موحدة تربطهم معاً.

 حركة أحرار الشام الإسلاميّة.
حركة أحرار الشام الإسلاميّة.

بعد الثورة، وما تعرضت له هذه البيئات التي كانت حواضن أساسية للثورة (ليست الوحيدة)، سارت الأمور باتجاه أن يصعد نجم الإسلام السلفي في وسط السنيين الريفيين، على حساب إسلام مديني، مشايخي ومدجّن، «انشق» بعض ممثليه عن النظام، وكذلك على حساب الإخوان المسلمين الأكثر مدينية، ومعظم منسوبيهم في المنفى منذ عقود. ويستجيب صعود السلفية في الأرياف السنية إلى حاجات البيئة الجديدة إلى قوى تقاتل، أوثق صلة بالمكان وأكثر تمرساً بالقتال، وأكثر صفاء في داخلها وانفصالاً عن خارجها. ليس جميع المقاتلين ضد النظام ريفيين، كان ولا يزال بينهم مدينيون، بين مقاتلي حلب بخاصة، لكن معظم المقاتلين ضد النظام من بلدات وقرى مهمشة، وتدور كثير من تشكيلاتهم في أفق سلفي جهادي، وإن لم تكن سلفية جهادية. وقد يكون الأساس في ذلك أن لدينا هنا باراديغم واضح: «علم» هو السلفية، و«عمل» أو «تطبيق» هو الجهاد، ونظرة مميزة إلى العالم (معاد للإسلام والمسلمين، تحركه أميركا وإسرائيل من راء الستار)، ونظرية سياسية محددة هي الحاكمية الإلهية، ونموذج تمثيلي فعال هو القاعدة، وأمثلة أداء مبهرة ومشهورة في الغرب بخاصة (11 أيلول، وعمليات في لندن ومدريد وبالي)، وحظوة كبيرة عند وسائل الإعلام، الغربية قبل غيرها. وهذا النموذج، حيثما وجد، فهو نموذج أرياف، ربما تهاجم المجموعات القاعدية المدن وتسيطر عليها، لكن منطلقها هو الريف.

كرد القتال

الكرد في سورية قوم ريفيون أساساً، ينحدرون من قرى وبلدات صغيرة عموماً. ومن يسكن منهم في المدن يعيشون فيها منذ جيل أو جيلين، ويحتفظون بعلاقات قوية بمنابتهم الريفية. هنا أيضاً لعبت العوامل نفسها في إبقاء من تمدنوا منذ جيل أو جيلين مرتبطون بمواطنهم الأصلية، أعني ضعف الجاذبية الاقتصادية والسياسية للمدينة، وأنظمة الأحوال الشخصية والتجنيد.  ومن بينهم، «كرد الحسكة الأجانب»، وهم في مرتبة ربع مليون، يشدهم وضعهم الأدنى حماية والأكثر هشاشة إلى منطقتهم، حيث ينالون اعترافاً من أندادهم، وشعوراً بالحماية والأمان.

هناك كرد مدينيون قدماء في دمشق وفي حماة، لكنهم أكثر تعرُّباً وأقل انشغالاً بالحركة القومية الكردية المعاصرة التي خرجت من بلدات ومدن منطقة الجزيرة، بخاصة القامشلي والحسكة، وبدرجة أقل عفرين وعين العرب وحلب. «عاصمة» النشاط السياسي الكردي هي الجزيرة القصية عن المركز، ليست دمشق، ولا حتى حلب ومناطقها الكردية. وجميع هذه المناطق المتكاثرة السكان إما صارت كردية شبه صافية أو ارتفعت نسبة الكرد فيها بسبب تحركات ديمغرافية متنوعة، منها بخاصة في منطقة الجزيرة هجرة السريان والأرمن إلى مدن سورية أخرى، أو أكثر إلى خارج البلد.

والخلاصة أن سورية التي لم تكن فيها أية مدينة كردية وقت استقلالها، تصاعدت نسبة الكرد في مدن الجزيرة فيها وقت كانت المدينة السورية تتدهور، ودورها في خلط الناس وتغييرهم يتراجع. لا شيء يقارن بديار بكر في تركيا، ولا حتى بمدن السليمانية وأربيل في كردستان العراق.

لكن رغم إنكار شخصيتهم القومية (خلافاً للأرمن والسريان)، أتيحت للكرد حياة سياسية أقل سوءاً من غيرهم من السوريين في العقود الثلاثة السابقة للثورة. لم يجر استئصال المنظمات السياسية الكردية في أي وقت، وإن يكن النظام حرص على تقسيمها وإضعافها حياله. وبينما لم يكف النظام عن اعتقال ناشطين كرد، فإنه لم يجرد حملات استئصالية على المنظمات السياسية الكردية في أي وقت، ولم ينل الناشطون الكرد أحكاما بالعشر سنوات والخمسة عشر عاما في السجن، ولم يحبس أحد منهم في سجن تدمر. هذه ميزة إيجابية مهمة قياساً إلى البيئات السورية الأخرى. المنظمات المعارضة العاملة على المستوى الوطني، العلمانية والإسلامية، سحقت تماماً.

