مقدمة
طوال نصف قرن، سيطرت رؤية كلية وفوقية حول الأكراد السوريين، تراهم كتلة بشرية/سياسية على شكل جماعة قومية فقط، كتلة متماهية ومتصالحة مع ذاتها، كجزء من النظرة التعميمية التي غلب عليها الطابع السياسي والفهم التقليدي لعموم الأكراد في المنطقة. لكن ما ضاعف هذا التعميم على الأكراد السوريين هي الإيدلوجية «القومية العربية» التي توشح بها النظام السوري منذ قرابة نصف قرن؛ والتي كبحت وأخفت أية تفاصيل عن الطبائع الاجتماعية والسمات الثقافية للمجتمع الكردي السوري. الأمر الأخير كان يتعلق بضمور المسألة الكردية في البلاد، مقارنة بنظيرتيها في كل من العراق وتركيا، لصغر الحجم الديموغرافي للكرد السوريين.
على عكس ذلك تماما، فأن المجتمع الكردي السوري –قرابة مليوني نسمة- كان جزءاً «عادياً» من عموم الطيف الاجتماعي-السياسي الشرق أوسطي، بألوانه وتنوعاته الطبقية والجهوية والثقافية والمجتمعية والتعليمية والدينية والمذهبية، وكذلك بديناميكيات وآليات حركته وتحولاته؛ حيث تشكل هذه التركيبة كلها أدوات لفهم ووعي المجتمع الكردي السوري وعلاقته مع باقي الأطياف المجتمعية السورية والمؤسسات الأهلية والمدنية والرسمية، وعموم الشأن العام في البلاد.
الاستثناء كان بافتقاد المجتمع الكردي السوري للحد الأدنى من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بينما تضخمت التنظيمات/الأحزاب السياسية «غير الشرعية» رسميا، حيث غدت تلك الأحزاب تقريبا شكل الانتظام الاجتماعي الوحيد بين الأكراد السوريين منذ أكثر من نصف قرن.
سؤال البحث الرئيسي
ما هي الخصائص الاجتماعية الثقافية والاقتصادية والمناطقية والطبقية للقواعد الاجتماعية للأحزاب السياسية الكردية السورية، وكيف تحولت تلك الخصائص بالتقادم. وماهي دلالة تلك الخصائص وتلك التحولات.
مضامين البحث
سيتضمن البحث خمسة أجزاء متكاملة:
- فقرة توصيفية لطبيعة المجتمع الكردي السوري وخصائصه وأهم سماته وتحولاته.
- فقرة حول الحركة السياسية الكردية في سوريا، مبرزة أهم سمات الأحزاب السياسية الرئيسية الأربعة.
- فقرة رابطة بين هذا الطيف الاجتماعي الكردي السوري وهذه التنظيمات السياسي الكردية السورية.
- فقرة تحليل كلي لتحولات المجتمع الكردي في سوريا.
يعتقد البحث أن ذلك ترتيب منطقي لفهم وقراءة القواعد الاجتماعي للأحزاب الكردية في سوريا، لأنه يؤمن بوجود سمات وفوارق وتطيف حقيقي بين «الكُتل» المشكلة لهذا المجتمع المتعين، وأن اندراج أجزاء منه ضمن تيار سياسي دون غيره ليس أمرا اعتباطيا، إنما ناتج عن تطابق وتماه بين عدد من السمات الطبقية والمناطقية، حيث يكون الموقع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي متماه مع هذا التيار السياسي أو ذلك. وأن طبيعة هذا التوافق بين هذا التشكيلات الاجتماعية مع تلك التيارات السياسية، ذو دلالات عميقة على طبيعة الديناميكيات والتحولات التي مر بها المجتمع الكردي السوري.
منهجية البحث
يعتمد البحث في بناء توصيفيه وتحليله على ثلاث أدوات معرفية رئيسية:
- تحليل الوثائق والأدبيات الصادرة عن هذه التنظيمات السياسية الكردية السورية.
- مقابلات أجراها الباحث مع قادة رأي ونُخب العمل السياسي الكردي السوري.
- معايشة الباحث للبيئة الاجتماعية والسياسية الكردية السورية طوال عشرات السنوات.
إذ يتقصد الباحث التحليل والتوصيف، فأنه يسعى قدر المستطاع الابتعاد عن اللغة القيمية وميول التقييم.
1. الأكراد السوريين، من البداوة إلى المدينية
1.1. تعيين تاريخي
لا يُقصد ب ال«تعيين تاريخي»، النبش عن تاريخ وجود الأكراد في سوريا، بدءاً من تكون الدولة السورية الحديثة كان ثمة نقاش تاريخي «بائس» وسياسوي، مازالت له بعض الآثار الضعيفة في بعض الأوساط. كان يتناول تاريخ الوجود الكردي في سوريا، ويذهب في بعض الأدبيات العنصرية نحو اعتبارهم مهاجرين محدثين من تركيا، يجب إعادتهم لمكان الأصلي، وتوطين مواطنين عرب من مناطق أخرى مكانهم، لأن هجرتهم تلك كانت مقصودة للاستيلاء على «الأراضي العربية» في المناطق الشمالية من سوريا. كانت مثل تلك الخطابات الأساس الذهني والفكري-السياسي لبعض المشاريع السياسية التي طبقت بحق الأكراد السوريين في ستينات القرن المنصرم (مشروع الحزام العربي، وسحب الجنسية من الأكراد السوريين … الخ …) يمكن قراءة ذلك بالتفصيل في الدراسة الشيقة للباحث السوري محمد جمال باروت المنشورة في اللمونددبلوماتيك، «كيف نشأت مشكلة أجانب تركيا في سوريا؟»، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آب/أغسطس 2009. وحتى الوقت الراهن. بل يحاول تعيين بعض الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكردي السوري، منذ تكون الدولة السورية وحتى الراهن.
تاريخياً، شكل نمط الإنتاج الزراعي المظهر الاقتصادي الأبرز الذي يمتهنه الأكراد السوريون. حيث تنتشر الزراعات السهلية (زراعة الحبوب والقطن بالذات) في مناطق التواجد الكردي في محافظة الحسكة ومنطقة عين عرب، بينما تنتشر الزراعات الشجرية، وبالذات شجر الزيتون، في منطقة عفرين.
ذلك النمط كان ترافق مع وجود نسبي -متناقص مع التقادم التاريخي- لرعاية قطعان المواشي، في منطقتي الحسكة وعين عرب. طبعاً ذلك النمط كان يعتبر سائداً بشكل شبه مطلق في المراحل التاريخية الأقدم، وترافق مع أنماط إنتاجية أخرى في المراحل الأحدث، وإن بقي غالباً في المراحل كافة. كما أن الأكراد المقيمين في مدينتي دمشق وحلب يمتهنون المهن المدينية التقليدية.
ذلك النمط الاقتصادي الزراعي، كان مترافقاً مع تشكل قوي (بدرجة أكبر في منطقة عين عرب والحسكة) للروابط والتراتب العشائري، مع انتشار للطرق الصوفية والمشيخات الدينية التقليدية، على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. لكن أكراد عفرين،يمتلكون نمطاً عميقاً من الولاء والترابط المناطقي القروي لسكان القرية الواحدة، حيث يعود ذلك بجزء منه، لطبيعة الاستقرار الدائم لسكان تلك القرى، متشابكاً مع ما يتطلبه نمط الزراعة الشجرية الجبلية من التضامن المناطقي الأضيق. بينما كان أكراد دمشق، الذين قدموا من بيئات مختلفة، ولا يجمع بينهم سوى الروابط اللغوية والإثنية المشتركة، كانوا يعيشون شكل التكافل الحاراتي (الانتماء للحارة الواحدة) في تنميط حياتهم المجتمعية.
