مساء الأحد، الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، عاشت الأرجنتين هزّةً جديدة في ساحتها السياسية والإعلامية، المضطربة والمُستقطبة بشدّة، حين عُثر على ألبرتو نيسمان، المدّعي العام في قضيّة تفجير مقر آميا، كبرى المؤسسات اليهودية الأرجنتينية للمزيد حول تاريخ الجماعة اليهودية الأرجنتينية الاطّلاع على «يهود الأرجنتين: الوجود والازدهار والعاصفة».، ميتاً في حمّام شقته. كان نيسمان على موعدٍ للمثول أمام لجنة برلمانية خاصة صبيحة اليوم التالي لتقديم تقريرٍ عن دعوى قضائية رفعها ضد رئيسة الجمهورية، كريستينا فرنانديث دي كيتشنركريستينا فرنانديث دي كيتشنر (1953-): رئيسة الجمهورية الأرجنتينية (2007-2015).، يتّهم الرئيسة وفريقها بتعطيل المسار القضائي ضد إيران، المتهمة بتدبير التفجير.

شغلَ موت نيسمان مانشيتات كبريات الصحف وافتتاحيات نشرات الأخبار لأسابيع عديدة في الأرجنتين وخارجها، حيث ضربَ الخبر عصب دوامات السياسة الداخلية المضطربة في مطلع عامٍ انتخابي، وألهب، بنكهته الاستخباراتية التي تبدو خارجةً من أحد أفلام هوليوود عن الحرب الباردة، مخيلة وعواطف الأفرقاء السياسيين.

قضية آميا

دمّر تفجير شاحنة مفخخة يقودها انتحاريّ مبنى آميا، مقرّ المؤسسة اليهودية الأرجنتينية الأكبر والأهم، وقلب النشاط السياسي والاقتصادي للجماعة اليهودية الأرجنتينية في الثامن عشر من تموز (يوليو) 1994. أدّى الانفجار لسقوط 85  قتيلاً وأكثر من 300 جريح. وباعتباره أكبر هجومٍ يتعرّض له اليهود منذ نهاية الحرب الثانية، أثار التفجير ضجّة كبيرة داخل الأرجنتين وخارجها، ما دفع إدارة كارلوس منعم كارلوس شاؤول منعم (1930-): رئيس الجمهورية الأرجنتينية (1989-1999). تعود أصوله إلى مدينة يبرود السوريّة. لإنشاء لجنة تحقيقٍ خاصّة، ذات صلاحيات خاصة للتعامل مع المعلومات الاستخباراتية الداخلية، والتقارير الواردة من أجهزة مخابرات أجنبية مهتمّة بالقضية، لا سيما وكالة المخابرات المركزية الأميركية والموساد الإسرائيلي.

بضغطٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، اعتُبرت إيران المتهم الرئيسي بتدبير التفجير، حيث اعتُمد على تقارير استخباراتية في بناء فرضية تقول بأن إيران، عبر سفارتها في بوينوس آيرس، دعمت لوجستياً تنفيذ حزب الله اللبناني للتفجير عن طريق أحد عناصرها، واسمه ابراهيم حسين برّو، الذي تعرّفت إحدى الناجيات من التفجير على صورته. رأت هذه الفرضيّة أن إيران أمرت بتنفيذ هذه العملية انتقاماً من الأرجنتين لتراجعها عن تنفيذ برنامج تعاون نوويٍ سلمي كان قد أُقرّ بين البلدين قبل أعوامٍ قليلة. لكن الفرضية الإيرانية لم تكن الوحيدة، إذ فُتح مساران آخران للتحقيق، أحدهما يبحث عن مسؤولية المخابرات السوريّة، ومنطلق هذا المسار هو أن سوريا أيضاً تضررت من إلغاء الأرجنتين لبرنامج تعاونٍ نووي معها، وأن لدى المخابرات السوريّة شبكات ونشاط داخل الأرجنتين منذ الستينات؛ والمسار الآخر يبحث في مسؤولية شبكة فساد مافيوزية داخل الشرطة وأجهزة الأمن الأرجنتينية نفسها.