ولهذه التعبيرات السياسية مفعول تمديني مهم، يتدارك حداثة عهد الكرد بمدن كانت واهنة سياسياً وثقافياً واقتصادياً، ويسوغ القول إنها، هذه التعبيرات السياسية، هي ضرب من مدينة كردية متخيلة. ومن هذه «المدينة» المتخيلة خرجت الانتفاضة الكردية في 2004.

وليس من هذه «المدينة» خرج حاملو السلاح اليوم. خرجوا من تيار عبد الله أوجلان الذي كان الأقرب إلى النظام حتى خروج القائد الكردي التركي من سورية عام 1998، والأكثر قومية وانشداداً إلى مركز غير سوري. هو أيضا التيار الذي لا تكاد تكون له روابط بأية منظمات سورية أخرى، أو يهتم بالتواصل والتعاون مع مجموعات عربية منظمة، وهذا خلافاً للتنظيمات السياسية الكردية الأخرى. هذه الأخيرة انخرطت في المتاح من النشاط العام في سنوات ما بعد «ربيع دمشق» وتوسعت هوامش النقاش السياسي مع المنظمات السورية الأخرى، وطابعها الغالب عربي (لكن الدلالة السياسة لهذا الطابع كانت تزداد ضموراً). كان الأوجلانيون السوريون (يسمون كردياً: الأبوجيون، نسبة إلى «العم» أوجلان) أكثر انشداداً إلى الساحة التركية التي ساهم كثيرون منهم في القتال فيها منذ ثمانينات القرن العشرين. واليوم يساهم كثير من كرد تركيا في حرب حزب الاتحاد الديمقراطي الأوجلاني في سورية.

بصورة مجملة، يمكن القول إنه جرت هنا إعادة هيكلة لمصلحة الأوجلانيين المسلحين ضمن الحركة السياسية الكردية ككل، ونحو أجندة مستقلة، إن لم تتعاون مع النظام على ما جرى أحياناً، فإنها لا تتعاون مع المعارضة العاملة على إسقاطه.

ديناميات الحرب

قد يمكن القول إن مواجهة الثورة بالحرب وتحول الثورة إلى حرب وفرا بيئة طبيعية، يحوز فيها الأكثرُ استعداداً للقتال ميزةً إيجابيةً عن غيره، ما يجعله الأقدر على الفوز في «صراع البقاء» في هذه البيئة القاسية. مبدأ «الاصطفاء الطبيعي» هذا يلعب لمصلحة الشبيحة والمخابرات في الوسط العلوي، ولمصلحة السلفيين والجهاديين في الوسط السني، ولمصلحة الأبوجيين في الوسط الكردي. وظاهرٌ أن من يخسر معركة البقاء أكثر حتى ممن لا يقاتلون، هم أولئك الذين طوروا تصوراً للسياسة والمجتمع، ولأنفسهم، يُحيِّد القتال كلياً.

وليس من غير المستغرب فقط أن هذه المجموعات التي تتصدر جماعاتها اليوم كانت هي الأدنى تفاعلاً مع المجموعات السياسية والاجتماعية الأخرى في سورية، والأكثر صفاء وتجانساً داخلياً، بل إن هذا بالذات ميزة لها في مثل هذه الظروف. كان السلفيون جماعة جزئية في السنيين السوريين، طورت موقفاً انعزالياً حيال محيطها السني ذاته، مع ميل عدائي وتكفيري قوي؛ وكان الأوجلانيون جماعة جزئية، لا تمتنع عن تخوين غيرها من الكرد، ولا يرتاح لها أكثر الناشطين الكرد؛ واحتكار المخابرات للوطنية والتخوين العام، وللكراهية والإكراه، أشهر من أن يحتاج إلى بيان خاص، ولم تكن هذه المنظمة السرية الإرهابية تدافع عن غير النظام علناً وسراً. ولا يكاد يحتاج إلا بيان خاص أيضا أن الانعزال والتفاعل الأدنى والتجانس الذاتي من الخواص الملازمة للحياة الريفية.

أقول إن تدني الاختلاط بالغير والصفاء الداخلي ميزة لهذه الجماعات لأنه يبدو أن الصافِين الأدنى اختلاطاً هم أبناء الحرب حتى قبل الحرب، إنهم طرف قبل المعركة، وعلى قطيعة مع غيرهم قبل أن ترفع الحرب الطلب على القطيعة أو تجعل منها واجباً.

