بلغة السياسة، لا يوجد في سوريا أكثرية سياسية، بل مجاميع متفرقة ومتنوعة من الأقليات. الأقلية الحائزة على موقع الأكثرية بالمعنيين السياسي والثقافي هي أقلية السلطة، أي النظام السوري. وهذا النظام هو أكثري بالغلبة والقوة الصرف، بالاستحواذ المسلح على موقع الأكثرية رغم كونه نظام القِلَّة بكل ما تعنيه «القلّة» من معانٍ في اللغة والفكر والواقع.

منذ بداية الثورة السورية والواقع يمضي بعيداً عن تصورات السوريين عن أنفسهم، وعن ماضيهم، عن طوائفهم وعن اجتماعهم الأهلي والسياسي، وبالطبع بعيداً عن التصورات التي شكلوها عن العالم المحيط بهم، إن كان عربياً أو إسلامياً أو مجتمعاً دولياً. كما تدلُّ الوقائع يوماً تلو آخر أنه ليس هناك فئة اجتماعية أو طائفة؛ أكثرية كانت أم أقلية، متجانسة في سوريا. فـ«السنّة» الذين يُفترض أن يكونوا أكبر فئة متجانسة دينياً ومتلاحمة طائفياً في زمن الحرب، أصبحوا عدداً كبيراً من الأقليات المتباينة، بل والمتقاتلة أحياناً، ويتدرجون في فئات «أقلوية» بين الموالاة، والرمادية، والمعارضة السياسية، والمعارضة المسلحة، ثم المعارضة المتطرفة والجهادية المقاتلة. كما إنهم محكومون في معظم المناطق «المحررة» بأقليات «سنيّة» غير تمثيلية بالمعنى الديمقراطي، وليست أكثر من تنويعة على الاستبداد، وأوجه أخرى للنظام لكن بطعم إسلامي متشدد، مع استبدال «باطنية» القتل في المعتقلات وتحت التعذيب، بظاهرية ومشهدية تطبيق الشريعة وفرض «العقيدة» بالقوة في مناطق، أو بالقتل وقطع الرؤوس والصلب وغيرها من العقوبات المشهدية الفاقعة والمجرمة في مناطق أخرى، ولاسيما تلك المحتلة داعشياً.

[quotes] تدلُّ الوقائع يوماً تلو آخر أنه ليس هناك فئة اجتماعية أو طائفة؛ أكثرية كانت أم أقلية، متجانسة في سوريا.[/quotes]

هذا الوضع هو ما ينطبق تماماً؛ وإن بدرجات متفاوتة؛ على جميع الأقليات في سوريا مثلما ينطبق على الأكثرية، ولكن مع فارق جوهري، هو إنه في الوقت الذي يبدو فيه الصوت الأعلى عند «السنّة» هو للتطرف المحارب، فإن الصوت الأعلى عند الأقليات الأخرى هو «للتطرف» الموالي، الذي تمثله الميليشيات الأقلوية المحاربة مع النظام، والتي باتت أكثر عدداً من أن تُحصى. ومثلما تشكل تنظيمات مثل داعش والنصرة وبعض الفصائل السلفية الجهادية الأخرى، «أقليات» ضمن السنة، يحاربون النظام أحياناً، ولكنهم يحاربون السنة أنفسهم أحياناً أكثر، ومثلما لا يعمل هؤلاء في المحصلة ضمن إطار فكرة «الشعب السوري»، والديمقراطية والحرية التي خرج السوريون لأجلها، كذلك فإن الميليشيات والفصائل الأقلوية المحاربة مع النظام هي «أقليات» ضمن الأقليات، وهي بدورها «أقليات» تحارب مع النظام، أو في خدمة مشروعه، لكن ليس ضمن أي مشروع وطني (فليس لدى النظام مثل هذا المشروع أصلاً)، ولا ضمن الاعتقاد بالنظام أو الثقة به، بل إن معظمها إما تحارب بشكل ارتزاقي، أو ضمن أطر طائفية فوق وطنية على طريقة الميليشيات الشيعية، أو دون وطنية مثل الميليشيات الدرزية والاسماعيلية والعلوية والمسيحية وغيرها، أو بنزعة انفصالية غير معنية بالشعب والدولة السورية على طريقة حزب الاتحاد الديمقراطي لدى الأكراد.

