3. الربط بين المجالين الاجتماعي والسياسي

1.3 تحديد قياسي للأحزاب السياسية الكردية

تراوحَ عدد الأحزاب الكردية السورية بين 15 و25 حزباً منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن الأحزاب السياسية الحقيقة، التي تستند إلى خطاب سياسي ذو ملامح معينة، وعلى تنظيمات حزبية حقيقية ومتراصة وذات أعراف، يمكن اختصارها إلى أربعة أحزاب، يشكل كل واحدٍ منها تعبيراً معيناً عن تيار أيديولوجي بذاته، وبالتالي عن طبقة اجتماعية معينة ذات ملامح.

1- الحزب الديمقراطي الكردستاني-سوريا: يمثل الخطاب والزعامة القومية التقليدية التي يمثلها آل البرزاني، وينتشر في الأوساط الريفية العشائرية التي تميل إلى تعاملٍ تراتبي وعائلاتي في المجتمع الكردي السوري. بهذا المعنى فإن هذا الحزب يعبر عن الطبقة المجتمعية الكردية السورية الأكثر محافظة وتقليدية. وبشكل ما عن تلك العائلات التي كانت موالية لزعامة البارزانية تقليدياً.

2- الحزب الديمقراطي التقدمي: يمثل مزيجاً من المحافظة الاجتماعية عبر اعتماده على طبقة الملاكين نصف المتمدنين، بالذات من أبناء الجيل الثاني والثالث لكبار ملاكيّ منطقة الجزيرة وعين عرب. مع مزيج من الليبرالية السياسية الرافضة للشعارات والطروحات والميول القومية الرومانسية.

3- حزب يكيتي الكردي (الخليفة الحقيق لتيار اليسار القومي الكردي): يمثل هذا الحزب التيار الاجتماعي الأحدث من الأجيال الكردية المندمجة في مؤسسات الدولة السورية. طبقياً يشكلون الطبقة الوسطى المتعلمة، الذين استفاد ذووهم من توسع خدمات التعليم في الأرياف السورية. بذلك يمثل هذا الحزب الطبقات الكردية الصاعدة تعليمياً وجهوياً، المهاجرة من الريف حديثاً نحو مراكز المدن، الجاذب لها بخطاب قومي كردي «حداثي» ذي أبعاد متعلقة بعموم الحركة الديمقراطية في البلاد.

4- حزب الاتحاد الديمقراطي PYD: يجذب ويمثل هذا الحزب الطبقات الكردية الأكثر فقراً وهامشية وأمية من المجتمع الكردي السوري، عبر خطاب وتوجه سياسي قومي رومانسي ممزوج برؤية يسارية، وبالعنف الثوري بعد مرور عام واحد من بدء الثورة السورية.

2.3 تركيب سياسي-اجتماعي أولي

جمعية «خوييبون» والمجتمع الكردي البطريركي: 

تأسست هذه الجمعية السياسية عام 1927، كأول تعبير سياسي عن الأكراد السوريين. صحيح أنها تأسست في مدينة بحمدون اللبنانية، وأنها كانت نتيجة لقاء بين النُخب الكردية والنُخب السياسية الأرمنية؛ لكن ما يهم هنا أنها كانت أول تنظيم سياسي «قومي» ضمن المجتمع الكردي السوري.

من خلال وعي طبيعة المؤسسين الثلاثة عشر الكرد لهذه الجمعية التي بقيت الناطق السياسي الرسمي الوحيد باسم المجتمع الكردي السوري، يمكن لنا وعي طبيعة المجتمع السياسي الكردي السوري وقتها.

كان الكرد الثلاثة عشر هم (الأمير جلادت بدرخان، ممدوح سليم بيك،علي رضا الشيخ سعيد، وحاجو آغا الهفيركي، قدري جميل بيك، أكرم جميل بيك، قدري جان، الأمير كامران بدرخان، محمد عيسى، الزعيم أوصمان صبري… إلخ)

يلاحظ بجلاء أن جميع الأعضاء المؤسسين هم من «نُخبة» البطريركية الأعيانية في المجتمع الكردي، من الذين خسرت عائلاتهم مراكزها الرمزية والمادية التقليدية في المجتمع الكردي-العثماني. ثم لم تستطع أن تستحصل أي مكانة أو حظوة مميزة في عصر الدول «الحديثة» التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية.

كان العمل الأساسي للمنتظمين ضمن هذه الجمعية هو خلق تحركات عسكرية مناهضة للجيش التركي، انطلاقاً من الأراضي السورية، عبر استخدام هؤلاء الزعماء العشائريين لمواليهم من أبناء العشائر في تلك المناطق الحدودية. فشلت تلك التحركات العشائرية لأسباب سياسية ومناطقية وذاتية معقدة. ثم بدأت تتلاشى رويداً رويداً بسب التصارع السياسي الذاتي بين الأخوين الأميرين جلادت وكامران بدرخان من طرف، والأخوين قدري وأكرم جميل باشا من طرف آخرفي قراءة مذكرات الشاعر والمتنور الكردي جكرخوين يمكن فهم الطبيعة العميقة للبعد الذاتي في الصراع على الزعامة بين هذين الطرفين، والتي أدت إلى انهيار وتحلل الجمعية بالتقادم. نجلي بدرخان كانا من أحفاد الأمراء الأكراد الذين حكموا أمارة جزيرة بن عمر الكردية تاريخياً، ونجلي جميل باشا كانا من أبناء العائلة الكردية التي تولت الباشوية في مدينة ديار بكر لسنوات كثيرة، وكان كل منهما يرى في نفسه الأهلية الوحيدة لقيادة الحركة الكردية..

المهم في هذا التأسيس الأولي للحركة السياسية الكردية وعي ثلاث نقاط متراكبة:

-لم تكن أي من الطبقات المجتمعية الكردية منخرطة بأي شكل في العمل السياسي، الذي كان حكراً على الطبقة العليا جداً من زعماء العشائر والأمراء والباشوات، هؤلاء الذين بنى اليسار القومي الكردي نظريته السياسية حولهم، معللاً فشل الحركة القومية في تحقيق أي مطالب خاصة بالكرد في المنطقة، بأنه يعود لطبيعة تلك الطبقة المهيمنة على الحياة الاجتماعية والسياسية. بينما كانت باقي أطياف المجتمع الكردي خارج اللعبة السياسية تماماً. كان المجتمع الكردي أقرب ما يكون لنموذج الأقنان السياسيين، يتبعون برضى وقبول تامٍ زعماءهم السياسيين المحليين، الذين كانوا يعتبرون ممثلين مباشرين لتطلعات هذه الكتل المجتمعية الكردية الأهلية.