وتبدو هذه المجموعات شبيهة ببعضها من حيث جمعها بين السرية والانعزال والعنف، وميلها إلى الاستيلاء على السلطة في مناطقها وبناء دول تخصها. المجموعات السلفية المجاهدة تبدو أشبه بأجهزة مخابرات، وقد نمت فعلاً في عالم من السرية يشبه عالم المخابرات، ولا يكاد يعرف عنها أحد شيئاً غير مخابرات الدول، والمخابرات الأسدية قبل الجميع. وتبدو ميزة التنظيم الأوجلاني السوري أنه كان مجهولاً من عموم السوريين، وربما على نطاق واسع في الوسط الكردي، والأرجح أن أوسع من يعرف عنه شيئاً هو المخابرات الأسدية.

وما جرى ذكره قبل قليل من ميل إلى الصفاء والتجانس، يكمل الميل إلى القطيعة مع الجماعات الأخرى ومحاربتها، بلغ أقصاه بعد انهيار الإطار الوطني للصراع السوري في أن استقطب الجهاد السني جهاديين من شتى أنحاء العالم، واستقطب النظام مساندين شيعة من لبنان والعراق وإيران، واستقطب القتال الكردي مقاتلين كرد من تركيا والعراق، ومن أوروبا، وغربيين أيضاً. وهذا تغليب للقطيعة مع الخصم، إلى درجة إن كل غريب وبعيد يغدو قريباً في نطاق مواجهته. وهو لا يتعارض أيضاً مع دينامية الصفاء الحربي: فأنت، ولو لم تكن منا تماما، معنا في مواجهتهم هم. جهادي سني من تونس أو السعودية أو الشيشان أو بريطانيا…، مجاهد شيعي من إيران أو لبنان أو العراق…، قومي كردي من تركيا أو من ألمانيا، أو غربي يقاتل مع الكرد ضد داعش، ليس مهما ألا تكون منـ«نا»، المهم أنك معـ«نا» ضد«هم».

 العقيد سهيل الحسن «النمر».
العقيد سهيل الحسن «النمر».

لكن ينبغي القول إنه في حالتي السلفية السنية والدولة الأسدية يبدو الميزان مختلاً لحساب من ليسوا مـ«نا» إلى درجة أنهم صاروا عليـ«نا». داعش نتاج لذلك، والاحتلال الإيراني لدمشق نتاج له أيضا. وليس واضحاً إن كان هناك ما يشبه ذلك في الوسط الكردي. معلوم أن لمقاتلين كرد من أصل تركي دور قيادي في الاتحاد الديمقراطي.

ويكمل قطيعة المجموعات الثلاثة مع غيرها أنها الأقل احتراما لغيرها والأشد عدائية حيال الغير وتبنيا للستريوتيبات العدائية. المخابرات والشبيحة تجسيد لقلة الاحترام ونشر الكراهية والطائفية، السلفيون عدوانيون جداً في قلة احترامهم لغيرهم وكراهيتهم لغيرهم، مع تعريف الغير تعريفاً طائفياً على الدوام، والأبوجيون شركاء في هذه الخصلة، على نحو رأينا أمثلة عنه بعد السيطرة على تل أبيض ومواجهة أية أصوات عربية منكرة لممارسات الأبوجيين بالتسفيه والاتهام بالداعشية.

مقدمات الكراهية واللااحترام سابقة للثورة، ومتجذرة في تماهيات متباعدة ومتضادة للسوريين، لكنها تلقت دفعاً إلى النهايات القصوى في شروط الحرب: نحن لا نحاربهم إلا لأنهم أشرار معتدون حقيرون، وسيكون هدف الحرب،تالياً، هو القضاء عليهم!

المجموعات الثلاثة تتشارك أيضا بسرديات المظلومية/ سرديات التفوق التي تحيل إلى تكوين بارانوئي مميز لجماعات الهوية الصافية أو النازعة نحو الصفاء. سرديات المظلومية والتفوق نتاجات جمعية للجماعات التي تنزع للتماثل كأنها شخص واحد، وهي معادل لمركب جنون الاضطهاد وجنون العظمة عند الأفراد الذين يعانون من البارانويا. وفي كل حال، الغير مستحقون للتحقير لأنهم أشرار ظالمون لنا، وهم مستحقون للتحقير أيضاً لأنهم أدنى منا ومنحطون. نحن، بالمقابل، مظلومون ومتفوقون، مستحقون لذلك أن نكون قضاة عليهم وحاكمين لهم.