لكن أبزر ملمح يساهم في فهم الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية التاريخية لمجتمع الأكراد السوريين كامن في غياب المدن التاريخية الكبيرة، التي عملت تقليدياً كبوتقة لتكون مؤسسات وتقاليد الحياة المدنية وترسيخ ثقافتها وقيمها.
2.1. عوامل تحوّل تقليدية
كان ثمة بعض العوامل التاريخية التي ساهمت بإحداث تحولات في تلك البيئة الاجتماعية «الخاملة»:
– نزوح الكثير من النخب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكردية من تركيا نحو سوريا. حيث إنه بُعيد فشل الثورة الكردية عام 1925 (ثورة الشيخ سعيد بيران)، مارست السلطات التركية وقتها نوعاً من العقاب القاسي بحق الطبقة الإقطاعية والبرجوازية والمدينية المتعلمة الكردية في تركيا. فقد كانت السلطات التركية تعتبر تآلف تلك الطبقات الكردية، هو السبب التكويني لاندلاع الثورات والتمردات في المناطق الكردية، فطبقت بحقها سياسات عقابية قاسية، الشيء الذي دفع بهؤلاء للنزوح نحو سوريا، التي كانت تشكل نوعاً من الحماية بالنسبة لهم؛ بسبب الوجود الفرنسي وقتها. حملت تلك الطبقة ثقافتها المدينية، ومستوها التعليمي العالي نسبياً، والمتكونة تاريخياً في المؤسسات التعلمية العثمانية المركزية في اسطنبول. كما أنها كانت تملك انماطاً معيشية وخيارات اجتماعية مختلفة وخاصة تشكل السيرة الجمعية لعائلة «حاجو الهفيركي» نموذجاً لتأثير العائلات الإقطاعية النازحة على أنماط وسلوكيات البيئة التي نزحوا إليها. (نزحت تلك العائلة بشكل جمعي عام 1926 نحو منطقة القحطانية «تربسبية» شرق مدينة القامشلي، وكان لها تأثير بالغ على الحياة السياسية الكردية والسورية بشكل عام في خمسينات القرن المنصرم).. حيث أثرت بشكل كبير على المجتمع الكردي السوري الذي عاشت وسطه، اجتماعياً وثقافياً. وحددت فيما بعد الكثير من خياراته السياسية وتوجهاته.
– طبيعة مجاورة الأكراد للأرمن والسريان في البلدات والمدن المتشكلة حديثاً في بدايات القرن الجديد (بالذات أكراد محافظة الحسكة ومنطقة عين عرب)، أثرت على المجتمع الكردي ووعيه بدور الحياة المدنية الحديثة وأهميتها. فالأرمن والسريان الذين كانت كنيستهم التاريخية، تشكل مركزاً «معرفياً ومؤسساتياً» عميقاً في مجتمعهم، لها نواديها الرياضية شكلت المؤسسات الكنسيّة في الجزيرة السورية (محافظة الحسكة بالذات) ملمحاً بارزاً لتطور الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتكريس الاستقرار «العشائري»… إلخ. لكنه تم تصفيتها بشكل شبه كامل بُعيد عصر الوحدة 1958. وكذلك كان لأرمن مدينة عفرين دور مثيل، الأرمن الذين كانوا يشكلون قرابة ثلث سكان المدينة حتى أواسط الخمسينات من القرن المنصرم. وفرقها الكشفية ومؤسسات للكفالة الاجتماعية والطبية …إلخ، كما كانت تشرف بشكل غير مباشر على عدد من الحلقات الفنية والثقافية. كانت لهذه المجاورة بين الأكراد والسريان والأرمن، تأثيراً على الأكراد في هذا المنحى.
– كانت المؤسسات التقليدية الدينية، تتمثل بجملة التكايا والمعاهد والمرجعيات الدينية الصوفية والتعليمية الشرعية. فهذه «التنظيمات» كانت تعدّ امتداداً تاريخياً طبيعياً لشكلها العثماني التقليدي. حيث كانت السلطات العثمانية تعتبر تلك المؤسسات الدينية الصوفية أداتها لضبط الأمن وضمان الولاء. طبعاً، كان ذلك إلى جانب اعتمادها المباشر على القوة العسكرية، فالمناطق الكردية الوعرة، كانت من أكثر مناطق الإمبراطورية العثمانية ممانعة للخضوع والسيطرة. الشكل التنظيمي لتلك التكايا والمعاهد، كان يختصر بمجمع صغير في إحدى القرى، حيث يقيم شيخ الطريقة، وعدد أصغر من التكايا في القرى الأبعد. كانت تُدرس في تلك المجمعات المركزية التدريسية جملة من العلوم الفقهية؛ ثم يوزع المتخرجون على القرى، ومن هناك يديرون الشؤون الدينية. لم يختصر دور الشيوخ والخريجين (الملالي) على الحيز الديني، بل كانوا جزءاً مهماً من اللعبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تلك المناطق، خصوصاً وأنه كان يُعرف عنهم ولاؤهم المباشر للإقطاعية الزراعية الكردية فيها، ومنذ بداية الأربعينات وحتى نهاية الستينات، تعزز الدور المباشر لتك الزعامات الصوفية، بسبب صعود نفوذ الحزب الشيوعي السوري بين أكراد الجزيرة ومنطقة عفرين. كما أنها كانت دوماً تشكل حيزاً مضاداً للأفكار القومية الكردية، وهو الشيء الذي أتاح لها مجالاً أوسع في العقود الأخيرة من تاريخ سورية السياسي.كان للكثير من العائلات التي قادت تلك الطرق الصوفية دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية للأكراد السوريين، ومازال لها بعض الدور، وإن لم يكن بذلك الزخم الذي كان، مثل عائلة الخزنويوحقي وحجي موسى…إلخ. فالتصوف يعتبر الطريقة التعبيرية الأبرز في الممارسة الدينية لدى المجتمع الكردي السوري.
لكن الدور السياسي لهذه التكايا كان أعمق في منطقة عفرين، خصوصاً في الفترة التي شهدت فيها حركة مسلحة ضد الفرنسيين والإقطاعية المحلية، أو ما سميت ب«حركة المريدين»، فتلك الحركة تكونت لمواجهة القوانين الوضعية الفرنسية وسلطة الآغوات الذين كانوا على وفاق اجتماعي وسياسي مع مؤسسات الحٌكم الفرنسيةأوحت التكايا لمريديها بالخروج عن القوانين الوضعية للدولة السورية، ولاقت دعماً من قبل بعض أعيان المنطقة في مواجهة السلطات الفرنسية. كانت الحركة مدعومة من تركيا، حيث تسبب الانقسام الاجتماعي والسياسي حول أهداف الحركة، بنشوب أول حرب اهلية على مستوى منطقة جبال عفرين، حيث قٌتل العديد من المواطنين وهاجرت كثيرٌ من العوائل من المنطقة لحماية افرادها من هذه الحركة.كانت للحركة في بدايتها، اتصالات مع ابراهيم هنانو وقادة الثورة في سوريا حتى انتهى الأمر بهم إلى الانضمام إلى الكتلة الوطنية، وتم نشر العديد من المقالات في الصحف الرسمية لتمجيد هذه الحركة، لكن فقدت هذه الحركة رويداً رويداً كل مؤيديها وبقيت دون أي قاعدة شعبية. لهذه الحركة ذكريات مأساوية في ذاكرة الكرد في مناطق عفرين..