-لم يكن التنظيم مبرمجاً على أية خيارات وخطابات سياسية ذات عمق ودلالة اجتماعية. بمعنى ما، لم يكن المجتمع الكردي موجوداً أساساً في مخيلة المؤسسين. فالشعار الوحيد الذي أطلقته الجمعية «توحيد وتحرير كردستان»، كان شعاراً فوقياً وذاتياً لهذه النخبة، ولم يكن يتفهم ويعي طبيعة المجتمع الكردي في تلك اللحظة التاريخية؛ وإن كان من جهة مقابلة شعاراً سياسياً محضاً ومضاداً للكيانات السياسية التي حوت المجتمعات الكردية في المنطقة.

-لم تكن الأيديولوجية والمعرفة السياسية من أدوات واهتمامات التنظيم السياسي الكردي الأول. ولهذا دلالةٌ بأن المجتمع الكردي السوري الريفي والأمّي كان خارج حركة التاريخ وقتئذ، المنقسم بين اليسار واليمين وقوى التحديث الاجتماعية والقومية…إلخ. بل بقي التصارع الداخلي أقرب ما يكون للتصارعات التقليدية الجهوية والعصبية بين الكتل المجتمعية الدموية، العائلات والعشائر والقبائل. فالتأسيس الأول كان ضمن هذا المعطى، عبر اتحادٍ وتواصلٍ بين هؤلاء الزعماء المحليين، وعملية النشاط السياسي كانت حكراً على هؤلاء فحسب، بينما كانت القاعدة الشعبية مجرد طرفٍ مطيع، وانفراط العقد السياسي كانت بسبب تصارع داخلي وشخصي فيما بينهم.

الحزب الديمقراطي الكردي السوري 1957، والتنوع المجتمعي:

بين عامي 1946-1957 لم تتأسس أحزاب سياسية كردية سورية تُذكر، سوى بعض التجارب الحزبية الجزئية المحلية، كتأسيس الشاعر جكرخوين حزب آزادي في بداية الخمسينات.

من خلال تتبع «المرجعية الاجتماعية» للأعضاء المؤسسين للجنة المركزية الأولى للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي» الذي تأسس عام 1957، ومقارنتها بما كان عليه تنظيم جمعية «خوييبون 1927»، يمكننا وعي قدر التحولات التي أصابت المجتمع الكردي السوري خلال الثلاثين عاماً التي فصلت بين تأسيس التنظيمين السياسيين الرئيسيين في تاريخ الأكراد السوريين.

الأعضاء المؤسسون وخلفيتهم الاجتماعية:

-الدكتور نورالدين ظاظا: ينحدر من عائلة إقطاعية كردية نصف متمدنة، أنهى دراسته في العلوم الاجتماعية من جامعة لوزان في سويسرا (إقليم الجزيرة).

-عثمان صبري: من عائلة إقطاعية كردية، يحمل شهادة الابتدائية (إقليم كوباني).

-عبد الحميد درويش: من عائلة ملاكي للأراضي، طالب في كلية الحقوق من جامعة دمشق (إقليم الجزيرة).

-حمزة نويران: من عائلة فلاحية، لم ينه تعليمه الثانوي (إقليم الجزيرة).

-رشيد حمو: من عائلة فلاحية نصف متمدنة، مدرس ابتدائي (إقليم عفرين).

-شوكت حنان: من عائلة إقطاعية متمدنة، محامي (إقليم عفرين).

-محمد علي خوجة: من عائلة فلاحية نازحة للمدينة، مدرس ابتدائي (إقليم عفرين).

يلاحظ بجلاء حجم التحول الذي فصل بين بنية المؤسسين للتنظيمين:

-ينحدر قرابة نصف المؤسسين لهذا التنظيم من عائلات فلاحية، لم يُعرف لذويهم مرتبة اجتماعية «عالية» في السلم الاجتماعي التقليدي في المجتمع الكردي السوري وقتها. هم من غير المنتمين لطبقة الإقطاعيين أو كبار ملاك الأراضي أو شيوخ الطرق الدينية.

-يستحوذ أكثر من ثلاثة أرباع المنتمين على مهن وظيفية مرتبطة بشكل أو بآخر بالتحصيل المعرفي العالي.

-ينتمي المؤسسون بشكل شبه متوافق مع التوازن الديموغرافي لتوزع الأكراد على الأقاليم الكردية الثلاثة.

-لا يشترك أي من المؤسسين الأوائل بصلات قرابة دموية. بل أغلب الصلات تكونت من خلال المشاركة في الأجواء نفسها، أجواء سوريا الديمقراطية في الخمسينات، التي كانت حيوية لدرجة تجمع مقاتلاً وثورياً تقليدياً «عثمان صبري» مع طالب صغير في العمر في كلية الحقوق «عبد الحميد الحاج درويش»، وتسمح بتواصل متخرجٍ جديد من كلية علم الاجتماع السياسي في مدينة لوزان السويسرية «نور الدين ظاظا» مع مدرسٍ شيوعي من أقصى شمال البلاد «رشيد حمو»، ومع فلاح متواضع «حمزة نويران»، ومع محامٍ …لخ.

3.3 تحولات المجتمع الكردي السوري 1927-1957

يكاد التميز بين الكتلة المؤسسة لجمعية خوييبون، والكتلة المؤسسة للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، أن يكون متطابقاً تماماً لما تميز به وتحول إليه المجتمع الكردي السوري خلال تلك السنوات الثلاثين:

كانت هذه السنوات بالضبط السنوات التي تأسست فيها المدن والبلدات الكردية في كامل الشمال السوري، الذي كان ذا بنية شبه ريفية مستقرة «كردية» مع مزيج من البداوة المتنقلة في المناطق الجنوبية لها «عربية بالأساس»، مع بعض التمركزات الحضرية الصغيرة «سريانية وأرمنية»في وصف بداية الأربعينات من القرن المنصرم، يرد في المذكرات الشيقة للسكرتير الأول للحزب الديمقراطي الكردي الدكتور نور الدين ظاظا «حياتي الكردية، أو صرخة الشعب الكردي» ما يلي: «كانت غالبية سكان مدينة الحسكة حينها من السريان الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن، أما العرب فقد كانوا موظفين من دمشق ومزارعين من دير الزور، وكانوا قلة، ولا تزال القبائل العربية تعيش حياة البداوة، وتنتقل مع مجرى وادي الفرات، الخابور والجقجق. وما أن يخرج المرء من المدينة باتجاه الشمال حتى يجد نفسه في قلب بلد كوردي» ص 56..