الحرب تنتج المحاربين

وما أريد ترتيبه على مجمل هذه التأملات أن عمليات الصراع في سورية سارت باتجاه تولد أطراف على قطيعة أشد فيما بينها وأقرب إلى الصفاء داخلها، وذلك ابتداء من أوضاع أكثر تقارباً واختلاطاً. ليس لأن هناك أطراف ناجزة الطرفية، إن جاز التعبير، هناك حرب، الحرب هي التي أنتجت الأطراف ذات الحدود الأوضح، وذلك من مجموعات متداخلة كانت الحدود بينها أقل وضوحاً بكثير. الحرب أنتجت المحاربين وليس العكس، لم تنتجهم من عدم طبعاً، ولكن شكلت قوى مختلطة في صور أصفى وأكثر استعداداً لمزيد من الحرب. يتعلق الأمر بديناميات تريّف وصفاء وقطيعة كما سبق القول، وليس بأحوال للجماعات متماثلة مع ذاتها ومنقطعة عن غيرها قبل الصراع وبعده. في كل الحالات، ليست حربنا حرباً بين العلويين والسنيين الريفيين والكرد، إن الحرب التي اختارتها الدولة الأسدية وفرضتها وعممتها، هذه الحرب أنتجت السلفيين والأوجلانيين، وبصورة ما أنتجت الشبيحة والمخابرات ذاتهم.

لو ظهرت فرص لحلول سياسية في أي وقت، تقوم بطبيعة الحال على التفاوض والحلول الوسط والتسويات والتنازلات المتبادلة، لكان من حازوا ميزة طبيعية هم القوى الأكثر استعداداً للتواصل مع غيرها والأقل صفاء: «المدينة» الكردية المتخيلة، العلويون المستقلون والمعارضون، والسنيون العلمانيون والإخوان (للإخوان وجهان، واحد أقرب إلى العلمانية وواحد أقرب إلى السلفية، يسود أحدهما ويتنحى الآخر حسب الظروف).

وإنما لذلك، أي لأن الحرب صنعت المحاربين، أتكلم على علويي الحرب لا على حرب العلويين، وعلى سنيي الجهاد لا على جهاد السنيين، وعلى كرد القتال لا على قتال الكرد. ليس الفاعل في جميع الحالات هو أطراف ناجزة الطرفية، بل هو دينامية حرب اختارتها طغمة الدولة الأسدية، ثم انفلتت من يديها ومن يد الجميع.

يلزم التوضيح أن هناك مقاتلون غير سلفيين في مواجهة النظام، في حوران بخاصة، لكن دينامية التسلف كانت غالبة حتى اليوم، ولا نكاد نتبين دينامية مغايرة لها. وليس جميع مقاتلي النظام علويون، لكن دينامية تطيف قوى النظام المحاربة مهيمنة ولا منافس لها منذ بداية الثورة إلى اليوم. وبالمثل، قد لا يكون جميع مقاتلي الكرد أوجلانيون، لكن الحرب اشتغلت لمصلحة الأوجلانيين ذوي الاستعدادات الحربية الأقوى، وصبغت غيرهم بصبغتهم أو ألحقتهم بهم.

الهويات الصافية من لوازم الحرب في كل حال، وسياسة الهوية هي السياسة المرجحة في شروط الحرب. كان الطلب على الهويات مرتفعاً أصلاً في سورية منذ ما قبل الثورة لأن السوريين عاشوا في شروط حرب اجتماعية وسياسية، ولم تكن تماهياتهم تتجه نحو هوية مشتركة. طي صفحة الحرب ونظام الحرب هو ما قد يفتح باب السياسة الاجتماعية المتمحورة حول حاجات الناس ومطالبهم وكرامتهم والمساواة بينهم، ويطوي صفحة سياسة الهوية أو يخفض مرتبتها. وهو ما سيطوي المجموعات المقاتلة أو يقتضيها إعادة هيكلة واسعة، تبدو متعارضة مع أقوى استعداداتها اليوم.

ومثلما همشت الحرب من تتفوق لديهم استعدادات الاختلاط والتفاعل مع غيرهم لحساب الأكثر صفاء، فإن المختلطين هم من يحوزون ميزة إيجابية في شروط السياسة والتفاوض. السياسة تصنع السياسيين مثلما الحرب تصنع المحاربين.

… وتنتج شروط إعادة إنتاجها

تنتج الحرب شروط استمرارها وإعادة إنتاجها، ومنها المحاربين، لكن تنتج أيضاً أشياء أخرى.