3.1. عوامل تحول حديثة
ما يُقصد بعوامل التحول الحديثة، هي تلك الآليات الجديدة التي طرأت على المجتمع الكردي السوري عقب تكامل تشكل الكيان السوري جغرافياً وسياسياً ككيان واحد، وبتأثير هذا الكيان بمؤسساته وسياساته ومساره التاريخي.
فالمنطقة الكردية السورية عاشت فترات مديدة في حيز جغرافي «قلق الكيانية». فهو كان جزءاً تاريخياً تقليدياً من جماعة إثنية وقعت بأغلبيتها المطلقة ضمن الأراضي الحديثة للدولة التركية عقب الحرب العالمية الأولى، حيث كان أكراد تركيا الامتداد الاجتماعي الجغرافي التقليدي للأكراد السوريين، وهم بقيوا بأغلبيتهم المطلقة ضمن الكيان التركي، وكانت جميع المساعي السياسية التركية في مماحكاتها مع الوجود الفرنسي تميل لضم هذه المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال للكيان التركي الجديد، بالضبط مثلما فعلت فيما بعد مع لواء اسكندرون بقيت الحدود السورية التركية حدود قلقة ومتحولة، حتى توقيع اتفاقية فرانكلين عام 1921 بين تركيا وفرنسا. ولم تأخذ شكلها الحالي إلا عام 1939 حينما ضمت السلطات التركية لواء اسكندرون، وبقيت طوال فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية وحتى ذلك التاريخ في حالة تبدل مستمرة.. كما أن شعوراً قومياً كردياً كان يتنامى منذ بدايات تشكل الكيان السوري الحديث وحتى نهاية فترة الحُكم الفرنسي في أواسط الأربعينات، شعور يميل لنيل الاستقلال عن الدولة السورية، أو أخذ سمة الدويلة ضمن الدولة السورية الكلية كانت ذروة تلك المطالبات هي الرسالة والوثيقة التي بعث بها عدد من الأعيان والرجال الدين الأكراد والسريان واليهود ومعهم بعض زعماء العشائر العربية للرئيس الفرنسي عام 1936، يطالبون عبره السلطات الفرنسية الحاكمة بأن تمنح منطقة الجزيرة السورية وضعاً خاصاً ضمن الدولة السورية الحديثة – حاجو آغا يريد إقامة دولة كردية، بنكي حاجو.. الأمر الأخير فيما خص «القلق الكياني» هو عدم وجود بيئة سكانية وبشرية تقليدية مستقرة في تلك المنطقة. فتلك المنطقة تأسست بالجوهر من تجمع واستقرار المهاجرين الكرد والبدو العرب والمنفيين السريان والأرمن، وعلى دفعات متتالية منذ بداية القرن العشرين وحتى الأربعينات منه، خصوصاً في منطقة الجزيرة وكوباني (عين عرب) يمكن قراءة الكتاب الموسوعي للباحث السوري محمد جمال باروت عن تأسس الجزيرة السورية «التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – الدوحة 2013»..
انتهى ذلك «القلق» الكياني مع بداية الحُكم الوطني لعموم البلاد بُعيد الخروج الفرنسي عام 1946، وبداية تأسيس المؤسسات الوطنية المركزية، واندماج جزء من النُخب السياسية والاقتصادية الكردية في الكل السوري، وبدأت مرحلة تأثير الجغرافيا الاجتماعية الكردية في مؤسسات الدولة المركزية. وهو نفس العامل الذي أكسب المجتمع الكردي السوري مزيجاً من السمات التي تميزه عن باقي أقرانه في كلٍ من العراق وتركيا. وهذه العوامل هي:
– كان الأكراد السوريون يمتدون على طيف ريفي واسع. ويبقى وجود بعض «المدن» الصغيرة التقليدية، ذو تأثير طفيف في/على تحولات المجتمع الريفي التكويني، كونها لا تعتبر مدناً بالمعنى العميق؛ فجل سكانها من المهاجريين الريفيين، حيث تستمر روابطهم، شديدة العمق بالريف وثقافته ونمط إنتاجه. وكون حجمها يبقى محدوداً يرى الباحث أن المدن الكبرى هي التي أنتجت كل التحولات السوسيولويجة السريعة بمجتمعاتنا المحافظة طوال القرن العشرين، وأن الغياب النسبي لتلك المدن في المناطق الكردية حظر عليها تلك التحولات طوال قرن كامل، أنظر: «هل للجنس علاقة بالسياسية، الظاهرة الجنسية عند الأكراد» مقال للباحث في موقع جريدة الأوان..
منذ بداية الخمسينات بدأت عملية نمو شديدة لتلك البلدات «الكردية» وكانت مدينة القامشلي أولى الحواضر السكانية التي يزيد سكانها عن مئة ألف نسمة وذات أغلبية سكانية كردية. ثم في بداية السبعينات تحولت كل من مدينتي عفرين والحسكة لذلك الرقم. مع نمو للحجم السكاني في البلدات السكانية الأخرى الأصغر حجماً، كالمالكية في أقصى الشمال الشرقي وعامودا وكوباني…إلخ، فقد تراوح عدد سكان كل واحدة منها بين 50-100 ألف نسمة. كان التضخم السكاني في هذه المدن قد جلب معه المؤسسات المدينية التي كانت عامرة في سوريا الخمسينات، المدارس ودور السينما والمراكز الثقافية والمقاهي. والتي عنت بدرجة معقولة تنمية اجتماعية وتبديلاً لسلم القيم الاجتماعية وتبدلاً في منظومة القيم التقليدية للتراتبية الاجتماعية. فانحسر حضور دور الزعماء التقليديين، العشائريين والدينيين، وبات لاقتصاد المدينة التبادلي وشبه الصناعي والخدمي دور واسع في الحياة البينية.
– التحول في مؤسسات التعليم. فذاك الطيف الريفي-البدوي الكردي الواسع في سهول الشمال السوري، المتراكب مع بيئة خالية من تقاليد المدن التاريخية العريقة، لم يشهد تقريباً أي نمط من مؤسسات التعليم، حتى تلك التقليدية منها، والتي كانت في بعض المناطق السورية الأخرى، كحلب ودمشق والساحل السوري، فشبكات التصوف وتكايا التعليم الديني لم تكن تفتقر للبنى المؤسساتية والأدوات والمناهج المعرفية بحدها الأدنى فحسب، بل كانت محاربة بشكل عميق لتأسيس تلك المؤسسات تشير مرويات الشخصيات «الحداثوية» كلها في المناطق الكردية، إلى تصارع مرير شهدته مع شبكات ونُخب هذه التكايا ودور الدين الصوفية، يمكن قراءة ذلك بوضوح في مذكرات الشاعر الكردي السوري الشهير جكرخوين، وسيرة المستنير رشيد حمو، وكذلك في مذكرات السياسي والسوسيولوجي الكردي نور الدين زازا. الأول خاض صراعاً في الشق الأدبي، والثاني في النشاط السياسي، والأخير في النضال المجتمعي..