لكن تلك المعادلة الديموغرافية الأولية تحولت منذ أواسط الأربعينات من القرن المنصرم. مع بدء الزحف السكاني الكردي من الريف نحو البلدات الصغيرة في الشريط الحدودي، خصوصاً بعد أن بدأت دورة الإنتاج الزراعي تأتي بموارد كبيرة للغاية، مع بدء استخدام المكننة الزراعية في ذلك السهب الزراعي الواسع منذ أواسط الأربعينات، هذه العائدات المالية الضخمة للإنتاج الزراعي سمحت لطبقة ملاك الأراضي –حتى متوسطي الملكية منهم- بإرسال أولادهم للمدن للاندماج في التعليمسمحت طبيعة الزراعات البعلية الموسمية، الحنطة والشعير والعدس، تلك التي لا تحتاج إلى متابعة يومية وحثيثة، سمحت منذ أواسط الأربعينات لعدد كبير من ملاك الأراضي الأكراد بالعيش في المدن والقرى في الآن ذاته. فقد كانوا يقضون معظم شهور الشتاء في هذه المدن، بينما يقضون الوقت الأطول من الصيف في القرى. ساعد في ذلك الطبيعة الجغرافية المتقاربة بين هذه القرى والمدن والبلدات العديدة في الشمال السوري..

هذه الطبقة الاجتماعية التي أضيفت إليها بالتدريج طوال الخمسينات والستينات طبقة صغار الفلاحين الأكراد، الذين تضرروا بالمقابل من مكننة العملية الزراعية، فنزحوا للمدن وامتهنوا الأعمال الخدمية الأقل حاجة للمعارف والرأسمال. هاتان الطبقتان الكرديتان هما اللتان كونتا عموم سياج الأحياء الطرفية في جميع هذه المدن حديثة التكون في الشمال السوريينحدر كل من عبد الحميد درويش ومحمد علي خوجة ورشيد حمو وحمزة نويران من تلك الطبقة، طبقة الملاكين وصغار الملاكين الذين نزحوا كأول جيل نحو المدن..

كما أن ثلاثة أحداث جوهرية متعلقة بطبقة الإقطاعيين وكبار الملاك قد حدثت خلال تلك السنوات، وبالتالي أثرت بعمق على المجتمع الكردي السوري:

كانت طبقة الإقطاعيين وكبار الملاك قد بدأت تفقد سيطرتها المطلقة على المجتمعات المحلية الداخلية. من خلال انتشار مؤسسات الدولة الأمنية والتعليمية والبيروقراطية من طرف، تلك التي حدَّت من سيطرتهم «السلطوية والإدارية» المطلقة على المجتمع، أو من خلال قوة نفوذ الأحزاب الإيديولوجية السورية (الحزب الشيوعي السوري، حزب البعث، حزب الاشتراكيين العرب، القوميون السوريون… إلخ)، هذه الأحزاب التي كانت بمجملها أقرب لتطلعات الطبقات الشعبية الأضعف اقتصادياً، حيث كانت على الدوام محرضاً على استصدار قوانين تحد من الملكيات والسلطات المطلقة لهذه الطبقة الاجتماعية الاقتصادية.

فشلت جميع التنظيمات والتحركات القومية الكردية التي كانت هذه الطبقة العمود الفقري فيها في تحقيق أي شيء يذكر. فجمعية خوييبون القومية، التي يمكن اعتبارها آخر تنظيم سياسي قومي على هذا الأساس، فشلت تماماً في تحقيق أي وارد سياسي مما كانت تسعى إليه. وكانت موازياً سياسياً للكثير من التنظيمات السياسية المشابهة لها من حيث البنية والتنظيم في كل من كردستان تركيا والعراق؛ هذا الفشل تسبب بفقدان الطبقات الفلاحيّة الكردية لأي اعتبار رمزي ووجداني لهذه الطبقة، هؤلاء الذين كانوا في الوجدان العام حتى أواسط الأربعينات رموزاً مجتمعية وسياسية وقادة للرأي العام. كان انكسار تلك الرابطة الوجدانية مدخلاً لانهيار السلطة الرمزية لهذه الطبقة في المجتمع الكردي السوري، وبالتالي مفتاحاً لاجتراح تنظيمات سياسية على أسس أخرى مختلفة تماماً عن سابقاتها.

سمحت حياة طبقة واسعة من الأكراد السوريين في المدن بتخلي هؤلاء عن أي روابط اقتصادية بينهم وبين طبقة الإقطاعيين وكبار الملاكين الأكراد. هذه الروابط التي كانت مدخلاً لتحكم الملاكين بالولاء السياسي لزعماء العشائر وملاكي الأرضيكان قانون ملكية الأراضي 3339 «الفرنسي» الذي صدر في نهاية عام 1930، سمح لنفس لطبقة زعماء العشائر الأكراد بالتحول لكبار الملاكين «الإقطاعيين»، وذلك عبر تمليكهم لمساحات واسعة من الأراضي التي كانت بوراً وقتئذٍ، أو أراضٍ أميرية تعود ملكيتها للدولة. تلك التي كانت تقدر مساحتها ب70% من عموم مساحة سوريا.. فالنزوح نحو المدن خلق بالتدريج هذا «الانعتاق» من سيطرة طبقة الملاكين هؤلاء، إن من خلال انتفاء السيطرة الاقتصادية، وإن من خلال تحطم الروابط الدموية العائلية والعشائرية بالتدريج.

4.3 انشقاق 1966 الأول، وظهور طبقة «العمال» الكرد السوريين

ما إن تأسس الحزب عام 1957، حتى تضخمت قواعده الجماهيرية بشكل كبير بعد عام واحد من تأسيسهمقابلة خاصة من سكرتير حزب المساواة الكردي السوري عزيز داوود في كانون الثاني 2014.. حيث انتسبت إليه ثلاث فئات اجتماعية كردية بكثافة شديدة:

1- طلاب المدارس الثانوية الكرد، الذين كانوا يعيشون تناقضاً في الحياة السياسية المدرسية العامرة وقتها، فقد كانت الأحزاب الإيديولوجية السورية كلها ذات تنظيمات رسمية في الثانويات، حزب البعث والحزب الشيوعي السوري والقومي السوري يؤكد طاهر صفوك، السكرتير اللاحق للحزب الوطني الكردي السوري، أن جميع الطلبة الكرد في شعبته المدرسية انتموا للحزب الديمقراطي الكردي السوري دفعة واحدة عام 1958. «مقابلة خاصة»..

2- جميع الكرد المنشقين عن الحزب الشيوعي السوري، وكان الشاعر والمؤرخ جكرخوين يمثل نموذجاً عنهم.

3- الجيل الثالث من طبقة الإقطاعيين والملاك الكرد، هؤلاء الذين كانوا مؤهلين ليغدوا اللبنة الأولى لتشكل البرجوازية الكردية السورية في الشمال السوري، خصوصاً وأن كثيرين منهم قد تلقوا علومهم الأولية في المدارس الخاصة الداخلية خارج المناطق الكردية.

لكن بالمقابل بقيت طبقتان مجتمعيتان كرديتان على رفض تام للحزب الجديد، واعتبرتاه تهديداً حقيقياً لمصالحهما المجتمعية والاقتصادية مقابلة مطولة وخاصة للباحث مع السياسي الكردي المخضرم خالد مشايخ، والذي كان عضواً قيادياً في الحزب الديمقراطي الكردي طوال الستينات، ثم تعرض للاعتقال طوال فترة السبعينات.:

1- طبقة ملاك الأراضي الأكثر تقليدية، والتي كانت متحالفة مع البرجوازية الوطنية السورية، وتسعى لاحتكار التمثيل السياسي الخاص بالكرد السوريين.