لكن الفرضيات الثلاث كانت مبنيّة فقط على أدلّة ظرفية، دون أي دليلٍ ملموسٍ وواضح. فالثابت الوحيد أمام السلطات الأرجنتينية كان أن مصدر الشاحنة التي انفجرت هو تاجر سيارات مستعملة (وأغلبها مسروق) من أصول عربيّة اسمه كارلوس تاج الدين. أصرّ تاج الدين، خلال التحقيق معه، على أنه لا يتذكر لمن باع الشاحنة، حيث أنه قَبض ثمنها نقداً ودون توقيع أوراق، لكنه تراجع عن تصريحه هذا لاحقاً ليؤكد أنه تعرّف على هوية مُشتري الشاحنة، حين عُرضت عليه صور المتهمين بتشكيل الشبكة المافيوزية في شرطة بوينوس آيرس.

لم يدم ما بدى أنه دليل قاطعٌ على مسؤولية شرطة بوينوس آيرس طويلاً، ففي عام 1997 سُرّب شريط فيديو للإعلام يظهر فيه القاضي غاليانو، المسؤول عن التحقيق في قضية آميا آنذاك، وهو يحاول إقناع تاج الدين بتغيير إفادته الأولى وادعاء أنه تعرّف على أحد رجال الشرطة كمشترٍ للشاحنة مقابل مبلغ مالي، وثبت لاحقاً أن تاج الدين تلقى 400  ألف دولار أميركي، خرجت من الخزينة السرّية لوزارة الداخلية الأرجنتينية، مقابل تغيير إفادته واتهام شبكة الشرطة. رغم الفضيحة، أصرّت حكومة كارلوس منعم على أن الفرضية المحلّية هي الرئيسية ضمن التحقيق، وإن أضافت أنها لم تُلغ التحقيق والعمل على الفرضيات الأخرى، خصوصاً الفرضيّة الإيرانيّة.

 آلبرتو نيسمان/ ناتاشا بيسارينكو- أسوشيتد برس.
آلبرتو نيسمان/ ناتاشا بيسارينكو- أسوشيتد برس.

في عام فضيحة تاج الدين، أي عام 1997، بدأ ألبرتو نيسمان العمل ضمن فريق الإدعاء العام داخل لجنة التحقيق، ولعب دوراً رئيسياً في الدفاع عن الفرضية الرسمية التي تتهم الشبكة المافيوزية المحلية.

دخلت الأرجنتين في أزمة اقتصادية وسياسية حادّة جداً مع نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، ولم يُنجز أي خرقٍ في التحقيق في قضيّة آميا خارج الظهورات الإعلامية المتكررة لنيسمان، والجلسات القضائية المتوالية دون نهاية ولا نتيجة.

عام 2003، ومع وصول نيستور كيتشنرنيستور كارلوس كيتشنر (1950-2010): رئيس الجمهورية الأرجنتينية (2003-2007). إلى السلطة، صدر قرارٌ بعزل القاضي غاليانو عن التحقيق في القضيّة، وبعدها بعامٍ واحد صدر قرارٌ آخر بإبطال كل ما كانت لجنة التحقيق السابقة قد عملت عليه، وتعيين لجنة جديدة. كما صدر قرارٌ اتهاميٌ ضد كارلوس منعم، الرئيس الأرجنتيني السابق، والقاضي المسؤول عن لجنة التحقيق، ومسؤولين آخرين في القضاء والشرطة، بتهمة حرف التحقيق بشكل متعمد، وتزوير أدلةٍ لاتهام الشبكة المافيوزية المحلّية بالمسؤولية عن التفجير. للمفارقة، لم يكن ألبرتو نيسمان، الذي عمل ضمن هذا الفريق وساهم في المرافعة عن أرجحية الفرضية المحلّية، من بين المتهمين، بل كان هو من يوجّه الاتهام بعد تعيينه مدّعياً عاماً خاصاً بالقضيّة.

بعد تعيين نيسمان كمدّعٍ عام، انهار الدليل الظرفي الوحيد الذي كان بحوزته لاتهام إيران، فقد ثَبُت أن ابراهيم حسين برّو، الذي بنيت الفرضيّة على أنه الانتحاري الذي نفّذ الهجوم، قد مات في جنوب لبنان ضحيّة غارة إسرائيلية بعد عدّة أشهر من حصول تفجير آميا، كما أن الشاهدة التي كانت قد تعرّفت على صورته تراجعت عن أقوالها. رغم ذلك، أصرّ نيسمان على أنّ الفرضيّة الإيرانية هي الأساسية، مستبعداً الفرضيتين الباقيتين.