طورت المجموعات الثلاث استعدادين يُخشى أن يكونا مشؤومين من وجهة نظر التكيف مع أوضاع غير حربية. سبقت الإشارة إلى أولهما، وهو وفود مقاتلين أجانب إلى جانب كل منها:  من تركيا والعراق والغرب إلى جانب الأوجلانيين السوريين، ومجاهدون شيعة من العراق ولبنان وإيران وأفغانستان إلى جانب الدولة الأسدية، وجهاديون سنيون من عشرات البلدان إلى جانب السلفيين السوريين (انحاز أكثرهم إلى المشروع الداعشي، بناء دولة خاصة على أراض منتزعة بالقوة…). وفي كل الحالات ولاء الوافدين الأجانب للقضية الخاصة مقدم على الارتباط بمجتمع حي لا يعرفونه، وهو ما يمهد لأشكال متطرفة من العنف بحق الجماعات الأخرى. يتوافق الاستعداد الأقوى عند هؤلاء المقاتلين مع استمرار الحرب لا مع انتهائها، وما يقتضيه ذلك من العودة إلى بلدانهم وعيشِ حياةٍ عادية فيها. الاستعداد الثاني هو ارتباط المجموعات الثلاثة باستراتيجيات قوى إقليمية ودولية أقوى كثيراً: إيران وروسيا في حالة علويي الحرب، تركيا والسعودية وقطر في حالة سنيي الحرب، وأميركا في حالة كرد الحرب. وإذ لم تكن الحرب قراراً حراً لهذه المجموعات، عدا الدولة الأسدية، إلا أنها كانت مضطرة لها «موضوعياً» وليست مكرهة عليها ذاتياً. أما وقف الحرب فليس قرارها بمعنى أقرب إلى الإكراه منه إلى الاضطرار.

على هذا النحو يبدو أن الحرب تعثر على آليات لتمديد نفسها من خارج الإطارالسوري الذي انهار عل كل حال منذ 3 سنوات. كان الخيار المعاكس لانهيار الإطار الوطني هو السياسة وطي صفحة نظام الحرب. لكن الحزب الإيراني الذي انتصر في دمشق في النصف الثاني من 2012 اختار الهرب من السياسة وتصعيد الحرب.

من المغري الخروج بتعميم حول حروب الريف التي تعمل على تمديد نفسها إلى ما لا نهاية، والأمنع على المعالجات السياسية. لكن بات الأمر يتجاوز أريافنا الممعنة في الريفية، ومدننا المُريَّفة، وسورية كلها، نحو بؤرة قتال عالمية تستمد طاقة استمرارها من تناقضات عالمية غير معالجة وغير محلولة. تبقى أكثر أدوات القتال سورية، وإذ لا سبيل إلى الاطلاع على أسرار المحاربين، أخمن أنه لو تسنت فرصة الاطلاع عليها لظهر على الأقل مستوى بالغ الركاكة، قروي جداً، للقادة العسكريين والسياسيين عند المجموعات الثلاثة، في علاقتهم بالقوى الإقليمية والدولية بخاصة.

التفاوت

اهتمت هذه المقالة حتى هنا بأوجه تقارب كبيرة ولافتة بين مجموعات ثلاثة، علوية وسنية ريفية وكردية. أصل التقارب هو ديناميات الحرب وبيئة الحرب خلال أكثر من خمسين شهراً.

هناك أوجه تباعد مهمة يتعين إبرازها من أجل رسم لوحة أغنى بالملامح.

يبدو الأمر مغايراً في الوسط العلوي عما نرصده في الوسطين الكردي والسني الريفي من إعادة هيكلة للجماعتين حول جماعة فرعية منهما كانت متنحية من قبل، لكنها أحسن تأهيلاً لشروط الصراع العنيف. فالطلائع المقاتلة للبيئة العلوية «سائدة» وليست متنحية بحال، وهي أساساً من أجهزة الدولة العامة قبل الثورة: المخابرات، الفرقة الرابعة، الحرس الجمهوري. وهذه تشكيلات أمنية كانت تسيطر على البلد ككل، وعلى المدن طبعاً، ولا تزال تسيطر على أكثر المدن، مراكزها على الأقل، بما فيها العاصمة دمشق، المدينة الضرورية كي يعطي النظام لقضيته طابعاً سورياً عاماً. صعود الشبيحة وصولاً إلى مأسسة هذه القوة الطائفية يشير إلى الاتجاه المشترك الذي تحدده حرب الأسديين. لكن لا يغير من حقيقة مركزية «الدولة» في الوسط العلوي.

ثم إن الحرب كانت اختيارية هنا، أي أن هناك طرفاً سابقاً للحرب اختارها كمنهج هجومي للتعامل مع الثائرين عليه. هذا الطرف هو الدولة الأسدية التي أميزها عن علويي الحرب بأن الأخيرين تولدوا عن الحرب، وإن كانوا ضمن استمرارها. هذا لا يعني أن علويي الحرب مسوقون إلى حرب لم يريدوها بالضرورة، لكنها لم تكن اختيارهم أكثر مما هي اختيار السلفيين والأوجلانيين. ربما كان علويو الحرب أقل اضطراراً إلى الحرب من غيرهم، بحكم الوضع الامتيازي السابق في الدولة الأسدية من جهة، واعتقاداً بسهولة تحقيقها النصر من جهة ثانية، وهي التي كانت ولا تزال تحوز أرجحية كبيرة في السلاح، وتحتكر سلاح الجو. لم يمانعوها، لكن الحرب، مرة أخرى، لم تكن قرارهم، ولم يؤخذ رأيهم فيها.