بدأت المدارس «المدنية» والدينية في الشمال السوري ذو الأغلبية السكانية الكردية منذ أواسط العشرينات، لكنها كانت محدودة للغاية وحكراً على نُخبة محددة من سكان المُدن الذين كانوا بأغلبيتهم المطلقة من غير الأكراد –أرمن وسريان ويهود-، فالانتماء لهذه المؤسسات التعليمية لم يبدأ بالنسبة للمجتمع الكردي السوري إلا مع أواسط الخمسينات حينما بدأ التعليم بالانتشار الأفقي في كثيرٍ من مناطق الريف السوري مع طابعه المجاني، ومنذ أواسط السبعينات كان التعليم قد بات عاملاً تأسيسياً لتغير مقاييس السلّم الاجتماعي في كافة المناطق الكردية، وغدا المجتمع الكردي يرى في التحصيل المعرفي قيمة عليا؛ وكان للأحزاب القومية الكردية السورية اليسارية والحزب الشيوعي السوري دور بارز في حجز مكانة ممتازة للتعليم في المجتمع الكردي منذ بداية الستينات من القرن المنصرم.
– التحول في «الوعي الجمعي» للأكراد السورين، وبدء «التعرف على الذات الجمعية». فالأكراد السوريين لم يكونوا على تواصل تاريخي حيوي، لأنهم كانوا يحيون في مناطق جغرافيةٍ (الأقاليم الثلاث الجزيرة وكوباني وعفرين) بعيدة عن بعضها. فوسائل الاتصال والنقل كانت بالغة الصعوبة في المراحل التي سبقت الستينات من القرن المنصرم. أُضيف لها انعدام العلاقات الاقتصادية بين الأقاليم الثلاث تلك.
مع ترسخ الكيان السوري بدأ فرط التسييس في «الوعي الجمعي» للأكراد السورين بالصعود. فبتماسهم المباشر مع أكراد العراق وتركيا، حضرت القضية الكردية العامة، بمعناها السياسي المباشر، بكثافة في المجتمع الكردي السوري، فتلك القضية كانت ساخنة دوماً في هذين البلدين (العراق وتركيا)، ودوماً كانت تعتبر المجال الكردي السوري ساحة خلفية يمكن الانطلاق منها. الشيء الذي كان يشجع ذلك، هو طبيعة الارتباط الضمني بين الحركات القومية الكردية في تلك البلاد والنظام السياسي الحاكم في سوريا، الذي كان يغض النظر عنها لتنشط في الاوساط الكردية السورية (منذ بداية السبعينات ومع حُكم حافظ الأسد بالضبط). هذا الحضور الكثيف خلق ربطاً محكماً لل«الوعي الجمعي» الكردي السوري والنزعة السياسة القومية بمعناها المحض والجاف، وهو ما يفسر تعارف المكونات الاجتماعي الكردية السورية على بعضها البعض في الأقاليم الثلاثتأسس أول حزب سياسي – قومي- كردي في سوريا عام 1957، والمؤسسون الثمانية الأوائل كانوا موزعين على أكراد ينحدرون من أقاليم الجزيرة وعفرين ودمشق. وهذا التآلف السياسي لم يكن يوازيه تواصل وتفاعل اجتماعي بين مكونات هذه الأقاليم. كان ثمة فضاء شبيه بالحالة الفلسطينية عقب الانتفاضة الأولى عام 1987، حينما شكّل ذلك الحدث ديناميكية لتعارف المكونات الاجتماعية الفلسطينية على ومع عالم المخيمات الفلسطينية في دول الجوار. وكان للوعي القومي الكردي وتأسيس الأحزاب السياسية الكردية فعل شبيه بذلك في أواسط الخمسينات وما تلاها..
– تحول الدولة لدينامية مركزية في الحركة المجتمعية، نقصد بالضبط طبيعة هضم الدولة للمجتمع الداخلي السوري، الدولة ومعها جزء كبير من النخب السياسية والثقافية السورية في فهمها للملف والحضور الكردي في البلاد. فالثقافة الكردية لم يعترف بها في أي وقت كثقافة وطنية تكوينية، كما أن الشق السياسي بقي محصوراً بجانبه الأمني فحسب، حتى أن الأكراد لم يٌعترّف بهم، ولو بشكل إعلامي بحت، إلا عقب أحداث القامشلي عام 2004.
هذا التضييق على الأكراد وثقافتهم، خنق روح المبادرة المجتمعية المدنية الكردية. حتى تلك التي كانت في حالات كثيرة تراعي خصوصية الوضع الكردي، ولم تكن تصدر تحت عناوين قومية كردية مباشرة، ولم تكن تذكر أي صلة لها بالتنظيمات السياسية الكردية، لكنها كانت تواجه دوماً بالرفض من قبل المؤسسات الرسمية وبالقمع الأمني، حتى لو كانت في مجالات الموسيقا أو الأدب أو حقوق المرأة …إلخ. كان ثمة تهم مباشرة وجاهزة تطال أغلب الناشطين المدنيين الأكراد السوريين «محاولة فصل جزء من الأراضي السورية وإلحاقه بدولة أجنبية»تُعدّ تلك التهمة عامة لجميع الناشطين الأكراد تقريباً، حيث شكل، أي الناشطون الأكراد، نصف السجناء السياسيين السوريين في العقد الأخير..مثل هذه الاتهامات كانت تؤدي إلى محاكمات «جائرة» أمام محكمة أمن الدولة العليا أو المحاكم العسكرية.
ما تحدد هنا بالذات هو تشوه تطور المجتمع الكردي السوري مقارنة بنظرائه من المجتمعات السورية المحلية، فالبيئات الكردية كان شبه معسّكرة وعليها قيود وحساسيات أمنية مبالغ فيها جداً، طرفية ومهمشة وغير نامية. لم يكن ذلك يحدث بمستوى وآلية واحدة طوال سنوات العقود الستة الماضية، لكنها في فترات حُكم عبد الناصر لسورية ومن ثم فترة حُكم البعثيين شهدت ذلك بعنف أرعن. إي أنه ليس الأكراد وحدهم من كانوا يعانون من فرط في تسيس هويتهم ووعيهم لذاتهم، بل إن الدولة بمؤسساتها أيضاً كانت كذلك، في وعيها وفهمها للكرد ومسألتهم.
4.1. أطياف المجتمع الكردي
كان المجتمع الكردي قد دخل القرن العشرين بطيف بالغ البساطة من «التنوع» الاجتماعي، حيث طبقة ملاكي الأراضي وقطعان الغنم الصغيرة نسبياً، يقابلها السواد الأعظم من الفلاحيين والرعاة القرويين البسطاء.