في تشرين الأول (أكتوبر) 2006، أصدر ألبرتو نيسمان اتهاماً رسمياً لإيران بتخطيط وتمويل وتوفير الدعم اللوجستي لتفجير آميا، كما اتهم حزب الله اللبناني بتنفيذه، وتضمّن الاتهام طلباً لمثول ستة متهمين أمام القضاء الأرجنتيني، وهم: عماد مغنيّة، القائد العسكري في حزب الله اللبناني؛ وعلي فلاحيان، رئيس المخابرات الإيرانية السابق؛ ومحسن ربّاني، الملحق الثقافي السابق في السفارة الإيرانيّة في بوينوس آيرس؛ وأحمد رضا أشغري، السكرتير الثالث في السفارة الإيرانية في بوينوس آيرس؛ وأحمد وحيدي، القائد السابق لفيلق القدس الإيراني؛ ومحسن رضائي، قائد الحرس الثوري السابق. تبنّت حكومة كيتشنر القرار الاتهامي الذي أصدره نيسمان، ورفعته إلى الانتربول، التي أقرّته بدورها عام 2007 وأصدرت أمراً دولياً بجلب المتهمين أمام القضاء الأرجنتيني، ما أدّى لاشتعال أزمة دبلوماسية عميقة بين إيران والأرجنتين، تجلّت في تبادل الخطابات الحادة بين الوفدين الأرجنتيني والإيراني خلال الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 2007.

بطبيعة الحال، لم تستجب إيران لمذكرات الانتربول، بل أصدرت بدورها اتهامات قضائية ضد نيسمان ومسؤولين قضائيين أرجنتينيين آخرين.

بعد أزمة 2007 الدبلوماسيّة، دخلت قضية آميا في ركودٍ بسبب استحالة المضي قدماً في القضية دون مثول المتهمين، إذ لا وجود للمحاكمات الغيابيّة في النظام القضائي الأرجنتيني. ولكن علاقة ألبرتو نيسمان بحكومة كريستينا فرنانديث، التي خلفت زوجها في رئاسة الجمهورية بعد انتخابات كانون الأول (ديسمبر) 2007، دخلت بمرحلة فتورٍ وتآكل، وتأذّت بشكل خاص عام 2010، حين فضحت تسريبات ويكيليكس العلاقة الوطيدة بين ألبرتو نيسمان والسفارة الأميركية في بوينوس آيرس، حيث أظهرت كابلات السفارة أن نيسمان كان قد تلقى توصيات بالتركيز على الفرضيّة الإيرانية واستبعاد الفرضيتين السوريّة والمحلّية، كما أنه كان يزوّد السفارة بكل المعلومات عن مداولاته مع القضاء أو الحكومة الأرجنتينية، وأنه كان يعرض عليهم مسودّات وثائقه ويتلقى ملاحظات وتعديلات عليها قبل إقرارها أو رفعها للقضاء. حكومة كيتشنر، وخصوصاً في عهد كريستينا، كانت أقرب إلى صفّ المحور الفنزويلي- الشافيزي، ولم تكن علاقتها بالولايات المتحدة طيبة. لذلك، أثارت هذه الفضيحة تحفظاتها على نيسمان.

في مطلع عام 2013، وعبر حسابها على تويتر، أعلنت الرئيسة الأرجنتينية بشكل مفاجئ عن توقيع مذكرة تفاهم حول قضية آميا بين الحكومتين الأرجنتينية والإيرانية في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، حيث اتفق الطرفان على إنشاء لجنة تقصّي حقائق مشكّلة من خبراء حقوقيين دوليين ومندوبين عن الطرفين، وسُمح للقضاء الأرجنتيني باستجواب المتهمين في إيران. أثار هذا الإعلان ضجّةً كبيرة في الأرجنتين، وهوجم بقسوة من قبل القوى السياسية المعارِضة والجمعيات اليهودية. حاولت الحكومة الأرجنتينية تسويق التفاهم على أنه خطوة إلى الأمام في المسار القضائي، واستطاعت، بفضل أغلبيتها البرلمانية، تمرير إقراره، لكنها اصطدمت بإعلان المحكمة الفيدرالية الأولى إلغاءه لمخالفته الدستور الأرجنتيني.

من جهتها، ماطلت إيران في تنفيذ بنود التفاهم الخاصة بها بانتظار تقدم في المفاوضات مع الأرجنتين من أجل رفع طلبات الجلب الدولية ضد مسؤوليها المُتّهمين، ثم تخلّت نهائياً عن التفاهم بذريعة التصويت ضده في البرلمان الإيراني حين رأت أن الأرجنتين لن تسحب طلبات الجلب من الانتربول.

