قُتل الإعلامي ثائر العجلاني في معركة من معارك جوبر، في ذلك الحي الذي طالما وقف على حدوده حالماً بدخوله فاتحاً منتصراً مع الجيش العربي السوري «البطل». رثاه النظام السوري بشكل رسمي وشعبي، من قوات الدفاع الوطني إلى وزارة الإعلام إلى وسائل الإعلام المحلية واللبنانية الموالية. قُتل الفتى الوسيم الذي جاب سوريا طولاً وعرضاً مرافقاً «جنود الوطن» على خطوط التماس وفي الجبهات الأكثر اشتعالاً. رحل أحد أبرز إعلاميي سوريا الأسد وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، أي من عمري أنا بالضبط.
شكّل الفتى ظاهرة مميزة في الوسط الإعلامي السوري. اجتمع حوله شباب وشابات الطبقة الوسطى والغنية المؤيدون والرماديون والمترددون والمعارضون «النظيفون تحت سقف الوطن». يشبههم ثائر العجلاني، يشبههم بملبسه ومنطقه ولهجته. يقترب منهم بشكل محسوس في كل تقرير بثقة مرحة وضحكة صافية يفتقدونها مع عسكرٍ وحزبٍ وميليشياتٍ يبتعدون عنهم بمسافة تكاد تساوي ابتعاد الإسلاميين على الضفة الأخرى. ثائر، كما كان جهاد مقدسي من قبل، نموذج يُقتدى في سوريا الأسد: الشاب الهادئ ذو المظهر المديني الغربي الحضاري، مع مسحة عسكرية تتمثّل في لحيته الطويلة وشعره القصير(في المقابل، لم يقترب جهاد من العسكرة بشكل مباشر). لا يتماهى معه فقراء العلويين وغيرهم من المحاربين، بل يتطلعون إليه كمثل محبوب. ساعده المظهر الحضاري المشرق الشاب على دخول الإعلام اللبناني الصديق. عدو ثائر، شكلاً ومضموناً، هو المحارب الفقير الأشعث في الغوطة الشرقية. على المرء أيضاً ألا يبالغ فيما قدمه الفتى. لم يكن عمله فتحاً في تاريخ الإعلام، إلا أنه أعطى لجزء من الموالين ما لم يستطع الإعلام الرسمي والتقليدي تقديمه: صورة شخصية حية لما يريدون أن يكونوه، وما يجب أن يكونه أقطاب النظام أنفسهم: غربيّون في المظهر، لا عسكر وحرامية ومجرمي حرب موصوفين. بالإضافة إلى ذلك، قدّم ثائر تقارير لطيفة عن الحياة اليومية في سوريا، من دمشق إلى حلب إلى حمص، فيها حساسية إنسانية واضحة، وتجاهل تام لضحايا البراميل والحصار. تعتمد التقارير على تبسيط مبالغ فيه وعلى مناشدة المشاعر البسيطة لمن تعب من الحرب: الحياة اليومية شاقة، ونحن هنا لنوثّق لكم ما سبّبته الحرب، دون سياسة. هذه الصورة نجدها عند المنظمات غير الحكومية التي تخترق الثورة أيضاً، وفي المسلسلات التلفزيونية السورية. كما تميّز الإعلامي القتيل بشجاعته، المبالغ فيها كما يقول محبوه. في كل معركة كان حاضراً على الخطوط الأمامية. كان ثائر، كما يبدو لي، صاحب قضية؛ دون أن نغفل أنه استفاد من عمله على جميع الصعد. قضيته ليست واضحة المعالم. هل يدافع عن بلده في وجه «الغزاة» القادمين من كل بقاع الأرض؟ هل يدافع عن إرث «القائد الخالد المقاوم»؟ هل يدافع عن «الحضارة»؟ عن «العلمانية»؟ عن «سوريا الوطن»، التي هي أكبر من السياسيين؟ دافع ثائر عن قضية، ولكن ليس من السهل أن نعرف أي قضية، وبراميل الموت تتساقط في كل مكان.
لهذه الأسباب كلها، شكّل ثائر العجلاني ظاهرة مميزة، ظاهرة تستجيب لتيار سوري عريض من أبناء الطبقات الوسطى والغنية الشابة.
سمعت بثائر العجلاني قبل سنوات، مع صعود نجمه المتسارع والثابت. عرفت الاسم فوراً؛ كان ثائر صديقي المقرب في المدرسة الابتدائية، وفقدت كل أثر له لاحقاً. أتذكره طفلاً طيباً ودوداً، ذكياً محبوباً من الأساتذة والطلاب. نفضت صورة الطفل من رأسي حين رأيت صورة المجرم القابض على الجمر على حدود الغوطة: رجل مفتول العضلات بسيجارة متدلية من فمه مستهتراً بمن يعيش هناك تحت الحصار والبراميل؛ ترتفع أسهمه مع ارتفاع عدد القتلى وشدة الحصار.
اليوم، قُتل الرجل ونجا الطفل. لم أستطع ألا أحزن. شاهدت بعض تقاريره المتلفزة. احتفظ ثائر بالنظرة الطفولية البريئة، وبأنفه الضخم المدبب المميز اللطيف. للطفل الهازل النحيف القصير نسبياً نهاية مأساوية؛ دافع عن قضية خاسرة أخلاقياً، وتورّط في أبشع أنواع الدعاية الفاشية. أقول لنفسي لا تحزني، مستدعياً صور البراميل في الغوطة. لا تطاوعني نفسي؛ بقي ثائر في عيني طفلاً مرحاً قادماً من زمن بعيد. في المقابل، لم أستطع ألا أفكر بعدالة القدر الذي قتله في جوبر تحديداً! أية نبوءة جميلة سيحملها هذا الموت لصمود جوبر الأسطوري!
قُتل صديق الطفولة، هناك في جوبر، مدافعاً عن قضيته.
ولكن أية قضية يا ثائر؟ أية قضية؟