مع أنه لم تكن ثمة سمات وخصائص تباين اجتماعي واقتصادي وثقافي وقيمي واضحة بين هاتين الطبقتين اللتين كانتا تتمايزان بالملكية فحسب. لكن بعد حدوث تلك التأثيرات والتحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، طوال قرابة قرن كامل، بات المجتمع الكردي السوري «راهناً» يتوزع على أربعة مستويات:
1.4.1. اقتصادياً: بعد عمليات الإصلاح الزراعي، وتفتت ملكيات الأراضي الواسعة، انهارت طبقة الإقطاعيين الكبار، وانهارت معها إلى حد بعيد روابط العلاقات العشائرية. تالياً بات في المجتمع الكردي اقتصادياً ثلاث طبقات؛ المزارعون الريفيون متوسطو الملكية، الذين تتراوح ملكيتهم بين 10-50 هكتار من الأراضي الزراعية في سهول الشمال السوري، أو تلال إقليم عفرين الشجرية. ثانياً الطبقة الوسطى من المشتغلين في النشاط الاقتصادي للمدن، الفنيون والبيروقراطيين وصغار التجار وموظفي الدولة…إلخ. وأخيرا طبقة العمال والعاطلين عن العمل، الذين يشكلون الفقراء المسحوقين.
2.4.1 جهوياً: سكان المدن المنتشرين في البلدات والمدن «الكردية» حديثة التكوين، على طول الشريط الحدودي الشمالي مع تركيا. هذه البلدات من أقصى الشمال الشرقي حتى أقصى الشمال الغربي هي: المالكية «ديريك»، القامشلي، عامودا،الدرباسية، كوباني، عفرين. حيث خلا مدينة القامشلي (400 ألف نسمة تقريباً) فإن أعداد سكان هذه البلدات تتراوح بين 40-60 ألف نسمة. يقابلهم القرويون المستقرون، الذين استفادوا من قوانين الإصلاح الزراعي، وكذلك من توسع مشاريع التنمية وانتشار التعليم ووصول الطرق إلى قراهم النائية، وباقي الخدمات التي وفرتها سنوات التنمية النسبية منذ السبعينات.
3.4.1 تعليمياً: انتهت طبقة رجال الدين، الذين كانوا يحتكرون المجالين الديني و«المعرفي» في المجتمع الكردي، لسبب التحديث نفسه المذكور سابقاً، ولصعود نفوذ التيار السياسي لحزب العمال الكردستاني «PKK» في أوساط الأكراد السوريين منذ أواسط الثمانينات. هذا التحطيم كان له تأسيس أولي عبر الحزب الشيوعي السوري، الذي كان ذا نفوذ واسع في أوساط الأكراد السوريين. وبات في المجتمع الكردي طبقتان تعليميتان متمايزتان: الأميّون كتابياً ومعرفياً الذين لم يحصلوا على الحد الأدنى من التعليم المدرسي والتحصيل المعرفي. هؤلاء الذين كانوا ينتشرون في سهوب الأرياف الكردية وضواحي المدن، وكذلك أغلب طبقة العمال المهاجرين إلى المدن السورية الكبرى، حلب ودمشق وحمص. الجدير بالذكر هنا، أن طبقة الأميين المعرفيين الأكراد في سوريا عانت بشكل مضاعف من «أميّتها» المعرفية هذه، فعدم إتقانها للغة العربية أخرجها تماماً من عموم المتن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والإعلامي في البلاد، فهذه القطاعات كانت كلها باللغة العربية، ولا يمكن لأي أحد لا يتقن هذه اللغة أن يغدو جزءاً طبيعياً من ديناميكيتاها.
مقابل هؤلاء، كان ثمة الطبقة التعليمية الكردية الوسطى، والتي كانت تتطابق تماماً مع الطبقة الوسطى الاقتصادية، فهم لم يكونوا من طبقة كبار المزارعين ولا من الفلاحين الأقل دخلاً، بل من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الأكراد من الريف نحو المدن الحديثة التكون، اعتباراً من خمسينات القرن المنصرم. هذان الجيلان الكرديان اللذان باتا متن هذه المدن «الكردية» حديثة التكون، وباتوا ينافسون الطبقة الاجتماعية السريانية المتعلمة والطبقة الاجتماعية الأرمنية شبه الصناعية واليهودية التجارية في هذه المدن.
2. الحركة السياسية الكردية من فشل العقد التأسيسي للصدام
لا يمكن وعي الطبيعة التنظيمية والإيدلوجية للأحزاب الكردية السورية، والتي تُعدُّ محدداً جوهرياً لسمات قواعدها الاجتماعية، لا يمكن وعي ذلك بشكل دقيق دون إدراك مسألتين سابقتين، تتعلق الأولى بمسار تشكل «المسألة الكردية» في سوريا، والأخرى تتعلق بالتجارب السابقة لانتظام طيف من المجتمع الكردي السوري في تنظيمات سياسية سورية غير قومية كردية، وأخيراً باللحظة والمرجعيات التي تأسست فيها هذه التنظيمات السياسية/القومية الكردية السورية.
1.2 تشكل المسألة الكردية كتصارع قومي
1.1.2 التأسيس
يمكن رد المسألة الكردية في سوريا إلى ما يسمى بـ «انزياح أو انحياز العقد التأسيسي للدولة». فالدولة السورية لم تكن ثمرة تفاعلات اقتصادية وثقافية وسياسية داخلية جيدة ومناسبة، مارسها المجتمع السوري الراهن على فترات زمنية طويلة أرسى فيها قواعد عقد «دولتي» مشترك بين مختلف مكوناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
كان الدور الأكبر في تكون الدولة السورية بشكلها الكياني الراهنيؤمن الباحث بالنظرية التي ترى أن كل الكيانات السياسية هي كيانات مصطنعة، وأن حدودها السياسية لا تتطابق مع طبيعة جماعتها الأهلية والدينية والإثنية. لكن بالمقابل بأنه ثمة كيانات بالغة الاصطناعية، أي أن تشكلها لم ينتج لا عن إرادة سياسية واسعة من مجموع سكانها، ولا عن تشابه معقول ثقافياً وهوياتياً بين سكانها، بل من كتل جغرافية لم تحيا لفترات مديدة ضمن أي كيان سياسي موحد، وفي حالات كثيرة من قطع جغرافيا مجتزأة من كيانات تاريخية أعمق وأوسع محيطة بهذا الكيان الجديد. ينتمي الكيان السوري نسبيا للكيانات بالغة الاصطناع.، يعود لتفاعلات القوى الدولية التي هيمنت على الشرق الأوسط، عقب انتصارها في الحرب العالمية الأولى في عشرينات القرن المنصرم. لذلك جاءت الدولة السورية غير متساوية المسافة من كل ساكنيها.
الشكل السياسي الأولي للدولة السورية تركز عملياً في المنطقتين الأكثر كثافةً وتمدناً وقتئذ، العاصمة دمشق ومدينة حلب، ونسبياً في مدينتي حُمص وحماة؛ لذلك صبغت الهوية السياسية والثقافية الرمزية السورية بالقومية العربية وبالبُعد الإسلامي السُني. نقصد هنا ب«الهوية الكيانية» هذه اللغة الرسمية الوحيدة –العربية- والتعريف الدستوري للسكان والعلاقات الخارجية وطبيعة وهوية النُخب الحاكمة والمسيطرة، والتي انحدرت بمجموعها حين التأسيس وعقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي من سكان هذه المدن «المُسيطرة».