حمل نيسمان لواء الرفض الكامل لمذكرة التفاهم، وصعّد حملته الإعلامية على الرئيسة كيتشنر وفريقها، واتهم الحكومة الأرجنتينية بالعمل على تدبير مؤامرة لتبرئة إيران من مسؤوليتها عن تفجير آميا، وما بدأ كتصريحاتٍ إعلامية متكررة، تحوّل بعد أشهر قليلة إلى مسودّة قرار اتهام ضد رئيسة الأرجنتين ومسؤولين آخرين. في هذا الاتهام، اعتبر نيسمان أن الحكومة الأرجنتينية تخطط لاختلاق مسؤولية جماعة فاشيّة محلّية عن تفجير آميا، وتبرئة المسؤولين الإيرانيين مقابل صفقات تجارية ونفطية مع إيران. للمفارقة، مرّة أخرى، اعتمد نيسمان في جزء كبير من فرضية اتهامه هذا على تحقيق صحفي كتبه إيلياشيف، وهو صحفي يهودي أرجنتيني شهير، قبل أعوام في جريدة بيرفيل، وقد سخر نيسمان من هذا التحقيق حين صدر، وكان على وفاق مع الحكومة الأرجنتينية حينها. في اتهامه هذا، اعتمد نيسمان أيضاً على تسجيلات مُسرّبة بين سياسيين ونقابيين يساريين موالين لحكومة كيتشنر كانوا قد لعبوا دور وسيطٍ غير مباشر مع أوساط مقرّبة من إيران للتحضير لمذكرة التفاهم.

انتُقدَت فرضية نيسمان هذه بشدة، ليس فقط من قبل الحكومة والأوساط الموالية لها، والتي شنّت حملة إعلامية كبيرة ضد نيسمان، بل أيضاً من قبل أوساط صحفية أكثر استقلالية وخبراء قانونيين آخرين، حيث اعتُبر أن التسجيلات التي بحوزته تثبت مساعٍ سياسية لا مكان للقضاء فيها، وأنها لا تثبت أكثر من أن الأرجنتين تسعى للتفاهم مع إيران حول كيفية المضي قدماً في التحقيق وليس لحرفه، كما دُحضت فرضيته للاتفاقات الاقتصادية الخفية بين الطرفين، باعتبار أن الأرجنتين لا تملك بنيةً تحتية لتكرير النوعية التي تُنتجها إيران من النفط الثقيل، وبالتالي لا جدوى اقتصادية من اتفاقيات استيراد النفط الإيراني.

تسبب اتهام نيسمان بضجةٍ كبرى في الأرجنتين رغم ضعف حجّته، وذلك بسبب الاستقطاب العالي الذي تشهده الساحة السياسية، لا سيما مع بداية العام الأخير من الولاية الدستورية الأخيرة لكريستينا كيتشنر واحتدام الصراع على خلافتها ضمن معسكرها نفسه، وبين معارضيها أيضاً. خلال أسابيع طويلة، بالكاد كان نيسمان يخرج من استديو تلفزيوني ليدخل إلى استديو آخر، عارضاً خطاباً نارياً، لا يخفي كراهيةً مشخصنة ضد الرئيسة الأرجنتينية، حليفته وصديقته السابقة.

وقّع نيسمان على على قرار الاتهام وقدّمه للمحكمة المختصّة في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، أي قبل أربع أيام من العثور على جثته. بعد تقديم الاتهام الرسمي، سارعَ نيسمان للاتفاق مع لجنة المتابعة البرلمانية على المثول أمامها وشرح حيثيات قراره الاتهامي وتقديم الأدلة يوم الاثنين، التاسع عشر من كانون الثاني (يناير).

لم يمثل نيسمان أمام اللجنة..

النجم المحترق بغموضه

ولد ألبرتو نيسمان لعائلة يهودية أرجنتينية عام 1963، ودرسَ القانون في الأرجنتين. مارس المحاماة في سنواته العملية الأولى قبل أن ينتقل للعمل كمدّعٍ عام.  وكان التحقيق في قضية محاولة إحدى الجماعات اليسارية اقتحام ثكنة عسكرية عام 1989 أول قضية عامة يعمل بها، فقد كان عدد من المشاركين في محاولة الاقتحام هذه قد «اختفوا». تبنّى نيسمان رواية الجيش الأرجنتيني عن الحادثة بالكامل، وبرأه من اختفاء المُقتحمين، ليثبت لاحقاً، باعتراف ضابط متقاعد كان قد شارك في تلك الأحداث، أن المختفين كانوا قد اعتُقلوا وعُذبوا حتى الموت، وأُخفيت جثثهم.