ومثلما أن صوت التطرف «السني» المحارب يلغي أو يضعف الصوت السني المعتدل والوطني أمام العالم الخارجي وأمام السوريين الخائفين والباحثين عن الأمان؛ بحيث يلعب ذلك التطرف دوراً كبيراً في ضعف الجيش الحر، وضعف الهيئات السياسية، وخفوت صوت الحاضنة المعتدلة والصامتة والمهجّرة. كذلك نجد أن التطرف الميليشيوي عند الأقليات يشلّ الأصوات المعارضة لتلك الميليشيات وللنظام في آن، ويلعب بمصير تلك الأقليات ويمنع اندماجها الوطني، وذلك عندما لا يعلو صوت فوق صوت تلك الميليشيات الطائفية متجهاً نحو باقي الفئات السورية أو نحو العالم، بل يلغي بقوة التدخل الحربي على أرض الواقع كل الأصوات المعتدلة والصامتة والخائفة والحالمة بسوريا دولة وطنية لجميع أبنائها.

«مجتمع الثورة» المتعدد الذي كان أكثرية في السلم، أصبح أقليات متفرقة في الحرب، وحتى الحاضنة السنيّة التي كانت الحاضنة الأساسية للثورة، والضحية الأكبر للعنف والقتل والتنكيل، لم تحولها الحرب إلى «طائفة» أو أكثرية متماسكة ومتجانسة كما قلنا، بل على العكس، تحولت إلى أقليات سنيّة لا يجمعها عدو واحد أو هدف مشترك، فمن المعروف أن تنظيم داعش الأقلوي الذي يتكون بمجمله من «السنّة» حول العالم، كان أكثر قتلاه وضحاياه من السنّة عينهم، ولم يتشارك مع مجتمع الثورة بأي هدف، حتى بهدف إسقاط النظام، بل إنه كان وما زال يلتقي سياقياً و«موضوعياً» مع النظام إلى الدرجة التي جعلت الكثيرين يعدّونه صناعة النظام ذاته، وهو يمضي كأقلية «سنيّة» معادية للثورة، ومعادية لأكثرية السنة وأكثرية المجتمع السوري.

كذلك هو حال «جبهة النصرة» التي هي أقلية اشتركت مع مجتمع الثورة بهدف إسقاط النظام، ولكن ليس بوصفه نظاماً طغموياً معادياً للشعب السوري، بل بوصفه نظاماً «نصيرياً» كافراً، ولم يكن ضمن أهداف جبهة النصرة إسقاط النظام لبناء الدولة الديمقراطية المدنية، دولة جميع السوريين، بل بناء «الدولة» الإسلامية وإلحاقها بمشروع القاعدة، وتحويل جهاد القاعدة المحصور حتى اليوم بجهاد الأفراد والتنظيمات، إلى «جهاد الأمة»، أمة المسلمين الصراطيين المعادية للعالم، والمعادية لكل مكوناتها غير الإسلامية وغير الصراطية، وتحويل المسلمين غير الصراطيين، بالإضافة لغير المسلمين، إلى أهل ذمة في مشروعها القاعدي المفترض، وأمة المسلمين المفترضة.

الأقليات المتحاربة في سوريا اليوم ليست طوائف، والحرب القائمة ليست حرباً بين الطوائف، بل هناك أقلية رئيسة يمثلها النظام السوري (وهي أقلية السلطة المكونة من جميع الطوائف) لا يزكي بقائها واستمرارها في السلطة؛ مثلما يريد المجتمع الدولي، إلا تفريخ الأشباه المتقاتلين والقتلة في الوقت ذاته. ومن هنا يصح القول إن «مجتمع الثورة» الذي كان وما يزال مؤلفاً من جميع الطوائف، بات مجتمعاً أقلياً، بل إنه الأقلية الوحيدة في السورية غير المحمية من أحد، والأكثر احتياجاً للحماية.