2- طبقة رجال الدين الكرد، الذين كانوا ينتظمون عبر الطرق الصوفية واسعة الانتشار، والذين أسسوا «رابطة علماء الدين الإسلامي» كواجهة سياسية لهمفي كتابه الشيق «أضواء على الحركة الكردية 1956-1983» يسرد عبد الحميد درويش، سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي السوري التصارعات البينية في المجتمع الكردي المحلي خلال السنوات الأولى، وموقف وأسباب كل تشكيل اجتماعي من التأسيس الأول للحزب وقتئذٍ..

 حدث الانشقاق الأول في الحزب عام 1966. صحيح أنه بالأساس المباشر كان مبنياً على الخلافات السياسية التي كانت تعصف بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، بين زعامة الملا مصطفى البرزاني وخيارات أعضاء المكتب السياسي بقيادة كل من إبراهيم أحمد وجلال الطالباني؛ لكن الأساس الاجتماعي الداخلي كان له دور بارزٌ في ذلك.

كان الانشقاق السياسي عام 1966 نتيجة لتناقض جوهري تأسيسي في الحزب، بين «عقليتين» اجتماعيتين سياسيتينمقابلة خاصة مع السياسي الكردي سعود الملا، السكرتير العام للحزب الديمقراطي الكردستاني السوري.، واحدة شعبوية ذات خطاب قومي يساري ماركسي، وأخرى أكثر ميلاً للوسطية السياسية، كان يمثل الأولى سكرتير الحزب التأسيسي نور الدين ظاظا، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوزان، وكل من القياديين المؤسسين عبد الحميد درويش ورشيد حمو، والأخرى بقيادة «الثوري» عثمان صبري والأعضاء الأصغر سناً في اللجنة المركزية، القادمين بدورهم من مرجعيات اجتماعية واقتصادية أفقر وأكثر هامشية.

ظهرت بوادر هذا التناقض الداخلي الأول في قيادة الحزب أثناء المحاكمات الشهيرة عام 1960، حينما أصرَّ عثمان صبري على أن هدف الحزب هو «تحرير وتوحيد كردستان»، بينما أصرَّ سكرتير الحزب نور الدين ظاظا على أن مطالب الحزب تتحدد بالحقوق الثقافية والسياسية للكرد السورين ضمن البلاديمكن الاطلاع على تفاصيل تلك المحاكمات في السيرة الذاتية لنور الدين ظاظا في كتابه الشهير «حياتي الكردية، أو صرخة الشعب الكردي»..

حينما حدث انشقاق الحزب الأول عام 1966، فإن كل جهة قد جذبت طيفاً بعينه من المجتمع الكردي السوري، رغم أنه كان يبدو غريباً أن تجتمع تلك الطبقات المتنافرة ضمن التنظيم الواحد، وهو الشيء الذي سوف يتفجر من جديد عام 1971 أثناء الانشقاق الثاني للحزب.

تبلور الانشقاق الأول إلى وجود حزبين كرديين في سوريا:

1- الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي بقيادة عبد الحميد درويش:

الذي كان يُعتبر الامتداد الفكري لطروحات الدكتور نور الدين ظاظا، الميال للابتعاد عن الخطاب والبرامج السياسية القومية الحادة. لذا فإن هذا الحزب استطاع أن يجذب كل طبقة الطلبة الكرد في الثانويات والجامعات السورية، الذين سيتحولون مع أبنائهم فيما بعد لمتن الطبقة الوسطى المدينية الكردية في عموم البلاد. كذلك جذب هذا الحزب أبناء الملاكين وصغار برجوازية المدن »«الكردية» التي بدأت تتبلور منذ أواسط الستينات؛ لأن خطابه السياسي لم يكن «انقلابياً» بالمعنيين السياسي والاجتماعي، وهذا الطبقة من أبناء الملاكين والإقطاعيين الكرد كانت قد ذاقت تبعات الانقلابات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا منذ النصف الثاني من الخمسينات مع بدء الوحدة مع مصر وحتى انقلاب البعث عام 1963، هذه الانقلابات التي سحبت من هذه الطبقة كل سلطاتها المعنوية والتقليدية.

ما كان بارزاً في هذا «التآلف الاجتماعي» الذي شكل قواعد الحزب الجديد هذا، هو استطاعته لمّ منتمين متناقضين من الطيف الاجتماعي، طبقة الطلاب المدينيين، مع أبناء الجيل الثاني والثالث لكبار الملاك والإقطاعيين الكرد لا يمكن الكشف عن ذلك بالضبط في تفاصيل القواعد الاجتماعية لهذا الحزب، لغياب الحد الأدنى من الأدبيات والإحصاءات والوثائق الحزبية التي يمكن الاستناد عليها، لكن يمكن ملاحظة ذلك بجلاء بحسب الانتماءات الاجتماعية لعموم الأعضاء القياديين في اللجنة المركزية في الحزب وقتها: خالد مشايخ، طاهر صفوك، عزيز داوود، رشيد حمو، جكرخوين…إلخ، هؤلاء الذين ينتمون جميعاً إلى ذلك التشكيل الاجتماعي المذكور..

2- الحزب اليساري الكردي:

بالمقابل فإن هذا الحزب قد جذب طبقات الفلاحين المستقرين في الأرياف، الذين كانوا قد انشقوا بالأساس من الحزب الشيوعي السوري، ولم يستطع الحزب الديمقراطي الكردي «الأم» السوري مخاطبة هاجسهم الرئيس في مواجهة طبقة زعماء الإقطاع-العشائر الكردية في الأرياف. كذلك جذب الحزب الطبقة العمالية الكردية «الأولى» التي كانت تتبلور في ضواحي المدن، هؤلاء الذين بدأوا هجرتهم الأولى إلى المدن منذ بدايات الخمسينات، الذين كانوا من صغار الفلاحين في الأرياف، ولم يستحصلوا أي شيء من قوانين «ملكية الأراضي» التي بدأت بالصدور منذ عام 1930. وكذلك من المهاجرين الكرد من تركيا، الذين لم يستقروا في القرى الكردية في سوريا، بل فضلّوا الاستقرار في المدن حديثة العهد في الشمال السوري.

صحيح أن زعامة هذا الحزب آلت إلى عثمان صبري، القيادي التقليدي في الحركة القومية الكردية، لكن المحركين الفعليين للحزب الجديد كانا كل من صلاح بدر الدين والملا محمد نيو، اللذان استطاعا لأول مرة بلورة خطاب قومي كردي سوري ممزوج مع الأدبيات اليسارية الماركسية، والمنتميان بالأساس لطبقة العمال والفلاحين المسحوقة في أطراف المدن الكردية الحديثة. وكانت أدبياتهم مدخلاً إلى جذب هذه الطبقات الكردية الأكثر هامشية.