 احتجاجات بعد وفاة ألبرتو نيسمان/ ثينكو راديو.
احتجاجات بعد وفاة ألبرتو نيسمان/ ثينكو راديو.

يروي غابرييل باسكيني، وهو صحفي أرجنتيني مخضرم تابع قضيّة آميا منذ بداياتها وعرف نيسمان عن كثب، في تحقيقٍ طويل نشره في مجلة غاتوباردو الأرجنتينية، أن نيسمان لم يُخفِ يوماً طموحه للنجومية، وأنه سعى بشكل حثيثٍ ومتكرر للدخول في فريق التحقيق في تفجيرات آميا، حتى لو كان للدفاع عن فرضيّة -المحلّية- ثبتت فبركتها. لا شك أنه كان ذكياً وقارئاً جيداً للحظة، ولذلك استطاع النجاة من اتهامات تزوير الأدلة والحرف المتعمّد لمسار التحقيق التي طالت أغلب فريق التحقيق الذي كان عضواً فيه ، بل وأصبح مدعياً عاماً ضدهم.

ثمة شخصيّةٌ أساسية، وغامضة، أثّرت في موقف نيسمان وسلوكه، وهو خايمي ستيوسو. بدأ ستيوسو العمل في المخابرات الأرجنتينية خلال الديكتاتورية العسكريةللمزيد حول تاريخ الحكم العسكري الأرجنتيني الاطّلاع على «ذاكرة الجماجم» و«أمهات ساحة مايو».، وخدم خلال فترة الديمقراطية بنفس الإخلاص، وكان مسؤول الارتباط بين المخابرات الأرجنتينية وأجهزة المخابرات الأجنبية، لا سيما الموساد. هو مخابراتي تكنوقراطي، لا مكان للأخلاق أو المواقف في عمله. هو، كما يصفه الصحفي الاسباني خوسيه أنطونيو غوارديولا، رجل المخابرات المثالي: كل الناس يسمعون عنه، لكن لا أحد يعرفه؛ من أفضل رجال المخابرات، أي من أكثرهم سوءاً. عُزل ستيوسو من منصبه في المخابرات الأرجنتينية مطلع عام 2014، وقد كان آخر «أصدقاء» نيسمان في الحكومة. كان ستيوسو مصدر نيسمان للمعلومات والتسريبات والتسجيلات، وتكثر الإشارة إليه بأنه كان المحرّك الفعلي لكل تصرفات ومواقف ألبرتو نيسمان، كما تتهمه أوساط الحكومة الأرجنتينية بالمسؤولية، المباشرة أو غير المباشرة، عن موت نيسمان.

قدّم نيسمان قراره الاتهامي ضد الرئيسة الأرجنتينية وفريقها للمحكمة في الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) من العام الجاري بعد أن قطع إجازته في أوروبا برفقة زوجته السابقة وابنتيه وعاد لوحده إلى الأرجنتين بشكل مفاجئ، وبعدها بثلاثة أيام حبس نفسه وحيداً في شقته الفاخرة، الواقعة ضمن منطقة محمية ومحروسة ومراقبة بشدة في أحد أرقى وأحدث أحياء بوينوس آيرس، ليُحضّر مداخلته أمام لجنة المتابعة البرلمانية. تُشير مراسلاته وسجل مكالماته أنه حاول، دون جدوى، التواصل مع ستيوسو خلال هذين اليومين.

خلال فترة بقائه في الشقة، لم يلتق نيسمان إلا بأحد مساعديه، واسمه دييغو لاغومارسينو، ويعمل لديه كخبير معلوماتية. طلب نيسمان من لاغومارسينو استعارة مسدّسه الخاص، وهو المسدس الذي استخدمه نيسمان للانتحار، أو استُخدم لقتله. أثبتت تسجيلات كاميرات المراقبة وداتا الاتصالات أن لاغومارسينو غادر شقة نيسمان قبل وفاته، ما أدى لتبرئته بعد أن كانت أصابع الاتهام الأولى قد أشارت إليه، بما في ذلك اتهام الرئيسة الأرجنتينية نفسها خلال الساعات التالية لموت نيسمان، حيث لمّحت، عبر حسابها على تويتر، أن نيسمان ومساعده لاغومارسينو تربطهما علاقة عاطفية مثليّة، وأن الأخير قد قتل المدّعي العام بسبب مشاكل شخصية بينهما.