هل هناك دور لفكرة «الوطنية السورية» في حربهم أيضاً؟ لا تتوفر معلومات كافية عن تفكير عموم مقاتلي النظام، لكن ما يتوفر من فيديوهات تعذيب يشير إلى صفاء طائفي في الدوافع، إلى عقيدة «الأسد أو نحرق البلد»، وإلى تلاشي البعد السوري.

على أن «الدولة الأسدية» تحوز ما يتراوح بين ولاء قوي وبين حياد إيجابي من قبل أكثرية المنحدرين من جماعات أقلية دينية ومذهبية، وهو ما يعطيها قضية عامة، لا تحوز مثلها الجماعات الريفية السنية المقاتلة.

هذه الجماعات الأخيرة بلا مركز قيادي، تشترك بأنها صافية أو أشد صفاء على الصعيد المذهبي، لكنها إن لم تكن متخاصمة والحرب مفتوحة بينها، فإنها لا تثق ببعضها والحرب بينها كامنة. وهي ليس فقط لم تنفتح على الجماعات السورية الأخرى، بل إن ما وجد فعلاً من مقاتلين دروز ومسيحيين في صفوف الثورة وجدوا أنفسهم مهمشين. كان عددهم قليلاً، لكن لو لاقوا رعاية وتشجيعاً لربما زاد العدد بدل أن يضمحل تماماً.

 وحدات حماية الشعب الكردية.
وحدات حماية الشعب الكردية.

وعدا الصفة الانقسامية البارزة في السنية الريفية، فإنها تسجل التناقض الأكبر بين التطلع التغييري العام الذي تحفزه أوضاع تمييزية وحرمان سياسي ومادي كبير، وبين التركيبات الإيديولوجية والعسكرية التي انتهت إلى قيادتها، والمفتقرة كلياً إلى الكمون التحرري. الغنية بالكمون التسلطي، بالمقابل.

ولا أدرج ضمن هذه المجموعات داعش التي لها دينامية أخرى في رأيي، لا علاقة لها بالديناميات الاجتماعية التي رافقت تحول الثورة السورية إلى حرب (تريُّف وتطيُّف وتسلُّف، استعداد قتالي، قطيعة مع الغير وصفاء داخلي)، وإن يكن تحول الثورة إلى حرب وفر لها شروط توسع أنسب.

وتأثير الحرب على السنيين الريفيين مضاعف قياساً إلى تأثيرها على العلويين والكرد. فعدا عن وضعهم الدفاعي الغالب، وتعرض بيئات حياة كثير منهم إلى التدمير، فإنهم، وعلى عكس ما يقول الانطباع المتعجل، الجماعة الأكثر صنعية في سورية، ومن سوابق محدودة قبل الثورة. تسلُّف الريف السوري المقاتل عملية حديثة جداً، تالية للثورة أساساً، وإن تكن وجدت مجموعات سلفية من قبل في الريف (وفي المدن أيضاً). وتقديري أن الأساس في عملية التسلف هو أن السلفية تعطي حربها طابعاً مقدساً، «الجهاد». الجهاد هو ما أنتج السلفية أو وجّه الطلب نحوها أساساً (بفعل الوجود المسبق للباراديغم السلفي الجهادي). ومن هذا الباب أتكلم على جماعة صنعية أكثر من غيرها. إذ أن تحولها مضاعف: تسلَّفت متحولة عن إسلام شعبي غير قياسي عموماً، وحربها تحولت إلى جهاد. ولعل تعدد تعبيرات الريف السوري المقاتل وتنازعها يحيل إلى هذا الطابع الصنعي الناشئ حديثاً بقدرٍ لا يقل عن التطور اللامتكافئ للأوضاع في المناطق السورية المختلفة في شروط الحرب، فضلا عن افتقار البيئات السنية القديم إلى محور تماه مشترك.

وربما يكون النظام احتاج إلى حقن حربه بجهاد شيعي بالضبط لأن جيشه وتشكيلاته العسكرية فاسدة ومرتشية إلى أقصى حد، وحربه لا قضية عادلة لها، فلا تُحوِّل محاربيها وتعيد خلقهم، كما هو الحال بخصوص تسلُّف المقاتلين السنيين الريفيين.

من جهته، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، يحمل قضية قومية عادلة، يمزجها بخطاب تحرري تحديثي مستعار من تجربة البي كي كي في تركيا. لكن الحزب انعزالي عن البيئة السورية العامة، ولا يحمل في سورية شيئاً من ذاكرة عقود من النقاش الداخلي في تركيا، نقاش مواكب للصراع، ومستوعب لتصحيحات وتغييرات كبيرة في المضمون، تلخصت في شعار حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة: حزب الشعوب لتركيا وتركيا لحزب الشعوب! نقل تجربة من بلد إلى بلد هو بمثابة تنزيل لها من فوق على واقع مغاير، واقع بلد لم يشهد ولا واحد بالمئة من الصراعات بين سكانه العرب والكرد مما شهدت تركيا. وهو وصفة لحرب أكثر ولسياسة أقل.