لكن أين «الشعب السوري» ضمن هذا التذرير الأقلوي الحاصل؟ ربما يُقال اليوم وببساطة «واقعية»، إن السوريون ليسوا شعباً واحداً، بل شعوب وقبائل. وهذا الكلام صحيح بقدر ما هو خاطئ. ولكن قبل الخطأ والصواب تجدر الإشارة إلى أن العديد من المتحدثين به تنبعث من كلامهم رائحة التشفي، وكثيرٌ من التعالي المغطى بقناع الواقعية السياسية، تلك التي ينطلق أصحابها ومنظروها مما وصل إليه السوريون اليوم، ليقولوا إن الشعب السوري ليس واحداً، مستندين إلى الواقع المتشظي الذي آلت إليه الأحداث. ذاك التعالي في الحقيقة، ليس أكثر من انحطاط مقنّع، شبيه بانحطاط الحيادي، الذي لا تعنيه إلا النتائج، ولا يصفق إلا للأقوى بعد انتصاره ونجاحه بسحق الآخرين.

[quotes]يصح القول إن «مجتمع الثورة» الذي كان وما يزال مؤلفاً من جميع الطوائف، بات مجتمعاً أقلياً، بل إنه الأقلية الوحيدة في السورية غير المحمية من أحد، والأكثر احتياجاً للحماية.[/quotes]

نعود الآن لنقول: إن مقولة «الشعب السوري ليس واحداً» صحيحة لأن العنف لا يترك مجالاً، حتى للشخص الواحد، أن يبقى واحداً مع ذاته، بل منقسم على نفسه ومتخبط ومتناقض، تتلاطمه تيارات الغضب وموجات الحقد والتشفي وقلة الثقة بكل شيء وأي أحد، وهذا الوضع بات جماعياً في سوريا. وهي صحيحة أيضاً لأن السوريين لم يكونوا بالأصل «شعباً» ضمن الدولة السورية بصيغتها الأسدية، فتلك الدولة لم تمتلك منذ نشأتها صفة الدولة/الأمة، بل بقيت ضمن إطار الدولة/السلطة، التي ليست لجميع أبنائها بالتساوي. هي دولة الامتيازات الحزبية والسلطوية وغيرها، ولا يوجد ضمنها «شعب» من المواطنين الأحرار والمتساويين في الحقوق، بل فئات مرصوفة ومتساكنة لا يجمعها إلا الخوف من السلطة، والمخاوف من بعضها بعضاً، وقد كان على رأس ما خرج من أجله السوريون هو التخلص من تلك المخاوف، وتشكيل الشعب الواحد، شعب المواطنين والمواطنة الذي وحده يصنع الدولة/الأمة، دولة جميع مواطنيها.

لكن تلك المقولة خاطئة من جهة أخرى، لأن وحدة السوريين كانت إمكانية واقعية قائمة في ضمائرهم ورغباتهم وأهدافهم التي خرجوا لأجلها، وكانت واقعاً بالقوة يحتاج للدفع ليصبح واقعاً بالفعل، ولو تسنى لهم حيزٌ للسياسة بدل العنف والقتل الذي مورس بحقهم، لكانت إمكانية وحدتهم كشعب واحد تفوقت باعتقادنا على كل ما عداها من إمكانيات. وليست الشعارات التي رفعها ونادى بها المتظاهرون في كل أنحاء سوريا أيام الثورة السلمية إلا دليلاً على ذلك.