ضجّت الأرجنتين بالأنباء الأولى عن عثور مرافقي نيسمان على جثته مرميّة في حمّام شقته، وقد تلقى طلقة بالرأس من مسدس لاغومارسينو، بعد أن ارتابوا بغيابه عنه و.تصّرفت الحكومة الأرجنتينية والأجهزة الأمنية بارتباك شديد نتيجة الضغط والضجة الإعلامية والسياسية. أشارت خلاصات التحقيقات ومعاينات ساحة الجريمة وتقارير الطبّ الشرعي إلى أن نيسمان قد انتحر، لكن الاتهامات ضد الحكومة الأرجنتينية لم تنتظر نتيجة التحقيقات، كما لم تقتنع بها.

تتداول الأوساط السياسية والإعلامية فرضيات عديدة حول ما جرى لنيسمان. الأوساط الموالية للحكومة، والتي تعتبر نيسمان شخصاً حقوداً وقع أداةً في يد مخابرات دولية تسعى للإضرار بالحكومة، ترى أنه إما انتحر لأنه وجد نفسه وحيداً بعد أن ورّطه مشغلوه في المخابرات المركزية الأميركية والموساد في مواقف حادّة للغاية ضد الحكومة عن طريق خايمي ستيوسو، الذي يعيش الآن في الولايات المتحدة بحماية أمنية خاصة؛ أو أن هذه الأوساط نفسها قتلته حين انتفت الحاجة إليه.

من جهتها، ترى الأوساط الأكثر حدّية في معارضتها للحكومة، والجمعيات والمؤسسات اليهودية المحلّية والدولية، والتي ترى في نيسمان شهيداً للحقيقة والعدالة، أنه قُتل على يد الحكومة الأرجنتينية أو المخابرات الإيرانية أو بتواطؤ من كليهما، أو أنه هُدّد باستهداف ابنتيه لدرجة أنه فضّل الانتحار.

عاشت الأرجنتين أسابيع عديدة من الاحتجاجات والاضطرابات بعد وفاة نيسمان، وخرجت المظاهرات المنادية بالعدالة لقضيته، والمُتّهِمة للرئيسة الأرجنتينية بتدبير مقتل خصمها وعدوّها الأول في تلك اللحظة. من جهتهم، هاجم موالو الحكومة نيسمان، وأظهروا فضائحه الشخصية والمهنية، مبرزين دلائلاً على أنه استفاد اقتصادياً بشكل كبير من منصبه، وسخّر الأموال المرصودة للتحقيقات ليعيش حياةً بالغة البذخ، ونجح هذا الهجوم المضاد بشكل كبير في تقويض صورة نيسمان كمدافعٍ نقيٍ عن الحقّ، وإظهاره كلاعبٍ سياسي حقود، مطعون الأخلاقية في أسلوب عمله وحياته. لكن قضية نيسمان تبقى ركناً أساسياً في الاستقطاب السياسي الحاد، والمعارك الطاحنة التي تُخاض الآن قُبيل الانتخابات العامة التي ستجري نهاية هذا العام.

******

عند متابعة ما يُكتب ويُناقش عن قضية نيسمان في الأرجنتين، يُلاحظ أن أكثر التعليقات تكراراً هو التأكيد بأننا لن نعرف يوماً حقيقة ما جرى لنيسمان. ورغم أن أصحاب هذه التعليقات يتحدثون انطلاقاً من السخط على الواقع الأرجنتيني المرير، حيث تُلعب السياسة بخطابات الحرب الأهلية وشبكات الزبائنية الوقحة بوضوحها، ويلعب الفساد دور الناظم للحياة العامة، إلا أن كلامهم يصحّ في كل هذا النوع من الجرائم، حيث تختلط السياسة والفساد والسلطة والمخابرات، وحيث تُكتب القصة الحقيقية، لاحقاً، على يد كتّاب السيناريوهات السينمائية، وليس على يد القضاة أو الحقوقيين أو الصحفيين.

من قتل نيسمان؟ أهي ذات الجهة التي فجّرت مقر آميا؟ فلتُجب هوليوود.