قد يكون ذلك أيضاً من مقتضيات إسناد الحرب بقضية لها مرجع معروف. لكن عدا ما ذُكِر للتو من أن هذا النقاش ليس معروفاً في سورية (ويبدو لي غير معروف في الوسط الكردي السوري ذاته)، فإنه ينال أيضاً من المحتوى التحرري لهذا الصراع ارتباط الأوجلانيين باستراتيجية الأميركيين المنحصرة سورياً في مواجهة داعش، وهذا في معركة تحولت من دفاعية في كوباني/ عين العرب إلى هجومية في تل أبيض وشمال الرقة، دون تعويضٍ عن ذلك حتى بإشارات رمزية حيال الأكثرية العربية الواقعة تحت السيطرة. مشاركة مجموعات مقاتلة عربية لم تنعكس في تعامل أكثر انفتاحاً مع العرب المحليين الذي يبدو سيف الاتهام بالداعشية مسلطاً فوق رقابهم، وذريعةً للاستيلاء على أملاكهم والاعتقال التعسفي للكثيرين منهم، وهو ما ينعكس ضعفاً عسكرياً وتمثيلياً أكبر على المجموعات المقاتلة العربية.

الجماعات والكرامة

ليس هناك انقطاع بين نداء الكرامة الذي كان محفزا قوية للثورة السورية، وأسند إلى «الشعب السوري» («اللي ما بينذل») وبين أوضاع راهنة أذل فيها الشعب السوري إذلالاً خارقاً، فانقلب طلب الكرامة الجامع إلى تماثل أشد للجماعات المُذلّة مع ما يفترض أنها نفسها العميقة أو ماهيتها، وإلى طلب الانتقام و«شفاء الغليل». وبمحصلة ما يقترب من 4 سنوات من الحرب، سارت عملية إعادة هيكلة ثلاث جماعات سورية باتجاه صعود ذوي الاستعداد القتالي ضمنها، والأدنى اختلاطاً بغيرهم. حصلنا بالنتيجة على علويين أكثر علوية من ذي قبل، وعلى سلفيين هم السنيون الأكثر سنية، وعلى قوميين كرد هم الأكثر كردية. يوحّد المجموعات الثلاثة أنها الأدنى احتراما لغيرها والأشد قطيعة مع الغير، والأكثر تمركزاً حول الهوية الخاصة. وفي ركاب هذه المجموعات وحولها تخاض حروب تحقير مواكبة ممن لا يحاربون، دون أن تواجه عمليات هذا الميدان الحربي الموازي بعمليات تستهدف التقارب والنقاش والاحترام.

الدعوة للاحترام ليست معالجة جدّية لهذا الوضع. يلزم تفكير مختلف: لا نتقاتل لأننا علويون وسنيون وكرد، ولكن نصير علويين أكثر وسنيين أكثر وكرد أكثر لأننا ممنوعون من السياسة والدفاع عن حقوقنا الخاصة والمشتركة، ولأن التمسك بـالاختلاف و«الهوية» يغدو عنوانا للكرامة. يلزم أيضا مفهوم للمجتمع قائم على الاحترام: مجتمع يوفر مكانة متساوية لاختلافاته الثقافية، وتقوم سياساته على امتلاك السكان للسياسة، وطرد الحرب من العالم الاجتماعي.

تبقى سورية إطار الكرامة الأصلح. الأطر ما دون السورية التي تتلامح من تقابل المجموعات الثلاث هي أقرب إلى أسديات اصغر، تخترقها حروب داخلية، وعمليات تطهير إثني، منها إلى أطر لكرامة خاصة. معالجة المسألة السورية، باتجاه يستعيد نداء الكرامة الأصلي، ليس أصعب من معالجة مشكلات الكيانات المحتملة، المحاربة والمحترِبة، والتابعة حتماً لأقوياء إقليميين أو دوليين.

ملحق

ماذا بشأن المدن السورية؟ كانت المشاركة في الثورة في طورها السلمي أوسع في المدن مما حين دخلت الثورة في طور العسكرة. خرجت أكبر مظاهرة في دمشق في شباط 2012 بعد 11 شهراً من بداية الثورة، وجمعت 30 ألف متظاهر. واشتهرت مظاهرات حماة ودير الزور الكبرى في صيف 2011 قبل أن تُحتل المدينتان بالدبابات، واستمرت مظاهرات مناطق  حمص المحررة حتى صيف 2012، وقت بدأ استخدام الطيران في قصف المدن، وجرى التحول نحو العسكرة المطلقة.