بسبب غياب الأجواء الديمقراطية والدستورية -سوى فترة الخمسينات القصيرة- فإن الزمن التاريخي الطويل الفاصل بين تلك اللحظة التأسيسية للدولة السورية، في عشرينات القرن المنصرم، وبين اللحظة الراهنة، لم يستطع تحوير الهوية السياسية للدولة السورية، والذي تمثل بالهوية القومية العربية والرمزية السُنية الإسلامية، وإن كانت كثيرٌ من نُخب الحكم باتت تنحدر من الطائفة العلوية منذ سبعينات القرن المنصرم. وقد كانت تلك الهوية السياسية القومية العربية في الدولة السورية لا تُلاحظ بشكلٍ مباشر في العهود الليبرالية في خمسينات القرن المنصرم، بسبب طبيعة النظام السياسي في ذلك الوقت. لكن بعد عهد الوحدة عام 1958 وحكم جمال عبد الناصر لسورية، ومن ثم انقلاب حزب البعث عام 1963 في سوريا. وكان هذان التياران السياسيان – الناصري والبعثي – هما الأكثر حدية في ممارسة الشكل الأيدلوجي السياسي المباشر للقومية العربية. انعكس ذلك مباشرة على الأكراد السوريين، باعتبارهم المقابل المباشر لتلك الأيدلوجية القومية السياسية.
2.1.2 سمات المراحل
منذ الاستقلال إلى الوحدة: كان لطبيعة الحمال السياسي الذي قامت عليه المؤسسة السياسية في الدولة السورية عقب التحرر من الاستعمار الفرنسي، والذي تثوب بالرداء الليبرالي في الحكم دورٌ في عدم تهميش أي مكون من مكونات الدولة السورية، ومنهم الأكراد، الذين شاركوا في رسم الحياة السياسية العامة في البلاد، من خلال الأحزاب السورية العمومية وقتئذ (الكتلة الوطنية وحزب الشعب والحزب الجمهوري)، وهذه الأجواء مجتمعة ساعدت على تكوين أول حزب سياسي قومي كردي سوري في 14 /حزيران/ 1957 تحت تسمية « الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا – البارتي» دون أي ملاحقة قانونية أو أمينة لقيادته أو منتسبيه.
في مرحلتي الوحدة والحكم الأول لحزب البعث (1958-1970): كانت الوحدة بين سوريا ومصر بالشروط التي تمت، تعني نهاية الحياة الديمقراطية في الدولة السورية. حُلَّت الأحزاب وتوقفت الصحف عن الصدور …إلخ. مضاف إلى ذلك الطبيعة القومية للنظام السياسي الذي تشكل في البلاد. كل ذلك شكل تحدياً كبيراً للحركة الكردية في سورية. أودع الكثير منهم في السجون، وهرب البعض الآخر إلى العراق الذي كان يشهد «فترة ودّ» بين الأكراد وحكم عبد الكريم قاسم وقتئذ.
في عهد الانفصال (1961-1963) حصل بعض الانفراج النسبي، لكن الإحصاء الاستثنائي الذي نفذته السلطات السورية في عهد الانفصال في محافظة الحسكة، والذي جرد عشرات الآلاف من الأكراد من جنسيتهم السورية، أعاد الحساسية إلى سابق عهدها.
في عهد الرئيس حافظ الأسد ونجله بشار الأسد: طوال سنوات حُكمهما، كانت الورقة الكردية أهم أدوات الجناح السوري من حزب البعث في ضبط العلاقة مع الجار العراقي، الذي كان في المقابل يسعى للاستحواذ على ولاء القبائل البدوية السورية (السنية) في المنطقة الشرقية من البلاد، والدخول في عمق المعادلة الداخلية السورية أثناء فترة الأحداث العنيفة في سورية (1979-1982) عبر دعم جماعة الإخوان المسلمين. لكن الاستخدام السوري للورقة الكردية خارجياً لم يتوقف عند الحدود العراقية. فاللون السوري في حزب العمال الكردستاني كان واضحاً في التكوين والتمركز والنشاط منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، بهدف إقامة توازن مقبول مع الجار التركي الذي كان يستحوذ على ملفات المياه والانتماء لحلف الناتو…إلخ. لكن ذلك لم يعنِ بأي شكل انفتاح النظام على الأكراد داخلياً، فقد بقيت جميع القضايا عالقة (المجردون من الجنسية، والصهر الثقافي، والتهميش الاقتصادي …).
2.2 الأكراد والتنظيمات السياسية
1.2.2 الأكراد في التنظيمات غير القومية
تماشياً مع التكون التاريخي للنُخب السياسية في سوريا، في المرحلة التي سبقت الانقلاب البعثي 1963، فإن النُخب السياسية الكردية السورية انقسمت سياسياً إلى دفتين سياسيتين متقابلتين:
– انخرطت أُسر الإقطاع الزراعي الكردي سياسياً مع طبقة برجوازية المدن السورية؛ فكما كانت هذه الأخيرة تسعى للحفاظ على هيمنتها السياسية خشية صعود الأحزاب السياسية الإيدلوجية اليسارية، التي تهدد مصالحها الاقتصادية واحتكاراتها القطاعية؛ فإن العائلات الإقطاعية الكردية وشبه البرجوازية كانت تخشى من تمدد هذه الأفكار اليسارية في طبقة الفلاحين الأكراد، وأن يهز ذلك من سيطرتهم على شبكة الأراضي الزراعية الخصبة الواسعة في الشمال السوري، تلك التي استولوا عليها عبر قانون التمليك الفرنسي 3339 الذي صدر عام 1930، تلك الأراضي التي كانت بالأساس أراضٍ أميرية عثمانية، وتم تمليكها لهذه العائلات الإقطاعية الكردية حفاظاً على الاستقرار الذي كانت السلطات الفرنسية تبتغيه من تلك المنطقة الزراعية الخصبة للغاية.
اندمجت العائلات الكردية في منطقتي الجزيرة وكوباني بأغلبيتها في تيار الكتلة الوطنية السورية، الذي كان يقوده السياسي السوري المخضرم شكري القوتلي، ودخل عدد منهم البرلمانات السورية الديمقراطية تحت مظلة هذا التيار السياسي. أما الأسر الكردية في منطقة عفرين، فإنها انخرطت بشكل ما في حزب الشعب، الذي كان سياسياً يمثل منطقة حلب ومحيطها الجغرافي، حيث عفرين جزء منه الفرق الشاسع بين السياسة المحلية التي أنتجها حاجو أغا الهفيركي في أيامه السورية (1926-1940) حيث كان أقرب للسياسات الفرنسية في سوريا، وما أنتجه خلفه وأبنه حسن حاجو عبر انضمامه للكتلة الوطنية وتيار الرئيس شكري بيك القوتلي، يُستطاع أن يُفسر به كمثال نموذجي للسلوك السياسي للنُخب الكردية من ملاكي الأراضي؛ حيث كانت في صف الأقوى سياسياً على الدوام. لأن الحجم الكبير من ممتلكاتها التي كانت مهددة من قبل القاعدة الشعبية المحيطة، كان دوماً بمثل تلك الحاجة لموالاة القوة السياسية الأكثر قوة، لحفظ تلك المصالح..