5.3 الانشقاق الثاني «حزب العشائر»

حدث الانشقاق الثاني عام 1971، حينما فشل الزعيم الكردي مصطفى البرزاني في محاولته لتوحيد جناحي الحزب –اليمين واليسار- في المؤتمر الشهير الذي عُقد في منطقة «نوبردان» في كردستان العراق، حيث كان الإقليم الكردي قد حصل على حُكم ذاتي قبل ذلك التاريخ بوقت قصير.

بذلك انقسم الحزب إلى ثلاثة أحزاب، اليمين الذي بقي على خطه وعقيدته السياسية السابقة، واليسار الذي غرق بالمزيد من النزعة اليسارية «الماركسية» والشعبوية، والحزب الجديد الذي أسس له الملا مصطفى البرزاني، ولم يرضَ عنه الجناحان اللذان ذهبا للاتحاد سوية في ظله. سمي الحزب الجديد ب«البارتي»، والذي مثل الجهة السياسية الموالية لعائلة البارزاني على الدوام.

إن تأسس وصمود هذا الحزب الجديد في البيئة الاجتماعية الكردية السورية، جاء نتيجة ثلاثة عوامل متضافرة:

1- تحول الزعامة البارزانية بعد نيل الحُكم الذاتي في كردستان العراق (عام1970) إلى زعامة قومية عامة، تجذب التيارات الاجتماعية الكردية التقليدية والمحافظة المتطابقة معها، والتي كانت في مرحلة انحدارها في جميع المناطق الكردية في كل دول الجوار. حصل الملا مصطفى البرزاني على الحُكم الذاتي في العراق في ذلك التاريخ، وبذلك أعاد إحياء تلك التيارات الاجتماعية التقليدية، ومدَّها بسند أيديولوجي و«روحي» تمثل بنجاعة نموذج «القيادة العشائرية» التي مثّلها الملا مصطفى البرزاني في استحصال الحقوق القومية الكردية.

2- استطاعت البنى التقليدية «العشائرية» في المجتمع الكردي السوري إعادة ترتيب هويتها وذاتها السياسية، عبر الانتظام الكثيف في هذا التيار الجديد، بعد تشتتها المديد بين التيارين السياسيين الوحيدين الذين كانا يمثلان الحياة السياسية ضمن الأكراد السوريين –اليمين واليسار- حيث لم يكن لهذا البنى التقليدية أي حضور وفاعلية وسلطة حقيقة ضمن هذين التيارينلم يكن خارج السياق أن تتولى قيادة الحزب الجديد «البارتي» شخصية عشائرية مطلقة الولاء للعائلة البارزانية، الحاج دهام الميرو. ومن ثم تتالى على زعامة الحزب شخصيتان سياسيتان من نفس الطبقة الاجتماعية، المحاميان كمال أحمد درويش ومحمد نذير مصطفى..

3- خفوت الحضور السياسي لكل من الجناحين التقليديين للحركة الكردية السورية. اليمين عبر انهيار حليفه الكردي العراقي المنافس للملا مصطفى البرزاني، كل من إبراهيم أحمد وجلال الطالباني. واليسار عبر المزيد من الغرق في الأيديولوجيات السياسية الرومانسية، مثل الثورة الكلية العمالية والفلاحيّة، غير المتطابقة مع الواقع الكردي السوري.

6.3 سُبات التنظيمات، وتحوّل المجتمع الكردي

خلال فترة زمنية مديدة، بقيت التنظيمات السياسية الكردية محافظة على هذا «التخالف» الثلاثي، وإن شهد كل تنظيم منها العديد من الانشقاقات؛ لكن دون أن تستطيع أي من هذه الانشقاقات التحول إلى تيار سياسي بذاته، وذو ملامح سياسية وتنظيمية وقواعد اجتماعية واضحة.

لكن أثناء هذه الفترة التي ربما قاربت ثلاثة عقود من حُكم حافظ الأسد (1970-2000) طرأت تغيرات بنيوية على القاع الاجتماعي الكردي السوري؛ يمكن تحديد ملامح التحولات المركبة هذه بأربعة ملامح واضحة:

1- تأسست كثيرٌ من المدن ذات الصبغة الاجتماعية الكردية تماماً. أكبرها مدينة القامشلي التي قارب مجموع سكانها نصف مليون نسمة، وكانت أغلبية السكان المطلقة فيها من الأكراد. كذلك مدينة الحسكة التي كانت توازيها بالحجم السكاني، وتبلغ نسبة الكرد فيها قرابة النصف. لكن بالإضافة إلى هاتين المدينتين الكبيرتين نسبياً، فإن عدداً كبيراً من البلدات التي كان يبلغ عدد سكانها خمسين ألف نسمة، وذات صبغة كردية خالصة، كانت تأسست أيضاً: ديريك «المالكية»، عفرين، كوباني، عامودا، الدرباسية، رأس العين، التربسبية «القحطانية». حملت هذه المدن التي تضخمت خلال هذه السنوات الطويلة جميع ملامح التمدن الاجتماعي الكردي الكثيف والأولي، من حيث تشكل الطبقة الوسطى البيروقراطية، وبزوغ طبقة المهنيين الكرد، والانقسام الواضح بين «الفقراء-الأغنياء» الكردي، والتخالف الواضح بين المجتمعي الكرديين «الريفي/المديني» وبروز العائلات الكردية «المتعلمة»، المعتمدة في تحصيلها المعيشي على تحصيلها المعرفي…إلخ.

2- الاندماج الثقافي والبيروقراطي والاقتصادي الأول للكرد السوريين مع الكل «الوطني». وذلك لتوسع التعليم وتطور شبكة المواصلات ونمو قطاعات اقتصادية جديدة في المناطق الكردية، ذات صُبغة تجارية وتبادلية وشبه صناعية. لكل تلك الأسباب المركبة والمعقدة، انتفت صبغة «العزلة المناطقية-الاجتماعية» عن الكرد السوريين مقابل الكل العمومي السوري.

3- بروز العشوائيات والمهجرين الكرد، الذين شكلوا مع بعضهم طبقة «المسحوقين الكرد» السوريين. فكل المدن الكردية أُحيطت بالعشوائيات السكانية، بنسبة وأشكالٍ موازيةٍ لعموم ما جرى في سورية في ذلك الاتجاه.

4- انتفاء الفلاحة والرعي كمهنتين جوهرتين ورئيسيتين في حياة أغلبية الكرد السوريين. حيث ساهمت المكننة الزراعية من طرف، وضمور الزراعات التي تحتاج إلى جهد فِلاحي يومي –كزراعة الأرز والقطن- من طرف آخر، في ضمور مهنتي الفلاحة والرعي. فالاعتماد الأكبر للقطاع الزراعي في المناطق الشمالية من سوريا كان على الزراعات البعلية –القمح والشعير- حيث اعتبرتها الحكومات السورية المتعاقبة منتجاً استراتيجياً لا يمكن استبداله بزراعات أخرى.