من المعروف إنه من ردود الفعل «الطبيعية» في الأزمات والعنف والحروب أن يتوحد الناس وتتوحد الكيانات والهويات، وهذا صحيح تماماً عندما يكون العدو خارجياً وواضحاً، بل إن معظم الساسة في العالم يخلقون الأزمات والحروب والمخاوف الخارجية، كي يوحدوا شعوبهم خلفهم ويمرروا سياساتهم، على الرغم من أن معظم تلك الأخطار والمخاوف، في العادة، تكون وهمية. وعلى العكس من ذلك فإن ذات الأزمات والعنف والحروب تفرّق الناس وتفتت أكبر الكيانات (مهما كان مستوى رقيها الحضاري)، عندما يكون العدو داخلياً، وعندما تتم صناعته بتؤدة خلال أربعين عاماً في قلوب الناس وعقولهم وبين ظهرانيهم، وعندما يكون العدو ذاته، متسللاً إلى كل بيت ليزرع شقاقاً ومخاوفاً وأوهاماً ورعباً داخل الأسرة الواحدة، فما بالك ضمن الطائفة أو المجتمع الواحد.

لكل ذلك نجد إنه على عكس البساطة وسهولة التحديد والإجماع الشعبي التي يتميز بها العدو الخارجي (الاحتلال الإسرائيلي، الاستعمار الأوروبي، الإمبريالية الأمريكية.. الخ)، فإن العدو الداخلي يبقى من الصعوبة تحصيل الإجماع ضده، كونه «منا وفينا»، وخاصة عندما ترتبط فئات عديدة معه بالمصالح، وأخرى بالمخاوف، وغيرها بكليهما معاً، فالحس العام يميل إلى الأمان الواضح، والملاحظة البسيطة، والرؤية القصيرة النظر، وتصديق المُشاهَد، واستبعاد المُؤشكل والمجرد والمعقد والعقلي، حتى لو كان كل ذلك ضد مصلحته.

لم يتمكن السوريون مجموعين من تحديد عدوهم، بل إن عنف النظام الأمني والعسكري منذ اللحظات الأولى، بالإضافة لسرديته الإعلامية المتماسكة؛ رغم كل انفصالها عن الواقع، صنع أخطاراً متعددة من مخاوف السوريين ذاتها، ومن أوهامهم التي خلقها هو فيهم بالتتابع، عبر حزبه ومدارسه وجامعاته ومؤسساته المدنية والعسكرية، وبحيث لم يكن ينقص تلك الأوهام لأن تصبح واقعية سوى العنف المفجر داخلياً، وربما من الواضح اليوم أن كل الأشباح التي خوَّف النظام بها شعبه أصبحت واقعية. ابتداء من شبح الإرهاب إلى المؤامرة العالمية، ومن التقسيم إلى الطائفية، ومن العدو الإسرائيلي المتربص إلى حرق البلد ليبقى الأسد. ومن المُلفت حقاً أن تصبح سمة الانفصال عن الواقع وإنكاره، التي اتسم بها النظام السوري وأجمع العالم بأسره على وضوحها عنده في البدايات، لم تتغير أو تتحول أوتنزل للاعتراف بواقع الثورة الحاصلة عبر السنوات الماضية، بل إنه بجهود النظام وحلفاءه، ومباركة المجتمع الدولي وعلى رأسه روسيا وأمريكا، صعد الواقع السوري كله نحو إحداثيات السلطة، وأصبح واقعاً منفصلاً عن الواقع، أي واقعاً خيالياً بكل ما فيه من جرائم وإرهاب وقتل وعنف واغتصاب، مما كان حكراً على السلطة وحدها خلال أربعين عاماً، وتكثف بشكل مجنون في السنوات الأربع الماضية.

ربما كانت أوضح بديهة لا تتوقف عن تأكيد نفسها لمن يريد الرؤية، هي أن أقصر طريق لكي تتحول أقليات سوريا إلى «شعب سوري»، هي التخلص من «حامي الأقليات»، حيث إن ما يفعله ذلك الحامي بالفعل، هو حماية تحول سوريا إلى عدد لا يحصى من الأقليات، أقليات لا يحميها؛ ولن يحميها، سوى اندماجها في مشروع سياسي قائم على مقولة «الشعب السوري الواحد».