طبيعة العلاقة بين هذه التيارات السياسية السورية الحاكمة والطبقة الإقطاعية الكردية قامت على ثنائية بسيطة: كانت هذه التيارات الحاكمة تؤمن حداً معقولاً من تمثيل أبناء هذه العائلات في مؤسسات الحُكم الاقتصادية والبيروقراطية وحتى العسكرية، وتأمين ضبط عالي لأية حركة تمرد يمكن أن تشهدها مناطق سيطرة ونفوذ هذه العائلات. مقابل ذلك، فإن هذه العائلات كانت تؤمن انتخابياً كل الكتلة السكانية التي تسيطر عليها، فالفلاحون الذين كانوا يعملون كأجراء في مناطق ملكيات هذه العائلات كان مُهميناً عليهم تماماً، ولا يستطيعون مخالفة توجهات العائلات السياسية بأي شكل.
من خلال هذه العلاقة الاندماجية بين هذين الطرفين، تأسس الاندماج الأول للكرد السوريين المنحدرين من مناطق قصيّة من البلاد في المؤسسات الوطنية العمومية، وبالذات منها مؤسستي الجيش والأجهزة البيروقراطية الدولتية. بالمقابل فإنه تم تهميش أي صبغة للمطالب القومية الكردية الخاصة، فالنخبة السورية الحاكمة بقيت على حساسيتها من كثافة الانتشار الكردي في الشمال السوري وتواصله مع المجتمع الكردي في كل من العراق وتركيافي متابعة دفتر نقاشات البرلمانيين السوريين في الخمسينات والستينات، يمكن ملاحظة ذلك بشكل جلي، فالبرلمانيون المنتمون للكتلة الوطنية وحزب الشعب لم يكونوا أقل حدة من التيارات القومية العربية في التحذير من خطورة اللون القومي الكردي في الشمال السوري، وإن بلغة وتعابير أكثر حياء.. ولم تحاول تعديل أي شيء من معايير العقد التأسيسي للبلاد، ولم تواجه بأي شكل النزاعات القومية المناهضة للأقليات القومية والأثنية في البلاد.
كانت هذه العائلات السياسية الكردية من الهشاشة السياسية بشكل يوازي تماماً الهشاشة التي كانت عليها معظم طبقة برجوازية المدن السورية في الخمسينات، فطابع علاقتها مع القاعدة الاجتماعية «الموالية» لها من الفلاحين كانت من نمط السيطرة المادية المباشرة عبر استحواذ الملكية، وليس بأي شكل من نمط الهيمنة الإيدلوجية أو السياسية أو التنظيمية؛ لذا انهار نفوذها وحضورها السياسي تماماً مع انهيار نمط الحُكم التقليدي في الخمسينات، ولم تجد أي قاعدة اجتماعية تدافع عنها، حتى أن كثيراً من أبناء الجيل الثاني من هذه العائلات هاجروا خارج سوريا بعيد انهيار سيطرتهم السياسية.
– مقابل ذلك، فإن تياراً لا بأس به من الأكراد السوريين انخرط في الحزب الشيوعي السوري، وكان أساساً من أكراد المدن الداخلية السورية (دمشق وحلب) وطبقة الجيل الأول من أبناء الفلاحين من سكان المدن ذات الأغلبية الكردية. كان للزعامة التاريخية لخالد بكداش (كردي دمشقي) للحزب الشيوعي السوري دلالة بليغة على ذلك. وكانت قاعدة جماهيرية واسعة للحزب تتشكل في المناطق ذات الأغلبية الكردية منذ أوائل الأربعينات من القرن المنصرم.
انخرط الكرد أساساً فقط في الحزب الشيوعي السوري ذو المطالب الطبقية، لأن الفصم الإيدلوجي القومي كان يمنعهم من الانخراط في الأحزاب «اليسارية» الأخرى، كالبعث والناصريين والقوميين السوريين…إلخغير «وهم» الانتماء العرقي لخالد بكداش للقومية الكردية، فإن ما كان جاذباً للأكراد لدخول الحزب الشيوعي السوري هو طبيعة العلاقة الجيوسياسية التي ربطت الاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية مع المسألة الكردية، فهي كانت دائمة التحريض ضد تركيا التي باتت جزءاً من حلف الناتو المناهض لنفوذ الاتحاد السوفياتي، وكان ذلك عبر دعمها لتطلعات الأكراد في تركيا..
حمل الحزب الشيوعي السوري مطالب طبقية محقة لقاعدته الجماهيرية الكردية، لكنه بالمقابل كان شديد المحافظة في المطالبة بأي حقوق قومية كردية لهذه القاعدة، ولم يكن مطلبه بإلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي عام 1962 الذي حرم آلاف الأكراد السوريين من جنسيتهم السورية، لم يكن مطلبه ذاك سوى تمايز خجول عما كانت تطبقه سياسيات الأحزاب اليسارية القومية بحق المناطق الكردية.
بالمقابل فإنه كان ثمة تفكير قومي كردي يرى بأن الأجندة الحقيقة للحزب الشيوعي السوري هي الالتفاف على المطالب القومية الكردية، وذلك بحصر مطالب الأكراد بالحيز الطبقي الاقتصادي، وبذلك تسطير وتكرس الذوبان الكردي «القومي» في الكل السوري «العربي». وكان ذلك تشكيلاً وتمايزاً جوهرياً لخطاب الحركة القومية الكردية اليسارية، التي كانت تزاحم الحزب الشيوعي السوري على نفوذه في أوساط الفلاحين والعمال الأكراد.
مع صعود الحركة القومية الكردية منذ أواسط الخمسينات من القرن المنصرم، انشقت قاعدة الحزب الشيوعي السورية الكردية إلى حيزين متقابلين، إذ انشقت نُخب المدن ذات الأغلبية الكردية عن الحزب الشيوعي السوري وانضمت للحركة القومية الكردية، وإن برداء ومطالب ذات بُعد يساري. وكان انشقاق الشاعر والأديب الكردي السوري جكرخوين عن الحزب الشيوعي السوري وانضمامه للحزب الديمقراطي الكردي السوري، نتيجة عدم موافقة قيادة الحزب بأن تكون منشورات الحزب وأدبياته في المناطق ذات الأغلبية الكردية باللغة الكردية، كان ذلك الانشقاق تعبيرا عن الفصام بين هذه النُخبة المدينية الكردية السورية في المدن الشمالية، وبين الحزب الشيوعي السوري.
مقابل ذلك فإن النُخبة السياسية الكردية المنحدرة من مدن الداخل السوري غرقت تماماً في الشكل السوري الرسمي للحزب الشيوعي السوري، دون أي مطالب خاصة بالمسألة الكردية في البلاد؛ وكان ذلك بالضبط مدخلاً لانهيار نفوذ الحزب في المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال السوري.
2.2.2 التنظيمات القومية الكردية
سيرة سياسية مختصرة:
تأسس أول حزب قومي كردي سوري في صيف عام 1957. انشق الحزب في أواسط الستينات إلى تيار يساري يتبنى الماركسية وحقوق الطبقات، وتيار أقرب لليبرالية السياسية والمحافظة الاجتماعية، لكن هذا الانشقاق كان قائماً بالأساس على خلاف سياسي كردي عراقي. حيث انحاز تيار اليسار لخيارات الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني ضمن الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، بينما انحاز فريق آخر لتيار إبراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني ضمن الحزب الكردي العراقي نفسه. وحدث بذلك الانشقاق الموضوعي ضمن الحزب الديمقراطي الكردي السوري.