هذا الأمر حوّل القرويين الكرد إلى شبه عاطلين عن العمل في قراهم، وأدى إلى مزيدٍ من النزوح نحو المدن الكبرى. طبعاً أدى هذا إلى تحطم الروابط الدموية العشائرية التي كانت رديفة وموازية للامتهان الزراعي؛ لكنها بالمقابل أدت لضمور مكانة المرأة في المجتمع الكردي، تلك المكانة الاجتماعية التي كانت بدورها مرتبطة بمساهمة المرأة في العمل الاقتصادي في المجتمعات الزراعية. فالمحافظة الاجتماعية التي أصابت المجتمع الكردي السوري في المدن منذ التسعينات، كان نتيجة لتراجع دور النساء الاقتصادي في الأرياف والمدن.

ما حدث سياسياً بشكل مطابق لتلك التحولات الاجتماعية، كان بروز تيارين سياسيين متخالفين تماماً فيما بينهما، ومختلفين في الوقت عينه مع التيارات «الأجنحة» التقليدية الثلاث للحركة القومية الكردية في البلاد.

7.3 بروز حزب العمال الكردستاني في المجتمع الكردي السوري

صحيح أن بروز حزب العمال الكردستاني PKK، كانت نتيجة توافق سياسي إقليمي بين النظام السوري وهذا التنظيم السياسي العسكري الكردي «التركي»، ليغدو ورقة ضغط من قبل النظام السوري على الجار التركي «اللدود»؛ لكن ما كان لتلك الحالة أن تبرز وتتعمق سياسياً لولا المساحة الكبيرة التي لاقاها هذا الحزب في الأوساط الاجتماعية الكردية السورية، التي جاءت لتضافر عاملين مركبين:

– تغاضي النظام السوري عن نشاط الحزب المذكور ضمن القواعد الاجتماعية الكردية شمال البلاد، وذلك ليسحب تلك القواعد من الأحزاب الكردية السورية، ويحول وعيها وتطلعاتها السياسية نحو خارج البلاد.

– استطاع هذا الحزب تأسيس خطاب قومي/يساري رومانسي ضمن أوساطه الشعبية. هذه النبرة العاطفية القومية جذبت بشكل عنيف طبقة المسحوقين الكرد في سوريا، الذين كانوا تركيباً اجتماعياً من سكان ضواحي وعشوائيات المدن ذات الأغلبية السكانية الكردية، مع طبقة فقراء القرى المسحوقين، مضاف إليهم شريحة الشباب والمراهقين ذوو التحصيل المعرفي والمهني الأقل، الذين جذبتهم سلوكيات هذا الحزب في العمل المسلحتذهب التقديرات إلى أن الضحايا الشبان من الأكراد السوريين الذين راحوا ضحية انضمامهم للعمل المسلح لحزب العمال الكردستاني المناهض للحكومة التركية تتراوح بين 4-5 آلاف ضحية، من أصل 15 ألف ضحية هم مجموع قتلى هذا الحزب، وأن مجموع المنضمين الكرد السوريين للعمل المسلح لهذا الحزب قارب 15 ألف منضم، من أصل قرابة 50 ألف مقاتل كانوا في صفوف هذا الحزب. وهذه الأرقام تعد كبيرة جداً مقارنة بالحجم النسبي للأكراد السوريين بمقابل الأكراد الأتراك، إذ يشكلون فقط قرابة 10 % منهم، لكن ضحاياهم ضمن هذا الحراك الكردي التركي تقدر بحدود الثُلث؛ وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على مدى شعبية هذا الحزب ضمن الأكراد السوريين. مقابلات كثيرة للباحث مع قياديين من هذا الحزب، منهم عمر أوسي، المستشار السابق لزعيم الحزب عبد الله أوجلان ومترجمه الخاص. .

خلقت هذه الحالة نوعا من «الخلل» في علاقة القواعد الاجتماعية الكردية الأكثر حرماناً وهامشية في المجتمع الكردي. فقد كانت هذه القواعد الأكثر اندماجاً بالخطاب والنشاط السياسي القومي الكردي الحاد؛ لكنها بالوقت ذاته كانت ذات علاقة فصاميةٍ مع حالتها الطبقية وظرفها الاقتصادي. وكانت الأكثر بُعداً عن التيارات السياسية الكردية التي يمكن أن تحقق أو تتماهى مع مطالب طبقة المسحوقين الكرد السوريين تلك.

سياسياً، ومع بروز حزب العمال الكردستاني، باتت قرابة نصف القواعد الاجتماعية الكردية السورية خارج الكل «الوطني» السوري سياسياً، وخارج الحركة السياسية الكردية السورية التقليدية، عملاً وتنظيماً وخطاباً سياسياً. ومع نشاط حزب العمال الكردستاني في القواعد الاجتماعية الكردية السورية، تأسست الطبقة الكردية السورية المغتربة سياسياً واجتماعياً عن الكل السوري، هذه الطبقة الكردية التي ستغدو فيما بعد الطبقة الموالية لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي سيختار خطاً سياسياً مخالفاً تماماً لكل الأحزاب الكردية السورية الأخرى، وستكون هذه القواعد الاجتماعية المسحوقة وقود جناحه المسلح YPG الذي سيخوض صراعاً مسلحاً مع التنظيمات العسكرية الأخرى التي أفرزتها «الثورة السورية»، حين تحولها لحرب أهلية مفتوحة كانت النُخب السياسية الكردية السورية التي قادت هذا الحزب على الضفة الكردية السورية نُخباً مغتربةً ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً عن الكل السوري تماماً، تقريبا لم تكن تعرف أي شيء عن الثقافة والاقتصاد والمجتمع السوري، إلا ما ندر. أنظر مقالة سابقة للباحث منشورة في صحيفة الحياة «أكراد سورية خارج نمطَيْ كردستان وتركيا»: صحيفة الحياة  9/4/2014..

8.3 بروز حزب يكيتي الكردي السوري

تفتت التيار اليساري من الحركة القومية الكردية فيما بينه لعدد من التيارات، ابتداءً من بداية الثمانينات. لكن أياً من هذه التيارات السياسية لم يستطع أن يشكل حيزاً ولوناً سياسياً متمايزاً عن الحزب الأم، الذي كان يجمع بين نبرة قومية عالية، وخطابية ماركسية رومانسية.

في أوائل التسعينات تنظم عدد من أفراد الجيل الأحدث من المنخرطين في الحركة القومية الكردية في سوريا، المنشقين من أحزاب مختلفة، حزب البارتي وحزب اتحاد الشعب وحركة الشغيلة… إلخ، وأسّسوا سويةً حزب الوحدة الديمقراطي الكردي عام 1993.