ظلت مساهمة المدن أدنى مع ذلك من مساهمة الأرياف في الثورة، وخاصة في أطوارها المتقدمة، ويعود ذلك في تقديري إلى أربعة أسباب رئيسية. أولها أن سلطة النظام الاحتلالية أقوى في المدن مما هي في الريف. ثاني الأسباب إن موجة المعتقلين والمنفيين الأولى، أي حتى أواسط 2012، هي من الشبان المدينيين أو الناشطين في المدن ممن كانوا شكلوا التنسيقيات ونشطوا في المظاهرات والتغطية الإعلامية لها. هؤلاء هم من تلقوا الضربات الأولى، وأخرجوا من المشاركة المباشرة في الثورة. السبب الثالث أن المدن، والأكبر منها أكثر من الأصغر، استفادت من لبرلة الاقتصاد بقدرٍ ما، وفيها شبكات محسوبية محلية متفاوتة الكثافة انتفعت من الأجواء الاقتصادية الجديدة، ومن ارتباط مراتبها العليا بالبرجوازية المركزية التي سيطرت في زمن بشار على الاقتصاد السوري. ورابع الأسباب أن الوجه الآخر لما سمي منذ سبعينات القرن العشرين «ترييف المدن» هو انكفاء الطبقة الوسطى المدينية على نفسها وتدهور أي تطلع تحرري في أوساطها. هذا العنصر الأخير ملحوظ في دمشق وحلب بقوة، وكل المدن السورية، التي ظهرت في سنوات الحكم الأسدي كمدن اقتصادية لا ثقافية ولا سياسية ولا اجتماعية، مدن عيشٍ وكفايةٍ وتماثل لا مدن حياةٍ وحرية وتغيُّر. عجزت المدينة عن استيعاب وتمدين الدفق الريفي، الكثيف والخشن، فانكفأت على نفسها وركنت إلى السلبية. تحجّبت.

وبصورة عامة ليس فقط تأثير المدينة الإيجابي على الريف، وعلى القادمين من الريف، هو ما انحسر، بل لم تعد المدينة تمدّن أهلها أنفسهم. كانت تستسلم للمحلية والتريف عبر هذا الانزواء على النفس والأصل، والانعزال عن المحيط، المحيط القريب المتضخم دونما نظام، والريف القريب نسبياً، وعموم الأرياف. صار موضع تأكيد للذات إبراز الأصل، أن المرء من أسرة شامية أصلية، ومن «داخل السور»، وليس الفعل والتاثير والدور العام. هذا مؤشرٌ كافٍ على تريف قلب المدينة ذاته. وبدلاً من أن تغير المدينة الوافدين إليها، كانت تتحنط وتمعن في مماثلة ذاتها.

كل ذلك لا يقبل العزل عن بنية نظام سياسي تحكم بالحياة العامة والخاصة طوال نصف قرن، وفرض حجاباً سياسياً صفيقاً على وجه المجتمع ككل. وهو ما أصاب المدن نسبياً أكثر من غيرها لكونها كانت أنشط سياسياً من قبل، ولكون النشاط السياسي مُقوِّم لمدينيتها بالذات.  الفضاءات العامة في المدن السورية تراجعت خلال سنوات الحكم الأسدي خاصة، ولم تتسع: الجامعات مراقبة ومحتلة عملياً، التجمعات العامة المستقلة محظورة، الأنشطة المدنية مقيدة، أما المظاهرة فتخمد في مهدها أو تواجه بعنف مميت، السينما انقرضت ما عدا في دمشق حيث تراجعت كثيراً فقط، وبقدر ضئيل في حلب. وفي سنوات بشار شارك في تضييق الفضاء العام الرأسمال بعد أن كان الطغيان هو من يحتكر التضييق. دون فضاءات عامة مفتوحة، ماذا تكون المدن غير أرياف كثيرة السكان؟ لم يكن هناك ما هو Public، في الـRepublic  السورية. البلد تحول إلى ملكية أسرية عام 2000، ونشأت فيه سلالة حاكمة متوحشة، ونكص السكان إلى رعايا للسلطان الحديث.

هذه عناصر ربما تسهم في تفسير دور المدينة المحدود في الثورة السورية، ومحدودية دورها الأكبر حيال تطور الثورة ثم الحرب في الأرياف.

وحين ينظر المرء عن بعد، ربما يخطر بباله التساؤل: من يمثل المدينة السورية اليوم سياسياً؟ تخطر في البال أسماء بخصوص دمشق، لكنها -مرة أخرى- أسماء تحيل إلى أصل وأهل خاصين، وليس دور وفعل عامين. المدينة كاختلاط وسياسة وتغيير، كفضاء حرية، هي مشروع لمستقبل سورية، وليست عنصراً من حاضرها.