جرى اجتماع شهير لتوحيد الحزب عام 1971 برعاية الملا مصطفى البرازني في كردستان العراق، حيث كان الأكراد العراقيون قد استحصلوا حُكما ذاتيا هناك منذ قرابة العام. انتهى الاجتماع باتفاق شكلي لجمع قيادة الحزب، حيث ما إن عاد الحزب إلى سوريا حتى بات لدينا ثلاثة تنظيمات واضحة المعالم والقيادة والخيارات السياسية:
1- الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي»
لم تنجح القيادة الموحدة التي أسسها الملا مصطفى البرزاني في الحفاظ على الوحدة التنظيمية للحزب بعد عودة الحزب إلى سوريا بُعيد الاجتماع الشهير في كردستان العراق، لكن القاعدة الجماهيرية التي حافظت على ولائها لهذه القيادة المشتركة، سمت نفسها بالحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي»، والتي بقيت على ولاء تام لعائلة البرزاني وخياراتها الكردية الداخلية، وعلى عموم المناطق الكردية في المنطقة.
يملك هذا الحزب قواعد جماهيرية تفوق قدراته ومستواه التنظيمي، وخصوصاً في المنطقة الشرقية من الجزيرة السورية، في منطقة المالكية المتاخمة للحدود السورية العراقية، وجلّ شرق مدينة القامشلي، يسيطر الحزب نسبياً على قواعد جماهيرية لا بأس بها في الأوساط الكردية السورية في الجزيرة وعين العرب.
يعتمد الحزب بذلك على أكثر من ظرف؛ فالولاء النفسي للكثير من الأوساط العشائرية الكردية السورية لآل البرزاني وزعامتهم التاريخية التقليدية ولاء شبه مطلق. كما أن الإمكانيات المادية والإعلامية التي يوفرها الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي لهذا الحزب غير قليلة.
حدث أكثر من انشقاق عن الحزب المذكور، كان أشهرها انشقاقات بداية الثمانينات، حينما انشق القياديان إسماعيل عمر ومحي الدين شيخ آلي، وأسسا معاً حزب الوحدة الكردي، ذو النفوذ الواسع في منطقة عفرين.
كان الحزب بقيادة الشيخ دهام ميرو، الذي اعتقل لسنوات مع كل قيادة الحزب في بداية السبعينات، ثم آلت القيادة للمحامي كمال درويش ومن بعده للمحامي محمد نذير مصطفى وبعده الدكتور عبد الحكيم بشار.
في عام 2014 اتحد الحزب مع عدد من الأحزاب الكردية الأخرى، وسمى نفسه ب«الحزب الديمقراطي الكردستاني» وانتخب سعود الملا سكرتيرا للحزب.
2- الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي السوري
هو امتداد لتيار «اليمين» الكردي السوري ضمن الحزب الأم، والذي كان يجمع بين الليبرالية السياسية مع المحافظة الاجتماعية، وكان على وفاق سياسي مع جناح إبراهيم احمد في الحزب الديمقراطي الكردستاني-العراقي، الذي تحول فيما بعد لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني.
يقود هذا الحزب منذ أواسط الستينات الشخصية الوطنية الكردية المعروفة الأستاذ عبد الحميد درويش. يستحوذ الحزب على تمثيل مناسب في الأوساط الكردية من الطبقة الوسطى العليا، جامعاً معها بقايا الإقطاعية في البيئات الزراعية الريفية والبرجوازيات المدينية. ما زال للحزب صلات وثيقة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
3- حزب يكتي الكردي السوري
يعتبر هذا الحزب محصلة حالات الانشقاق واتحاد التنظيمات ضمن تيار اليسار القومي للحزب الديمقراطي الكردي الأم، وهو يعبّر بعمق عن جميع الطروحات التي تأسس عليها التيار اليساري القومي الكردي.
ينتشر الحزب في الأوساط الشبابية الكردية، وذوي التحصيل المعرفي المتوسط، من الذين تفاعلوا مع المؤسسات البيروقراطية السورية. ما نستطيع أن نسميهم بالمنخرطين في الدوائر الرسمية لمؤسسات الدولة، في كل البلدات والمدن السورية ذات الكثافة الكردية العالية. تلك المؤسسات التي تشهد مزاحمة بين طبقة البيروقراطيين الكرد والعرب والسريان والأرمن.
كان المنتمون لهذا التيار السياسي هم أول من خاضوا عمليات مواجهة سياسية مع النظام السوري، خصوصاً مع حضور المظاهرات النوعية في مدينة دمشق وحلب.
4- حزب الاتحاد الديمقراطي PYD
يُعد الحزب امتداداً ايدلوجياً وسياسياً و«تنظيمياً» لحزب العمال الكردستاني pkk. ففي حين كان هذا الحزب الأخير يخوض حرباً ضروساً ضد تركيا، خلال أعوام 1984- 2011. فإنه كان يستفيد من قاعدته الجماهيرية والتنظيمية ضمن المجتمع الكردي السوري، ساعده في ذلك غض النظر من رأس النظام السوري عن النشاط السياسي ضمن المجتمع الكردي السوري، شرط أن يكون ذلك النشاط محصورا بالمسألة الكردية خارج سوريا. استطاع حزب العمال الكردستاني الاندراج بجزء مهم من الطبقة الكردية السورية الأكثر فقراً وهامشية، واستطاع أن يرسل ويدمج قرابة 15 ألف مقاتل كردي سوري في المؤسسات التنظيمية العسكرية التابعة لهذه الحزب، راح قرابة 4000 منهم كضحايا للقتال الضاري بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني خلال سنوات القتال المديدة بين الطرفينالأرقام الواردة في هذا المقطع اصطفاها الباحث من سلسة لقاءاته مع «عمر أوسي» المترجم والمستشار الكردي السوري السابق لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان خلال سنوات وجوده في سوريا..
انطفأت جذوة هذا الحزب تنظيماً وسياسياً خلال سنوات 1998-2011، حين كانت السلطات السورية على توافق مع نظيرتها التركية لقمع نشاطات هذا الحزب. لكن ما أن انطلقت شرارة الأحداث في سوريا وحدث الشقاق سياسي و«أمني» بين الجانبين السوري والتركي؛ حتى أعادت السلطات الأمنية السورية إطلاق يد هذا الحزب في المجتمع الكردي السوري. وذلك عبر توافق سياسي غير معلن بين الطرفين، تسمح عبره السلطات السورية للنُخب السياسية الكردية القريبة من حزب العمال الكردستاني بالنشاط ضمن المجتمع الكردي السوري، مقابل أن يسعى هذا الحزب لأن يوجه التطلعات الرئيسية للأكراد السوريين نحو الحالة القومية الكردية في تركيا، وغض النظر قدر المستطاع عما يجري في الداخل السوري العام.
بسرعة تامة استطاعت هذه النُخب الكردية السورية القريبة من حزب العمال الكردستاني ترتيب وإعادة تنظيم نفسها، وجذب تلك القواعد التي كانت مرتبطة بهذا الحزب من قبل. القواعد الأكثر فقراً وتهميشاً في المجتمع الكردي السوري، في ضواحي المدن ذات الأغلبية الكردية، وبين كتلة المهاجرين الكرد في المدن السورية الكبرى، والطبقة الأكثر أميّة وتهميشاً من القرويين الكرد.