ما كان يميز هذا التنظيم الجديد، أنه تأسس من منشقين من أحزاب سياسية مختلفة، وأن أغلب المنشقين كانوا من قيادات الصف الثاني والثالث في تلك الأحزاب، جيل الشباب. حيث استطاع خطابه السياسي ونشاطه التنظيمي أن يؤسس لقاعدتين جديدتين في الحركة القومية الكرديةأعداد مختلفة من جريدة «الوحدة» الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب.:

1- تحويل الشأن السياسي الكردي السوري إلى شأن مركزي في الممارسة السياسية، والتخفيف قدر المستطاع من هيمنة التيارات السياسية الكردستانية الأكبر حجماً من الأحزاب السياسية الكردية السورية، سواء الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني أو حزب العمال الكردستانيمقابلة سابقة وخاصة للباحث مع الراحل إسماعيل عمر، السكرتير الأول لحزب الوحدة الديمقراطي..

2- الاهتمام التنظيمي بالقواعد الكردية في مناطق الداخل السوري، سواء المجتمعات الكردية النازحة لمدن دمشق وحلب وحُمص، أو الطبقة الطلابية الكردية في الجامعات السورية.

لكن هذا الحزب الجديد عاد وانقسم على ذاته عام 1998 إلى تيارين متباينين، الأول بقي محافظاً على اسمه التقليدي، حزب الوحدة، والآخر بقيادة الجيل الأكثر شباباً ضمن حركة اليسار القومي الكردية، أختار لتنظيمه الجديد اسم «يكيتي»، وهو الترجمة الكردية لاسم الحزب الأم «الوحدة».

تباين خط الحزب الجديد مع عموم خيارات الحركة القومية الكردية في سوريا في ثلاث مسائل جوهريةمقابلة خاصة للباحث مع القيادي في حزب يكيتي الكردي عبد الباقي اليوسف، وكذلك مع القيادي في ذلك الحزب وعضو مجلس الشعب السوري السابق السيد فؤاد عليكو.:

1- الميل نحو العمل السياسي «الميداني» في مواجهة النظام السياسي الحاكم للبلاد، من خلال التظاهرات والاحتجاجات والاحتفالات الحزبية «غير المرخصة» في المناطق الكردية. وهو شيء لم يكن حتى حزب الوحدة قد مارسه أثناء نشاطه السياسي.

2- الخروج من استقطابي الحركة القومية الكردية السورية. فقد كانت كل الأحزاب الكردية السورية الصغيرة إما قريبة من الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا البارتي، أو الحزب التقدمي الكردي السوري، بعدما كان حزب اليسار قد خرج من المعادلة السياسية الكردية السورية منذ أوائل التسعينات.

3- عرض مطالب سياسية كردية سورية تتجاوز المسائل التقليدية التي طالبت بها الحركة القومية السورية، مثل إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي والاعتراف الثقافي والتعليمي باللغة الكردية… إلخ. بل تعدى حزب يكتي تلك الدعوات للمطالبة بدمقراطة البلاد، وبأشكال من اللامركزية السياسية، بحيث يستطيع الكرد إحراز مكانة ذات خصوصية قومية.

تفاعل الحزب مباشرة مع خياراته وبرنامجه السياسي، وترأس قياديون من الحزب التظاهرة الشهيرة أمام مجلس الشعب السوري عام 2002، حيث سُجن على أثرها القياديان حسن صالح ومروان عثمان. ثم تتالت نشاطات هذا الحزب في ذلك المنحى، وصولاً إلى مؤتمره العام عام 2010، حيث طالب بشكل رسمي بالفيدرالية كحل للمسألة الكردية في سوريا، وأخيراً عبر التفاعل الحيوي مع الثورة السورية منذ بدأ انطلاقتها.

استطاع حزب يكتي الكردي من خلال هذه الممارسة السياسية جذب قاعدتين اجتماعيتين كانتا شبه مُحايّدتين في الحياة السياسية للأكراد السوريين، لأسباب مختلفة:

1- طبقة البيروقراطيين الكرد المنخرطين في المؤسسات الرسمية للدولة السورية، هؤلاء الذين كانوا يخشون سابقاً من أن أي انخراط في الحركة القومية الكردية سيؤدي مباشرة لخسارتهم لمواقعهم الوظيفة.

هؤلاء البيروقراطيون الكرد هم أبناء الجيل الثالث والرابع من النازحين الكرد نحو المدن حديثة التكوين، الذين اندمجوا بالتعليم العام بشكل مكثَّف في الجيلين الأول والثاني. بدأ هؤلاء مزاحمتهم الأولى مع البيروقراطيين السريان في تلك المؤسسات الرسمية؛ واستطاعوا إحراز مواقع متوازنة في تلك المؤسسات الرسمية، جراء سياسيات حافظ الأسد الاستيعابية للمجتمع الكرديبشأن سياسات حافظ الأسد الاستيعابية وتعامله المتوازن مع المكونات المجتمعية السورية، مقابلات خاصة للباحث مع عبد الحميد درويش سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا.، لخلق توازن مع مجتمع العشائر العربية في الشمال السوري، التي كانت أميل بالولاء لنظام صدام حسين في العراق، طوال الصراع بين النظامين الحاكمين في البلدين لعقود طويلة. لكن هذه الطبقة البيروقراطية الكردية ما لبثت أن لاقت منافسة من قبل البيروقراطيين العرب منذ أواسط التسعينات، خصوصاً بعد انقلاب موقف النظام السوري من الكرد في المنطقة، عقب حرب الخليج الثانية وانقطاع العلاقة بين النظام وحزب العمال الكردستاني عام 1998.

كانت هذه الطبقة البيروقراطية العربية «مسلحة» بولائها وانتمائها الحاد لتنظيم حزب البعث الحاكم، بل كان أبناء العشائر العربية يعتبرون حزب البعث ومؤسساته هو حصتهم الجزئية من «كعكة» الحُكم في البلاد، نقصد هنا الطبقة البيروقراطية منهم فحسب.

بناء على ذلك، فإن طيف من الطبقة البيروقراطية الكردية كانت ترى في حزب يكيتي تعبيرها السياسي المزاحم لهذا الميل من قبل «البيروقراطية العربية». حيث كان حزب يكيتي يمل بقوة لتحديد مطالب «كردية سورية» خالصة في مقابل نزعة باقي الأحزاب الكردية السورية إما للاعتزال أو الغرق في تيارات قومية كردية غير سورية.

2- الطبقة الوسطى الكردية المدينية، من صغار التجار والأطباء والمهندسين وذوي الأعمال الخاصة المتوسطة. هؤلاء الذين كانوا يشغلون مراكز المدن ذات الصبغة الكردية. هذه الطبقة التي كانت تبحث عن تعبيرها السياسي الذي يراعي «اندماجها» الاقتصادي والرمزي مع الكل السوري، ويحافظ من طرف آخر على خصوصية حالتهم القومية.

كانت السنوات الفاصلة بين عامي (2000-2011) هي التي تميز فيها حزب يكتي الكردي بالنشاط السياسي «الميداني»، بالذات في التظاهرات في مدينتي دمشق والقامشلي. خصوصاً في الفترة التي أعقبت أحداث القامشلي الدموية 2004، ووصلت ذروتها بجذب الحزب لرجل الدين الشهير «معشوق الخزنوي»، الذي شارك في كثيرٍ من تجمعات الحزب المذكور، وخلق شعبية عالية للحزب.

لكن هذا الصعود السياسي لحزب يكتي الكردي في هذه الأوساط الاجتماعية الكردية، جاء نتيجة لتحولات في المجتمع الكردي السوري خلال العقد الأول من حُكم بشار الأسد:

1- تأسس مجتمع كردي كامل في مدن الداخل السوري، نتج عن موجات الهجرة الكبيرة من مدن وبلدات الشمال السوري نحو دمشق وحلب وحمص، هذه المدن الثلاث التي امتصت كل عائدات التنمية الاقتصادية وإعادة الهيكلة التي تعرض لها الاقتصاد السوري خلال هذه السنوات. كان لهذا المجتمع الكردي في هذه المدن، والذي كان يُقدر بمئات الآلاف من المهجرين، كان له كل سمات «طبقة المسحوقين» الكرد، تلك التي كانت توالي حزب العمال الكردستاني طوال الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم. لكن هذه الطبقة الكردية الجديدة كانت ملامسةً مباشرة لكافة تفاصيل الحياة العامة السورية، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، لذا فإن تياراً سياسياً كردياً ذو صبغة «وطنية» هو الذي كان أكثر جذباً لهذه الطبقة الكردية «المسحوقة».

2- الإدراك العميق لدى الأكراد السوريين بأن المسألة الكردية في كل من العراق وتركيا قد لاقت أنماط مختلفة من الحل والتفكك بدرجات متفاوتة، دون أن يؤثر ذلك بأي شكل إيجابي على المسألة الكردية في سوريا؛ وهو الشيء الذي دفع ب«المسحوقين» الكرد للاقتراب من التيارات السياسية «المتشددة» بمطالبها الكردية «الوطنية».

3- تبدل العلاقة التي كانت شبه إيجابية بين النظام السوري الحاكم والمجتمع الكردي في الشمال السوري. حيث كان «العقل» الأمني السوري يستشعر خطراً من قبل الكرد السوريين، خصوصاً بعد حرب العراق 2003. حيث مارس النظام السوري في ظل حُكم بشار الأسد المزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية على المناطق ذات الأغلبية الكردية. وهو شيء أدى إلى فصام ومتاركة حادة بين النظام الحاكم والمجتمع السياسي الكردي، ومالت الطبقات الاجتماعية الكردية الأكثر حيوية –الطبقة الوسطى والشباب- للانضمام إلى التيار الأكثر راديكالية في مناهضتها للنظام الحاكم.

تحليل كلي: المجتمع الكردي من البداوة إلى التمدن

يمكن تقسيم تحولات بنية المجتمع الكردي وعلاقته بالمؤسسات السياسية المعبرة عنه -الأحزاب السياسية- إلى أربعة أحياز متمايزة. كان هذا المجتمع الكردي كلما دخل طوراً جديداً من الحياة الاجتماعية، اجترح تياراً سياسياً معبراً عن ذلك التحول. إلى وصل إلى اللحظة التاريخية الراهنة، حيث تتعايش الكثير من التيارات السياسية الكردية إلى جانب بعضها، وتلقى كل واحدة منها البنية الاجتماعية التي تناسب نزعاتها السياسي، وهذا التلون في المؤسسات الحزبية، دليل على وصول المجتمع الكردي إلى مستوىً عالٍ من التعقيد والتشكل المديني.

المرحلة الأولى: من العشرينات وحتى الخمسينات

كان المجتمع الكردي يمتد على طيف قروي وبدوي واسع الإنتشار، وكانت الروابط العشائرية هي الآليات شبه الوحيدة التي تنظم أنماط العلاقة بين أفراد المجتمع، ولم يكن المجتمع الكردي السوري قد فكَّ روابط التواصل العميقة و«الحميمية» عن امتداده الاجتماعي في كل من العراق وتركيا.

كانت جمعية خويبون تعبيراً سياسياً عن كل ذلك، تنظيمٌ سياسيٌ قومي ذو تطلعات كبرى، بزعامة أبناء العائلات الإقطاعية والباشوية الكردية. مقابل هامشية المجتمع الكردي تماماً في تلك العملية، عدا ما يتعلق بالولاء المطلق لهؤلاء الزعماء المحليين.

المرحلة الثانية: الخمسينات والستينات

كان الاستقرار الجغرافي والسياسي قد تمركز في سوريا، واندمج الجيل الأول من الكرد في المدن حديثة التكوين، وبدأت مؤسسات الدولة التعليمية والبيروقراطية بالانتشار في الجغرافية ذات الأغلبية الكردية. حيث تحطمت الطبقات المجتمعية الحاكمة في المجتمع الكردي بالتقادم، وبدأ ظهور أكراد المدن.

حسب وتيرة التحول تلك، ظهر الحزب الديمقراطي الكردي الأول، وعلى أساس التنوع المبدئي المديني والقروي حدثت انشقاقاته الأولى فيما بعد، التي كانت تعبيراً بدرجة كبيرة عن ظهور الطبقات المتمايزة لأول مرة في المجتمع الكردي، ليس الطبقات المتمايزة اقتصادياً فحسب. بل المتمايزة معرفياً وجهوياً ووظيفياً.

المرحلة الثالثة: من السبعينات وحتى نهاية القرن

يمكن تسمية تلك المرحلة ب«عهد الاستبداد» السياسي، الذي خلّف طيفاً واسعاً من «المسحوقين الاجتماعيين» الأفقر اقتصادياً والأقل تحصيلاً للمعارف والأكثر هامشية في المتن الاجتماعي والأكثر نبذاً من قبل المؤسسات العامة في الدولة.

استطاع حزب العمال الكردستاني استيعاب هذه الطبقة «المعنفة» وإعادة توجيه وعي الكرد السوريين إلى قضيةٍ خارج البلاد، حيث لم تكن كل التكوينات السياسية الكردية السورية تؤمِّن منصةً سياسيةً مناسبةً لهذه الطبقة الاجتماعية الكردية.

المرحلة الرابعة: القرن الجديد

كانت المدن ذات الصبغة الاجتماعية الكردية شبه الخالصة قد تأسست، وكان المهجرون الكرد وباقي طبقة التجار والبيروقراطيين والطلاب الكرد قد اندمجوا إلى حد كبير في الحياة العامة السورية بكل تناقضاتها، وبذلك باتوا تشكيلاً مجتمعياً سورياً بكل تفاصيله وتناقضاته وصراعاته.

كان حزب يكتي تعبيراً عن ذلك التحول الجوهري الذي أصاب المجتمع الكردي.